الفصل السادس:العهد القديم وسر المسيح

الفصل السادس عشر
العهد القديم وسرّ المسيح

يتحقّق خلاص البشر حسب مشيئة الله ، بواسطة تدبير تاريخي يشتمل على عدّة مراحل. وفي المرحلة الأخيرِة يدخل في حقل الاختبار البشري بسرّ المسيح وكنيسته. ولكن لا نتمثّل العهد القديم فارغًا من المسيح ومهيّئًا لمجيئه بشكل خارجي وبدون أن يحسّ المؤمن بعمل نعمته بشكل فاعل.
لا شكّ في أنّ العهد القديم هو ترتيب موقّت، وهو مدعوّ إلى أن يُمَّحى ساعة يظهر المسيح. ولكنّه يتضمّن سمات لن تتغيّر حين يأتي الترتيب النهائي. فهذا الأخير يجعل هذه السمات تكمل وتصل إلى ملئها.
شعب الله قد حلّ في التاريخ. وقبل أن يتأوّن سرّ الخلاص في حدث من الزمن البشري، كان هذا الشعب قد دخل في هذا الزمن. لقد اختاره الله ليصل به الخلاص إلى العالم. ومنحه في الوقت عينه إمكان الحياة بالإيمان في سرّ المسيح قبل أن يأتي المسيح على الأرض. نحن أمام تعليم يشمل مفارقة. سنتفحّصه في نقطتين أساسيّتين: إن اختيار إسرائيل كشعب الله يدشّن نظامًا دينيًا تنكشف فيه السمات الأساسية لتدبير الخلاص. بعد هذا، ارتبطت حياة إسرائيل بعلاقة حميمة مع سرّ المسيح بحيث إنّ شعب العهد القديم يستبق الأمور فينعم بثمار سرّ المسيح هذا.

I- النظام الديني في العهد القديم وسرّ المسيح
كانت أولى نتائج إسرائيل كشعب الله فرْزَه عن سائر الشعوب. ففي نظر مخطّط الخلاص، تقيم سائر الشعوب في نظام التدبير الأوّلاني أو ما سمّاه اللاهوت اللاحق "الناموس الطبيعي ". أمّا إسرائيل فقد جُعل في نظام جديد، هو نظام موقّت لأنّه يهيّئ الطريق للمسيح، ولكنّه نظام إلهي ووضعي. وفي هذا النظام تنكشف نوايا الله الخفيّة التي تبرز فيها ثلاث سمات أساسية في التدبير النهائي. الأولى: لا يتأسّس على مبادرة بشرية، بل على كلمة الله كما توجّهت إلى البشر بواسطة مرسليه ؛ الثانية: هذه الكلمة لا تدرك البشر فردًا فردًا، بل تقبلهم كشعب اختاره الله من بين الشعوب ليحمل في داخله السر المتسامي، الثالثة: في داخل هذا الشعب، تتحدّد العلاقات بين الله والبشر بشكل عهد. سنجد في العهد الجديد وجهات الخلاص هذه التي تتكيّف الواحدة مع الأخرى: سرّ كلمة الله، سرّ شعب الله، سرّ العهد بين الله والبشر.

أ- سرّ كلمة الله
1- أولوية كلمة الله
تعود المبادرة إلى الله وحده في تحقيق الخلاص. انفصل البشر عنه بالخطيئة، فما استطاعوا أن يطلبوه إلاّ بالتلمّس (أع 27:17). فإن وجدوه حقًّا في العهد القديم، وانقطعوا عن ضلال العالم الوثني، وارتبطوا به بعبادة صحيحة، فلأنّ الله بدأ فتكلّم. وديانتهم ليست إلاّ جوابًا على هذه الكلمة.
ليست أولوية الكلمة مجرّد مقولة إيمانية. فنحن ندركها على مستوى المعرفة التاريخية. فديانة العهد القديم قد قدّمت خلال نموّها على مدى الأجيال سمة تجعلها على حدة في تاريخ الديانات: فحاملو كلمة الله أو الأنبياء يلعبون دورًا لا نجده في ديانات أخرى. لا شكّ في أنّنا نرى في أطر أخرى صوفيين تملّكهم حسّ إلهي، فأدركوا حقائق دينية لم يدركها سائر البشر أو ربّما عتّموا عليها. ولكنّ مثل هذه الصوفية لا تتوجّه إلى تحويل الجنس البشري، بل إلى لقاء فردي مع الله والبحث عن خلاص شخصي. أمّا أنبياء التوراة فهم من نوع آخر.
فأساس حياتهم، كما يقولون، لا يقوم بتأمل في الله يؤتي ثمارًا في حياتهم الشخصية، بل في قبول تعليم يُطلب منهم أن ينقلوه إلى سائر البشر لأنّه يعنيهم مباشرة. ثمّ إنّ هذا التعليم لا يتعلّق ببعض وجهات خاصّة أو ثانوية من المسائل البشرية كطريقة تقديم شعائر العبادة أو التغلّب على القلق في وضع حرج. هذا هو وضع الأنبياء في العالم الوثني وهو امتداد لعمل العرافة والكهانة. أمّا في عالم النبوّة التوراتي، فقد تحتلّ ظروف تفصيلية المستوى الأوّل في الفكر (1 صم 9: 20 ؛ 2 صم 24: 12- 15 ؛ 2 مل 3: 16- 19)، ولكنّها في الواقع تجعل المؤمن في منظور واسع. هو منظور مخطّط الخلاص الذي يضمّ إليه كل تاريخ إسرائيل، فيبدو شاملاً ويتّسع اتّساع الزمان والمكان.
فأخبار الدعوات التي احتفظت بها الأسفار المقدّسة، تُبرز بوضوح وجهتين في المهمّة النبوية (خر 3: 1؛ 1 صم 3: 1-18 ؛ 1 مل 13:22-18؛ عا 14:7-15؛ أش 6: 1 ي؛ إر 1 :3 ي؛ حز 1- 3). من جهة، نرى كلمة الله تجتاح حياة إنسان فتفرض نفسها عليه، وبعض المرّات بالقوّة (عا 3:3- 8 ؛ ار 7:20- 9). ومن جهة ثانية، ليس هدف هذه النعمة الخارقة تقديس قابلها أو تعزيته، بل هي تدفعه إلى العمل، وتفرض عليه مسؤوليّات هائلة (حز 7:33- 8). فهي في خدمة الخير العام لشعب الله الذي به يتحقّق مخطّط الخلاص.
هؤلاء هم "رجال الكلمة" (إر 1: 9 ؛ 18:18) الذين كانوا من جيل إلى جيل القوّاد الروحيين في إسرائيل. فنموّ العهد القديم يتمّ دومًا بقيادتهم أو متأثّرًا بكتاباتهم، لا بالصدفة وتحت ضغط الجموع التي تطالب بالإصلاح. وقد يعارضون التيّار السائد بعملهم بحيث يبدو نجاحهم الأخير بشكل غير معقول. هنا نفكّر بإرميا الذي اضطُهد خلال حياته، ولكنّ تأثير كتابه بعد موته فاق كلّ تصوّر.
كل هذا يدلّ على أنّ كلمة الله تشرف بشكل رفيع على هذه المرحلة الأولى من تدبير الخلاص. فسرّ إسرائيل هو قبل كل شيء سرّ هذه الكلمة كما ظهرت في التاريخ.

2- وجهات كلمة الله
عديدة هي وجهات كلأت الله كما تظهر في تعليم الأنبياء. فهي وحي ووعد وقاعدة حياة. وهي ترتبط بالوجهات الثلاث في الترتيب القديم: التاريخ، الإعلان النبوي للخلاص، الشريعة التي تهيئ البشر لحلوله.

أولاً: كلمة الله وحي
إذا كان الناس في العهد القديم قد حصلوا على بعض المعرفة لسرّ الله، فهذا كلّه يعود إلى الوحي الذي حملته كلمته (دا 27:2- 28). فما يكشفه الله هو نفسه. إنّه يكشف عن ذاته حين يتكلّم. ويدلّ على نفسه "كإله الآباء" الذي ظهر لإبراهيم وإسحق ويعقوب ليطلب منهم أن يعبدوه دون سواه. وهو يكشف عن نفسه أنّه "الذي هو" (يهوه، الكائن) (خر 3: 13- 15)، أنّه الفريد والوحيد (تث 6: 4) تجاه الآلهة الذين ليسوا بشيء (أش 41: 24). فالتعليم عن التوحيد في أرض إسرائيل لا يرتكز على حدس يصل إليه الناس، بل على خبرة كلمة منحها الله لبعض أخصّائه.
غير أنّ خبرة الله في كلمته التي انحصرت في بجض أشخاص، قد وصلت إلى كل إسرائيل: فالإله الذي يكشف عن نفسه للأنبياء، هو الذي يفعل أيضاً في التاريخ. وإذ يحقّق قصده على الأرض، يدلّ على السرّ الخفيّ لكيانه. وحين اختبر إسرائيل في مصيره مخطّط الخلاص هذا، اختبر في الوقت عينه عمل الله بشكل ملموس. وهكذا توصّل إلى معرفة الله معرفة تفترق عن تلك التي نصل إليها حين نرى الخليقة (روم 1: 20) أوحين نسمع النداء الداخلي في الضمير (روم 2: 14- 15). إنّها معرفة فائقة الطبيعة، وهي تشبه مخطّط الخلاص عينه.
لا شكّ في أنّ حضور عمل الله في الأحداث لا يُدرَك ان لم تكشفه الكلمة النبوية. في هذا المعنى يرتبط كل وحي بالكلمة. ولكنّ الكلمة لا تكشف عن الله بصورة مجرّدة وبشكل فكرة، بل هي ترجع إلى التاريخ الملموس وتتيح لنا أن نتبع خطوة خطوة تتمّة مخطّط الله. وهكذا ترتبط الوجهة التاريخية في العهد القديم ارتباطاً حميمًا بالكلمة: فالوحي الإلهيّ يتفجّر من تفاعل الكلمة مع التاريخ.

ثانيًا: كلمة الله وعد
لا يكتفي الله بأن يطلع البشر على جزء من مخطّطه تحقّق ساعة تكلّم النبي. فالكلمة تقدّم في كل زمن نظرة إلى المستقبل. فهي تجعلنا ندرك، وإن بصورة غامضة، الهدف الذي إليه يقود الله شعبه. ومهما اقتربنا من النهاية، توضّح هذا الوحي. والأمر جليّ بالنسبة إلى الأنبياء الكبار الذين يتضمّن تعليمهم نظرة إلى الآخرة.
في الماضي، انطبعت كل مرحلة تاريخية في مصير إسرائيل بمواعيد: وعد لإبراهيم (تك 2:12-3؛ 15:13-17 ؛ 15: 1 ي ؛ 19:17- 21؛ 16:22-18) ؛ وعد لموسى (خر 8:3- 10، 17؛ 23: 20- 23) ؛ وعد لداود (2 صم 7: 5- 16). وهكذا تستبق الكلمةُ دومًا التاريخ، وتُعلن مسيرته المقبلة بصورة واضحة أو غامضة.
وهكذا لا يؤكّد الله فقط معرفته المطلقة للمستقبل، بل يدلّ أيضاً على أنّه سيّد الأحداث. فالكلمة التي تكشف مسبّقًا هذه المراحل المقبلة في مخطّط الخلاص، هي أيضاً كلمة تفعل ولا تخطئ (أش 55: 10- 11). هي كلمة دعت العالم إلى الوجود (مز 33: 1) وما زالت تنفّذ على الأرض مشاريع الله (أش 45: 11- 3؛ 8:48- 13؛ حك 18: 15). وهي التي تخلق التاريخ لسعادة البشر أو شقائهم (أش 7:45). وهي تعلن الخلاص ساعة تستعدّ لخلقه (أش 8:45).
وفي النهاية، حين يكشف الله عن مقاصده، فهو يُلزم نفسه بتحقيقها في المستقبل. ويرتبط بمخطّطه بشكل احتفالي ارتباطاً يستحيل عليه العودة عنه (مز 35:89- 36). تلك هي الوجهة الثانية في سرّ الكلمة: إعلان نبوي لخلاص نهائي.

ثالثًا: كلمة الله قاعدة حياة
كلمة الله هي قاعدة حياة. فلا تكشف فقط مخطط الخلاص الذي يتحقّق الآن في تاريخ إسرائيل. ولا تشهد فقط أنّ نجاحه النهائي حاصل لا محالة. بل هي تدلّ البشر أيضاً على ما يجب أن يفعلوه من جهتهم لكي ينعموا بهذا الخلاص. وتتحدّد في وصايا تعبّر عن إرادة الله، وتتّخذ شكل شريعة، وتفرض طاعة تدلّ على خضوع الإرادات الحرة للسيّد السامي على الخليقة والتاريخ (خر 20: 1- 17) إذن، ترتبط الشريعة التي هي الوجهة الجوهرية الثالثة في العهد القديم، بسرّ الكلمة كما ارتبط الوحي والوعد.
فكلمة الله التي هي وحي ووعد وقاعدة حياة، تُشرف هكذا على كل الترتيب القديم الذي هو في الوقت ذاته تاريخ وشريعة ووعد نبوي بالخلاص. فعلى البشر أن يتجاوبوا مع مبادرة الله الذي يتكلّم. لا بدّ من جواب ديني تُملي الكلمةُ الشكلَ الذي يتّخذه: جواب الوحي هو الإيمان، جواب الوعد هو الرجاء، وجواب قاعدة الحياة هو طاعة يلهمها في الوقت عينه مخافة الله ومحبّة مشيئته (تث 5: 32- 6: 13). هذا هو جوهر ديانة العهد القديم. وهذا الموقف الداخلي المثلّث الذي تحرّكه كلمة الله في قلب البشر، يشكّل حياة لاهوتية حقّة تستبق ما يقدّمه العهد الجديد (1 تس 1 :3 ؛ 1 كور 13:13).

ب- سرّ شعب الله
1- إسرائيل شعب الله
لم تتوجّه كلمة الله إلى البشر بصورة فردية. فمخطّط الخلاص لا يهدف فقط إلى توجيه البشر إلى مصيرهم الابدي. إنّه يريد أن يخلّص جنس آدم كلّه، فيعيد بناء وحدته الداخلية "ويجمع كل أبنائه المشتّتين " (يو 11: 52)، ليجعل منهم "شعبًا واحدًا" (أف 2: 14). هذه هي الشريعة الأساسية في تدبير الخلاص، ويتضمّن العهد القديم تطبيقًا ملموسًا لها.
منذ الآن "شعب الله " موجود على مستوى الخبرة التاريخية. فإسرائيل هو الأوّل، وعليه تتطعّم سائر الأمم (روم 11: 16- 24)، تشارك في الخلاص. حينئذ نفهم العلاقة الحميمة بين ديانة موحاة ومجموعة بشرية محدّدة. فإن اعتبرت هذه المجموعة في العهد القديم أنّها وحدها تسلّمت وحي الله، أنّها وحدها نعمت بمواعيد الخلاص، أنّها وحدها كانت أمينة لقاعدة حياة وضعها الله للبشر، فهذا ليس نتيجة تعصّب ذميم. فالله ليس بيهودي. ولكنِّ اليهود واعون أنّهم شعبه. فإسرائيل يتميّز عن سائر الشعوب الوثنية بأنّه يحمل في داخله سرَّا علويًّا يفرزه عن غيره ويُشرف على مصيره. لهذا، تقبّل وحده كلمة الله كوديعة يحافظ عليها (تث 7:4- 8 ؛ مز 19:147- 20).
وتبرز هذه الميزة حين نتطلعّ إلى وضع الجنس البشري. فما نقرأه في تك 1- 11 يدلّ على أنّ كل الجنس البشري جعل في عين الانحطاط الديني والأخلاقي الذي يقوده إلى المصير الواحد. فخبر الطوفان وحدث برج بابل يشكّلان أفضل مثال على ذلك. ونجد نظرة مشابهة في روم 1 :18- 32. فوسط هذا العالم الخاطئ، اختار الله رجلاً ودعاه (تك 12: 1 ي؛ رج أش 2:51). وفي كل جيل من نسله فرز الولد الذي سلّم إليه مقصده، دون أن يهتمّ بشرائع الطبيعة التي تميّز البكر عن سائر إخوته. وفي النهاية، اختار إسرائيل خادمًا له (أش 41: 8). وهذا الاختبار العلويّ المؤسس على محبّة الله (تث 7: 7- 8) جعل منهم "مملكة كهنة، وأمّة مقدّسة" (خر 19: 6؛ رج تث 7: 6؛ 14: 2). فصل الله هذا الشعبَ عن سائر البشر فأقامه في نظام خاصّ به. عاش في هذا العالم وسط سائر الأمم، ولكنّه ليس بكلّيته من هذا العالم. إنّه الشعب المقدّس. هو في الوقت عينه شاهد لله أمام سائر الشعوب والموكّل بخدمته وعبادته. هو مع الله في رباط حميم يتحدّد بالعهد. من هذا القبيل حُفظت له كلمةُ الله، فوجب عليه أن يتجاوب معها بحياة من الإيمان والرجاء والمحبّة. في مصيره التاريخي يتحقّق مخطّط الخلاص، فلا يستطيع أحد أن يدرك الله أو يجد الخلاص إلاّ إذا اتّحد به وشاركه حياته ومصيره. هذا هو نظام الترتيب القديم.
2- سرّ شعب الله وسرّ المسيح
مثل هذا النظام يبدو غريبًا. فإن كان التماثل بين شعب الله ومجموعة وطنية خاصّة يمنحه طابعًا واقعيًا ويقدّم له قاعدة محسوسة، فهو يعارض شموليّة قصد الله. من جهة، طُلب من شعب الله أن يجمع كل البشر ليجعلهم ينعمون بالخلاص. ولهذا، فهو منذ اللحظة الأولى من وجوده التاريخي يتطلعّ إلى ساعة يضمّهم كلّهم في هذا القصد. ومن جهة ثانية، يبدو إسرائيل جماعة مغلقة متصلّبة رافضة للآخرين ومطبوعة طبعًا عميقًا بخصائصها الوطنية. لهذا نلاحظ في كل العهد القديم انشدادًا بين شموليّة دعوته (تك 2 3:1) والنتائج العملية لحياته المعزولة (تث 3:23- 4). لولا هذا السند التاريخي، لما وُجد شعب الله. ومع هذا، فضيق هذا السند يتعارض مع نوايا الله الذي يريد خلاص البشر جميعًا.
فإذا أردنا أن نزيل التعارض ليتكوّن شعب واحد من اليهود والأمم الوثنية، لا بدّ للمسيح في نهاية الأزمنة، أن يحطّم الحاجز الموقّت الذي يفصل بين الفئتين، وأن يصالحهما مع الله في جسده بواسطة صليبه (أف 2: 14- 16). حينئذ يظهر سرّ شعب الله في أبعاده الحقيقية فيصبح سرّ الكنيسة التي هي جسد المسيح. ولكن يبقى أنّ هذا السرّ تدشّن على الأرض منذ العهد القديم بشكل ناقص في شعب إسرائيل.

ج- سرّ عهد الله
1- إسرائيل شعب العهد
حين أراد العهد القديم أن يحدّد طبيعة الرباط الموجود بين الله وشعبه، استعمل كلمة "بريت " (دياتيقي في اليونانية). تدلّ هذه اللفظة على ترتيب قانوني يجد نموذجه في معاهدات الشرق القديم. الله يفرض شروطه ويطلب من شعبه أن يحفظ ميثاقه (تك 9:17، 19: 5). أمّا هو فيلزم نفسه بوعد. يتحدّث النصّ عن "قطع العهد" (تك 17:15؛ خر 8:24) عن إقامة العهد (تك 19:17، 21)، عن منح العهد (تك 17: 2). فمن الله تأتي مبادرة الدخول في ميثاق (حز 16: 8) مع الجماعة البشرية التي يريد أن يجعلها شعبه.
فاختيار إسرائيل يجد تكريسه التاريخي حين يُعلَن العهد والميثاق. هناك عهد سيناء. ولكنّ عهد الآباء (تك 15: 1 ي؛ 17: 1 ي) يستبق نتائجه، لأنّ عهد إبراهيم لا يعني نسلَه وحسب، بل كل أمم الأرض. وحسب العبارة التقليدية التي تترجم الطابع الوثيق للعلاقات بين الله وجماعة بشرية، يصبح يهوه إله إسرائيل، ويصبح إسرائيل شعب يهوه (تث 12:29؛ لا 12:26 ؛ ار 23:7 ؛ حز 11 : 20).
فالألقاب المعطاة لإسرائيل تعبّر بأشكال متنوّعة عن الرباط الذي يربطه بالله. إنّه ملكه (خر 19: 5؛ تث 7: 6) وقدسه (ار 2: 3) وميراثه (تث 29: 6). وهناك صور تدلّ على علاقات المحبّة: يهوه هو الراعي وإسرائيل هو القطيع (مز 80: 2؛ 94: 7). يهوه هو الكرّام وإسرائيل هو الكرمة (أش 5: 1 ي؛ مز 80: 9 ي). يهوه هو الأب وإسرائيل هو الابن البكر (خر 4: 22؛ هو 11: 1). يهوه هو الزوج وإسرائيل هو الزوجة (هو 2: 4؛ إر 2: 1 ي ؛ حز 8:16؛ أش 54: 4- 10). كل هذه العبارات تحدّد بنية أساسية في مخطّط الخلاص وسيستعيدها العهد الجديد لكي يحدّد عمل يسوع الذي هو الكنيسة.

2- سرّ العهد وسرّ المسيح
إنّ مخطّط العهد الذي تدشّن في العهد القديم قد وصل إلى هدفه النهائي بيسوع. فعهد سيناء كان رسمة سريعة. أمّا العهد الحقيقي والكامل والنهائي، فهو يُعقَد في دم يسوع على الصليب (مت 28:26 وز؛ عب 25:9- 28)، ويلد شعب الله الحقيقي الذي يرث امتيازات إسرائيل (1 بط 2: 9؛ رؤ 5: 10). وهذا الشعب لا يرتبط بنظام زمني، إنّه جسد المسيح عينه (1 كور 10: 17؛ 12: 13- 27؛ روم 12: 4- 5؛ أف 4: 4؛ 5: 30). ولهذا يتّخذ سرّ عهد الله مع البشر في المسيح، طابع عمق لم يكن العهد القديم ليحلم به. فزواج الله بالجنس البشري يتحقّق في شخص يسوع: حين اتّخذ الكلمة جسدًا، صار رئيس البشرية المفتداة. تضامن مع شعبه فاعتنق مصيره حتّى الموت وسفك الدم، فختم عهده مع البشر وأعطاهم سلطانًا أن يشاركوا في الطبيعة الإلهية التي يمتلكها هو في ملئها.
دخل سرّ العهد في التاريخ بصورة ناقصة بواسطة العهد القديم، ولكنّه كمل بالتجسّد الذي كان الصليب نتيجته الأخيرة.

د- حضور المسيح في العهد القديم
وهكذا يتضمّن العهد القديم تحقيقًا ملموسًا لثلاث وجهات جوهرية في مخطّط الخلاص ستجد كمالها التامّ في سرّ المسيح: سرّ كلمة الله، سرّ شعب الله، سرّ عهد الله مع البشر وفي كل هذه الوجهات المرتبطة بعضها ببعض، يتدخّل سرّ المسيح كلّه.
نحن لا نقول إنّ العهد القديم هو بمثابة وسيلة بالنسبة إلى سرّ المسيح: فالسرّ هو حاضر بشكل من الأشكال في الترتيب الذي يهيّئ مجيئه في التاريخ. سبقنا وقلنا إنّ هذه الكلمة التي تتوجّه إلى البشر والتي تخلق سلسلة الأحداث التي يتوجّها تجسّد الكلمة، هي كلمة الله نفسه.
إنّ شعب إسرائيل مدعوّ لكي يحقّق هذا المثال وإن بطريقة ناقصة، أن يكون كنيسة المسيح وعروسه وجسده. وإن كان إسرائيل موضوع اختيار ودعوة من قِبَل الله، فمن أجل هذه الكنيسة ومن أجل المشاركة في سرّها. قال القدّيس أوغسطينس في عظة عن الشهداء المكّابيين: "لا يظنّن أحد أنّه قبل أن يكون شعب مسيحي لم يختر الله له شعبًا. وإذا أردنا أن نتكلّم بالحقّ، لا حسب عبارة جارية، شعب العهد القديم كان شعبًا "مسيحيًّا". فالمسيح لم يبدأ فقط بأن يكون له شعب منذ آلامه. فله الشعب المولود من إبراهيم الذي شهد له الرب هذه الشهادة: رغب إبراهيم أن يرى يومي فرآه وابتهج. إذًا، من إبراهيم ولد هذا الشعب الذي كان عبدًا في مصر، ونجا بيد قديرة من بيت العبودية بواسطة موسى خادم الله، واقتيد عبر البحر الأحمر على الأمواج الحقيرة، وتجرّب في البرّية وخضع للشريعة. لهذا الشعب مكانته في الملكوت، وهو الذي خرج منه الأنبياء والشهداء (المكّابيون). لا شكّ في أنّ المسيح لم يكن قد مات بعد. ولكنّه كان مزمعًا أن يموت، فصنع لنفسه هؤلاء الشهداء". لقد عبّر القدّيس أوغسطينس بهذا الكلام عن رأي التقليد المسيحي على مرّ العصور. إذا كان المسيح حاضرًا هكذا في سرّ الكلمة، وإذا كانت كنيسته حاضرة في سرّ شعب الله، نفهم أنّه لا يجب أن ننظر إلى عهد سيناء، على نقصه، كأنّه انعكاس باهت لعهد مقبل، وكأنّه رسَمَ من الخارج سماته العميقة. فسرّ العهد هو سرّ الله مع البشر وقد حقّق نظامُ سيناء بعض هذا السرّ. به يشارك إسرائيل حقًّا، وإن كانت مشاركة ناقصة وبشكل موقّت بالعهد الذي ينطلق من مولد عمّانوئيل (أي إلهنا معنا، مت 1 :23) ويُختم في دمه، في العهد الذي سيتمّ في كماله في أورشليم السماوية حيث يكون عمّانوئيل إلههم (رؤ 3:21).
حين يدعو الله إسرائيل "شعبي " في العهد القديم، لا يكفي أن نقول إنّه يفعل ذلك بالنظر إلى المسيح الذي سيتجسّد فيه. فهذه الطريقة في الكلام لا تتطلعّ إلى مخطّط الله إلاّ من زاوية مساره في التاريخ. ولكن لا بد من التطلعّ إليه من زاوية أخرى. فكلمة الله سابق لكل الأجيال وهو معاصر لكل الأجيال. فقبل أن تكشفه رسالته في وضح النهار، فهو حاضر بشكل سرّي في عمله على الأرض. ففيه وبه كلّم الله إسرائيل وجعله شعبه ومنحه عهده مستبقًا بصورة خفيّة مجيء الخلاص في الزمن.

II- حياة إسرائيل في سرّ المسيح
تطلّعنا إلى العهد القديم من زاوية عمل الله: الله يتكلّم، الله يختار شعبًا ويمنحه عهده. وهكذا يبدأ بتحقيق مخطّط خلاصه. أمّا الآن فنقف من جهة الشعب. فمخطّط الخلاص ليس بالنسبة إليه موضوع إيمان نظري، بل واقع معاش. من هذه الزاوية، سرّ المسيح هو حاضر في العهد القديم، وخبرة إسرائيل هي خبرة تستبق هذا السرّ. فالتقليد المسيحي كلّه يقول بواقع هذا الحضور على خطى العهد الجديد. ولكن يبقى أن نعرف كيف يكون هذا الحضور.

أ - حضور المسيح في حياة إسرائيل
لن ننظر هنا إلى حياة شعب الله في العهد القديم حسب المراحل المتعاقبة في مسارها التاريخي، بل حسب العناصر الروحية الدائمة التي تجعلها قريبة من الحياة المسيحية. إنّها حياة لاهوتية، حياة إيمان. وهي بالتالي تحمل إلى البشر برًّا داخليًا، يجعلهم في رضى الله. هذا ما قاله سفر التكوين (15: 6) عن إبراهيم: "آمن بالله فحسب له ذلك برًّا". وهذا الإيمان الذي برّرأبا الآباء ، هو في نظر العهد الجديد مثال الإيمان المسيحي نفسه ( غل 6:3؛ روم 1:4 ي؛ رج يع 23:2). ونحن نفهم هذا التشابه إيماناً عاشه رجال العهد القديم في سرّ المسيح الذي كان لهم موضوع عقيدة ومبدأ تبرير.

1 – سر المسيح موضوع إيمان
أوّلاً : ما هو الإيمان
ليس الإيمان فقط عملا" فكريًا به نتعلّق بحقائق موحاة بسبب سلطة الله التي توحيها.
فهذه النظرة اللاهوتية لا تتوافق ومدلول الكلمة في الكتاب المقدّس . فالكلمة أوسع وأغنى.

- الإيمان وكلمة الله
اذا عدنا إلى لغة الكتاب المقدّس ، لاسيمّا عند القدّيس بولس والقدّيس يوحنّا ، نرى أنّ الإيمان يلزم الإنسان كلّه . إنه جواب الإنسان إالى الله الذي يكلّمه . إنه تقبّل الكلمة (1 تس 6:1 – 7). حين تقبّل التسالونيكيون الكلمة صاروا مثالاً لكل المؤمنين . وفي روم 17:10: "ولد الإيمان من الكرازة ، التي أداتها كلمة المسيح".
الإيمان هو سرّ هذه الكلمة التي يعيشها الذين يتقبلونها . وكما أنّ للكلمة ثلاث وجهات (وحي ، وعد، قاعدة حياة) ينتج أنّ لحياة الإيمان أيضاً ثلاث وجهات مترابطة: يتضمّن تقبّل وحي الله ، ويتضمن تأكيدًا مؤسّسًا على مواعيد الله ، ويتضمن طاعة لشريعة الله التي هي معيار المخافة الدينية ومحبّة الله . وبمختصر الكلام ، إنّ حياة الإيمان هي خبرة لاهوتية تامّة يكوّنها الإيمان الحيّ وهو يتضمّن الرجاء ويتكوّن بالمحبّة.

- الإيمان موقف شخصي
نستطيع أن نتطلّع إلى الإيمان من وجهتين : إمّا بالنسبة إلى موضوعه ، وإمّا بالنسبة الى الموقف الشخصي. من هذه الوجهة الثانية يبدو الإيمان في العهد القديم كالموقف الأساسي عند الإنسان الذي يدخل في علاقة مع الله . ونحن نفهم هذا الواقع بسهولة اذا تطلّعنا إالى مكانة سرّ الكلمة في تدبير الخلاص. تحدّثنا عن مثل إبراهيم. وهناك مثل آخر في سفر الخروج: حين رأى العبرانيون الآيات التي اجترحها موسى، "آمنوا بالله وبموسى عبده " (خر 14: 31؛ رج 4: 31). ومُقابل هذا، يوبّخ الله شعبه لأنّه لم يؤمن (عد 14: 11؛ تث 23:9). ونجد التوبيخ عينه في فم أشعيا (7: 9). أمّا في سفر يونان، فالينبوع الأوّل لخلاص نينوى هو إيمان بكلمة النبي (يون 5:3).
فانطلاقًا من هذه الأمثلة يبدو الإيمان التصاقًا بكلمة الله التي تتضمّن تأكيدًا على متانتها (وحي ووعد) وأمانة لمتطلّباتها (قاعدة حياة). هذا هو الإيمان الذي به يحيا البارّ (عب 4:2).
والموقف الروحي المصوَّر هنا لا يفترق في شيء عن الإيمان الذي يتحدّث عنه العهد الجديد. فقد قدّم القدّيس بولس إبراهيم كمثال للمسيحيين وبنى على نصّ حبقوق تعليمه عن التبرير (غل 2: 4؛ روم 1: 17). وجعلت الرسالة إلى العبرانيين من الأقدمين "سحابة من الشهود" يدعونا لنحيا الإيمان على خطى يسوع الذي هو الرئيس الذي يوصل هذا الإيمان إلى كماله (عب 12: 1- 2؛ رج 11: 1 ي).
ولاهوت القدّيس يوحنّا يربط بين الإيمان بالله والإيمان بالمسيح (يو 14: ا). وينقل إلى الإيمان بالمسيح سلطان إعطاء الحياة الأبدية (يو 3: 15؛ 6: 40، 47). إذن هناك تماثل بين إيمان العهد القديم وإيمان العهد الجديد: هو تقبّل الكلمة الذي يصبح تقبّل شخص حيّ هو المسيح الذي صار جسدًا.

ثانيًا: موضوع الإيمان في العهدين
- المسألة
إنّ مبدأ تماثل الإيمان بين العهدين يصطدم بصعوبة مهمّة. فإن توقّفنا عند وجهة المعرفة الدينية، وإن حاولنا أن ننظم هذه المعرفة الدينية في نهج متماسك، هل نستطيع أن نحدر إيمان العهد الجديد إلى إيمان العهد القديم؟ أن نرى في العهد القديم تطوّر الأفكار حول الله ، حول الإنسان، حول علاقتهما، حول الخلاص؟
إذا كان هناك اختلافات هامّة داخل العهد القديم، فكيف نقابل بين معتقدات اليهود ومعتقدات المسيحيين؟ وما نقوله عن الإيمان نقوله عن الرجاء: هل رجاء معاصري المسيح هو رجاؤنا؟ موضوع مواعيد سيناء هو ازدهار مادّي، أمّا نحن فنرجو قيامة الموتى التي لم يتحدّث عنها شعب إسرائيل في أوّل أسفاره.

- موضوع الإيمان في منظار وجودي
نترك موقّتًا الأفكار الدينية المحدّدة وننظر إلى الحوار الفعلي بين الله والإنسان الذي ينطلق من كلمة الله ويشكّل الإيمان جوابه. فالإيمان لا يعني فقط قبولاً ببعض الحقائق، بل أن نستسلم إلى كلمة إله واحد هو خيرنا السامي. الإيمان هو ثقة بالته. وعبر الحقائق الموحاة والمدلولات التي تعبّر عنها، نحن نصل إلى ينبوع الوحي. يسلّم الإنسان نفسه إلى الله، والله يفعل الباقي. وعندما يكون الإيمان حيًّا فينا، فهو يتجاوز الأفكار المجرّدة والتعابير العقائدية ليتعلّق بالته نفسه. نحن نؤمن بهذه العقيدة أو تلك. ولكنّنا نؤمن خاصّة بالله الذي يوحي إلينا بها. نحن لا فتوقف على الحقائق الجزئية، بل على الحقيقة الجوهرية التي هي الله.
ما هي هذه الحقائق الجزئية؟ من أنا؟ من هو هذا الذي أنا واقف أمامه؟ ما هي الشروط التي تساعدني على الاتّصال به؟ ليس من حقيقة إيمانية إلاّ وتدخل في هذا الحوار الداخلي والسرّي الذي يتواصل بين الله والإنسان في ظلمة الإيمان قبل أن ينتهي في الرؤية وجهًا لوجه. فالإيمان والرؤية هما في جوهرهما معرفة علوية واحدة في مرحلتين متعاقبتين: مرحلة التنقية على الأرض، ومرحلة قطف ثمرة السعادة. فموضوع الإيمان هو في الوقت عينه سرّ الله وسرّ هذا الحوار الذي نواصله معه. السرّ هو معروف ومعاش معًا. وهو في أساسه لا يختلف من مرحلة إلى أخرى. ما يفترق هو درجة الوعي المعطى للمؤمنين، والوضوح الذي به يعرفون.
فوحدة السرّ هي من العمق بحيث إنّنا نؤمن به كاملاً حين نتقبّل الكلمة التي توحي وجهة من وجهاته. وهذا السرّ قد عاشته الأجيال الأولى في يسوع المسيح. فالعمل الذي به يؤمن الإنسان لا يتمّ إلاّ بالنظر إلى نعمة المسيح، بمشاركة مسبقة في سرّ المسيح رئيس البشرية الجديدة. فالإيمان هو في الوقت عينه معرفة لسرّ المسيح وخبرة حياتية له. والمعرفة التي يتضمّنها تصبو إلى واقع نعيشه. وإن ظلّت هذه المعرفة ناقصة، فالحقيقة موجودة كلّها بصورة ضمنيّة في فعل المعرفة هذا، في هذه الخبرة اللاهوتية التي تتعدّى العقل.

2- سرّ المسيح مبدأ تبرير وتقديس
حين عرضنا مسألة التماثل بين إيمان العهد القديم وإيمان العهد الجديد، توقّفنا عند وجهة المعرفة. وقلنا إنّ هذه المعرفة تتأصّل في خبرة لاهوتية أوسع تُلزم الإنسان كلّه: هي خبرة الحياة مع اللّه. لهذا سوف نتطلعّ إلى حياة شعب الله من هذه الزاوية الجديدة. فق العهد القديم لا يُعرف سرّ المسيح فقط بشكل مسبّق وبطريقة متضمّنة. حين التصق المؤمنون به مسبّقًا بإيمانهم نعِموا بثماره.
لهذا سننطلق من النصوص لزى كيف تُحدِّثنا عن حياة الإنسان مع الله.

أوّلاً: الحياة مع اللّه في العهد القديم
- عبارات مختلفة عن الحياة مع الّه
حين تُحدّثنا النصوص عن الحياة مع الله، فهي تلجأ إلى عبارات مختلفة. مثلاً على مستوى الصداقة مع الله. هذا ما نقوله عن إبراهيم (خليل الله) نموذج المؤمنين (أش 41: 8؛ 2 أخ 20: 7) كل النفوس التقيّة (حك 27:7). وعلى مستوى حياة مشتركة بين اللّه والإنسان. هناك ذبائح السلامة والمشاركة التي يتحدّث عنها سفر اللاويين (3: 1 ي). وهناك أقوال نقرأها في المزامير فتدلّ على الثقة والاطمئنان: "الجودة والرحمة تتبعاني جميع أيّام حياتي وسكناي في بيت الرب طول الأيّام " (مز 23: 6). "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب طوبى للرجل المتوكّل عليه " (مز 9:34). "إلى الله اسكني يا نفسي فإنّ منه رجائي. خالتي هو ومخلّصي، ملجأي فلا أتزعزع " (مز 7:62).
في هذا المنظار نقرأ نصوصاً تحدّثنا عن عملية التبنّي لدى الله: العلاقة بين الله وشعبه إجمالاً (خر 4: 22- 23، هو 11: 1؛ ار 31: 9)0 العلاقة بين الله والملك (2 صم 7: 14، مز 89: 31- 34)0 العلاقة بين الله كل فرد من شعبه (تث 32: 5- 6، أش 1 :2، حك 13:2 ،5:5).
ونقول الشيء عينه عن المقاطع التي تَعِد الأبرار (حب 2: 4) والذين يمارسون الشريعة (تث 4: 1، لا 18: 5، حز 20: 11) بالحياة. لقد لاحظ الشرّاح أنّنا أمام حياة على الأرض وجزاء لا يتعدّى هذه الدنيا. ولكنّ الكاتب الملهم ينظر إلى هذه الحياة كاشتراك في حياة الله الحيّ. وسيأتي يوم يعبّر النصّ بوضوح عن الحياة الأبدية (دا 12: 2، حك 5: 15، رج 3: 1- 3). إن لم يكن هناك ما يشير إلى الحياة الفائقة الطبيعة، فهناك ما يقودنا من صورة الفردوس وشجرة الحياة (أم 18:3، 11: 30 ؛ سي 13:24- 21) إلى فكرة الخلود وعدم الفساد (حك 18:6- 19، رج 23:2).
الصداقة مع الله ومشاركته في حياته تفترضان غياب الحاجز الذي هو الخطيئة. والحال أنّ كلّ إنسان خاطئ. ومع ذلك فالاتّحاد مع الله ممكن. هذا يفترض غفرانًا حقيقيًا للخطايا السابقة (أش 2:45، 22:44، مز 32: 1- 5، 130: 1 ي) وتنقية القلب (أش 1 :18، حز 36: 25؛ مز 51: 4، 9). وحين يتحقّق الغفران، يستطيع الإنسان أن يقول إنّه في حال البرارة والقداسة.
موضوع القداسة هو موضوع ديني. إنّه يفترض مشاركة في صفة خاصّة بالته تجعله قدّوسًا ثلاث مرّات (أش 6: 3)، وتفصله عن كل خليقة دنيوية. القداسة هي ميزة الشعب كلّه (خر 19: 6 ؛ تث 7: 6). وعلى كل فرد من أفراد الشعب أن يشارك في هذه القداسة: يحفظ الشريعة ليكون قدّيسًاكما أنّ الله قدّوس (لا 19: 2). ومن يتصرّف هكذا يُعتبر من القدّيسين (حك 7: 27).
ويرتبط موضوع البرارة بموضوع القداسة، فيشدّد بالحريّ على صفة أخلاقية عند الإنسان. يكون الإنسان بارًّا في نظر الله (تك 7: 1) حين يتصرّف بحسب إرادة الله (تث 6: 25). هذا هو المثال المعروض على الجميع. وهذه البرارة تؤمّن بركة الله (مز 13:5) وتتيح لنا أن نقترب منه (مز 15: 1- 2). البرارة هي في متناول الإنسان، وقد حصل عليها نوح (تك 7:7) وإبراهيم (تك 15: 6).
وافرة الأخيرة للبرارة والحياة مع الله هي التعزية بعد المحنة (أش 40: 1، ار 31: 9) والشفاء بعد الألم (هو 13: 5، أش 57: 19 ؛ 58: 5) والفرح (أش 3:51، 18:65، 66: 10، ار 13:31 ؛ مز 51: 14) والسلام (أش 7:51، 12:66؛ 19:57) والسعادة (أش 51: 7 ؛ تث 6: 24). كلّ هذه المفردات مأخوذة من خبرة الراحة لدى البشر، ولكنّها تمتلك هنا رنّة دينية، لأنّ الحياة مع الله هي في ذاتها ينبوع فرح عظيم (مز 16: 1 ي ؛ 25:73-28).

- أصل الحياة مع الله
غير أنّ هذه الحياة مع الله ليست حقًّا مكتسبًا للإنسان. إنّها دومًا عطيّة من لدنه تعالى. فلا نستطيع أن نحصل عليها بصورة آليّة كما بعملية سحر. فالله يكره طقوسًا لا يضع الإنسان فيها قلبه (عا 5: 21 ؛ أش 1: 11- 16؛ إر 12:14 ؛ سي 15: 11). انه يريد نقاوة القلب (أش 1: 16) ولا يلتفت إلاّ إلى الأبرار (سي 35: 6، 16). ولكن هل يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذه البرارة؟ نعم ولا. هناك احتجاج يفترض أنّ الإنسان هو بارّ (مز 7 ؛ 17 ؛ 26). ولكن وعى المؤمنون خطيئتهم فتيقّنوا أنّ الإنسان خاطئ من بطن أمّه (مز 51: 7). ليس من أبرار على هذه الأرض (مز 14: 1- 6؛ ار 5: 1- 3 ؛ 7: 2). فليس من حيّ يتبرّر أمام الله (مز 143: 2؛ أي 9: 30- 32).
فاذا استطاع الإنسان أن يقول إنّه تنقّى من خطيئته، فهذا يعني أنّ الله غفرها له (مز 32: 1- 2). فهو وحده ينقّي القلوب (حز 25:36 ؛ مز 4:51، 9)، ويكتب فيها شريعته بحيث يحفظها الإنسان (ار 31: 33؛ حز 26:36؛ مز 9 11: 36). يخلق من جديد الخاطئ في الأعماق (مز 51: 12).
ليس من بارّ أمام محكمة الله الذي يمتلك برارة من نوع آخر تقوم بأن يخلّص البشر (مز 51: 6، 8؛ رج 31: 2؛ 143: 1). وهذه البرارة هي شكل من أشكال الحبّ والرحمة والحنان (خر 33: 19؛ تث 5: 10؛ هو 11: 8- 9؛ 13: 5؛ ار 31: 3 ؛ 32: 18؛ مز 18: 51) كما تنكشف في العهد القديم.

ثانيًا: الحياة مع الله وسرّ المسيح
- ماذا يقول العهد الجديد
العهد الجديد هو تحقيق الخلاص الموعود به في ملء الزمن. واللافت هو أنّ الحياة مع الله كما يحملها المسيح إلى البشر كنتيجة إيمانهم، تحدَّد كما في العهد القديم: النعم المعطاة في الأزمنة الأخيرة، الخبرة الدينية الملموسة.
بالمسيح جاءنا البرّ (روم 3: 24؛ 8: 30) والقداسة (1 كور 1: 2؛ روم 22:6؛ عب 1: 10) وغفران الخطايا (روم 6:5 ؛ أع 38:2) وتنقية القلب (أع 15 : 9؛ تي 2: 14) ونعمة التبنّي (غل 4: 5؛ روم 8: 15، 23) والحياة (روم 6: 11؛ يو 6: 51) والشركة مع الله (1 يو 1: 6) والفرح والسلام (غل 5: 22) والسعادة (مت 3:5 ي).
إذن هناك تماثل جوهري بين هذه القيم المسيحية وتلك التي حملتها معها الحياة الإلهية في العهد القديم. وهذا لا يدهشنا إذا عرفنا الدور الذي لعبته كلمة الله وحكمته وروحه. نحن هنا أمام استباق لتجسّد الابن كلمة الله وحكمته، ولمهمّة الروح محيي البشر ومقدّسهم في كنيسة المسيح. فتبرير البشر وتقديسهم في العهد القديم هما نتيجة حكمة الله وروحه، هما ثمار مسبّقة لسرّ المسيح الآتي.

- المسيح والأبرار في العهد القديم
نصل هنا إلى وجهة مهمّة من هذا السرّ الذي فيه وجد مخطّط الخلاص كماله في التاريخ. تحقّق في نهاية الأزمنة، ولكنّه كان في شكل من الأشكال حاضرًا في كل الأزمنة. فإن أعيد الرباط بين الله والبشر منذ العهد القديم بحيث صاروا شعبه وصار إلههم، بحيث اتّحدوا به اتّحادًا حقيقيًا وشاركوه في حياته، فكلّ هذا كان علامة ظاهرة بأنّ صليب يسوع وقيامته بدأ ا يفعلان منذ ذلك الوقت وقبل أن يتّخذا مكانتها في مسار التاريخ. فبما أنّه لا خلاص ولا فداء ولا عطيّة روح إلاّ بيسوع المسيح وفيه، بما أنّه ليس من اسم آخر تحت السماء نستطيع به أن نخلص (أع 12:4)، فلا يمكن أن نتخيّل برًّا أو قداسة لا يكون يسوع ينبوعها العميق. فحتى قبل يسوع المسيح لم يكن من أبرار وقدّيسين إلاّ في يسوع المسيح.
هنا نذكر إكلمنضوس الإسكندراني الذي شدّد على وحدة العهد الذي يمنح جميع البشر الخلاص خلال الترتيبات المتعاقبة التي تجعله حاضرًا على الأرض. قال في موشّياته (13:6): "ليس هناك في الواقع إلاّ عهد واحد. وهو الذي حمل الخلاص منذ بداية العالم، وجاء إلينا، هذا إذا فهمنا أنّه متنوّع في مواهبه حسب الأجيال والأزمنة المختلفة. فمن الطبيعي أن تكون عطيّة الخلاص واحدة لا رجوع عنها، وقد جاءت من الإله الواحد بواسطة الرب الواحد. فهو يعيننا بطرق مختلفة وهو الذي يلغي الجدار المتوسّط الذي يفصل اليوناني عن اليهودي لئلاّ يبقى شعب مختار واحد. وهكذا وصل الشعبان إلى وحدة الإيمان، فصار من الشعبين شعب واحد".
إنّ الكنيسة جسد المسيح هي في الواقع أقدم مّما يقوله مسار تاريخ الخلاص. هنا نتذكّر قول أغوسطينس في المزامير (3:35- 4): "المسيح هو رأسنا ونحن أعضاء جسده. هل نحن وحدنا دون الذين كانوا قبلنا؟ فكل الذين كانوا منذ بداية العالم وكانوا أبرارًا رأسهم هو المسيح. فقد آمنوا بمجيء الذي نؤمن نحن بمجيئه. وشفوا بالإيمان عينه الذي به شُفينا نحن، ليكون رئيس مدينة أورشليم كلّها، ليكون رئيس كل المؤمنين الذين أحصيت أسماؤهم منذ البداية إلى النهاية، والذين نزيد عليهم أجواق السماء وجنود الملائكة. وهكذا تكون اورشليم هذه مدينة واحدة بامرة ملك واحد، مقاطعة واحدة بامرة امبراطور واحد في سعادة وسلام وخلاص دائمين. سعادة تمدح الله ولا تنتهي. هذا هو جسد المسيح الذي هو الكنيسة".
ولكن يُطرح السؤال: كيف ادرك الإيمان موضوعه قبل أن يُكشف عن سر المسيح كشفًا كاملاً؟ إن إيماننا يمتلك أساسًا ملموسًا هو تحقّق السرّ في التاريخ. والإيمان الذي سبق مجيء المسيح؟ هذا ما سنحاول أن نتفحّصه.

ب- كيف كان سرّ المسيح حاضرًا في العهد القديم
نحن أمام مفارقة من مفارقات التعليم المسيحي أن نؤكّد فاعلية مسبّقة لحدث التاريخ الحاضر في فكر الله منذ بدء الزمن والحاصل في تاريخ مؤخّر بالنسبة إلى هذه البداية. فإذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار البنية التاريخية لمخطّط الخلاص والفاعلية الخاصّة بالحدث الفريد الذي يكمّله، لا بدّ من التمييز بين شكلين لحضور المسيح الفادي وعمله، يرافقان المرحلتين المتعاقبتين في تحقيقه على الأرض.
كيف كان حضور المسيح خلال أزمنة التهيئة؟ نقول إنّ أبرار العهد القديم كانوا أبرارًا بالنظر إلى النعمة المعطاة في يسوع المسيح، بالنظر إلى استحقاقاته. فإن كان الله يعلن رضاه علينا كأعضاء فاعلين في جسد ابنه الحبيب، فهو يعلنه أيضاً على أبرار العهد القديم المرتبطين بالمسيح مهما كانوا بعيدين في التاريخ عن ينبوع حياة أبناء الله.
الاتّصال بالكلمة والمشاركة مع الروح يتمّان لنا بعلامات فاعلة هي الكنيسة وتدبيرها الأسراري اللذان هما امتداد لبشرية يسوع وأعماله الخلاصية. وهكذا نمتلك منذ الآن عربون الخلاص (2 كور 1: 23 ؛ 5: 5 ؛ أف 1: 14). أمّا بالنسبة إلى آبائنا في الإيمان، فهذه الموهبة الإلهية عُرفت واقتُبلت بشكل ناقص عبر علامات ناقصة تعلن العطيّة المقبلة، عبر الظلّ كما قالت الرسالة إلى العبرانيين (10: 1؛ رج 8: 5). كان هناك وقت انتقل فيه أباؤنا في الإيمان من نظام الظلّ وما فيه من مواعيد إلى الواقع: كان ذاك حين نزل يسوع إلى الموت وقام ليدشّن الخليقة الجديدة. حينذاك تقبّل الأبرار الذين عاشوا في الماضي الموهبة الكاملة التي تتم تلك قبلوها قبل الوقت. وحين تحقّق الحدث الذي كان إيمانهم يتطلعّ إليه (مع أنّهم عرفوه بصورة خفيّة) جعل استعدادهم فاعلاً لقبول النعمة التي ينبوعها الوحيد هو يسوع المسيح.
وهكذا دخلوا معه في نظام الأمور الأخيرة التي أعدّوا لها، التي تاق إليها إيمانهم ورجاؤهم، التي قبلوها بصورة مسبّقة وإن كانت ناقصة.
وهكذا نقول إنّنا نجد في الحياة الدينية المرتبطة بالعهد القديم استباقًا ديناميكيًّا للحياة الدينية في العهد الجديد، كما نجد في العهد الجديد استباقًا ديناميكيًّا لما في حياة السماء. مع العلم أنّ هناك اختلافًا واحدًا: حياة النعمة هي منذ الآن مشاركة في الحياة الأبدية وهي في جوهرها مماثلة لهذه الحياة. أمّا النعمة المعطاة للأبرار في العهد القديم فكانت تكتفي بأن تتعرّف إلى هذا الملء دون أن تتضمّنه. لقد كانت الواقع الذي يتطلعّ إلى الحقيقة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM