الفصل الثاني عالم الشتات

الفصل الثاني
عالم الشتات

أ- نظرة شاملة
1- تحديد كلمة شتات
تدلّ كلمة شتات (جلوت في العبريّة. رج في العربية "الجالِيَة": الغرباء تركوا أوطانهم) في التاريخ اليهوديّ على واقعين يختلفان اختلافًا جذريًّا. أوّلاً: هناك شتات حين ينتظم اليهود الذين خرجوا من فلسطين في وحدة منظّمة لها بنيتها ونظمها. ثانيًا: هناك شتات حين يكون اليهود أسياد جزء من أرض فلسطين في دولة شبه مستقلّة وحول هيكل أورشليم الواحد، كما حصل بعد بناء الهيكل الثاني. وإنّ المرحلة التي امتدّت من موت الإسكندر الكبير (323 ق. م) إلى سقوط أورشليم (70 ب. م) قد عرفت نظام الشتات اليهوديّ في أجلى مظاهره.
ونحن نتحدّث عن المنفى حين زالت الدولة والهيكل أي بين سنة 587 وسنة 538 ق م، وبعد سنة 70 ب م.
نجد كلمة شتات في ترجمة التوراة إلى اليونانيّة. هذا يعني أنّهم بدأوا استعمال الكلمة في القرن الثالث ق م. أمّا على عتبة العهد المسيحيّ، فالشتات يدلّ على مجموع اليهود الذين يقيمون خارج فلسطين. ولكنّ الكلمة تتّخذ معانيَ عدّةً. فتدلّ أوّلاً على وضع اليهود المشتّتين وسط الأمم الوثنيّة، وتدلّ ثانيًا على الجماعات اليهوديّة المقيمة خارج فلسطين، وتدلّ ثالثًا على المواضع التي يقيم فيها هؤلاء اليهود المشتّتون (يه 5: 19).

2- أصل الشتات: التهجير
وُلد الشتات في بدايته من النفي والتهجير وخاصّة إلى بلاد الرافدَين والمقاطعات المجاورة. لا شكّ في أنّ بعض بني إسرائيل هاجروا قبل الاجتياحات الأشوريّة والبابليّة. فإذا عدنا إلى 1 مل 20: 34 نجد جماعة من بني اسرائيل تقيم في دمشق في عهد آحاب (874- 852 ق م). ولكنّ التهجيرات المتعاقبة هي التي غذَّت المجموعات اليهوديّة المقيمة خارج أرض إسرائيل.
- سنة 736- 732. في أشور (حملة تجلت فلاسر الثالث). يلمّح 2 مل 15: 29 إلى سبي سكّان شمالي مملكة إسرائيل.
- سنة 721. في أشور وماداي (حملة سرجون الثاني). بعد سقوط مملكة الشمال واحتلال السامرة (2 مل 17: 6)، زالت القبائل التي كانت تشكّل مملكة الشمال من أرض إسرائيل ومن التاريخ، يوم سقطت السامرة. وحلّ محلّ هذا الزوال أسطورة القبائل العشر الضائعة (القبيلتان الباقيتان هما: يهوذا وبنيامين في الجنوب).
- سنة 597. إلى بابل (نبوكد نصّر). بعد حصار أورشليم الأوّل. أُخذ إلى المنفى الملك يواكيم والعائلة المالكة والوجهاء (2 مل 24: 14- 16؛ إر 52: 18- 30).
- سنة 587- 586. إلى بابل (نبوكد نصّر). سقطت أورشليم واحرق الهيكل، فأجلى عنها الملك ما تبقّى من السكّان (2 مل 25: 1- 21، إر 39: 1- 10).
- سنة 582. إلى بابل. بعد مقتل جدليا حاكم اليهوديّة الذي عيّنه نبوكد نصّر سنة 586 ق م. حين قُتل جدليا، هرب عدد كبير من لاجئي يهوذا إلى مصر (2 مل 25: 26؛ إر 41: 16- 43: 7)، وشكَّلوا المستوطنات اليهوديّة في الفانتين (جزيرة الفيل) وأسوان والصعيد والدلتا.
هذا هو أصل المجموعتين اللتين ستكوّنان قطي الشتات اليهوديّ: قطب غربيّ أو مصريّ شجبه إرميا وحكم عليه منذ البداية حكمًا قاسيًا (إر 42: 17؛ 44: 11، 24- 30). وقطب شرقيّ أو بابليّ قَبِل به إرميا كأمر واقع (إر 29: 1- 9).
وحين دقّت ساعة الحرّيّة سنة 538 ق م مع قرار كورش، لم يتحمّس كلّ المنفيّين. فلم يعد إلى فلسطين إلاّ الكهنة وموظّفو الهيكل والشعب الفقير الذي أقام في المدن والأرياف. وأقام قسم كبير من اليهود في بابلونية فزرعوا كرومًا وبَنوا بيوتًا ورفضوا أن يتخلّوا عن المنافع التي حصلوا عليها. ونجد في أيّام داريوس (21- 486) وأرتحششتا (465- 424) عقودًا تجاريّة تدلّ على أنّ أبناء هؤلاء المنفيّين ما زالوا يتعاملون في البلدان التي اختاروها لإقامتهم. وسُبِيَ اليهودُ أيضاً حوالي السنوات 350- 340 في أيّام أرتحششتا الثالث (354- 338 ق م) إلى هركانية، على شاطئ بحر قزوين (سنجد يهودا هناك في القرن الخامس ب م). هل من رباط بين هذا الحدث ووجود اسم هركانس كاسم يهودي منذ القرن الثالث ق م؟ الأمر ممكن. نشير إلى أنّ أوسابيوس القيصريّ يتحدّث عن هذا السي الأخير وإلى أنّ سبع مدن (من حاصور في الشمال إلى أريحا في الجنوب) قد ماتت فيها الحياة في نهاية الحكم الفارسيّ. لا يعني الانتقال من المنفى إلى الشتات انتقالاً من مكان إلى آخر ومن وضع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى وحسب، إنّه يتضمّن إيديولوجيّة جديدة توردها التوراة وتبرّرها.
تأثّر اليهود بالأنبياء الكبار الذين عاشوا في القرنين السابع والسادس ق م، مثل إرميا (ار 17: 1- 4) وحزقيال (حز 12: 15) ففهموا التهجير أو النفي كنتيجة عقاب إلهيّ عادل وشرعيّ. ولكن ما عتّم المنفى أن تحوّل في نظر الكثيرين إلى إقامة حرّة بعيدًا عن أرض إسرائيل، ولهذا عمد أنبياء المنفى وما بعد المنفى (أش 60: 1 ي؛ حج 2: 6- 7؛ زك 8: 20- 23) إلى توضيح وضع المنفيّين أو بالأحرى المشتّتين وسط الأمم. فتشتُّتُ شعبِ إسرائيلَ (أو الشتاتُ) يقابل إرادة الله التي تتوخّى جمع كلّ الشعوب. وإنّ هذا التفسير للتاريخ الواضح في أشعيا الثاني كان ينبوع نشاط ودعاية سيقوم بهما العالم اليهوديّ ليكسب الوثنيّين إليه في حركة تبشيريّة. أجل، زالت الفكرة في أنّ المنفى هو عقاب إلهيّ، وقال فيلون الإسكندرانيّ: فالذين يؤسّسون مستوطنة، تصبح لهم الأرض التي تستقبلهم وطنًا بدل المدينة الأمّ.

3- واقع لا رجوع عنه
في القرنين الأخيرين من تاريخ الهيكل الثاني، أي منذ بداية الدولة الحشمونيّة إلى بداية المسيحيّة، حدّد الشتاتُ تكوين العالم اليهودي من جهة العدد ومن جهة الفكر. وهذا الكلام لفيلون الإسكندراني يدل على حالة فكرية ظاهرة: كثر اليهود فم تعد قارّة واحدة تسعهم، لهذا هاجروا إلى أفضل مناطق أوروبّة وآسية، إلى البلدان والجزر. هم يعتبرون أنّ عاصمتَهم هي المدينة المقدّسة حيث هيكل الله العليّ. ولكنّهم يعتبرون أيضاً أنّ وطنهم هو المناطق التي أعطاها القدر مقامًا لآبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم وأبعد أسلافهم. هناك ولدوا وهناك تربّوا.
ففي القرن الثاني كادْ الشتات للعالم اليهودي وضعًا سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا أقرَّ به اليهود وغير اليهود على السواء. وها نحن نقدّم شهادتين عن اتساع هذه الظاهرة في ذلك الوقت.
الأوّل يهوديّ وهو فيلون. وضع لائحة بمكان إقامة اليهود منطلقًا من الإسكندريّة: هذه المدينة (= أورشليم) كما قلت، هي وطني وهي عاصمة لا مقاطعة يهودا فحسب، بل عاصمة مناطق أخرى بسبب المجموعات التي أرسلتها إلى البلدان المجاورة: مصر، فينيقية، سورية وخاصّة سورية المنخفضة (أو البقاع اللبناني). وآخرون ذهبوا إلى مناطق أكثر بُعْدًا بمفيلية، كيليكية، قسم كبير من آسية وصولاً إلى بيتينية وأعماق البنطس. وكذلك في أوروبّة: تسالية، بيوتية، مكدونية، إيولية، إتيكي، أرغوس، كورنتوس وأفضل مناطق البلوبونيز. ولم تمتلئ القارّات فقط بالمجموعات اليهودية، بل وأيضاً أكثر الجزر شهرة: أوبيس في بحر إيجه، قبرص، كريت. ولن أتكلّم عن المجموعات التي في عبر الفرات. فبابل وكلّ المدن تتضمّن سكّانًا يهودًا.
الثاني مسيحيّ وهو لوقا الإنجيليّ. قدّم في سفر الأعمال لائحة بالمجموعات اليهوديّة منطلقًا من أرض يهوذا، فأخذ بعين الاعتبار التقسيمات الإداريّة وزاد عليها الفوارق العرقيّة واللغويّة. قال: وكان في أورشليم أناس أتقياء أتَوا من كلّ أمّة تحت السماء. فلمّا انطلق ذلك الصوت، اجتمع الناس وقد أخذتهم الحيرة، لأنّ كلاًّ منهم كان يسمعهم يتكلّمون بلغته. فدهشوا وتعجّبوا وقالوا: أليسَ هؤلاء المتكلّمون جليليّين بأجمعهم، فكيف يسمعهم كلّ منّا بلغة بلده؟ فراتيّون، مادايّون، عيلاميّون، سكّان بلاد الرافدين، كبادوكية، البنطس، آسية، فريجية، بمفيلية، مصر، ليبية القيروانيّة، رومة، كريت، وبلاد العرب (أع 2: 5- 11).

4- عدد السجن اليهود في زمن المسيح
في بداية الزمن الذي بعد المنفى، ساعة لم تكن أرض يهوذا تتعدّى 2000 كلم مربعّ، لم يتجاوز عدد السكّان 70000 (عز 2: 64- 65). ولكنّ هذا الرقم سيتضاعف بصورة مدهشة. فإذا أخذنا بقول هيكاتيس الأبديريّ (حوالي 300 ق م) فقد كان أهل أورشليم 120000 في بداية القرن الثالث ق م. وتوسّعت المجموعات اليهوديّة خارج مقاطعة يهوذا، في الجليل، في مدن الساحل وفي شرقيّ الأردنّ. وحين اندلعت ثورة المكابيّين سنة 167 ق م كان الشعب اليهوديّ قليل العدد. ولكن بعد إقامة الدولة الحشمونيّة وضمّ أراضيَ جديدةٍ نما الحضور اليهوديّ طوعًا أو قسرًا وفرض نفسه على كلّ أرض فلسطين. وهكذا ففي زمن يسوع كان الجليل كلّه يهوديًّا مثل أورشليم. ثمّ إنّ النموّ الديمغرافيّ لم يتوقّف في فلسطين ولا في الشتات حيث تكاثر اليهود جدًّا حتّى النصف الثاني من القرن الأوّل. ولكن بعد الثورتين الفلسطينيّتين (66- 70، و132- 135) خفّ عدد اليهود بصورة سريعة.
أمّا العدد فهو بحسب ابن العبريّ 6.944.000 في المملكة الرومانيّة. فإذا زدنا على هذا الرقم يهود بابلونية وإيران واليمن والحبشة يمكننا أن نقول إنّ اليهود كانوا يعدّون ثمانية ملايين تقريبًا.

ب- المشتّتون في الغرب، في مصر والقيروان
كانت تهجيرات سابقة في القرن السادس ولاسيّما بعد سقوط أورشليم سنة 587 حين لجأ أبناء يهوذا الى البلدان المجاورة. ولكنّ أكثر الشتات المصريّ تكوَّن بعد الإسكندر الكبير والبطالسة الأُوَل.

1- المستوطنون الأوّلون
حين كان الفرس يسيطرون على مصر (بعد 525 ق. م) وُجدت جماعات من المرتزقة اليهود في مخيّم الفانتين العسكريّ، جنوبي جزيرة على النيل تقابل يون (سوانه في حز 29: 10، أسوان الحديثة). فالفراعنة جعلوا اليهود هناك منذ بداية القرن السادس بل منذ القرن السابع ق م.
وتقول رسالة أرستيس (القرن الثاني ق م): وُجد هناك يهود جاؤوا على خطى الفارسيّ (قمبيز الذي احتلّ مصر سنة 525 ق م). بل جاء قبلهم الأنصار ليحاربوا مع سامتيك الأوّل (663- 609) أو سامتيك الثاني (594- 588) ملك الحبشة.
وصل المرتزقة إلى الفانتين فاستوطنوا هناك وعاشوا من محاصيل الأرض التي استثمروها وأورثوها أولادَهُم.
إنّ اسم الفانتين اليونانيّ هو ترجمة الأصل المصريّ الذي احتفظت به الآراميّة: باب أو مدينة العاج. كان لهذا الموضع أهمّية دينيّة لأنّه مدينة الإله المصريّ كنوب، ووظيفة ستراتيجيّة كقلعة تدافع عن حدود مصر الجنوبيّة ضدّ هجمات النوبيّين. كان يقيم فيها القائد العسكريّ الفارسيّ، وقد جاء إليها منذ القرن السابع بعض الآسيويين المتكلّمين بالآراميّة، وازداد عددهم بما جاء من آسيويّين آخرين (من سورية وبلاد الرافدين وإيران ويهوذا) في القرنين السادس والخامس. وقد أعلمتنا برديّات الفانتين أنّ اليهود بنوا هناك معبدًا كرسوه للإله ياهو (رج أش 19: 19)، قبل أن يزولوا حوالي السنة 400.

2- الهجرة اليهوديّة على أيّام البطالسة
وازدادت هجرة اليهود إلى مصر في المرحلة الهلّينيّة. فوصل اليهود في موجات متعاقبة منذ بداية عهد اللاجيّين. وتذكر رسالة أرستيس طلبَ تحريرِ الرجال الذين سباهم من اليهوديّة أب الملك (أي بطليموس الأوّل سوتر، 323- 285 ق م) والذي أجلى ما يقارب مئة ألف رجل من بلاد اليهود إلى مصر، وسلّح منهم ثلاثين ألفًا وجعلهم كحامية في البلاد. ونقل يوسيفوس عن هيكاتيس الأبديريّ: بعد معركة غزّة (سنة 312 ق م) صار بطليموس سيّد سورية. وإذ علم كثير من الناس بوداعته وروحه الإنسانية أرادوا أن يرافقوه إلى مصر ويربطوا مصيرهم بمصيره. والمقطع الذي نورده من رسالة أرستيس يصوّر حالة قِسم من يهود مصر في المرحلة الأولى من حكم اللاجيّين:
مِن الملك بطليموس إلى عظيم الكهنة أليعازر سلام وعافية. إنّ عددًا كبيرًا من اليهود يسكنون أرضنا بعد أن أن طردهم الفرس من أرضهم في أيّام حكمهم. وقد وصل أيضاً إلى مصر مع والدي الكثيرون كأسرى حرب، فجعلهم في جيشه ودفع لهم أجرًا كبيرًا. وإذ عرف أمانة الذين كانوا يقيمون في البلاد، أقام حاميات وسلّمهم إيّاها ليشدّد قبضته على شعب مصر. ولمّا خلفناه، قمنا بأعمال صداقة تجاه الجميع ولاسيّما أبناء وطنك. حرّرنا أكثر من مئة ألف كانوا أسرى حرب، ودفعنا لأسيادهم تعويضاً عادلاً وسعينا إلى إصلاح الأضرار المتأتيّة من حماس الشعب. وهكذا جعلنا الشبّان في الجيش، والذين يتحلَّون ببعض الصفات من أجل خدمتنا الخاصّة، والذين يستحقّون أن يستلموا وظيفة في البَلاط، جعلناهم على رأس بعض الخدَم.
وظلّت الهجرة اليهودية تتوجّه إلى مصر حتّى سنة 200، أي زمن احتلال أنطيوخس الثالث السلوقيّ لفلسطين، بسبب الوحدة الإداريّة بين جنوبيّ سورية ومصر. وجاء عدد من السوريّين (بينهم اليهود) وأقاموا في الحاميات والتي جعلها المصرّيون في النقاط الستراتيجيّة من جنوبيّ سورية. وفي المقابل جاء إلى سورية موظّفون وضبّاط وتجّار مصرّيون. وهكذا نمت العلاقات بين المحتلّ المصريّ وأهل البلد. وهذا يفسّر المدّ السوريّ واليهوديّ إلى مصر.
نحن نقرأ عن تبادل الناس والبضائع في برديّات زينون (اكتشفت سنة 1915 في فيلدلفية شرقيّ الفيوم. عاش زينون اليونانيّ في مصر في أيّام بطليموس الثاني، 284- 248). نجد معلومات عن إدارة فلسطين واقتصادها، عن تجارة العبيد، عن استيراد الزيت إلى مصر، وتصدير التوابل عبر مرفأ غزّة.

3- أرض أونيا
إنّ احتلال فلسطين على يد السلوقيّين سنة 200 ق م أخلّ بالتوازن الذي أقرّه اللاجيّون. زالت الوحدة الإداريّة بين البلدين وتوقّفت العلاقات التجاريّة. ولكنّ الهجرة إلى مصر لم تتوقّف، بل ازدادت بسبب الوضع السياسيّ والثقافيّ الجديد في يهودا التي خضعت للتأثير الهلّينيّ الذي حمله السلوقيّون، وبسبب ثورة المكابيّين ونتائجها السياسيّة والحربيّة. كان بعض هؤلاء من الطبقة الأرستقراطيّة مثل أونيا الرابع الذي هرب إلى مصر مع عدد كبير من أتباعه. كان أونيا الرابعُ ابنَ أونيا الثالث الذي مات مقتولاً سنة 170 ق م، ومن عائلة تسلّمت مدّة طويلة وظيفة رئاسة الكهنوت قبل أن يتسلّمها اليهود الذين مالوا إلى الحضارة الهلّينيّة. اتّفق أونيا مع الملك اللاجيّ بطليموس السادس فيلوماتور (181- 145) وامرأته كليوبترة الثانية، فشيَّد هيكلاً في ليونتوبوليس قرب ممفيس، وصار قائد وحدة عسكريّة يهوديّة مستقلّة. وتصرّف مثل الملوك الحشمونيّين، فكان قائدًا حربيًّا ورئيس كهنة. أقام مع جيشه وعيالهم على أرض سميت أرض أونيا (الاسم الحاليّ: تلّ اليهودية).
لعبت وحدة أونيا العسكريّة (كانت دولة ضمن الدولة) دورًا هامًّا في الحياة السياسيّة المعاصرة لمصر البطالسة. وُضعت بإمرة السلطة المركزيّة فتدخّلت في حروب الخلافات. فحين مات فيلوماتور في سورية سنة 145 ق م، ساندتِ الملكةَ كليوبترة في صراعها مع الإسكندرانيّين وصهرها أورجاتيس أو بطليموس السابع. تدخّل أونيا فنتج عن تدخّله اضطهادٌ لهود الإسكندريّة. ولمّا تزوّج أورجاتيسُ كليوبترة اصطلحت الأمور واستعاد اليهود السلام. أمّا هيكل أونيا فأغلقه الرومان سنة 73 ب م.
كان لأونيا ابنان: حنانيّا وحلقيّا. كانا قائدين في جيش كليوبترة الثالثة (ملكة من 116 إلى 110 ق م) على مستوطنة هليوبولس الحربيّة، وساندا الملكة في حروبها ضدّ ابنها بطليموس الثامن (لاتيروس) من أجل عرش مصر. كان بعض المستشارين قد نصحوا كليوبترة بأن تحتلّ المملكة الحشمونيّة، ولكنّ حنانيّا أقنعها عكس ذلك فدفعها إلى أن تعقد أتّفاقًا مع الإسكندر بنِ يناي. ويبدو أنّ اسم حلقيا وابن حلقيا مذكور في كتابة مصريّة تعود إلى سنة 102 ق م. ويشير يوسيفوس إلى نشاط قائد يهوديّ آخر، هو دوسيتايس، خدم اللاجيّين في عهد فيلوماتور. ونعرف أنّ الجنود اليهود أعانوا القوّاد الرومان. أعانوا غابينوس ليعيد بطليموس الثالث عشر إلى عرش مصر، وانضمّوا إلى جيش أنتيباتريس، والد هيرودس، ليساعدوا قيصر في أرض مصر.
استفاد البطالسة من هؤلاء اليهود المرتزقة لحفظ النظام. ولكن لمّا جاء الرومان استغنَوا عن جيش "أونيا" الذين ظلّوا يعيشون حيث هم.

4- اليهود في المدن اليونانيّة
تجذّر اليهود في المدن، ولا سيّما في الإسكندريّة، كما تجذّروا في الريف بواسطة "البوليتوما" أو "المدينة ضمن المدينة". البوليتوما هي جماعة وطنيّة تقيم في مدينة غريبة. كان هناك جماعات من أدومية وفريجية وكريت، وكانت جماعات من أرض فلسطين.
في أيّام البطالسة والحكم الرومانيّ على مصر، كانت أكبر بوليتوما بوليتوما الإسكندريّة، على ما تقول رسالة أرستيس في القرن الثاني ق م. وكانت بوليتوما في القيروان، وفي برنيقة في ليبية وفي أنطاكية سورية وقيصريّة فلسطين.
أتاحت البوليتوما لجماعة متجانسة أن تندمج في جماعة غريبة دون أن تتخلّى عمّا يميّزها. هذا يفترض رباطات منظّمة ومتواصلة بالوطن الأمّ.
يمكننا أن نعتبر بوليتوما الإسكندريّة نموذج سائر البوليتومات في الشتات الغربيّ المتكلّم باليونانيّة. كان لها رئيس كما لكلّ مدينة مستقلّة. وفي أيّام أغوسطس، صار لها مجلس مؤلّف من 71 عضوًا. أنت من البوليتوما، هذا يعني أنّك تعيش في المدينة، ولكنّك لست مواطنًا كسائر المواطنين.
ووجد في نظام البوليتوما السيناغوغي أو المجمع مع الحجّ إلى عاصمة يهودا ودفع الضريبة لهيكل أورشليم. فالمجمع كان بالنسبة إلى الهيكل ما كانت البوليتوما بالنسبة إلى الدولة. فرض المجمع نفسه كمركز نشاطات خاصّة، وهذا ما خلصّ العالم اليهوديّ من الضياع بعد أن زالت حدود الدولة ودمِّر الهيكل. ففي المجمع تواصلت الديانة اليهوديّة وحافظت على أصالتها وواجهت تكيّفات حضاريّة هامّة. كانوا يقرأون الشريعة ويدرسونها ويفسّرونها في المجمع فيعوّضون عمّا يفوتهم عمله في الهيكل وهم بعيدون عن الهيكل. وكما كان اليونانيّون يتعلّمون في معاهدهم الخاصّة (جمناز)، كان اليهود يتعلّمون في المجامع (سيناغوغي).

5- الانحطاط السياسيّ ليهود مصر
انتقل الحكم من البطالسة إلى الرومان، فكان هذا الانتقال السبب الأساسيّ لتحوّل عميق في الظروف العامّة لحياة اليهود في الشتات المصريّ. أُتُّخذ إجراءان سيكون لهما انعكاسات خطيرة على الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. أوّلاً: أُلغي جيش البطالسة فألغيت بالتالي وحدات الجنود اليهود. وهذا ما بلبل الوضع الاقتصاديّ والوظيفيّ لدى يهودٍ مصرّيين يقيمون في الريف. ثانيًا: حلّ محلّ جامعي الضرائب وسائر خدّام الملك (وقد كان مدنهم عدد من اليهود) موظّفو الدولة الجديدة وجلّهم كانوا من اليونانيّين. ويمكننا القول بصورة عامّة إنّ احتلال رومة لمصر وضع حدًّا للنظام الكلّيانيّ أو الموجّه في الاقتصاد وفتح الباب للمبادرة الفرديّة. فنتج عن هذا ليبراليّة وتحرّريّة في نوع النشاط المهنيّ لدى يهود مصر. ويذكر فيلون: الأعمال المصرفيّة، الفلاحة، التجارة، الصناعة.
وتراجع الوضع الاقتصاديّ لدى يهود مصر بسبب سياسة رومة الضرائبيّة. ففي أوّل عهد أغوسطس (حوالي 24- 23 ق م) فُرضت ضريبة شخصيّة في مصر على كلّ من لم يكن مواطنًا رومانيًّا أو مواطنَ إحدى المدن اليونانيّة. فكان لهذه الضريبة ثلاث نتائج على اليهود.
الضيق الاقتصاديّ وقد شعر به خاصّة سكّان الريف، التمييز بين الرومان واليونانيّين وبين غيرهم وضمّ اليهود إلى المصرّيين الأصليين في فئة واحدة من المساهمين، الفارق الاجتماعيّ والإيديولوجيّ وسط المجموعة اليهوديّة بين طبقتين متميّزتين بل متعارضتين: أقلّية في المدن غنيّة ومنفتحة على العالم الهلّينيّ، أكثريّة في الريف أفقرتها الضرائب فانعزلت وانخرطت في حركات وطنيّة متأثّرة بالمقاومة اليهوديّة في فلسطين.
وهكذا تراجع الشتات اليهوديّ في مصر بعد أن عرف ازدهارًا وإشعاعًا لا مثيل له. فقال سفر المكابيّين الثالث (دوِّن في مصر في أيّام أغوسطس، في اليونانيّة): إنّ اليهود بدأوا يعتبرون الإقامة في مصر على أنها هجرة ومنفى.

ج- المشتّتون في الشرق والشمال: سورية، بابلونية، آسية الصغرى
عرف يهود الشتات الشرقيّ والشماليّ (بابلونية وبلاد الرافدَين، ماداي وفارس، سورية وآسية الصغرى، انطلاقة جديدة في أيّام السلوقيّين الذين بدأوا فأسّسوا مدنًا جديدة أقام فيها مهاجرون مكدونيّون وجنود يونانيّون وتجّار، وشيّدوا المدن المحصّنة على طول الطرق والأنهار الكثيرة، وزرعوا المستوطنات الحربيّة في القرى. كلّ هذا كان عامل نموّ وازدهار أفاد منه اليهود إفادة واسعة.
ظلّ اليهود الشرقيّون يشكّلون من الوجهة العرقيّة والثقافيّة جماعة منفصلة. ولكنّهم ما عتّموا أن تأثّروا بالتيّار الهلّينيّ كما كان الحال في فلسطين، ولكنّهم لم يجارُوا إخوتهم في مصر. وستكون لغتهم في سورية وآسية الصُغرى اللغة اليونانيّة. أمّا في بلاد الرافدَين والمناطق المجاورة لها، فتكلّموا الآراميّة ولهم كتب يوسيفوس "حرب اليهود".

1- المستوطنات اليهوديّة العسكريّة
لا نعرف الشيء الكثير عن الوضع اليهوديّ في العالم السلوقيّ قبل أنطيوخس الثالث الكبير (223- 187 ق م). فقد استعمل الملوك السلوقيّون المستوطنات الحربيّة اليهوديّة كما فعل اللاجيّون في مصر.
يخبرنا يوسيفوس أنّ اليهود شكلّوا في جيش الإسكندر فرقة لها ممارساتها الدينيّة الخاصّة وقواعدها القاسية التي أقرّت بها السلطات العسكريّة. وحين بدأ الجيش بناء معبد بال (أي بعل) في بابل رفض الجنود اليهود المشاركة في بنائه، فأُجبر الإسكندرُ على إعفائهم من هذا العمل. وبعد الإسكندر تعامل الملوك السلوقيّون مع خصائص المرتزقة اليهود بالتسامح واعتبروا أنّ صدقَهم وولاءَهم وليدُ تعلّقهم بفرائضهم الدينيّة. ونشير هنا إلى أنّ ثورة المكابيّين لم يصل صداها إلى الشتات الشرقيّ. ونحن نقرأ في 2 مك 8: 20 تحريضاً ليهوذا المكابيّ حثّ فيه جنوده الستّة آلاف على الحرب بشجاعة، وذكرّهم بانتصار 8000 يهودي ضدّ 120000 من الغلاطيّين.
ولنا مثال عن مستوطنة يهوديّة عسكريّة. نحن في سنة 210 تقريبًا في أيّام أنطيوخس الثالث. كانت قلاقل في آسية الصغرى وبالتحديد في فريجية وليدية. فاتّخذ الملك إجراءاتٍ سريعةً منها نقل 2000 عائلة يهوديّة إلى المناطق المتحرّرة. هدف من عمله إلى تثبيت جماعة جديدة وحكيمة يستند إلى ولائها كمزارعين مسالمين وكجنود احتياط. وكتب إلى زوكسيس حاكم تلك المقاطعتين: من الملك أنطيوخس إلى زوكسيس. سلام. إذا كنت بصحّة تامّة فهذا حسن. أمّا أنا فبصحّة تامّة. علمت أنّ أهل ليدية وفريجية يقومون بالقلاقل فرأيت أنّ الأمر يستحقّ اهتمامي. إستشرت أصحابي في ما يجب أن أعمل وقرّرت أن أُخرج من بابل وبلاد الرافدَين 2000 عائلةً يهوديّةً مع أسلحتهم، وأرسلهم لِيَحْمُوا المواقع الهامّة. أنا مقتنع أنّهم سيكونون حُرّاسًا طيّبين لمصالحنا بسبب تعبّدهم لله، وأنا عارف أنّ أسلافي اختبروا أمانتهم وطاعتهم للأوامر. إذن، ومهما كان الأمر صعبًا، أريد أن تنقلهم وتَعِدَهم بأن تتركهم يعيشون حسب شرائعهم الخاصّة. وبعد أن تجعلهم في الأماكن المحدّدة، تعطي لكلّ عائلة أرضاً تَبني عليها بيتها وحقلاً تفلحه وتزرعه كرمًا، وتعفيهم من الضرائب على منتوج الحقل مدّة عشر سنين، وتوزّع عليهم القمح لإطعام عبيدهم إلى أن يقطفوا غلال الأرض. وأعطِ ما هو ضروريّ للمسؤولين عن شعائر العبادة فيعترفوا بصلاحنا ويغاروا على مصالحنا. واسهر بعناية على هذا الشعب لئلا يكدّرَه أحد.
لم يكن التدبير استثنائيًّا. فهكذا اعتادت أن تفعل دول مثل برغامس وغيرها. ولا ننسى أنّ قسمًا من الشعب الريفيّ في آسية الصغرى وسورية ومناطق شرقيّ الفرات تأَلَّف من جنود أقاموا مع عيالهم وتنعّموا بامتيازات توافق وضعهم ولا سيّما في ما يتعلّق بشعائر العبادة.
كان هناك نمطان من الجماعات اليهوديّة في هذه المناطق: النمط المدائنيّ مع إقامة يهود قرب المدن اليونانيّة أو داخلها. النمط الريفيّ مع الإقامة في قرى محصّنة تنعم باستقلال واسع. تنتظم هذه الجماعات حول نواة كهنوتيّة مؤلّفة من الكهنة وممولّة من الصندوق الملكيّ. كان الكاهن رئيس هؤلاء الجنود وقائد القلعة، وكانت وظيفته تنتقل بالوراثة.

2- مستوطنة هيروديّة
واتّخذ هيرودس الكبير مبادرة تذكّرنا بمبادرة أنطيوخس الثالث في آسية الصغرى. هرب يهوديّ بابلي (اسمه زماريس أو زمري) من بلاده الذي سيطر عليها الفراتيّون، مع 500 فارس يرمون بالسهام وعائلة مؤلّفة من مئة شخص. إلتجأ إلى سورية قرب أنطاكية. عرف به هيرودس فدعاه إليه ليجعل منه ترسًا لمملكته شرقي الجولان. فقدّم له العرض التالي: وعده بأن يعطيه أرضا في باطانية القريبة من تراخونيتيس. أراد أن يجعل من مركز إقامته سورًا. ووعد زمري بأن يعفيه من الضرائب ومن سائر المساهمات لأنّه يعطيه أرضاً لم تفلح بعد. قبل البابليّ زمري بهذه المواعيد فذهب إلى المكان المحدّد وشيَّد حصونًا وبنى مدينة سمّاها باتيرة. كان هذا الرجل ترسًا لأهل بلده ضدّ أهل تراخونيتيس ولليهود الآتين من بابلونية ليذبحوا في أورشليم. وجلب إليه عددًا كبيرًا من المتعلّقين بالعادات اليهوديّة. وكثر عدد سكّان تلك البلاد بسبب الأمان والإعفاء من الضرائب. الإمتياز قائمًا ما دام هيرودس على قيد الحياة. فلمّا توفي ألغى خلفاءُ هيرودس والرومان هذا الامتياز. ولكنّ عائلة زمري تجذّرت في المناطق المجاورة، وحكم المنطقة أبناؤه وأحفادُه من بعده فكانوا حرسًا لأغريبّا الأوّل وأغريبّا الثاني.
هذا المثل يدلّ على حبّ اليهود لمهنة السلاح وعملهم الاسترزاقيّ العسكريّ في خدمة ملك كبير.

3- على أيّام الفراتيّين
حوّلت الثورة الرومانيّة وضع اليهود السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ في مصر والقيروان وآسية الصغرى وسورية وفلسطين. أمّا مجيء الفراتيّين فترك الأمور على ما كانت عليه.
كان الفراتيّون في الأصل قبيلة بَدَويّة أقاموا في فراتية في جنوبي شرقي بحر قزوين. كان أرساقيس أوّلَ ملك لهم ومؤسّس سلالة الأرساقيين سنة 240 ق م. بدأ الفراتيّون بالتوسّع فضمّوا إلى أرضهم هركانية. ولكنّهم اصطدموا في الشرق بمقاومة البدو المقيمين في الفيافي. وقاومهم السلوقيّون ولكنّهم في النهاية تراجعوا.
أمّا المؤسّس الحقيقيّ لمملكة الفراتيّين فهو متريداتيس الأوّل (171- 138 ق م). أخذ سلوقية على دجلة سنة 141 وأسر الملك السلوقيّ ديمتريوس الثاني.. ولم يمضِ نصفُ قرنٍ حتّى وضع الفراتيّون يدهم على أرض بابلونية في أيّام متريداتيس الثاني حوالي 120 ق م وظلّوا هناك أسيادًا حتّى سنة 226 ب م. لمّا جاء الساسانيون الفرس، احتلّوا البلاد وأقاموا فيها حتّى مجيء العرب.
كان الفراتيّون قد التقَوا باليهود في هركانية وماداي. وها هم يلتقون بهم في أرض بابلونية. وكان همّ المحتلّين الجدد أن يُقيموا في بابلونية سلطة فاعلة وأن يؤمّنوا الدفاع عن الحدود فتعاملوا مع اليهود. ولهذا عرف يهود بابلونية السلام في القرنين الأوّلين لحكم الفراتيّين، عكس إخوتهم في فلسطين ومصر، فلم تجتح الجيوش المناطق التي يعيشون فيها ولم يجبروا على أن يتحزّبوا لأيّة فئة، سياسيّةً كانت أم عسكريّة.
ولكن ما هو نوع العلاقات بين سلطات فلسطين اليهودية والإدارة الفراتيّة؟ كان للاثنين مصلحة مشتركة وهي تدمير السلوقيّين. ولقد قابل حكمَ متريداتيس الأوّل (171- 138 ق م) وانتشارَ الفراتيّين في بلاد الرافدَين إقامةُ دولة الحشمونيّين. وفوق ذلك، فانتصار أفراتيس الثاني (138- 128 ق م) على أنطيوخس السابع سنة 129 ساعد حركة اليهود الاستقلاليّة في فلسطين مساعدة حاسمة. نحن لا نجد أيّ برهان عن التوافق بين القوّتين في القرن الأوّل ق م، ولكنّ الأكيد هو أنّ يهود بابلونية أفادوا إفادة حقيقية من هذه المعاهدة. ثمّ إنّه كانت اتّصالات غير مباشرة بين الحشمونيّين والفراتيّين منذ سنة 139 ق م عبر رسالة أرسلتها رومة إلى الملوك والمدن (ومنهم ملك الفراتيين) تفرض عليهم الاعتراف بحقوق أصدقائهم اليهود الخاصّة. ويروي تلمود بابل أنّ بعثة فراتيّة أُرسلت إلى بَلاط إسكندر يناي.

4- واقعان لهما مغزاهما
ونتوقّف هنا عند واقعين يتعلّقان بتاريخ اليهود في أيّام الفراتيين وقد حصلا في القرن الأوّل ب م. الأوّل يدلّ على استساغة اليهود لدولة عسكريّة، والثاني على نجاحهم في هداية الناس إلى ديانتهم.

أوّلاً: محاولة خلق دولة عسكريّة
كان أخَوان من بابل (أنيلاوس وأسيناوس) بطلي مغامرة مدهشة وهي تأسيس دولة يهودية حقيقيّة دامت في الأرض الفراتيّة سحابة 15 سنة (20- 35). وقد احتفظ لنا يوسيفوس المؤرّخ بالخبر: كان أخوان، أسيناوس وأنيلاوس من نهاردية. فقدا والدهما فعلّمتهما والدتهما صنع القماش لأنّه ليس من العيب أن يشتغل الرجال في الصوف. ولكنّ الذي كان يراقب عملهما والذي كان قد علّمهما مهنتهما ضربهما لأنّهما جاءا متأخّرين إلى العمل. فاعتبرا هذا العقاب جورًا. حينئذ أخذا الأسلحة المحفوظة في البيت وذهبا إلى منطقة تفصل النهرين وتؤمّن مرعى صالحًا خلال الصيف وعلفًا يُحفظ في الشتاء. فانضمّ إليهما شباب معدمون فأعطياهم السلاح وصارا قائدين لهم. ولم يكن شيء يمنعهما ليحوّلا هؤلاء الشبّان إلى الشرّ. ولمّا صارا أقوياء وبنيا قلعة أرسلا يطلبان من الرعاة أن يدفعا ضريبة المواشي، وهذا ما أمّن لهما طعامًا. وعدا من يقبل بهذا العرض بصداقتهما وبحمايته من أيّ عدوّ، وهدّدا الرافضين بقتل مواشيهم. لم يكن للرعاة خيار، فأطاعوهما وأرسلوا إليهما المواشي المطلوبة. ازدادت قوّتهما فخافت منهما الجوار وهكذا وصلت شهرتهما حتّى إلى ملك الفراتيّين.
هاجم الفراتيّون أنيلاوس وأسيناوس وتبّاعهما يوم السبت ليأخذوهم على غفلة. فأفلت القائدان من الفخّ وانتصرا على المهاجمين وقتلا منهم عددًا كبيرًا. فعرض أرطبان ملك الفراتيّين على الأخوين مقابلة للتفاوض معها. خاف أرطبان أن تمتدّ ثورة الأخوين، فاستقبلهما استقبال الأمراء وقال لأسيناوس: أسلَّم إليك أرض بابلونية لتعفيها من الشرور وتطهرّها من اللصوص. فقوَّى أسيناوس مواقعه العسكريّة بحيث ارتبطت به كلّ أمور بلاد الرافدين.
بعد هذا انحطّت تلك الدولة اليهوديّة، تلك المستوطنة "اللصوصيّة". وضعت زوجة أنيلاوس الوثنيّة السمّ لأسيناوس. ثمّ هجم متريداتيس على أنيلاوس فقهره. حاول أنيلاوس أن ينتقم بأعمال السلب، لكنّ اليهود أسروه ليلاً وقتلوه مع أتباعه.
وكانت مغامرة أنيلاوس سببًا لهجوم البابليّين على اليهود العائشين معهم. فالتجأوا إلى سلوقية وقُتل هناك منهم عدد كبير. أفلت بعضهم فراحوا إلى قطاسيفون أو نهاردية أو نصّيبين حيث عاشوا بأمان.

ثانيًا: إرتداد ملوك حدياب
تمّ هذا الحدث في النصف الأوّل ب م في حدياب وهي مقاطعة تقع شرقيَّ دجلة الأعلى. كانت هذه المملكة الصغيرة تابعة للفراتيّين، فتحرّرت في أيّام ملكها إيزاتيس (36- 60) الذي امتلك من القوّة بحيث أعاد أرطبان الثالث ملك الفراتيّين إلى عرشه بعد أن عُزل. فأعطى له نصّيبين وجوارها. ولكنّ إيزاتيس ارتدّ مع أمّه إلى الدين اليهوديّ قبل أن ينصَّب ملكًا.
بعد هذا الارتداد أقام ملوك حدياب علاقات وثيقة مع يهود فلسطين وأظهروا كرمًا وسخاء تجاه أورشليم والهيكل حيث ذهبت هيلانة، أمّ الملك. واختلف يهود حدياب عن يهود بلاد الرافدَين فشاركوا في حرب 66- 70 وقد اسر فيها أبناء إيزاتيس وإخوته. وخلال القرن الثاني تجذَّر الدين اليهوديّ في حدياب، وهذا ما سهلّ دخول المسيحيّة إلى هذه المقاطعة.

د- المدن اليونانيّة
تمّ نموّ الشتات اليهوديّ نموًّا جغرافيًّا وسوسيولوجيًّا وديماغروفيًّا بفضل بناء المدن التي قام بها خلفاء الإسكندر ولا سيّما السلوقيّون. فالإسكندر الكبير بنى 30 مدينة (سمّاها الإسكندريّة) ليطبع الشرق بالطابع الهلّينيّ. وأسّس سلوقس الأوّل (312- 281 ق م) وحده ستّين مدينة. سمّى ستّ عشرة منها أنطاكية باسم أبيه وتسعًا سلوقية باسمه. توقّفت حركة بناء المدن في أيّام أنطيوخس الأوّل (281- 261)، ولكن عادت إلى الازدهار في أيّام أنطيوخس الرابع (175- 164) الذي سمّى أورشليم نفسها أنطاكية وأراد أن يطبعها بالطابع الهلّينيّ. ولا ننسى في النهاية أنّ هيرودس الكبير بنى هو أيضاً عددًا من المدن.
اشتملت آسية الصغرى والجزر اليونانيّة على عدد من المدن. وعرفت الطريق من سورية الشماليّة إلى الخليج الفارسيّ عددًا من المدن، وكذلك مصر والقيروان. وسيكون لرومة أهمّيّة خاصّة لتاريخ الشتات بل للتاريخ اليهودي كلِّه.

1- آسية الصغرى
أوّلاً: برغامس
هي مدينة قريبة واقعة على الشاطئ الشماليّ الغربيّ لآسية الصغرى، وفي ميسية. كانت مملكةً مستقلّة منذ بداية القرن الثالث (وبالتحديد سنة 280) حتّى سنة 133 ق م. في ذلك الوقت سلّم آخرُ الملوك المملكة إلى رومة فصارت برغامس عاصمة مقاطعة آسية الرومانية.
احتفظ يوسيفوس بقرار من شعب برغامس يتعلّق بالعلاقات مع الأمّة اليهوديّة. دوِّنت هذه الوثيقة في أيّام يوحنّا هركانس حوالي سنة 113- 112 ق م، فرجعت إلى قرار سابق أصدره مجلس الشيوخ الرومانيّ الذي جدّد عهده مع اليهود، حلفاء رومة. وتنتهي الوثيقة بهذه الكلمات: تذكَّر آباؤنا أنّهم كانوا أصدقاءهم منذ أيّام إبراهيم، أبي كلّ العبرانيّين، وهذا ما نجده في الملفّات العامّة.
كانت برغامس إحدى المدن التي نالت نصيبها من هدايا هيرودس الكبير. وفي نصف القرن الأوّل ق م كانت الجماعة اليهوديّة متجذّرة فيها. ويذكر شيشرون، الخَطِيب الروماني أنّ فلاكوس حجز أموالاً كانت مخصّصة لهيكل أورشليم.

ثانيًا: أفسس
هي مدينة يونانيّة تقع على الشاطئ الغربيّ لآسية الصغرى. كان فيها خلال القرن الأوّل ب م جالية يهوديّة تعود إلى السنوات الأولى للعهد الهلّينيّ. يذكرها كلّ من يوسيفويس وفيلون وسفر الأعمال والكتابات. أراد الأيونيّون أن يحرموا الجهود من حقّ المواطنيّة الذي يعود إلى أنطيوخس الثاني (261- 246) فدافع عنهم أغريبّا صديق أغوسطس مرقس فلم يُحرموا منها.

ثالثًا: أفامية
هي مدينة في آسية الصغرى وفي فريجية السفلى. أسّسها أنطيوخس الأوّل (280- 262). إذا عدنا إلى الكتابات نجد أنّه كان فيها جماعات يهوديّة منذ القرن الثالث ق م. ويروي شيشرون أنّ الحاكم فلاكوس حجز مئة ليرة من الفضّة جمعها اليهود ليرسلوها إلى الهيكل.

رابعًا: ميليتس
هي مدينة في آسية الصغرى احتلّها الإسكندر سنة 334 ق م. تجذّر فيها اليهود منذ بداية الحكم الرومانيّ. احتفظ يوسيفوس بوثيقة هامة: إنّها رسالة بعث بها القنصل الرومانيّ بوبليوس سرفيليوس غَربا إلى مجلس المدينة وأهلها. عرف أنّ أهل المدينة مَنعوا اليهود من ممارسة السبت وسائر الفرائض، فقرّر أن لا يمنع أحدٌ اليهودَ من اتّباع عاداتهم.
كانت هناك أماكن مخصّصة للفئات المتعدّدة في مسرح ميليتس الرومانيّ. ووُجدت كتابة تقول: مكان اليهود الذين يسمّون أيضاً "خائفِي الله".

خامسًا: لاودكية (أو اللاذقيّة)
مدينة تقع في فريجية على شاطئ نهر ليكوس، في الجنوب الغربيّ لآسية الصغرى. أسّسها أنطيوخس الثاني (261- 246 ق م) في منتصف القرن الثالث وسمّاها باسم امرأته. انتقلت بعد معركة مغنيزية (190 ق م) من أنطيوخس الثالث إلى برغامس، وفي سنة 133 إلى سلطة رومة. احتلّها متريداتيس ملك البنطس سنة 88، فاستعادها الرومان بعد أربع سنوات. في سنة 60 ضربها زلزال فكان السبب في بداية انحطاطها.
نربط إقامة اليهود في لاودكية بزرع 2000 عائلة يهوديّة في فريجية على يد أنطيوخس الثالث في السنوات الأخيرة للقرن الثالث ق م، وقد احتفظ يوسيفوس برسالة بعث بها أشراف لاودكية إلى القنصل الروماني قبل سنة 45 ق م. قالوا فيها: جوابًا على طلب عظيم الكهنة هركانس، عملنا لكي يتمكّن اليهود من ممارسة السبت وسائر الوظائف حسب شرائع الآباء. ويشير شيشرون إلى أنّ فلاكوس حجز 20 وزنة (حوالي سنة 62- 61 ق م) كانت معدّة لهيكل أورشليم، وأرسلها إلى رومة التي كانت تعيش حينذاك أزمة ماليّة خانقة.
ألغيت امتيازات اليهود وحقوقهم في لاودكية سنة 70 ب م.

سادسًا: سرديس
هي عاصمة مملكة ليدية القديمة وتقع على الشاطئ الغربيّ لآسية الصغرى. هي صرفت المذكورة في عو 20. وهذا يعني أنّ الجماعة اليهوديّة تعود إلى زمن الحكم الفارسيّ (547- 443 ق م). احتلّها أنطيوخس الثالث في نهاية القرن الثالث، ثمّ تخلّى عنها لملك برغامُس بعد أن هُزم سنة 188 على يد الرومان. صارت سرديس مُلك رومةَ الخاصّ سنة 133 ق م وسيضربها زلزال سنة 17 ب م.
كان في سرديس في القرن الأوّل ق م من أهمّ الجماعات اليهوديّة في آسية الصغرى. وكان لليهود مجمعهم فيها كما في أفسس وفي سائر المدن الرئيسيّة للمتوسّط الشرقيّ. في سنة 49 ق م ضايق المواطنون اليونانيّون يهود سرديس نعوهم من التنعّم بامتيازاتهم التي تتيح لهم ممارسة تواعد خاصّة بديانتهم. تدخّلت السلطة الرومانيّة وأعلنت أنّ هذه الامتيازات باقية. وبعد بضعة سنوات صدرت الشرائع الرومانيّة التي تؤمّن الحرّيّة الدينيّة، وتطبقّت في المدن الشرقيّة. فأعلن شعب سرديس قرارًا يؤكدّ الحقوق المدنيّة والدينيّة للجماعة اليهوديّة.

2- الجزر اليونانية
أوّلاً: ديلس
هي جزيرة صغيرة في بحر إيجيه. حكمها بعد سنة 130 ق م جماعة من التجّار الغرباء بإدارة حاكم من أثينة. إذا عدنا إلى 1 مك 15: 23 نعرف أنّه كان فيها مستوطنة يهوديّة منذ سنة 139 ق م، وهذ القول تؤكّده كتابات وجدت في المجمع. ووجدت كتابات أيضاً في جزيرة رينية القريبة على مقبرة يهوديّة. نجد على نصبين رخاميّين (القرن الثاني ق م) عادة الصلاة من أجل الموتى. واحتفظ يوسيفوس بوثيقتين: الأولى هي قرار المدينة بإعفاء اليهود من الخدمة العسكريّة بسبب ممارساتهم الدينيّة (49 ق م). والثانية هي شكوى اليهود لدى القنصل الرومانيّ لأنّ اليونانيّين يمنعونهم من ممارسة واجباتهم الدينيّة (44 ق م).

ثانيًا: رودس
هي جزيرة ومدينة في بحر إيجيه. كان اليهود فيها في أيّام الرومان. ولكن إذا نظرنا إلى الدور الرئيسيّ الذي لعبته هذه الجزيرة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة للمتوسّط الشرقيّ في العهد الهلّينيّ، يمكننا القولُ إنّ اليهود كانوا هناك منذ ذلك الوقت. أوّل شهادة عن العلاقات بين اليهود وأهل رودس نقرأها في 1 مك 15: 23. وسنجد أيضاً كتاباتٍ عديدةً في أيّام الأباطرة الرومان تخصّ الجماعة اليهوديّة.
ذهب هيرودس الكبير إلى رودس مرارًا عديدة. ففي سنة 40 ق م توقّف فيها ليصلح سفينته وهو في طريقه إلى رومة. بعد معركة أكسيوم (31 ق م) التقى فيها بأوكتافيوس المنتصر. وقدّم هيرودس ساعدت للجزيرة (بناء السفن) وأعاد بناء هيكلها لمّا احترق.
هناك كاتبان من رودس كَتبا عن اليهود: بوسيدونيوس الأفاميّ (135- 51 ق م) وهو صديق بومبيوس وشيشرون وأحد وجوه الحضارة الهلّينيّة المتأخّرة. أبولّونيوس مولو (القرن الأوّل ق م) أحد معلّمي البلاغة في عصره وأستاذ قيصر وشيشرون. كتب بعد هيكاتيس الأبديريّ كتابًا ضدّ اليهود.

ثالثًا: كوس
هي مدينة وجزيرة في بحر إيجيه. تقع على ملتقى الطرق بين اليونان وآسية الصغرى وسورية ومصر، فصارت قوّة بحريّة. أقام فيها اليهود وذكرها التاريخ اليهوديّ مع يهوذا المكابيّ سنة 161 ق م. عاد مبعوثوه من رومة إلى اليهوديّة وحملوا معهم رسالة من القنصل فانيوس إلى سلطات كوس. وإذا عدنا إلى 1 مك 15: 23 نجد أنّ لوقيوس قنصل رومة طلب من سلطات كوس أن يتركوا اليهود يعيشون بأمان، أكانوا من الجزيرة أم من خارجها (139- 138 ق م).
يروي سترابون أنّ متريداتيس ملك البنطس أخذ خلال حربه مع رومة (88 ق م) ثمان مئة وزنة وَدَعتها الجماعة اليهوديّة في كوس. كان هيرودس الكبير سخيًّا مع كوس، وكذلك ابنه أنتيباس، كما تشهد بذلك كتابة وجدت هناك. نشير إلى أنّ ملياجريس الجداريّ أنهى حياته في كوس.

رابعًا: قبرص
هي جزيرة مواجهة للشاطئ الفلسطينيّ. حين انتقلت إلى سلطة السلوقيّين مع فلسطين في بداية القرن الثالث ق م. أقام فيها اليهود. أمّا الشهادات المباشرة عن هذه الإقامة فنجدها في منتصف القرن الثاني ق م (1 مك 15: 23). وازدهرت الجماعة اليهوديّة في أيّام يوحنّا هركانس، في هذه الجزيرة كما في الإسكندريّة. وقد وُجدت عملات حشمونيّة ثمّ هيروديّة. يوم كانت قبرص مقاطعة مصريّة، أقامت فيها فرقة من اليهود يقودها حنانيّا وحلقيّا، ابن أونيا الرابع، وقد أرسلتها كليوبترة مع فرق أخرى لتطرد من هناك أبنها بطليموس التاسع.
ضُمّت قبر سنة 58 ق م إلى مقاطعة كيليكية الرومانيّة. وخلال الحكم الرومانيّ كانت العلاقات وثيقة بين الجزيرة وسلالة هيرودس. حصّل هيرودس الكبير قسمًا من مدخول النحاس وتسلّم استغلال مناجم في الجزيرة. تزوّجت ألكسندرة ابنة الملك من يهوديّ أرستقراطيّ في الجزيرة. ونقرأ في رسالة من الملك أغريبّا إلى الإمبراطور كاليغولا أنّ قبرص وأوبيس وكريت تعجّ بالمستوطنات اليهوديّة. يذكر سفر الأعمال جزيرة قبرص (أع 11: 20؛ 13: 5، 21: 16) حيث أقام اليهود لا في المدن الكبيرة فحسب، بل في القرى أيضاً، وكانت لهم مجامع.
شارك يهود قبرص في الثورة العامّة التي قام بها اليهود في كلّ أنحاء المملكة على أيّام ترايانس (115- 117 ب م)، فدمّروا سلامينة وقتلوا أهلها بسبب خلافات سابقة. ولمّا سحق قوّاد تريانس الثورة منعوا اليهود من الإقامة في الجزيرة كما يقول ديون كاسيوس.

3- سورية وبابل
أوّلاً: أنطاكية (في سورية)
أسّسها سلوقس الأوّل سنة 300 ق م على ضفاف العاصي. فصارت عاصمة المملكة السلوقيّة. وصارت منذ القرن الثاني مركزًا يهوديًّا هامًّا سيزداد عددًا وتأثيرًا. ويقول يوسيفوس إنّ سلوقس جعل في أنطاكية مرتزقةً يهودًا مكافأة لهم على خدماتهم الحربية.
يوم قام سكّان أنطاكية سنة 145 ق م على ديمتريوس الثاني، أرسل يوناتان الحشمونيّ جنوده فاخمدوا الثورة وأشعلوا النار في المدينة.
وازداد عدد السكان في أيّام السلوقيّين وخلال الحكم الرومانيّ بسبب موقع المدينة. في القرن الأوّل ب م كانت الجماعة اليهوديّة في أنطاكية أكبر جماعات سورية، بل أكبر جماعات الشتات مع جماعة الإسكندريّة ورومة. وكانت تعدّ يونانيّين صاروا يهودًا أو ظلّوا من فئة خائني الله (أع 6: 5). ويحدّثنا يوسيفوس عن مجمعهم الجميل. نال يهود أنطاكية إنعاماتٍ عديدةً ولكنّهم لم يحصلوا على كلّ الحقوق المدنيّة.
نما يهود أنطاكية وازدادت أعمالهم فجلب هذا النموّ وهذا الازدهار صراعًا عرقيًّا. أورد يوحنّا مالالاس (مؤرّخ من القرن السادس) أنّه كانت ثورة ضدّ اليهود سنة 39- 40 (حدث مثلها في الإسكندريّة سنة 38 وفي أورشليم سنة 39- 40). وأورد يوسيفوس واقعَيْنِ معاصرَيْنِ للثورة الكبرى (66- 70). ففي سنة 67 اتّهم أنطيوخس، وهو يهودي شريف جحد إيمانه، يهود أنطاكية بأنّهم يريدون أن يحرقوا المدينة. فقام الشعب اليونانيّ ومنعهم من ممارسة السبت، وأجبرهم على تقديم ذبائح على غرار ما يفعل اليونانيّون. وفي سنة 70- 71 اندلع حريق في أنطاكية فاتّهم أنطيوخس اليهود. ولكنّ الإدارة قامت بالتحقيقات فظهر كذب الاتّهام. ولكنّ الخوف ظلّ مسيطرًا على اليهود، ولاسيّما وإنّ أهل أنطاكية طلبوا من تيطس خريفَ سنةِ 71 أن يطرد اليهود من مدينتهم فرفض. فأعادوا الكرّة فظلّ على موقفه ولم يغيّر شيئًا في وضع يهود أنطاكية السابق.

ثانيًا: سلوقية (على دجلة)
تقع هذه المدينة الهلّينيّة على شاطئ دجلة الغربيّ وجنوبيّ بغداد الحديثة. أسّسها سلوقس الأوّل (312- 280 ق م) حيث كانت أوفيس البابليّة فصارت عاصمة منطقة بابل السلوقية. كان فيها اليونانيّون والسوريّون والبابليّون واليهود. ويقول بلينوس إنّ عدد سكانها بلغ 600.000 نسمة في أيّام الفراتيّين. أقام فيها حاكم الشرق السلوقيّ مع موظّفيه وحرسه وجيشه وكانت مرفأً حربيًّا هامًّا.
توسّعت سلوقية وازدهرت على حساب بابل التي تركها أهلها وذهبوا إلى المدينة الجديدة ومركز الحضارة الهلّينيّة في منطقة بابل. ولم يتوقّف نموّ سلوقية يوم احتلّ الفراتيّون المنطقة. بعد فشل القائد أنيلاوس التجأ إليها عدد كبير من اليهود (حوالي سنة 35). فاضطهدهم أهلها فهربوا إلى نهاردية ونصّيبين.
سيدمّر الرومان سلوقية سنة 164 ب. م فيزيلون من تلك المنطقة قلعة كبيرة من قلاع الحضارة الهلّينيّة.

ثالثًا: نهاردية
هي مدينة في منطقة بابل تقع على الفرات. أحاطت بها الأسوار فجعلتها منيعة. أقام فيها اليهود منذ القرن السادس كما يقول التقليد وبنى فيها المنفيّون في عهد يوياكين مجمعًا جلبوا حجارته من الهيكل. يروي يوسيفوس أن يهود منطقة بابل جمعوا تقدمة نصف الشاقل وسائر الهبات في نهاردية. وازدادت أهمّية هذه المدينة لليهود الشرقيّين بعد دمار الهيكل، وفي القرن الثاني ذهب عقيبة الشهير لينظّم مسألة الروزنامة. في نهاردية أقام "رئيس الجلاء" ومارس نشاطه صموئيلُ المسؤول عن الأكاديميّة اليهوديّة في القرن الثالث، فكان رئيس المدرسة ورئيس المحكمة. دمِّرت الأكاديميّة سنة 259 فذهب المعلّمون إلى بونباديثة.

رابعًا: نصّيبين
مدينة نُقلت إليها قبائل الشمال التي أجليت (2 مل 17: 6؛ 18: 11). بنيت على فهر ميدونيوس فلعبت ليهود شمال بلاد الرافدين (أشورية القديمة) دورًا مماثلاً للدور الذي لعبته نهاردية في بابلونية. في نصّيبين كانت تجمع الأموال لهيكل أورشليم، وفيها تأسّس مركز دراسة التوراة (القرن الثاني)، فأمّه طلاب من فلسطين.

4- مصر والقيروان
أوّلاً: الإسكندريّة
أسّس الإسكندر هذه المدينة المصريّة سنة 331 ق م على موقع ضيعة للصيّادين (راكوتيس) غربيَّ الدلتا، فعرفت ازدهارًا عجيبًا وصارت أهمّ مدن العالم الهلّينيّ. كانت عاصمةَ اللاجيّين ومركِزَ نشاطٍ اقتصاديّ واسع ونموذَجَ سائرِ المدن الهلّينيّة. إلاّ أنّها ظلّت على هامش مصر فسمّيت: الإسكندريّة القريبة من مصر.
كانت الإسكندريّة في عهد البطالسة أهمَّ مركز للشتات اليهوديّ. يروي يوسيفوس أنّ الإسكندر أسكن اليهود في هذه المدينة وأعطاهم امتيازات حافظ عليها خلفاؤه الذين منحوهم حيًّا خاصًّا بهم يحميهم من مخالطة الغرباء. ولمّا جاء الحكم الروماني لم يقلّص هذه الامتيازات. وقال فيلون الإسكندراني: تتألّف المدينة من خمسة أحياء. سُمّي كلّ من الحيّ الأوّل والثاني "الحيّ اليهوديّ" بسبب كثرة اليهود في هذين الحيّين. ولكنّ هناك يهودًا يقيمون في سائر الأحياء. ثمّ إنّ المجامع كانت عديدة في كلّ من الأحياء. ما كان عدد اليهود في الإسكندريّة؟ يقول يوسيفوس: مئة ألف ولكنّ هذا الرقمَ مبالغٌ فيه. مع ذلك يبقى أنّ عدد السكّان اليهود في الإسكندريّة كان كبيرًا جدًّا.
أتاح التنظيم الاجتماعيّ والدينيّ ليهود الإسكندريّة في عهد البطالسة للمجموعات المختلفة مساكنة سلمية. ولكنّ هذا التوازن اختلّ في أيّام الحكم الرومانيّ. فحين تبوّأ كاليغولا العرش أقنع أليونانيّون في الإسكندريّة حاكمَ مصر فلاكوس فأعلن أنّ اليهود هم غرباء ونزلاء. وبدأت المضايقات والتقتيل. ولكن لمّا مات كاليغولا سنة 41 ثار اليهود في الإسكندريّة يعاونهم إخوتهم في مصر وفلسطين فهجموا على السكّان اليونانيّين في العاصمة. وكانت حرب قاسية وضع لها حدًّا تدخّلُ رومة. أرسل الإمبراطور كلوديوس، خَلَفُ كاليغولا، رسالةً إلى الإسكندرانيّين يدعوهم فيها إلى معاملة اليهود بلطف، وأن لا يضايقوهم في ممارساتهم الدينيّة. ودعا اليهود إلى أن لا يبحثوا عن امتيازات جديدة وأن لا ينسَوا أنّهم يسكنون مدينة غريبة.
وبعد حرب سنة 70 هرب بعض المقاتلين من أورشليم والتجأوا إلى الإسكندريّة وطلبوا من إخوتهم أن يثوروا معهم على سلطة رومة. لم يسمع لهم مجلس المدينة فسلّمهم إلى الرومان. ففضّلوا الموت في العذاب على الاعتراف بانتصار رومة. ثمّ كانت حركة تمرّد يهوديّ عامّ في أيّام ترايانس (115- 117). دامت الثورة في مصر ثلاث سنوات قبل أن يسحقها أدريانس سنة 117: بدأت أعمال اليهود (كما في سنة 41) ضدّ اليونانيّين قبل أن تتحوّل قتالاً مسلّحًا ضدّ رومة. فكانت حرب بين الفئتين قبل أن تسحقها رومة بقساوة.
كانت جماعة اليهود في الإسكندريّة نموذجًا وقائدًا لسائر الجماعات اليهودية في العالم اليونانيّ. ولكنّها لم تعرف أن تجابه تبدّل الظروف السياسيّة الذي فرضه مجيء الرومان. سهّل اليهود الطريق لهؤلاء الرومان، فإذا بالرومان يضربون اليهود الضربة القاضية. ستضعف التجمّعات اليهوديّة فتستفيد المسيحيّة من هذا الوضع لأجل انطلاقتها.

ثانيًا: قيريني
هي عاصمة القيروان القديمة. تقع على الشاطئ الشماليّ الشرقيّ لأفريقيا (ليبيا). سقطت في قبضة اللاجيين سنة 321 ق م فصارت جزءًا من مملكة مصر إلى أن دخلت في حكم رومة. ففي سنة 96 ق م سلّم بطليموسُ أبيون بنُ بطليموسَ السابع فسكونَ عندَ موته، مملكتَه إلى رومة. ولكنّ المنطقة لم تصبح مقاطعة رومانية إلا سنة 74 ق م.
يروي يوسيفوسُ أنّ بطليموسَ الأول أرسل اليهود إلى قيريني ليشدّد قبضته على قيريني وسائر مدن ليبيا. قال نقلاً عن الجغرافيّ سترابون: هناك 4 فئات: المواطنون، الفلاحون، الشركاء، اليهود. هؤلاء دخلوا في كلّ مدينة فاستقبلهم كلُّ مكان في العالم. وتُثْبِتُ الكتابات أنّ يهود قيريني جاؤوا من مصر. ويكشف مؤلَّف ياسونَ القريني الذي لخّصه 2 مك مستوى الثقافة الهلّينيّة لدى هؤلاء اليهود. أصدرت الإدارة الرومانيّة قراراتٍ عديدةً تؤمّن ليهود قيريني حقوقهم. هذا يعني أنّه كانت صراعات بين اليهود واليونانيّين، كما أنّ السلطات منعت اليهود من إرسال هباتهم إلى هيكل أورشليم. وحين تدخّل أوغسطس وصديقه مرقس أغريبّا سنة 14 ق م تثبّتت بصورة حاسمة امتيازاتُ اليهود والإنعاماتُ التي حصلوا عليها.
ظلّت الرباطات قديمة بين يهود قيريني ويهود فلسطين. وفي القرن الأوّل ب م كان كثير من يهود قريني يقيمون في أورشليم (مت 27: 30؛ أع 2: 10). ولهذا قام بعض الثوّار بعد سنة 70 بقيادة يوناتان وحاولوا أن يُثيروا يهود قيريني ضدّ رومة. لم يهتمَّ لهذه الدعوة إلاّ الطبقة الفقيرة. أمّا الرؤساء فأخبروا الحاكم الرومانيّ كاتولوس فسحق الثائرين بشدّة. وستثور قيريني في أيّام ترايانس (115- 117) كما ثارت سائر الجاليات اليهودية.

ثالثًا: برنيقا وتويشيرا
برنيقا هي بنغازي اليوم في ليبيا (أعطي لها هذا الاسم في القرن الرابع عشر). مدينة قديمة سمّيت كذلك تَيَمُّنًا بملكة مصر. حكتها مصر قبل أن تصبح جزءًا من القيروان الرومانيّة سنة 74 ق م. تُعْلِمنا الكتابات اليونانيّة بالبوليتوما اليهودية في برنيقا في أيّام أغوسطوس وطيباريوس وفي السنوات الأولى لنيرون.
تويشيرا: هي مدينة تقع على شاطىء البحر بين بطلمايس وبرنيقا. أقام فيها اليهود في زمن مبكّر. والكتابات على المدافن تدلّ على أنّنا أمام هجرة يهوديّة مصريّة تبعت التحام مصر بالقيروان في أيّام بطليموس السابع في النصف الثاني من القرن الثاني. تألّفت الجماعة هناك من مستوطنة حربيّة ومن مجموعة ريفيّة. شارك اليهود غيرَ اليهود في مدافنهم، وهذا ما يدلّ على علاقات طيّبة بين الجماعتين.

5- رومة
يُذكَر اليهود الموجودون في رومة للمرّة الأولى سنة 161 مع الاتّصالات الدبلوماسيّة التي قام بها مبعوثو يهوذا المكابيّ (1 مك 8: 17- 32). وأرسِلت بعثةٌ حشمونيّة ثانية من قبل سمعان سنة 142 أو 139 ق م لتجدّد العهد المعقود سابقًا (1 مك 12: 16؛ 14: 24). وفي سنة 139 كانت جماعة رومة نشيطة بدليل ما قاله المؤرّخ اللاتينيّ في بداية القرن الأوّل ب م، فاليريوس مكسيموس في كتابه عن الخرافات: وفي ذلك الوقت طُرد يهود يروّجون أفكارًا وعباداتٍ شرقيّةً. ولكن ما زال اليهود يتكاثرون في رومة وقد قال فيهم شيشرون (59 ق م): إنّهم شعب كبير متماسك، ولهم تأثير كبير في كلّ اجتماع. وتحدّث فيلون (41 ب م) عن حيّ رومانيّ واسع يقيم فيه اليهود. كانوا عبيدًا فتحرّروا، وقد بنَوا لهم مجامع.
تمّت أوّل هجمة يهوديّة على رومة سنة 62 ق م. جاء اليهود مع سائر الأسرى الذين نقلهم بومبيوس إلى رومة. وكانت هجمة ثانية من الأسرى جاء بها كراسوس خلف غابينيوس على سورية. أخذ الذهب من الهيكل قبل أن يذهب لمحاربة الفراتيّين، ولمّا قاومه اليهود تغلّب عليهم وأخذ شبّانهم إلى رومة (55 ق م). وبعد سنتين كانت ثورة يهوديّة قادها بيتولاوس الذي حاول أن يجمع حوله تبّاع الحشمونيّ أرسطوبولس في الجليل. هجم كاسيوس لرجينوس فقتل بيتولاوس وأخذ معه 30000 عبد من اليهود. ووصل أسرى يهود آخرون بعد سقوط أورشليم سنة 37 ق م على يد القائد الرومانيّ سوسيوس الذي أعان هيرودس الكبير على احتلال العاصمة اليهوديّة.
ويوم مات هيرودس الكبير سنة 4 ق م كانت الجماعة اليهوديّة في رومة كثيرة العدد. فقد تظاهر أكثر من 8000 شخص ورافقوا موفدي أرض يهودا الذين جاؤوا يطالبون بإلغاء مملكة هيرودس. وهناك مراجع تقول إنّه في سنة 19 ب م وجد 4000 شابّ هم أبناء الأسرى الذين جاء بهم بومبيوس. وستأتي فرقة من الأسرى بعد أن يحتلّ تيطس أورشليم سنة 70 ب م.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM