الفصل الرابع: فلسطين: الإطار الاقتصايّ والاجتماعيّ

الفصل الرابع
فلسطين: الإطار الاقتصايّ والاجتماعيّ
والكلمة صار جسدًا، وسكن بيننا (يو 1: 14)، تشبّه بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. أجل، لم يكن يسوع كائنًا مجرّدًا من كلّ صلة بالأرض فشُبّهَ عَلَيْنَا بهِ، بل صار إنسانًا مثل جميع الناس وعاش في بيئة خاصّة معيّنة، هي أرض فلسطين. كان يهوديًّا وهو الذي ولد في بيت لحم، القريبة من أورشليم، وقضى قسمًا من شبابه في الناصرة، من مقاطعة الجليل. ولد في وقت محددّ من تاريخ الكون، يوم كان أغوسطس قيصر إمبراطورًا على رومة، وهيرودس ملكًا على اليهوديّة، ومات في زمن طيباريوس، خليفة أغوسطس، ويوم كان بيلاطس البنطيّ حاكمًا على اليهوديّة باسم رومة.
يسوع هو ابن بيئة يهوديّة شرقيّة، وابن عصره. وتأثّر بجغرافيّة بلاده وتاريخها ومدنيّتها وثقافتها، وخضع لشرائعها الاقتصاديّة وقاسى من صراعاتها السياسيّة وشارك شعبه في آلامه وآماله. من أجل كلّ هذا سنتعرّض للظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والتاريخيّة التي أثّرت على يسوع إبّان حياته على الأرض. لا شكّ في أنّنا لن نجد في هذه الظروف الجواب الكامل لما كان عليه يسوع المسيح الذي هو إله وإنسان معًا، ولكنّنا، إذ نتعرّف إلى هذه الظروف سينكشف لنا بطريقة أجلى وأوضح أيّ جديد جاء به يسوع عبر شخصه وتعليمه. كلّنا يعرف أنّ يسوع ولد في مذود، وأنّه علّم عند شاطئ البحيرة وأنّه مات صلبًا في أورشليم، ولكنّنا سنحاول أن نغوص في هذا الإطار الشرقيّ الذي عاش فيه والمدنيّة اليهوديّة التي سكب فيها تفكيره. وحيئنذ تتّخذ صفحات عديدة من الإنجيل نكهة جديدة، ويبدو لنا وجه يسوع الإله الإنسان في ضوءٍ جديد لم نكن لنعهده من قبل.
في حديثنا عن فلسطين حيث عاش يسوع سنتطرّق في قسم أوّل إلى هذه الأرض من الوجهة التاريخيّة والجغرافيّة والاقتصاديّة، ثمّ نتعرّف إلى الحياة الدينيّة بأزمانها وأعيادها، وننهي بنظرة شاملة إلى المجتمع اليهوديّ بوجهاته المتعدّدة.

الجزء الأوّل: فلسطين في تاريخها وجعرافيّتها واقتصادها
لا نستطيع أن نتحدّث عن فلسطين، ولا عن لبنان وسورية، في أيّام المسيح، بطريقة مجرّدة، لأنّ هذه البلدان وغيرها ارتبطت سياسيًّا برومة على مدى قرون عديدة. لهذا سنتحدّث أوّلاً عن إمبراطوريّة رومة ثمّ نعود إلى الكلام على علاقة فلسطين برومة وننهي بالحديث عن جغرافيّتها واقتصادها.

1- إمبراطوريّة رومة
تاريخ فلسطين جزء من تاريخ رومة، وها نحن نستعرض سريعًا الوضع السياسيّ والجغرافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ لإمبراطوريّة اتّسعت فأحاطت بالبحر المتوسّط إحاطة كاملة وامتدّت من أقصى الشرق المتمدّن إلى الغرب الذي يحدّه نهر الرين في الشمال والدانوب في الشرق.

1- الوضع السياسيّ
منذ القرن الأوّل ق م كانت رومة سيّدة البلدان المحيطة بالبحر المتوسّط، ولكن من أين لهذه المدينة أن تدير شؤون إمبراطوريّتها الواسعة؟ بدأت فأرسلت رجالاً يحكمون البلدان باسمها، ولكنّ هؤلاء الحكّام سعَوا إلى مصالحهم ومصالح رومة على حساب ازدهار المقاطعات التي تَوَلَّوها. فعادت رومة فأرسلت قوّادًا عسكريّين، ولكنّ هؤلاء القوّاد تمرّدوا على مجلس الشيوخ وتناحروا وتخاصموا. فانتصر يوليوس قيصر على بومبيوس في معركة فارساليس، ولكنّ أعضاء الحزب الجمهوريّ اغتالوه ليأمنوا استئثاره بالحكم. فقام ابنه بالتبنيّ، أوكتافيوس، وانتصر على خصمه مرقس أنطونيوس في معركة أكسيوم (في اليونان) سنة 31 ق م واتّخذ لنفسه اسم أغوسطس (أي المعظّم) وحكم الإمبراطوريّة الرومانية سنوات عديدة من دون منازع وفي أيّامه ولد السيّد المسيح.
نظّم أغوسطس إدارة الإمبراطوريّة فترك لمجلس الشيوخ الاهتمام بالمناطق التي يسودها السلام وترك لنفسه المناطق النائية يرسل إليها نائبًا أو واليًا. تلك كانت حالة منطقة الألب الفرنسيّة أو مقاطعة اليهوديّة التي سيدير أمورها بنسيوس بيلاطس (البنطي) الوالي الرومانيّ... وبعد ذلك اتّخذ أغوسطس لقب "الحبر الأعظم" وأعلنه الشعب أبًا للبلاد يرعى أموره كالأب لأبنائه. وبعد موته انتقلت صلاحيّاته إلى ابنه طيباريوس الذي حكم من سنة 14 ب م إلى سنة 37، وفي أيّامه امتدّت حياة يسوع العلنيّة، وباسمه، وإن بطريقة ضمنيّة حكم بيلاطس على يسوع بالموت صلبًا. وسيأتي من أباطرة الرومان كاليغولا وكلوديوس وخاصّة نيرون (54- 68) الذي عرف عهده حريق رومة، واستشهاد الرسولين بطرس (64 ب م) وبولس (67 ب م) وبداية الثورة اليهوديّة على رومة. ونذكر أخيرًا فسباسيانس الذي سحق ثورة يهوديّة أولى ودمّر مدينة أورشليم وأحرق هيكلها سنة 70 ب م، وادريانس الذي سحق ثورة يهوديّة ثانية بقيادة ابن الكوكب فأنهى بذلك كلّ وجود سياسيّ لبني إسرائيل في أرض فلسطين.
كان عهد أغوسطس عهد خير وازدهار فعّم الكونَ السلامُ الآتي من رومة، ورأى الشعراء أنّ عصرًا ذهبيًّا بدأ وهو يبشّر الناس بالسعادة والرفاهِيَة. ولقد وُجِدَتْ كتابةٌ في آسية الصغرى (تركيا الحاليّة) في السنة التاسعة ق م، نقرأ فيها: "ليعتبرْ كلّ واحدٍ حدثَ مولدِ أغوسطسَ أصلَ حياته ووجوده، ولا يندمْ أحد لأنّه ولد في هذا الزمان. فالنهاية زيّنت حياتنا البشرية فأعطتنا أغوسطس وسَكَبَتْ عليه كلّ المزايا ليكون المحسن إلى البشريّة ومخلّصَنا نحن، بل مخلّص من سيأتون بعدنا. أما أنهى حالة الحرب وجعل الأمان يسود في كلّ مكان؟ إنّ يوم ولادته كان بداية البشائر الصالحة التي حصلنا عليها بواسطته".
ولكنّ المسيحيّين سيسمعون بشرى أخرى في ليلة ميلاد يسوع، ملك الملوك وربّ الأرباب، يسمعونها على لسان الملاك: "أبشّركم بخبر عظيم يفرح له جميع الشعوب: ولد لكم اليوم في مدينة داود، مخلّص هو المسيح الربّ" (لو 2: 10- 11). هذا الملك الجديد هو من نوع لا يعرفه البشر (يو 18: 33 ي). سيخاف منه هيرودس ويحاول قتله مع كلّ طفل في بيت لحم وجميع أراضيها (مت 2: 16- 17).

2- الوضع الجغرافيّ والاجتماعيّ
يوم مات أغوسطس كانت الإمبراطوريّة الرومانيّة قد بلغت أقصى حدودها، فوصلت في الغرب إلى إسبانيا والبرتغال بعد أن تغلّبت على هنيبعل القرطاجيّ (218- 201 ق م)، وفي عهد يوليوس قيصر تمّ احتلال فرنسا وقسمٍ من ألمانيا وتثبّتت الحدود على نهر الرين (58- 50 ق م). وفي شرقيّ أوروبا وصلت تخوم الإمبراطوريّة إلى نهر الدانوب ثمّ امتدّت إلى البلقان. ودخلت رومة آسية الصغرى سنة 133 ق م يوم سلَّم اليها اتاليس البرغامي مملكته فصارت مقاطعة رومانية، واحتلّ بومبيوس سنة 64 ق م سورية ومدّ حدود الإمبراطوريّة إلى الفرات، ثمّ أتبع دويلة فلسطين (63 ق م) بمقاطعة سورية ثمّ ضُمَّتْ إلى الإمبراطوريّة منطقةُ شرقيّ الأردنّ والجزيرة العربيّة. أمّا مصر فكانت مملكة خاصّة للإمبراطور يتولاها بنفسه وبمن يرسل إليها من حكّام.
هذه الإمبراطوريّة الواسعة كان يسكنها ما يقارب الخمسين مليون نسمة. أمّا أكبر المدن فكانت رومة (مليون نسمة تقريبًا) والإسكندريّة (700000 تقريبًا) وأنطاكية (300000)، وأمّا الجيش فوصل تعداده إلى 350000 أو 400000 جندي. توزّع سكّان هذه الامبراطوريّات إتنيّات مختلفة ومدنًا متعدّدة فكان منهم الألمانيّ والإسبانيّ والأفريقي والمصريّ والفراتيّ والفينيقيّ والعبرانيّ، وانقسموا فئاتٍ اجتماعيّةً كما فرزتهم رومة. فهناك الأحرار الذين يتمتّعون بكلّ الحرّيّات. وهناك الغرباء الذين يتنقلّون بحكم عملهم وتجارتهم من مكان إلى آخر دون أن تكون لهم حقوق أهل البلاد، وهناك العبيد الأرقّاء، وكانوا يُعَدُّون بالملايين، الذين يعملون في الحقول والبيوت والمناجم... وثورة العبيد بقيادة زعيمهم سبارتاكوس مشهورة وقد هدّدت يومًا رومة في كِيانها.

3- الوضع الاقتصادي
معلوماتنا عن الوضع الاقتصاديّ في الإمبراطوريّة الرومانيّة في عهد المسيح ضئيلة جدًّا، ولكنّنا نورد بعض السمات العامّة.
أساس الاقتصاد هو الزراعة وتربية الحيوان. تزرع الحبوب والخضار وتنصب الكروم وأثمار الزيتون، ويربّى الحيوان للحمه أو لفائدته في وسائل النقل خلال السلم والحرب. ويرافق الزراعةَ العملُ الحِرَفيُّ من نسيج ثيابٍ وطَرْقِ معادنٍ وشُغْل في الفخّار والخَزَف.
أمّا التبادل التجاريّ فنه الضيّق بين قرية وقرية، أو بين الريف والمدينة، ومنه الواسع بين الأقطار البعيدة ورومة. فالغرب يصدِّر المعادن، من بريطانيا القصدير والرصاص، من إسبانيا النحاس والحديد والذهب، من إيطاليا واليونان الرخام. وأرسلت إفريقيا الشماليّة الزيت والزيتون إلى رومة، وصقلّيةُ القمحَ، والشرقُ الحريرَ واللآلىءَ والحجارة الثمينة والبخور...
طريق البحر أقرب الطرق وأسرعها وأقلّها كلفةً لنقل هذه البضائع من قطر إلى آخر. تنطلق السفن في بداية آذار، وتُوسعتُ رَحَلاتِها في نهاية تشرين الثاني، فبين آذار وتشرين الثاني تكون الرياح منتظمةً للسفن الشراعيّة والبحرُ هادئًا إجمالاً وأخطار العواصف قليلةً. يورد شيشرون الخَطِيبُ الرومانيّ، أنّ السفينة تحتاج إلى خمسة أو ستة أسابيع لتجتاز المسافة بين تركيا وإيطاليا، ولكنّ بعض السفن استطاع اجتياز المسافة بين الإسكندريّة ورومة في تسعة أيّام. ويروي يوسيفوس المؤرّخ اليهوديّ، أنّ تيطس، الإمبراطور الرومانيِّ فيما بعد، أفكر بدون صعوبة خلال الشتاء ليقدّم تهانيَه للإمبراطور كلبا. أمّا القدّيس بولس فلم يحالف سفينته الحظّ في شهر أيلول: عرفت الرياح المضادّة لها منذ شواطئ آسية الصغرى وظلّت الأمواج تتقاذفها مدّة أربعين يومًا إلى أن تحطّمت على شاطئ مالطة (1 ع 27: 1 ي).
أمّا في البرّ فقد نظمت الدولة الرومانيّة شبكة من الطرق الستراتيجيّة المبلّطة بالحجارة (لا تزال آثار بعضها على الحدود بين سورية وتركيا). على هذه الشرق تمرّ الجيوش. والبريد الملكيّ يربط أقطار المملكة من أقصاها إلى أقصاها بسرعة كبيرة. هناك مكانٌ لتبديل الأحصنة، ونَزْلٌ للمسافرين، ولكن يجدر القول إنّ هذه التسهيلات كانت وقفًا على رجال الدولة والميسورين من الناس.

ب- فلسطين وعلاقتها برومة
كانت فلسطين كما قلنا، جزءًا من الإمبراطوريّة الرومانيّة. فكيف توصّل الرومان إلى تثبيت أقدامهم فيها. وما هي الوسائل التي توسّلها هيرودس ليكون ملكًا عليها، وبأيّة طريقة حكمت رومة شعبًا سيثور عليها فيما بعد ولكن لهلاكه؟

1- دخول رومة إلى فلسطين
امتدّت رومة تدريجيًّا إلى الشرق ووصلت إلى أرض فلسطين سنة 64 ق م مع القائد الرومانيّ بومبيوس، فكيف كان الوضع السياسيّ آنذاك، وكيف تعاملت رومة مع الشعب اليهوديّ؟

أوّلاً: الوضع الجغرافي والسياسيّ
يرجع أوّل اتّصال بين اليهود ورومة إلى القرن الثاني ق م، يوم بدأت رومة تتدخلّ في سياسة الشرق المتقلقل. فالصراع قائم بين الذين ورثوا مملكة الإسكندر الكبير، بين اللاجيّين الحاكمين في مصر والسلوقيّين الحاكمين في أنطاكية والذين اتّسع نفوذهم من آسية الصغرى حتّى نهر الهندوس في الهند.
في هذا الوضع تمتّعت فلسطين بأهمّيّة كبيرة، لأنّها تشكّل مع سهل البقاع "سورية الجوفاء" التي كانت ممرًّا للجيوش والغزاة، فكانت موضوع تنازع بين اللاجيّين والسلوقيّين. بعد موت الإسكندر كانت فلسطين خاضعة للاجيّين. ولمّا انتصر أنطيوخس الثالث على بطليمس الخامس خضعت لسلطان السلوقيّين. ثمّ حاول أنطيوخس الرابع أبيفانيوس أن يصهر كلّ أمم مملكته في بوتقة الثقافة الهلّينيّة، ومنها الأمّة اليهوديّة فوالاه من والاه وعارضه الآخرون معارضة تجسّدت في ثورة المكابيّين.
ولكنّ رومة لم تكن غائبة عمّا يجري في الشرق، انتصرت على السلوقيّين وفرضت على أنطيوخس الثالث غرامة حربيّة باهظة سنة 189 ق م في معاهدة أفامية. ثم احتلّت مكدونية سنة 167 ق م وأخذت تقف في وجه المدّ السلوقيّ داعمة الدول الضعيفة في المنطقة، فاستقبلت مثلا وفدًا يهوديًّا أرسله يهوذا المكابيّ باسمه (1 مك 8: 1 ي). وفي بداية القرن الأوّل ق م حاربت ميتريداتيس، ملك البنطس (شواطئ آسية الصغرى الشماليّة)، بواسطة بومبيوس، الذي استفاد من تفكّك المملكة السلوقية فضمّ إلى رومة أرض أنطاكية وجعل من سورية مقاطعة رومانيّة.
واستفاد بومبيوس من الخلاف المستشري بين الأمراء الحشمونيّين (أي سلالة المكابيّين) ليتدخّل في فلسطين. ففي سنة 64 ق م تخاصم على الحكم هركانس الثاني وأخوه أرسطوبولس، فأرسل بومبيوس سفيرًا من قبله ليستطلع الأمور، ثمّ استقبل ثلاثة وفود: واحد من قبل هركانس وآخر من قبل أرسطوبولس وثالث من الشعب اليهوديّ. ولمّا وعده أرسطوبولس بتسليم أورشليم وأخلف بوعده، زحف بومبيوس فاحتلّ أورشليم وقطع رأس المقاومين فيها وفرض على المدينة جزية باهظة. أقام هركانسَ ملكًا على أورشليم واقتاد أرسطوبولسَ وابنيه أسرى إلى رومة، ثمّ اقتطع بعض مدن اليهوديّة وألحقها بمقاطعة سورية الرومانيّة.
ثانيًا: رومة والشعب اليهوديّ
كان همّ رومة أن تحميَ حدودها البعيدة من هجمات المهاجمين، فلجأت إلى شعوب تحمي هذه الحدود كاليهود والأرمَن وبعض العرب. من أجل هذا، أصدرت مثلاً قراراتٍ لمصلحة اليهود فأمّنت لهم وضعًا خاصًّا داخل المملكة الرومانيّة. فيوليوس قيصر أراد أن يكافئ هركانس الثاني على المساعدة التي قدّمها له خلال حربه مع بومبيوس، فجعله رئيس أمّة اليهود، وجعل له هذه الرئاسة وراثية لابنه بعده، ثمّ أعفى اليهود من واجب استقبال الجنود الرومان في الشتاء، ولم يفرض عليهم ضريبة مقابل هذا الإعفاء. وفي قرار لاحق أعفى اليهود من الضرائب في السنة السبتيّة (تعود كلّ سبع سنوات)، كما أعفاهم من الخدمة العسكريّة المفروضة على كلّ مواطن رومانيّ (هم لا يعملون يوم السبت ويمتنعون عن بعض المأكولات).
ومع بداية العهد الإمبراطوريّ (27 ق م) تبنّت السلطة الرومانيّة حقّ اليهود في دفع الدرهمين من أجل صيانة الهيكل والعناية به، بل ساعدت اليهود أيضاً على بناء مجامعَ لهم في مدن آسية الصغرى، وسمحت لهم بالاحتفال بيوم السبت وتنظيم أسواق خاصّة يبتاعون فيها الأطعمة التي لا تُحَرِّمُها الشريعة.
هذا الوضع الذي سمح لليهود بأن يكون لهم ديانةً خاصّة داخل الديانة المفروضة على كلّ المواطنين في المدينة أو في الإمبراطوريّة، استفاد منه المسيحيّون لأنّ الناس اعتبروا المسيحيّة في بداية عهدها شيعة يهوديّة. ولكن لمّا تمّ الانفصال عن الديانة اليهوديّة، حُسبت الديانة المسيحيّة مجموعة خرافات واضطهدت السلطةُ الرومانيّة الذين يدينون بالمسيحيّة. واعترفت رومة بسلطة رئيس الكهنة على كلّ اليهود، حتّى المشتّتين في مدن الشرق، فارتبطوا بالحقّ الرومانيّ من جهة، وخضعوا لمملكة رئيس الكهنة وقراراته من جهة ثانية. هذا ما يفسّر لنا بعض الوجهات من محاكمة بولس الرسول.
فهو كيهوديّ تحاكمه محكمة يهوديّة، ولكنّه كمواطن رومانيّ يرفع دعواه إلى قيصر فلا يعود للمحكمة اليهوديّة من سلطة عليه. قال بولس: "إلى قيصر أرفع دعواي". فأجاب فستس الحاكم: "رفعت دعواك إلى قيصر، فإلى قيصر تذهب" (أع 25: 12).

2- هيرودوس ملك على اليهوديّة
إنّ الحرب الأهليّة التي وقعت بين القائدين الرومانيّين بومبيوس ويوليوس قيصر جعلت سلالة الحشمونيّين تختفي وتحلّ محلّها سلالة هيرودوس.

أوّلاً: صعود نجم هيرودس
منذ سنة 49 ق م أراد يوليوس أن يستفيد من أرسطوبولس الثاني (من سلالة الحشمونيّين) ليحارب به محازبي بومبيوس، ولكنّ أصحاب بومبيوس جعلوا سمًّا في طعام أرسطوبولس وقطعوا رأس ابنه في أنطاكية. ولمّا انتصر يوليوس على بومبيوس في معركة فارسالس، انضمّ هركانس ووزيره أنتيباتريس إلى سيّد رومة الجديد مع ثلاثة آلاف من جنوده وعدد كبير من يهود مصر. من أجل هذا أعلن قيصر قراره الملائم لمصالح هركانس واليهود سنة 47 ق م. ولكنّ السلطة الفعليّة كانت بيد أنتيباتريس الذي عيّن ابنه فاسائيل قائدًا على جيش أورشليم، وهيرودوس على مقاطعة الجليل. وامتدّ سلطان هيرودس على سورية الجوفاء في عهد كاسيوس القائد الرومانيّ، بل صار أيضاً أمير الربع في عهد مرقس أنطونيوس، مزاحم أغوسطس. في سنة 40 ق م حاول أنطيغونيس بن أرسطوبولس أن يستوليَ على الحكم بواسطة الفراتيّين، ولكنّ هيرودس لجأ إلى أرض الأنباط ثمّ ذهب إلى رومة غير عابىء بعواصف البحر في الخريف، فدافع عن حقّه أمام أنطونيوس وأوكتاقيوس فأعطياه لقب "الملك".
عاد هيرودس إلى البلاد سنة 39 مستندًا إلى رومة، فجهّز جيشًا استعاد بواسطته كامل مملكته واحتلّ أورشليم حيث كان أنطيغونيس فسلّمه إلى الرومان الذين قطعوا رأسه. ولمّا جاء مرقس أنطونيوس إلى الشرق وقدم لكليوبترة، ملكة مصر، الشاطىء السوري الفلسطينىّ وسورية الجوفاء وقبرص كيليكية (تلك كانت تخصّ مملكة اللاجيّين)، أُجبر هيرودس على التعامل مع سيّده الجديد فأرسل إليه المال والمؤن. ولكن بعد هزيمة أنطونيوس في أكسيوم سنة 31 ق م ذهب إلى أوكتاقيوس وأدّى خضوعه لسيّد رومة الجديد معلنًا أنّ علاقته برومة هي هي لا تتبدّل.

ثانيًا: سياسة هيرودس
كان هيرودس أميرًا هلّينيًّا من أصل عربيّ ولا يرتبط بسلالة الحشمونيّين، لهذا لم يرضَ عنه اليهود الأتقياء. أبوه من أدوم (أنتيباتريس) وأمّه من الأنباط. فالأدوميّون شعب يعيش جنوبيّ اليهوديّة أجبروا على اعتناق الدين اليهوديّ في عهد هركانس الثاني سنة 126 ق م لها اعتبروا يومًا من اليهود الحقيقيّين. من أجل هذا، لم يتسلّم هيرودس رئاسة الكهنة، كما فعل الحشمونيّون قبله، بل جعلها في يد أناس ضعفاء. ثمّ تزوّج مريمة، حفيدة أرسطوبولس بأبيها وهركانس الثاني بأمّها ليعطي لسلطته صفة الشرعيّة في نظر اليهود. أمّا في السياسة فعمل كلّ ما استطاعه إرضاء لرومة ولكنّه لم ينسَ اليهود المقيم بينهم.
من أجل أغوسطس أعاد بناء السامرة وسمّاها سبسطة (الترجمة اليونانية لكلمة أغوسطس) وأسّس مدينة على برج ستراتون سمّاها قيصريّة (نسبة إلى قيصر لقب أغوسطس). وإكرامًا لأغوسطس نظّم ألعابًا على غرار الألعاب الأولمبيّة مرّة كلّ أربع سنوات في قيصرِّية وفي أورشليم. وبني قرب أريحا مدينة أنتيباتريس على اسم أبيه، وفاسييليس على اسم أخيه، ورممّ الحصون العديدة وشيّد القصور في هيروديوم وماخيرس. ثمّ أحاط نفسه بعلماء أمثال نقولاوس الدمشقيّ الذي لم يحفظ لنا التاريخ شيئًا من كتاباته.
ومن أجل اليهود أسرع في بناء الهيكل وتزيينيه، فعلّم ألفًا من اللاويّين فنّ البناء ليقوموا بالعمل فلا يتنجّس المكان المقدّس الخاصّ بالكهنة. ولكنّه كان قاسيًا مع الفرّيسيّين فقمع فتنة قاموا بها سنة 25 ق م، ولم يكن سهلاً مع الصّادوقيّين.
في أيّامه انتعش الاقتصاد، فالقرصنة على البحر زالت بفضل سياسة رومة، واللصوصيّة تلاشت بفضل هيرودس الذي فرض الأمان داخل البلاد، وانفتحت فلسطين على البحر المتوسّط بسبب وجود مرفأ قيصرّية. واهتمّ هيرودس بالعِباد فباع آنية الفضّة والذهب ليشتريَ الحبوب لإطعام الناس في مجاعة حدثت سنة 25 ق م، ثمّ خفّف الضرائب مرّة أولى ومرّة ثانية ولكنّ نهاية عهده كانت مريرة. إختلف ابناه، الإسكندر وأرسطوبولس، فأمر أغوسطس بعقد محكمة في بيروت قضت بقتل ابنيه وثلاثمائة من محازبيهما سنة 7 ق م. وثار ابنه الثالث، أنتيباتريس عليه فأرسله والده مقيّدًا إلى رومة.
مات هيرودس في السنة الرابعة ق م، ولكنّه نظّم خلافته قبل موته. قدّم لأرخيلاوس اللقب الملكيّ وسلّطه على اليهودية والسامرة وأدومية، وجعل أنتيباس تترارخسًا (أي أمير ربع) على الجليل والبيره، وفيلبّس على الجولان ومقاطعة بانياس عند منبع الأردنّ. ولكنّ أرخيلاوس حكم بالعنف وقمع بوحشيّة ثورة الفرّيسيّين عليه، فأمر أوغسطس بإرساله إلى المنفى في السنة السادسة ب م وسلّم مملكته إلى حاكم تعيّنه رومة.

3- نظام الحكم الرومانيّ في فلسطين
"في السنة الخامسة عشرة من حكم القيصر طيباريوس، وإذْ كان بيلاطس البنطيّ حاكم اليهوديّة، وهيرودس أمير الربع على الجليل... ألقي كلام الله إلى يوحنّا بن زكريّا..." بهذا الكلام يبدأ القدّيس لوقا (3: 1- 2) حديثه عن حياة يسوع العلنيّة، فيُعْلِمُنا بأنّ سيّد الإمبراطوريّة في ذلك الزمان كان طيباريوسَ خلفَ أوغسطس، وأنّ حاكم اليهوديّة باسم رومة كان بنسيوس بيلاطس، وأنّه كان هناك أمراء محلّيّون يحكمون ما نسميّه اليوم أرض فلسطين وشرقيّ الأردنّ وبعض سورية. مركز الثقل في البلاد هو أورشليم يتولّى الأمر فيها حاكم رومانيّ، بينما ظلّت المناطق الحدوديّة (الجليل، شرقيّ الأردنّ) بيد أمراء من سلالة هيروديس، وستظلّ الحالة على هذا المنوال إلى سنة 66 ب م يوم بدأت ثورة اليهود العظمى التي انتهت بدمار أورشليم وحرق هيكلها سنة 70 ب م.
من هو الحاكم؟ موظّف يرتبط مباشرة بالإمبراطور الذي يختاره من جماعة الأشراف وتدفع له رومه راتِبًا معيّنًا. الحكّام عديدون ولكلّ دوره ومركزه. أمّا حاكم اليهوديّة فيرتبط مباشرة بحاكم مقاطعة سورية. كان لحاكم اليهوديّة قوّة هي أقرب إلى الشرطة منها إلى الجيش ترافقه في تحرّكاته بين قيصريّة وأورشليم، أمّا حاكم سورية فكان له جيش من الفيالق الرومانيّة والمساعدين يصل عدده إلى 36000 جنديّ يقيمون في غربيّ الفرات.
والحاكم يمثّل الإمبراطور، لهذا فهو يجمع في يديه السلطات السياسيّة والعسكريّة والقضائيّة، كما كان يحقّ له أن يحكم بالإعدام عند الحاجة. ولنا في العهد الجديد مثلان. الأوّل حين طلب اليهود من بيلاطس أن يحكم على يسوع بالإعدام لأنّه لا يجوز لهم أن يقتلوا أحدًا (يو 18: 31). أمّا بيلاطس فكان له السلطان أن يُخْلِّيَ سبيل يسوع أو يصلبه (يو 19: 10) فأسلمه إليهم ليصلب (يو 19: 16). والثاني حين حاول اليهود أن يقتلوا بولس، إلاّ أنّ قائد الألف منعهم باسم الحاكم فيلكس (أع 21: 31؛ 23: 25). هنا نشير إلى أمرين: الأوّل إنّ بولس بصفته مواطنًا رومانيًّا لا يُجلد بدون محاكمة (أع 22: 25)، والثاني، إنّ رجمَ اليهود لإسطفانسَ عملٌ غيرُ قانونيّ ولكنّ السلطة الرومانيّة لم تشأ أو لم يكن لديها الوقت الكافي لكي تتدخّل (أع 7: 54- 60).
كان حاكم اليهوديّة يقيم في قيصريّة، ولكنّه كان يصعد إلى أورشليم خلال الأعياد الكبيرة التي كانت مناسبة تجمّعات وبالتالي مناسبة فتن ومشاغبات. من قلعة أنطونيا الواقعة إلى زاوية الهيكل الشمالية، أو من قصر الحشمونيّين، كان الحاكم يراقب كلّ التحرّكات المريبة. وكان من واجبه أيضاً مراقبة جمع الضرائب وإرسالها إلى رومة، أكانت تلك التي تدفع عن الأراضي أو عن الأشخاص أو عن البضائع التي تمرّ في منطقة نفوذه.
ما يهمّنا من أمر الضرائب هو وجود موظّفين يتولَّون جباية الضرائب، واسمهم العشّارون لأنّهم كانوا يأخذون العشر من كلّ شيء. أمّا كيف كانوا يجمعون الضرائب؟ كانوا يتكفّلون بجمع مبلغ مرقوم بمساندة أشخاص ترسلهم رومة، فيفرضون على الناس الكثير لتبقى لهم حصّتهم بعد أن يدفعوا لرومة حصّتها. لهذا لم يكن الناس يرتاحون إلى العشّارين الذين كانوا سارقين ظالمين وفاسقين (لو 18: 11)، الذين كانوا في مصافّ الخطأة مثل الزواني (مت 21: 31)، ولم يكن اليهود الأتقياء يأمنون لهم لأنّهم يتعاملون مع العدوّ ويقدّمون له أموالاً يجب أن تصرف لخدمة شعب الله لا لإشباع ملك مغتصب. تجدر الإشارة هنا أنّ يسوع فضّل العشّار على الفرّيسيّ لأنّه جاء من أجل الخطأة والمرضى لا من أجل الذين يحسبون نفوسهم أبرارًا وأصحّاء، كما أنّه اختار من بين رسله عشّارًا اسمه لاوي. رآه جالسًا في بيت الجباية. قال له: "اتبعني" (لو 5: 27- 28).

ج- جغرافية فلسطين واقتصادها في القرن الأوّل ب م
نتعرّف هنا إلى الأرض التي وطئتها قدما المسيح وعاش فيها ونشر فيها تعاليمه: تكوين أرض فلسطين، الزراعة، الصناعة، التجارة.

1- جغرافية فلسطين
تلك التي كانت أرض كنعان والتي سمّيت في العهد الهلّينيّ فلسطين أو أرض الفلسطينيّين، دخلها العبرانيّون بكثرة في القرن الثالث عشر وأسّسوا فيها مملكة منذ القرن الحادي عشر ق م. كانت مِساحتها في زمن المسيح 20000 كم2، وعدد سكّانها 600000 تقريبًا. يحدّها من الغرب البحر الأبيض المتوسّط، ومن الشرق، نهر الأردنّ، ذلك النازل (رج كلمة ورد في العربيّة) من جبل حرمون، ومن الشمال بلاد فينيقية، ومن الجنوب برّيّة سيناء.
ينحدر نهر الأردنّ من الجبل فيصل إلى بحيرة الحولة التي تعلو ثمانية وستّين مترًا عن سطح البحر، ثمّ يمرّ عبر بحيرة طبريّة التي تقع على 212 مترًا تحت سطح البحر قبل أن يصبّ في البحر الميت الذي يقع على 392 مترًا تحت سطح البحر. بين الأردنّ والبحر تقوم سلسلة من الجبال تشكّل العمود الفقريّ للبلاد. معدّل ارتفاعها 600 متر فوق سطح البحر ولكنّها تصل في حبرون أو الجليل الأعلى إلى ألف متر وتنحدر إلى ستين مترًا في أرض يزرعيل الخصبة حيث مدينة مجدّو.
مناطق فلسطين ثلاث: اليهوديّة، والسامرة، والجليل وقد مرّ فيها يسوع، بعد أن عاش في الناصرة، وعلّم في كفرناحوم، واجترح آية في قانا الجليل. عند بئر في السامرة التقى تلك المرأة التي بشّرت بدورها أهل سوخار (يو 4: 1 ي). أمّا أورشليم عاصمة اليهوديّة فقد سمعت آخر كلمات يسوع وتلقّت آخر نقطة من عرقه ودمه. على نهر الأردنّ اعتمد يسوع وفي سفح جبل حرمون، في قيصريّة فيلبّس، أعلن بطرس أنّه المسيح ابن الله الحيّ (مت 16: 113 ي).

2- الزراعة في فلسطين
يذكر يسوع في كلامه أمورًا عن الزراعة كتلك التي نعرفها في جبالنا. خرج الزارع ليزرع: بعض الحبّ وقع على الطريق والآخر على الصخر أو بين الشوك، والأخير في الأرض الطيّبة (لو 8: 4 ي). ويحدّثنا مرقس عن تلك التينة المورقة (11: 12- 13)، وينبّهنا لوقا (6: 44): من الشوك لا يجنى تين، ومن العلّيق لا يقطف عنب.
إذًا، ماذا كان يزرع الناس في فلسطين أيّام يسوع؟ أوّلاً القمح، وهو الغذاء الأساسيّ بحيث صارت كلمة "لحم" أي الخبز مرادفًا لكلمة طعام. يزرع القمح في كلّ أرض فلسطين وبالأخصّ في الجليل الذي ينتج أكثر ممّا يستهلك فَيَخْزُنُ أهلُه الفائضَ لسنين الجوع أو يرسلونه إلى اليهوديّة التي تحتاج إلى طعام كثير بسبب الحجّاج الآتين إلى أورشليم بمناسبة الأعياد. ومع ذلك عرفت البلاد مجاعتين ذكرهما المؤرّخون. الأولى سنة 21 ق م. والثانية التي حلّت بالبلاد سنة 49 ب م (ذكرها يوسيفوس المؤرّخ)، في عهد الإمبراطور الرومانيّ كلوديوس، وقد أنبأ بها أغابوس، وهذا ما دفع التلاميذ إلى إرسال المعونة إلى الإخوة المقيمين في اليهوديّة (أع 11: 27- 30). وزرع الشعب الشعير وهو طعام الحيوان والمساكين من الشعب، والتين الذي يبيعونه في رومة، والزيتون، الذي يصدّرون زيته إلى مصر وسورية. وجدير بالذكر أنّ زيت تقوع، موطن النبيّ عاموس، كان أفضل زيت في البلاد. ولا ننسى زراعة الكرمة التي يحتاجون إلى خمرها لسكيب الخمر في الأعياد، والتي يصدّرون عنبها ونبيذها حتّى إلى البلاد البعيدة. وهناك العدس والحمّص والتمر والرّمان.
في إطار الزراعة نذكر تربية المواشي كالبقر والغنم والمعز، وأهمّيّتها معروفة من أجل خدمة الهيكل. أمّا الشعب فما كان يأكل اللحم إلاّ في عيد الفصح أو عندما تقدّم ذبيحة سلامة يأخذ منها الكاهن حصّته ويتناول المشاركون ما تبقّى من لحمها.

3- الصناعة في فلسطين
أوّلها صناعة السمك. كانوا يصطادونه على شاطئ البحر المتوسّط أو في نهر الأردنّ أو بحيرة طبرّية، فيملّحونه ليحفظوه ثمّ يبيعونه في طول البلاد وعرضها. وهنا تبرز أهمّيّة الملح الذي يستخرج من البحر الميت فسمي لذلك "بحر الملح". هنا نتذكّر كلام يسوع: أنتم ملح الأرض، فإن فسد الملح فبمَاذا نملّحه (مت 5: 13، لو 14: 34). وثانيها صناعة البناء. دام العمل في الهيكل ثمانين سنة، وبعد ذلك أرسل هيرودس العملة وكانوا 18000 إلى شوارع أورشليم يبلّطونها. في سنة 20 ب م بنى أنتيباتريس مدينة طبريّة وحصن صفورية وجوليا. ولمّا اتّسعت أورشليم فامتدّت البيوت خارج الأسوار، بنى أغريبّا جدارًا يحمي به الحيّ الجديد طوله 3500 متر وسماكته تزيد على الخمسة أمتار. قال يسوع في أحد أمثاله: من أراد أن يبنيَ برجًا يجلس أوّلاً ويحسب النفقة ويتساءل هل بإمكانه أن يُتمَّ العمل (لو 14: 28). وثالثها الحياكة وكانت عملَ النساء والمحتقرين من الرجال. يشتغلون الصوف فينسجون الأغطية والسجّاد ويصدّرون منتوجهم إلى رومة، أو يعملون في صباغة القماش، ولا ننسى أننا لسنا ببعيدين عن شواطئ فينيقية التي اشتهرت بالصباغ الأرجوانيّ. ورابع صناعات فلسطين الدباغة. فجلود الحيوانات كثيرة في الهيكل: كانت تحتاج أورشليم كلّ سنة إلى 18000 حمل لعيد الفصح وإلى عشرات الألوف من البقر أو الضأن من أجل ذبائح السلامة أو التكفير التي يقدّمها الشعب على مدى إيّام السنة وبالأخصّ الأعياد. نشير هنا إلى ما فعله يسوع حين رأى في الهيكل باعة البقر والغنم... وطردهم جميعًا من الهيكل (يو 2: 13 ي). وخامسها صناعة الفخّار، والشعب يحتاج إلى آنية لحفظ الطعام بل والأشياء الثمينة. أما كانت مخطوطات قمران محفوظة في أوعية من فخّار وقد اكتشفت قرب البحر الميت سنة 1947 وما بعد. وعرفت البلاد بعض المهن كالخبّاز، وحامل الماء، والحلاّق، وصانع التحف للحجّاج الآتين إلى أورشليم...

4- التجارة في فلسطين
كانت أورشليم عاصمة البلاد الدينيّة والسياسيّة محور التجارة. فالهيكل يحتاج إلى أمور كثيرة وهو يملك المال الكثير ولا سيّما حصيلة ضريبة الدرهمين التي يدفعها كلّ يهوديّ يقيم خارجَ فلسطين. ثمّ إنّ سلالة هيرودس بنت لها القصور وجلبت الخدم والحشم واقتنى الحاكم الرومانيّ الأماكن لسكناه وأحاط نفسه بطبقة الأغنياء التي تعيش حياة البذخ ولا تحسب حسابًا لشيء وقد قال فيهم أحد الأنبياء: يأكلون الرخص من العجول ولحم الرضيع من الضأن. ثمّ إنّ سكّان أورشليم يعدّون خمسين ألفًا ولكنّهم يصيرون 180000 في زمن الحجّ، ومثل هذا العدد يحتاج إلى الكثير يأتيه من داخل البلاد أو خارجها.
نشير هنا إلى أنّ الجيش الروماني طوّق أورشليم في زمن العيد قبل أن يستولي عليها سنة 70 فكان الضيق شديدًا على المقيمين وعلى الحجّاج.
أمّا التجارة الداخليّة فكانت محصورة بين الأفراد في إطار المقايضة، وما فاض عن حاجة المنطقة ينقل على ظهور الحمير أو الجمال بواسطة "شركات نقل" لها مكاتبها في تدمر وبابل وبعلبك وغيرها من المدن.
أمّا التجارة مع الخارج فكانت موادّها المنتوجات الفاخرة: خشب الأرز من لبنان، البخور والعطور من بلاد العرب، النسيج الفاخر من الهند وبابل، النحاس والرخام من كورنتوس في اليونان. وأمّا فلسطين فكانت تصدّر الزيت والخمر والمنسوجات.
ولكن مع كلّ هذا الخير المتدفّق، فقد كان الشعب فقيرًا في أرض فلسطين بحيث قال أحد الرابّانيّين: بنات إسرائيل جميلات فاتنات ولكنّ الفقر يجعلهنّ قبيحات بشعات. أمّا سبب الفقر فالضرائب المتعدّدة، والظلم في توزيع الأرزاق والأموال.

الجزء الثاني: الحياة الدينيّة والاجتماعيّة في فلسطين في زمن المسيح
بعد أن ألممنا بعض الشيء بالنواحي التاريخيّة والجغرافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة لبلاد فلسطين في زمن المسيح، نتطرّق الآن إلى الحياة الدينيّة والاجتماعيّة فنتعرّفُ إلى الأماكن المقدّسة وإلى فئات الشعب وتطلّعاته في وقت كان الشرق والغرب ينتظران سلامًا يعمّ الكون وأمانًا يُحِلُّ السعادة في المسكونة.

أ- الحياة الدينيّة
نرافق المؤمن العائش في أورشليم إلى الهيكل، ونرافق اليهود المشتّتين إلى كلّ مجمع أو كنيس فنعيّدُ معهم أعيادَهم الكبرى والصغرى.

1- الهيكل
الهيكل هو مركِز حياةِ بني إسرائيلَ الدينيّة، بل السياسيّة والاجتماعيّة، وكان موضوعَ فخرهم أمام القريب والبعيد. يروي متّى الإنجيليّ (24: 1) كيف أنّ الرسل لفتوا نظر يسوع إلى أبنية الهيكل المزيّن بالحجارة الحسنة والتحف (لو 21: 5) والذي استغرق بناؤه ستًّا وأربعين سنة (يو 2: 20). بُني مرّة أولى في عهد سليمان وهُدِمَ سنة 586 على يد نبوكد نصّر البابلي، وبُني مرّة ثانية بعد الرجوع من الجلاء (سمّي الهيكل الثاني) ودشّن سنة 515 ق م فجاء حقيرًا متواضعًا، وأخيرًا أعاد هيرودس بناءه على أسس جديدة.

أوّلاً: البناء
إليك كيف يصف يوسيفوس الهيكل: "جعل فيه كلّ شيء ليؤثّر في قلب الإنسان وعينه. غطّي من جهاته الأربع بصفائح من الذهب فعكس نور الشمس بقوّة أجبرت الناظرين إليه أن يحوّلوا عنه عيونهم كما عن شعاع الشمس. أمّا الغرباء الآتون من البعيد فكانوا يَرَون أمامهم "جبلاً" من الثلج بسبب الرخام الأبيض. شعور بالجمال، وشعور بالعظمة أمام بناء يقوم في ساحة طولها 480 مترًا وعرضها 300 متر، وحول برج يرتفع إلى خمسين مترًا. إلى هذه الساحة يدخل اليونانيّون واليهود، وفيها رواقان عظيمان يقيم فيهما تجّار الغنم والبقر والزيت والطحين (وكلّ هذا ضروريّ للقيام بشعائر العبادة)، والصرّافون الذين يَزِنون الفضّة بميزان صور (من أجل هذا تسمّى فضّة صوريّة) ويقيّمون المال بقيمة مال الهيكل المضروب في زمن الإسكندر يناي (103- 76 ق م). بعد هذا يقرأ الحجّاج عبارة في اللاتينيّة واليونانيّة تمنع كلّ غير مختون من الاقتراب إلى المدخل، وإلاّ كان نصيبه الموت. أما اتّهم اليهودُ الآسيويَون بولسَ أنّه "أدخل اليونانيّين إلى الهيكل ودنسّ هذا المكان المقدّس" (أع 21: 28)؟
يدخل المؤمن إلى المكان المقدّس فيجد تسعة أبواب: أربعة إلى الشمال، وأربعة إلى الجنوب وواحد إلى الشرق، وكلّها مطعمّة بالفضّة والذهب، ما عدا الباب الجميل (أع 3: 2) المصنوع كلّه من النحاس المطروق. ويجتاز المؤمن رواق النساء ورواق الرجال، ثمّ رواق الكهنة الذي يحيط بمذبح الذبائح. وراء هذا المذبح يقوم الهيكل بالمعنى الحصريّ وهو مربّع طول ضلعه خمسون مترًا، فيه قاعة أولى هي القدس (أو المكان المقدّس). يقوم في وسطها موضع البخور وإلى الشمال طاولة خبز التقدمة وإلى اليمين الشمعدان بشعبه السبع. وفيه قدس الأقداس (أي المكان المقدّس كلّ التقديس) الذي كان يحوي، قبل سنة 586، تابوت العهد، وصار فارغًا بعد ذلك الوقت. بين القدس وقدس الأقداس ستار فاصل، يرفعه مرة في السنة رئيس الكهنة فيدخل قدس الأقداس برهبة عظيمة في عيد التكفير (كيبور).
وشيّدت أبنية محاذية للهيكل: قاعة المحكمة الدينيّة أي السنهدرين، حيث اجتمع الشيوخ وأعلنوا أن يسوع يستوجب الموت (مت 26: 66) وقاعة الخزنة، أو بيت المال، وقاعات لحفظ الحطب والخمر والزيت المعدّ للقيام بشعائر العبادة.

ثانيًا: شعائر العبادة في الهيكل
موضع شعائر العبادة، المذبح الذي كان مربّعًا (ضلعه 25 م) بعلوّ سبعة أمتار ونصف المتر. يصعد إليه الكاهن عبر درجات. عليه تحرق الذبيحة كلّها (إذا كانت ذبيحة محرقة) أو أمعاؤها وشحمها (إذا كانت ذبيحة سلامة أو تكفير). كان الكهنة يقدّمون الذبيحة الدائمة مرّتين كلّ يوم، خروفًا في الصباح وخروفًا في المساء، كما كان الإمبراطور يطلب أن تقدّم ذبيحتان واحدة عنه وواحدة عن رومة. بعد هذا كانت تقدّم ذبائحُ في النهار، خاصّة في زمن الصيف، زمن الأسفار والتنقّل وبالأخصّ في زمن الأعياد. ولقد كانت هذه الأعياد من الكثرة بحيث أجبر بولس على أخذ موعد مسبّق ليقدّم ذبيحته في عيد العنصرة (أع 20: 16).
يدخل المؤمن إلى الساحة فيشتري الخروف والزيت والطحين ويتوجّه إلى الكاهن اللابس الكتّان الأبيض، فيذهبان معًا إلى رواق الكهنة وهناك يذبح الكاهن الذبيحة، فيُحرقُ الأمعاءَ والشحمَ على نار حطب تزاد عليه العطور لتخفّف من حدّة رائحة اللحم المحروق، ثمّ يأخذ الكاهن حصّته من الذبيحة ويردّ إلى المؤمن قسمًا منها. يجدر القول هنا إنّه بعد دمار هيكل أورشليم سنة 70 ب م لم يعد اليهوديّ يذبح ذبائح لله.
الله وحده القدّوس وهو ينقل قداسته إلى كلّ من يقربه. أمّا الإنسان فخاطئ نجس ونجاسته تنتقل إلى كلّ من يقترب منه. في وسط العالم يقع قدس الأقداس، المكان الذي يقيم فيه مجد الله (1 مل 8: 10) ثمّ القدس الذي يدخله الكهنة وحدهم ثمّ المذبح... حول الهيكل تقوم القدس أورشليم، وحول أورشليم أرض فلسطين، ثمّ سائر الكون. بقدر ما يكون الإنسان قريبًا من الله الحيّ يشعر بقداسته، وبقدر ما يكون بعيدًا يشعر بخطيئته. رئيس الكهنة وحده يدخل قدس الأقداس، وللكهنة مقامهم وكذلك الرجال والنساء، والوثنيّون أيضاً، والويل لمن يتجاوز المكان المحدّد له. هنا نشير إلى أنّه مع المسيح انقلبت الأمور. فالإنسان لا ينجّس الله بل الله يقدّس الإنسان ولنا مثل عن ذلك في إنجيل مرقس (1: 40 ي): لمس يسوع الأرض فلم يتنجّس يسوع، بل تقدّس الأبرص وطهر.

2- المجمع أو الكنيس
لا هيكل إلاّ هيكل أورشليم الذي تتمحور حوله حياة بني إسرائيل، أمّا المجامع فعديدة وهي موجودة في كلّ مدينة وكلّ قرية. تعني كلمة مجمع (كنيس) جماعة المؤمنين الآتين إلى الصلاة بناء على موعد محدّد، وتعني أيضاً المكان الذي يجتمعون فيه (أع 16: 13) ووُجْهَتُهم إلى هيكل أورشليم.
متى بدأ المؤمنون يجتمعون في المجامع؟ بعد دمار أورشليم وخراب الهيكل سنة 586. هذه الكارثة شكّلت محنة قاسية جعلت الكثيرين من اليهود يتخلَّون عن إيمانهم ويلتحقون بإله بابل الذي تغلّب على يهوه إله إسرائيل. ولكنّ حزقيال (سار على خطى إرميا) أفهم المؤمنين أنّ الله لم يتخلّ عن شعبه، وأنّه وإن كانت العبادة الرسمية قد توقّفت بسبب دمار الهيكل، إلاّ أنّ المؤمنين يستطيعون أن يجتمعوا لينعشوا إيمانهم ويتأمّلوا في الأحداث الماضية والحاضرة على ضوء هذا الإيمان. وهكذا أخذ المؤمنون يجتمعون مع أحد الكهنة على شاطئ نهر المدينة (مز 137: 1) ويردّدون كلام الله ويرفعون إليه صلواتهم.
بعد العودة من المنفى أعاد اليهود بناء هيكلهم ولكن ظلّت المجامع تلعب دورًا هامًّا في حياة المؤمنين لا في أنطاكية ورومة والإسكندريّة وحسب، بل حتّى في أرض فلسطين، واعتبرت عادة قديمة قِدَم شريعة موسى (أع 15: 21).
كيف كانت تتمّ العبادة في المجامع؟ يبدأ المؤمنون بتلاوة "الأمانة": "إسمع يا إسرائيل" (تث 6: 4- 9؛ 11: 13- 21؛ عد 15: 37- 41)، ثمّ يعلنون وحدانيّة الله وعلاقاته بشعبه. ويردّد المسؤول طلبات تعبّر عن حاجات الشعب اليوميّة ورجائه الكبير بمجيء الملك المسيحانيّ (حفظ لنا التلمود 18 بركة) فيجيب الحاضرون: آمين. بعد ذلك يقرأ قارئ مقطعًا من أسفار موسى الخمسة يتوافق والعيد أو الزمن الطقسيّ، ثمّ مقطعًا من الأنبياء. في هذا الوقت يمكن أن يلقي أحد الحاضرين عظة في معنى العيد. هذا ما فعله يسوع في مجمع الناصرة (لو 4: 16 ي) وبولس الرسول ورفاقه في مجمع دمشق (أع 9: 19- 20) وقبرص (أع 13: 4- 5) وغيرهما من مجامع البحر الأبيض المتوسّط (أع 13: 14؛ 14: 1؛ 17: 1- 2).
لا عمل ليتورجيًا في صلاة المجمع، ولهذا لا دور للكاهن إلاّ إعطاء البركة في نهاية الصلاة، وإن غاب حلّ محلّه رئيس الجماعة المحلّيّة التي لا تكون جماعة إلا بعشرة رجال (لا تحسب النساء بين عدد المصلّين) يهود على الأقلّ. كلّ يهوديّ يحقّ له أن يقرأ التوراة ويقوم بعمل الترجمان ويلقي العظة. ولكن سيأتي يوم يُحفظ هذا العمل للكتبة والفرّيسيّين الذين سيجعلون من المجمع أيضاً مدرسة لتعليم الأولاد والشبّان ونَزْلا لاستقبال الغرباء ومركز لقاء للمؤمنين القاطنين في مدينة أو في حيّ من أحياء المدينة. في المسيحيّة ستلعب الكنيسة كجماعة ومكان اجتماع دور المجمع في اليهوديّة.

3- الأعياد
لبني إسرائيل أعياد يجتمع فيها الشعب ليدلّوا على التضامن القائم بين الأفراد وليحتفلوا بأعمال الله الخلاصيّة العظيمة. هناك الأعياد الثلاثة الكبرى أي الفصح والعنصرة والمظالّ وفيها يُطلب إلى الذكور أن يحجّوا إلى أورشليم، المكان الذي اختاره الله له. هذه الأعياد كانت في البداية تسير وفصول السنة. في الربيع كان البدو يقدّمون أبكار قطيعهم (عيد الفصح) والحضر بواكير غلالهم من الشعير (عيد الفطير). في الصيف كان المزارعون يحتفلون بأعياد الفصح والأسابيع ونهاية حصاد القمح، وفي الخريف بعيد المظالّ ونهاية قطاف الأثمار. ولكن على مرّ العصور ارتبطت هذه الأعياد بحدث تاريخيّ فتذكّر الشعب في عيد الفصح خروجهم من مصر، من أرض العبوديّة، وفي عيد العنصرة تسلّمَهم شريعة الله على جبل سيناء، وفي المظالّ إقامَتَهم أربعين سنةً في البرّيّة.
في زمن يسوع كانت هذه الأعياد تدوم أسبوعًا كاملاً. يصل المسافرون إلى أورشليم سيرًا على الأقدام في قوافل تجمع أبناء القرى المجاورة ليأمنوا شرّ اللصوص. هذا ما فعله مريم ويوسف وهما اللذان كانا يحجّان كلّ سنة إلى أورشليم في عيد الفصح (لو 2: 41). وهذا ما سيفعله يسوع فينطلق إلى أورشليم في وقت العيد ويستفيد من هذا الظرف ليكلّم الحجّاج الآتين من كلّ فلسطين بل ومن خارجها. ولا ننسى أنّ حلول الروح القدس على التلاميذ في عيد العنصرة كان مناسبة ليكلّم بطرس المادايين والفراتيّين والعيلاميّين والمصرّيين واليونانيين والعرب وكلّهم جاؤوا إلى العيد (أع 2: 1ي).
في عيد الفصح كان الحجّاج العديدون يؤمّون أورشليم فيتضاعف عدد سكّانها أربعة أو خمسة أضعاف. يأتي ربّ العائلة في ليلة الرابع عشر من نيسان مع الخروف فيذبحه له الكاهن ويجعل دمه يسيل حول المذبح كتقدمة للربّ ثمّ يعيده إلى ربّ العائلة فيأكله مع عياله في بيت أفرغ من كلّ فطير. يوم الخروج (12: 11) أكل اليهود الفصح بعجلة، أحقاؤهم مشدودة، وأحذيتهم في أرجلهم وعِصِيُّهم في أيديهم. أمّا في زمن المسيح فكانوا مستلقين على أسرّتهم على طريقة الرومان، يشربون الخمر وينشدون مزامير التهليل (مز 113- 118).
ويحتفل المؤمنون بعيد العنصرة خمسين يومًا بعد الفصح (تث 16: 9)، لذلك سمّي عيد الأسابيع (السبعة، رج خر 24: 22) وسمّي أيضاً عيد الحصاد (خر 23: 16). ويحتفلون بعيد المظالّ الذي كان في عهد المسيح أبهى الأعياد وأعظمها احتفالاً بحسب المؤرّخ يوسيفوس، فيعيّدون نهاية قطاف العنب وإقامتهم في البرّيّة لمّا أخرجهم الربّ من أرض مصر (لا 23: 43). ثمّ عيدّوا فيه تدشين هيكل سليمان (1 مل 8: 65- 66) فارتبط العيد ارتباطاً وثيقًا بموضع حضور الربّ وحمايته لشعبه كما صارت المظالّ رمزًا إلى الغمام المضيء على الشعب في البرّيّة. في عيد المظالّ كانت كلّ عائلة تبني لها خيمة (مظلّة) في أورشليم أو في جوارها وتقيم فيها مدّة أسبوع فتشهد تطواف الكهنة كلّ صباح إلى عين سلوان على نشيد البوق وسكب المياه على المذبح طلبًا للمطر من عند الربّ، وتتمتّع بالمدينة المضاءة بأنوار شماعدين الذهب الموضوعة في رواق النساء (يو 8: 12).
وهناك أعياد أخرى يحتفل بها اليهود وهي أقلّ أهمّيّة من الثلاثة الأولى: عيد التكفير يطلبون فيه من الربّ أن يغفر خطايا شعبه، وعيد رأس السنة الذي يسبق يوم التكفير بعشرة أيّام. وعيد التدشين الذي يذكرون فيه تطهير الهيكل على يد يهوذا المكابيّ (1 مك 4: 1ي)...
وهناك السبت الذي هو عيد أسبوعيّ ويوم راحة للمؤمنين (لا 23: 3؛ خر 31: 12- 17) 0 ارتبط أساسًا بالروزنامة القمريّة المعروفة في بلاد الرافدَين ثمّ اتّخذ معنى دينيًّا واجتماعيًّا: يستريح الإنسان ويستريح العبد كما استراح الله بعد أن خلق الكون في ستّة أيّام (تك 2: 2- 3)، ويتحرّران من العمل بعد أن حرّرهما الله من حياة العبوديّة في مصر (خر 23: 12؛ تث 5: 14- 15). في أيّام المسيح مُنع الإنسان من أيّ عمل حتّى عمل الخير، ولكنّ يسوع أعاد إلى السبت مدلوله فقال فيه: جُعِلَ السبتُ للإنسانِ وما جُعِلَ الإنسانُ للسبتِ (مر 2: 27).

ب- المجتمع اليهوديّ
نتعرّف هنا إلى فئات المجتمع، ثمّ إلى الفئات السياسيّة والدينيّة في فلسطين في زمن المسيح.

1- الكهنة واللاويّون
يُعتبر الكهنة من طبقة الشرفاء في المجتمع اليهوديّ وعلى رأسهم كاهن أعظم أو رئيس كهنة.

أوّلاً: رئيس الكهنة
يقف رئيس الكهنة في قِمّة الهرم الاجتماعيّ، وقد صار بعد الرجوع من الجلاء وزوال الملكيّة (538 ق م)، حجر الزاوية في المجتمع اليهوديّ. فهو المسؤول عن الهيكل وعن تطبيق الشريعة، وهو رئيس السنهدرين، أي محكمة بني إسرائيل العليا التي تأسّست في عهد يوحنّا هركانس. وحده يدخل قدس الأقداس مرّة في السنة في يوم التكفير. كرامة رئيس الكهنة لا تعلوها كرامة وهذا ما يؤمّن له وضعًا مادّيًّا محترَمًا: يختار كلّ مساء حصّته من التقادم وينظّم أمور التجارة في الهيكل فيسلّمُها إلى أشخاص قريبين إليه... وهو مكرّم حتّى موته: يوم موته يعفى عن المحكوم عليهم بالإعدام لأنّ يوم موته هو يوم تكفير عن خطايا شعبه.
تعرّفنا في الإنجيل إلى حنّان وقيافا (لو 3: 2) ودورهما في موت يسوع (مت 26: 3، 57)، كما في ملاحقة بولس الرسول (أع 23: 4- 5).
حول رئيس الكهنة نجد بعض الموظّفين: قائد الهيكل وهو المسؤول عن حراسة الهيكل وإقامة الشعائر الدينيّة، وهو يقوم مقام رئيس الكهنة عند الحاجة، ثمّ رؤساء الفرق الأربع والعشرين من الكهنة (كان زكريّا من فرقة أبيّا، رج لو 1: 5)، ثمّ مراقبو الهيكل السبعة والخزّانون الثلاثة المسؤولون عن صندوق المال.

ثانيًا: الكهنة
كان عدد الكهنة يقارب السبعة آلاف يهتمّون بالهيكل وبتقدمة الذبائح، إلاّ أنّ حاجات الهيكل لم تكن تتطلّب مثل هذا العدد، لهذا قسم الكهنة أربعًا وعشرين فرقة تخدم كلّ بدورها أسبوعًا واحدًا، ما عدا في الأعياد الكبرى. وهكذا كان يخدم الكاهن خمسة أسابيع في السنة ويقضي ما تبقى من وقته في بيته أو حقله.
كان الكهنة فقراء ومدخولهم ينحصر في حصّتهم من الذبائح ويتوقّف على العشور التي كان الشعب المرهق بالضرائب يعجز عن دفعها. لأجل هذا عمل الكهنة نجّارين وبنّائين ولحّامين وكتبة، فكانوا قريبين من الشعب يتبنَّون آراءه ويؤيّدون قضاياه. ويجدر بالذكر أنّ الكهنوت ينتقل بالوراثة من الأب إلى الابن شرط أن يكون الابن مَنْ لا عيب له ومن تزوّج فتاة يهوديّة حقيقيّة.

ثالثًا: اللاويّون
اللاويّون هم أفقر العاملين في الهيكل. عددهم يقارب العشرة آلاف وهم مقسومون كالكهنة إلى أربع وعشرين فرقة، كلّ فرقة تخدم خمسة أسابيع. أمّا مداخيلهم فتكاد تكون معدومة بعد أن حُرموا من العشر على حساب الكهنة على إثر الإصلاح الذي قام به يوشيّا سنة 621 ق م. (عد 18: 8- 32)، لهذا اخذوا يقومون بمختلف المهن من أجل تأمين حياتهم.
في الهيكل مجموعتان من اللاويّين: الموسيقيّون الذين يقفون بين رواق الكهنة ورواق الرجال فيحيون الليتورجيّا بالعزف والإنشاد، واللاويّون البّوابون الذين يهتمّون بالهيكل ويعتنون بنظافته (لا يحقّ لهم دخول رواق الكهنة)، ويراقبون الداخلين ويقومون بعمل الحراسة في المعبد المقدّس. في مَثَل السامريّ الصالح (لو 10: 25 ي) سيجمع يسوع بين الكاهن واللاويّ اللذَين عرفا الشريعة وما مارسا وصيّة المحبّة.

2- الشعب
كان الكهنة واللاويّون من بني لاوي، القبيلة المكرّسة تكريسًا خاصًّا للربّ، أمّا الشعب فهم أبناء سائر القبائل وفيهم الشيوخ والطبقات المختلفة اقتصادًا وعلمًا.

أوّلاً: الشيوخ
الشيوخ، ولا نعني بهم العائشين في الريف والذين لا تختلف حياتهم عن حياة المزارعين، هم أصحاب الطبقة الأرستقراطيّة الغنيّة التي تملك الأرض والمال. لا بل استطاع ثلاثة منهم أن يموّنوا أورشليم على مدى إحدى وعشرين سنة بالقمح والشعير والخمر والزيت والملح والحطب. هؤلاء الشيوخ يرتبطون بالهيكل والقائمين عليه، برومةَ والسلطةِ الحاكمة باسمها. أمّا رومة فنظرت إلى هؤلاء البورجوازيّين كمنبع ضرائب غير مباشرة، واعتبرت ثروتهم الضمانة لتصل إلى صندوق الدولة الضرائبُ المنتظرة. فإن خضع هؤلاء الشيوخ للدولة غضّت نظرها عنهم وإلاّ أرسلتهم إلى المنفى لسبب من الأسباب وصادرت لهم أملاكهم.

ثانيًا: الكتبة
كان الكتبة قليلي العدد ولكنّ تأثيرهم كان كبيرًا. لم يكونوا من الكهنة بل من العوامّ ومن جميع طبقات الشعب. اختصاصهم الشريعة، ولهذا يَطلب منهم الشعبُ تفسيرًا للشريعة وتطبيقًا لها في الحياة.
الإنسان كاتب بالولادة ولكنّه يصير كاتبًا بعد استعداد طويل من الدرس لتلقّن الشريعة واستظهارِ التقاليد الشفهيّة. في القرن الثاني ب م يصبح الإنسان كاتبًا أو معلّمًا خلال رتبة دينيّة يعطى فيها لباسًا خاصًّا علامة كرامته الجديدة، فيتمتّعُ بأوّل المتّكآت في المجتمعات، ويمرّ في الشوارع فيحيّيه الناس أو ترب العامل فيتوقّف العامل بعجلة ليحيَّيه.
كان الكتبة قوّادًا للشعب ولهذا كانت مسؤوليّتهم كبيرة فأنذرهم يسوع بالويل لأنّهم يحملّون الناس أحمالاً ثقيلة (لو 11: 46) ولأنّهم أهملوا أهمَّ ما في شريعة الله أي العدل والرحمة والإخلاص (مت 23: 2). كان عليهم أن ينعشوا الإيمان ويساعدوا المؤمنين على العيش بحسب إرادة الله. معرفتهم بالشريعة والكتب أعطتهم دورًا لا يُستغنى عنه فصاروا أعضاء في السنهدرين وتحملّوا مع رؤساء الكهنة خطيئة الحكم على يسوع بالموت.

ثالثًا: الطبقة المتوسّطة الحال
هناك العائشون في المدن، وخاصّة في أورشليم، فإن كثر عدد الحجّاج ازدهرت أعمالهم. كان منهم الخيّاط وبائع العطور وصاحب النَزْلِ والمهتمُّ بنقل الحجّاج وبضائِعهم. ولا ننسىَ أنّ واجب المؤمن أن يصرف العِشْرَ الثاني (تث 12: 17- 18) في شراء المأكول والملبوس والعطور والأشياء الفخمة فيحملَ الفرح إلى قلبه ويُغْني القائمين حول هيكل الربّ.
وهناك الملاّكون الصغار الذين يعيشون ممّا تنتجه الأرض، وإن تاجروا فمقايضةً مع جيرانهم لا يربحون الشيء الكثير لذلك تراهم يتهرّبون من الضرائب. في اليهوديّة والسامرة كانت مِساحة الأرض التي يستثمرها الفلاح صغيرة، ولهذا تُعطى للبكر ويصبح سائر الأولاد عمّالاً أو يهاجرون. أمّا في الجليل فالأرض أوسع بعد أن هرب الوثنيّون الذين أجبرهم يوحنّا هركانس على الارتداد إلى الديانة اليهوديّة أو النزوح، وهكذا بقيت الأرض لليهود المقيمين هناك.
وهناك الصنّاعون العاملون لحسابهم وهم في الإجمال أناس محتقرون. فالدبّاغ يُنْتِنُ إلى درجة تستطيع امرأته أن تطلّقه، والحائك كاذب وشهادتُه، كشهادة المرأة والعبد، غيرُ مقبولة في المحاكم، والراعي سارق...
وهناك العمّال المُيَاومون الذين يعملون في المزارع الكبيرة أو عند أحد الصنّاعين أو في ورشة البناء. يكفي أن تكونَ الغلّة سيّئة أو تتوقّفَ حركةُ البناء وتصريفِ الإنتاج ليصبحوا عاطلين عن العمل. هؤلاء العمال يحتقرهم الكتبة والفرّيسيّون ويسمّونهم "شعب الأرض"، ولكنّهم كانوا يستندون إليهم في ثورتهم على الحاكم الرومانيّ بسبب الضيقِ الذي يُثَقِّل على صدرهم والحاجةِ إلى الخلاص التي تَعْمُرُ في قلوبهم. سمعوا صوت الملاك يبشرهم يوم ولد يسوع، وساروا وراء المسيح هاتفين: هوشعنا لابن داود (مت 21: 9)، وهتفوا مع الأحبار والشيوخ مفضلّين برأبّا على يسوع (مت 27: 20 ي) طالبين ليسوع أن يصلب.

3- الأسرة اليهوديّة
الأسرة أساس المجتمع الشرقيّ عامّة واليهوديّ خاصّة. لهذا سنتحدّث على دور المرأة وأهمّيّة الولد وتربيته وقضيّة الزواج.

أولاً: المرأة
المرأة في البيت كالعبد. عليها أن تقوم بكلّ الأعمال دون أن يكون لها الإفادة من ثمرة أعمالها. هي خاضعة لأمور الشريعة السلبيّة (لا تفعل) غير أنّها لا يحقّ لها أن "تضيّع" وقتها في درس الشريعة. تهتمّ بالأولاد وبأعمال الحياكة ولا تخرج من بيتها. وإن خرجت فمقنّعة، ولا تحدّث أحدًا في الطريق، وإن أجبرت على الاستعلام عن أمر ما فيجب أن يكون حديثها قصيرًا. إنّ تكلّمت يُرَدّ عليها في الطريق، وإنّ أدلت بشهادتها في المحكمة فشهادتها غير مقبولة. لا تحسب كشخص ليكون العدد كاملاً لإقامة الصلاة في المجمع، أو لتظنَّ أنّ لها الحقَّ في التفرّد بحبّ زوجها الذي يستطيع أن يتزوج غيرها أو يكون له من الجواري ما يشاء.
أمّا حقوق المرأة على زوجها فقليلة: يؤمّن لها المأكل والملبس وإلاّ اشتكت عليه وطالبته بالطلاق. يهتمّ بها إذا مرضت ويفتديها إذا وقعت في العبوديّة ولا يطلّقها كما يشاء، ولا يعرضها للزنى. يجدر القول هنا إنّ تقارب الأسرة اليهوديّة من الأسرة الهلّينيّة جعلت حالة المرأة تتحسّن في عالم الشرق.
هنا نفهم بطريقة أوضح عِدّة أمور في الإنجيل. يسوع يحدّث السامريّة ويحدّثها طويلاً على البئر حيث الناس يروحون ويجيئون (يو 4: 1 ي). يسوع يدافع عن الزانية أمام المشتكين عليها (يو 8: 1 ي) ويقبل أن تمسّه خاطئة معروفة في بالبلد (لو 7: 36 ي)، بل أن ترافقه نسوة تلميذات سيبشّرن باسمه كالرسل (لو 8: 1- 3): ونفهم أيضاً أن يقول متّى الرسول (14: 21): كان الآكلون خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد. فالنساء لا يحسب لهنّ حسابًا ولا الأولاد.

ثانيًا: الولد وتربيته
الولد علامةُ بركةِ الله لشعبه وبرهانٌ لدوام عهده، من هنا أهمّيّة البيوت التي تعجّ بالأولاد. أمّا البيت الذي لا ولد فيه فيعتبر ملعونًا، والعار في تلك الحالة يلحق المرأة التي لم تنجب أولادًا، والكرامة تصيب الرجل صاحب الأسرة الكبيرة.
تَتِمّ الولادة في البيت على يد القابلة وتُرْضِع الأُمُّ ابنها أشهرًا بل سنتين وثلاثًا أو أكثر. يُعطى الولدُ اسمًا (لو 1 : 59؛ 2: 21) ويُختن علامةَ انتمائه إلى شعب الله وارتباطه بالربّ، ويُفتدى في الأربعين يومًا من عمره إذا كان صبيًّا (خر 13: 2، 23؛ رج لو 2: 22 ي) وفي الثمانين يومًا إذا كان فتاة (لا 12: 2- 7).
يُحِبّ الولدَ الأهلُ ولكنّهم يربّونه تربية قاسية فيهيّئون له القضبان حِزَمًا حِزَمًا (أم 13: 24؛ 23: 13). يبقى مع أمّه إلى عمر أربع سنوات. فإذا كان فتاة تبقى مع أمّها وإذا كان صبيًّا فينتقل إلى رفقة أبيه. تتعلّم الفتاة لتعمل في البيت أو تباع كعبدة بعد السنة السادسة من عمرها. ويتعلّم الصبيّ مهنة أبيه أو يُرْسَل ليعمل تحت يد أحد الصنّاع، وعليه أن يتدبّر أمره بعد السنة السادسة من عمره لأنّ الأب لم يعد مجبرًا على تقديم الطعام له. المقابلة سهلة بين ما كان في عهد المسيح وما يجري في عصرنا الحديث.
التربية تعني التدريب على مهنة وتعني أيضاً تعلّم التوراة. يتعلّم الصبيُّ القراءة ويحفظ التوراة ويتدرّب على طرق تفسيرها ليتعرّف إلى الربّ ويُكَرِّمَهُ بحسب متطلّباتها. أمّا الفتاة فَتُلَقَّنُ ما يجب أن لا تفعل. على الأهل يقع واجب تعليم التوراة لأولادهم، ولكن تنظّمت مدارسُ قرب المجامع وعُمِّمَت وأصبحت مجّانيّة في بداية النصف الثاني من القرن الأوّل. يتعلّم الأولاد الحساب عندما يقرأون أعمار الآباء (تك 5: 1 ي) والجغرافية في حروب بني إسرائيل والعلومَ بمناسبة هذه المعجزة أو تلك. فالتوراة كتاب كامل يحتوي كلّ شيء ولا حاجة للرجوع إلى كتاب آخر لتلقّي علمٍ من العلوم.
بعد هذه العلوم الأوّليّة كان بعض الأولاد يتابعون الدروس، ولكنّ هذا يفترض حالةً من اليُسر للوالد أو نفحةَ إيمان عند الشابّ. يجدر القول إنّ لغة الثقافة كانت اليونانيّة وإليها نقلت التوراة المسمّاة سبعينيّة على يد يهود متعلّمين. ولكنّ الكتبة سيعتبرون تعلّم اليونانيّة ودرس الفلسفة شرًّا يجب أن نتجنّبه. فالكاتب هو المعلّم يحترمه الطلاّب كما يحترمون أهلهم بل أكثر لأنّ الأهل يُعْطُون حياة الجسد أمّا المعلّم فكلمةَ الله.

ثالثًا: الزواج
يبقى الولد قاصرًا إلى الثانية عشرة من عمره، بعدها يصبح راشدًا ويُفْرَضُ عليه أن يحفظَ الشريعة ويبدأَ ببناء بيت وغرس كرم، استعدادًا للزواج. العمر المفضّل للزواج هو السنة الثامنة عشرة، وقد قيل: من تزوّج قبل العشرين كان مباركًا، ومن تأخّر كان ملعونًا. أمّا الفتاة فيخطبها والدها بين السنة الثانية عشرة والثالثة عشرة، فيختار لها رجلاً من ذوي قرابتها لئلاّ تتشتّت أملاك العائلة والقبيلة.
الخطبة تربط بين الشابّ والفتاة كالزواج في مجتمعنا فلا يبقى للفتاة إلاّ أن تنتقل إلى بيت زوجها بعد سنة من عقد الخطبة. يُنفق والد العريس ووالد العروس على المهر ومصاريف العرس. الرجل يتدبّر ما يملكه الزوجان، ولكن في حال الطلاق (أو وفاة الزوج) يعود إلى المرأة ما قُدّم لها من مهر وما حملت معها من خير من بيت أبيها. هذا الأمر جعل الرجل يتأنّى قبل أن يطلّق امرأته.
يستطيع الرجل أن يطلّق امرأته لعيب وجده فيها (تث 24: 1). أمّا مدرسة شمعي فكانت تعتبر العيب الزنى وسع سلوك المرأة. وأمّا مدرسة هلاّل فالعيب هو كلّ شيء وإن كان جهلاً لفنّ الطبخ أو تأخّرًا في إرضاء زوجها، أمّا المرأة فلا تستطيع أن تطلب الطلاق إلاّ في الحلات القصوى التي تَحَدَّثْنا عنها سابقًا.
هنا نتذكّر قول المسيح: من طلّق امرأته وتزوّج غيرها فقد زنى عليها. وإن طلّقت المرأة زوجها وتزوّجت غيره فقد زنت (مر 10: 11- 12). لا طلاق، والحقوقُ هي هي بالنسبة إلى الرجل وبالنسبة إلى المرأة.

4- الفئات السياسيّة والدينيّة
تُحَدِّثْنا الأناجيل عن الصادوقيّين والهيرودسيّين والسامريّين ثم عن الغيورين الذين كان منهم سمعان، أحد رسل الربّ (مت 10: 4)، وتشدّد بصورة خاصّة على الفرّيسيّين الذين خاصموا يسوع في تعليمه وطريقة ممارسته للشريعة.

أوّلاً: الفرّيسيّون
دخل الفرّيسيّون في التاريخ على أيّام الإسكندر يناي فوقفوا بوجه رئيس الكهنة الذي عاداهم لأنّهم يؤثّرون في الشعب، وكانت حربٌ أهليّة بين الملك والفرّيسيّين، صُلب فيها آلاف اليهود. ولكنّ الفرّيسيّين خرجوا منتصرين وزاد تأثيرهم على الشعب فيما بعد.
يرجع أصل الفرّيسيّين إلى جماعة من اليهود الأتقياء عاشوا في أيّام عزرا الكاهن واعتبروا أنّه لا يكفي أن يُبنى الهيكلُ وأسوارُ المدينة، بل أن نعودَ إلى حياة روحيّة مبنيّة على درس الشريعة وعلى الصلاة (ألّف الفرّيسيّون بعضَ المزامير). لهذا لمّا قام يهوذا المكابيّ بثورته حارب معه الغيورون وساومه الصادوقيّون، إلاّ أنّ الفرّيسيّين رفضوا الحرب والسياسةَ ورأَوا أن يعملوا لخلاص الشعب بتقواهم ودرسهم للشريعة درسًا جِدّيًّا.
يوم جاء بومبيوس إلى الشرق ذهب إليه وفد من الفرّيسيّين وقالوا له: لا حاجة فينا إلى ملك بوجود رئيس الكهنة، ويوم ملك هيرودسُ رفضوا أن يحلفوا له حلف الولاء رغم كلّ محاولاته الترغيبيّة والترهيبيّة. وإنّ هذا الحذرَ السياسيّ عند الفرّيسيّين واهتمامَهم بتعليم الشعب أمّن لهم شعبيّة كبيرة وسيكونون التيّارَ الوحيد الذي لا يزول بفعل دمار أورشليم، فينظّمون الحياة الدينيّة اليهوديّة على أسس جديدة مبنيّة على تعلّقٍ بالتوراة ودرسها وحفظها والعمل بها.

ثانيًا: الصادوقيّون
يرتبطون بصادوق ويعتبرون نفوسهم حاملي الكهنوت الشرعيّ بحسب كلام حزقيال (40: 46). هم سلالة الكهنة والأرستقراطيّة الذين انفتحوا في عهد المكابيّين على الهلّينيّة وظلّوا أمناء للسلالة الحشمونيّة. اتّصلوا باليونانيين وتعلّموا منهم حبّ البذخ والاهتمام بالتجارة، وتعاونوا مع الرومان ليوفّروا على الشعب المذابح.
كانت لهم السلطة على الهيكل وشعائر العبادة والسنهدرين حتّى سنة 63 ق م يوم صار الكتبة أكثريّة المحكمة اليهوديّة العليا. هم يأخذون بأسفار موسى الخمسة ولا يهتمّون بالتقاليد الشفهيّة التي يعتبرها الفرّيسيّون بمثابة التقاليد المكتوبة. يرفضون القول بقيامة الأموات ويعتبرون أن الله يجازي الإنسان في هذه الدنيا (مر 12: 25)، ويقولون إنّ قواعد الطهارة تُلزِمُ الكهنة لا سواد الشعب الذي يستطيع أن يتّصل بالوثنيّين خارج إطار الهيكل دون أن يتنجّس (مر 7: 3- 3).
في القرن الأوّل ب م لم يبق للصادوقيين شيء: جرّدتهم رومة من السلطة السياسيّة حين أخذت تعيّن بنفسها رئيس الكهنة. وجرّدهم الفرّيسيّون من سلطتهم الدينيّة والأدبيّة فما عاد أحد يسمع لهم. كان لهم دور في قتل يسوع (يو 11: 49- 50) ودور في بداية ثورة سنة 30 ب م يوم رفض أحدهم تقديم ذبيحةٍ لأجل الإمبراطور. ارتبطت حياتهم بالهيكل، فلمّا زال الهيكل زالوا ولم يعد لهم من أَثَرٍ في الحياة اليهوديّة.

ثالثًا: الغيورون
هم أعضاء حركة متطرّفة تغوص جذورها في أعماق تاريخ الشعب، يتمثّلون بفنحاس (عد 25: 7 ي) وإيليّا (1 مل 18: 36 ي) وياهو (2 مل 9: 14 ي) ومتتيا وغيرهم فيقتلون كلّ خائن لشريعة الربّ. انطلقت حركتهم في عهد المكابيّين وقويت في عهد الرومان خاصّة لمّا قام يهوذا في السادسة ب م يعارض عمل كيرينيوس الوالي الذي أراد إحصاء السكّان لضبط الضرائب.
يبالغ الغيورون في ما يخصّ قداسة الهيكل وحرمة الشريعة، ويعتبرون أنّ الله ملكهم وقد أعطى شعبه أرضاً مقدّسة وهو لا يرضى أن تتنجّس هذه الأرض. فاليهوديّ الذي يخون دينه يجب أن يموت (اعتبروا إسطفانُسَ خائنًا فرجموه، رج أع 12:7 ي)، واليهوديّ الذي يخون سياسة بلاده يعاقب. أمّا الغير اليهودي (والمحتلّ المغتصب للأرض) فيجب أن يزول وبالأخصّ عندما يحتقر شعائر الديانة. فقد بدأت قلاقل بعد سنة 50 ق م لأنّ جنديًّا رومانيًّا أحرق دُرْجًا من أدراج التوراة ولأنّ آخر ارتكب فاحشة في الهيكل.
اعتبر الغيورون الصادوقيّين خائنين لقضيّة المكابيّين فما استطاعوا التفاهم معهم، واعتقدوا أنّ عليهم تنظيف البلاد من كلّ نجاسة وكفر ليعجّلوا مجيء المسيح. فتصرّفوا على هذا الأساس من العنف إلى أن وصلت بهم الأمور إلى ثورة سنة 70 ب م.

رابعًا: الإسيانيّون
هم أعضاء من جماعة هربت إلى مغاور قمران على إثْرِ اضطهاد المكابيّين لسلالة صادوق. نظّموا نفوسهم تنظيمًا تسلسليًّا وجعلوا أبناء صادوق في قِمّة الهرم. تعلّقوا بالشريعة كالفرّيسيّين بل تجاوزوهم في ما يخصّ تواعد الطهارة والتمسّك بالأمور التقليديّة، ورفضوا الروزنامة السلوقيّة فلم يعيّدوا الفصح مع المعيّدين في الهيكل، وعادوا إلى الروزنامة القديمة. يغتسلون مرارًا في النهار ليكونوا دومًا أطهارًا، ويمتنعون عن الذهاب إلى الهيكل الذي غاب عنه رؤساء الكهنة من أبناء صادوق واعتبروا أنّ قداسة حياتهم تحلّ محلّ المحرقات بانتظار أن يعيد الربّ الهيكل إلى أصحابه الشرعيّين الذين يقيمون فيه حينذاك شعائر العبادة كما في السابق.
يعتبر الإسيانيّون نفوسهم جيش الله الذي سيحارب الكفّار ساعة يشير الربّ إليهم بذلك. وحرب الأرض رمزٌ إلى حرب السماء وفيها يقاتل الملائكة الشياطين في حرب إسكاتولوجيّة ينتصر الله فيها في آخر الأيّام، يزول الكفّار ويظفر القدّيسون.
أيُّ تأثير كان للإسيانيّين على المجتمع اليهوديّ في زمن المسيح؟ هذا ما لا نعرفه ولكنّنا نعرف أنّهم اتّصلوا بالغيورين سنة 66- 70 ب م وحاربوا الرومان، ولمّا أُحْرِقت أورشليم زال الإسيانيّون كجماعة سياسيّة ودينيّة منظّمة وبقيت آثارهم التي اكتشفت في مغاور قمران وبالأخصّ مخطوطاتهم التي حفظت في جرار من فخّار.

خامسًا: الهيرودوسيّون.
هم جماعة أسّسها هيرودس الكبير لتَسْنُدَ عمله السياسيّ وعمل أبنائه من بعده. (رج مر 3: 6). كانوا يعيشون على الطريقة اليهوديّة في فلسطين وعلى الطريقة الرومانيّة خارج فلسطين، وجلّ همّهم ترصّد التحرّكات السياسيّة التي تشكّل خطرًا على سلطة هيرودس.

سادسًا: المعمدانيّون
هناك مجموعتان: الأولى عاشت حول يوحنّا المعمدان (رج أع 18: 25؛ 19: 1- 5) والثانية حول يسوع (يو 3: 22؛ 4: 1- 2). إلاّ أنّه يجب علينا أن نميّز بين عماد يوحنّا الذي كان للتوبة وعماد يسوع الذي يَهَبُ نعمة الروح القدس والتبنّي. يجدر القول إنّ الذين تبعوا يوحنّا المعمدان سيلحقون بيسوع وأوّلُهم رُسُلُه يوحنّا ويعقوب وأندراوس.

سابعًا: السامريّون
هم جماعة مركِزُها السامرة لا يأخذون إلاّ بأسفار موسى الخمسة كتبًا قانونيّة مقدّسة، ولكنّهم يحترمون السبت ويمارسون الختان ويعيّدون أعياد اليهود. يرفضون الاعتراف بأورشليم كمدينة مقدّسة وبالهيكل كمعبد واحد لكلّ شعب الله، ويعتبرون جبل جرّزيم الذي يشرف على شكيم المعبد الحقيقيّ والوحيد في الأرض المقدّسة. على هذا الجبل يحتفلون بعيد الفصح، لأنّه مركِز بركة الله (تث 11: 29؛ 27: 12)، كما ينتظرون المسيح "الثائب" (رج ثاب في العربيّة) الذي لا يكون من نسل داود، بل موسى الجديد والنبّي الذي يتحدّث عنه سفر التثنية (18: 15): يقيم لكم الربّ نبيًّا من بينكم من إخوتكم مثلي، له تسمعون، قال موسى للشعب.

خاتمة
تلك كانت لمحةً سريعةً إلى فلسطين في زمان المسيح، تعرّفنا فيها إلى الأرضِ التي أقام فيها يسوع، والمجتمعِ الذي عاش فيه، والفئاتِ التي تعرّف إليها وعمل معها أو ضدّها. أجل، كان يسوع ابنَ مريم العذراء التي من الناصرة، وابنَ يوسفَ بالتبنّي وابنَ النجّار وقريبًا لمن يسمّيهم الإنجيلُ إخوتَه وهم يعقوبُ ويوسفُ وسمعانُ ويهوذا (مت 13: 55). كان يهوديًّا ككلّ اليهود وخضع للشريعة اليهوديّة ولعادات مجتمع بلاده. هذا هو وجه الإنسان في يسوع المسيح الذي حُدِّدَ في الزمان والمكان، ولكنّ هناك أيضًّا وجهَ الإلهِ في يسوعَ المسيح فصار لا ابنَ شعبٍ خاصّ، بلِ ابنَ كلّ الشعوب أو كما يسمّيه الكتاب: ابن الإنسان لأنّه قريب من كلِّ إنسان. ما استحى أن يدعوَ جميع الناس إخوته. بالعذاب الذي ابتُليَ به (عب 2: 18) والموتِ الذي احتمله (عب 2: 9) بان لنا إنسانًا ولكنّه بما أنّه إله تكلّل بالمجد والكرامة (عب 2: 9) بل سجدت له كلّ ركبة بانتظار أن يعلنَه كلُّ إنسانٍ ربَّ السماء والأرض (فل 2: 10- 11).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM