الفصل الخامس عشر: العهد القديم في مخطط الخلاص

الفصل الخامس عشر
العهد القديم في مخطط الخلاص

يتضمّن تدبير الخلاص مجمل الوسائل التي استعملها الله ليخلّص البشريّة الخاطئة. وهو يشمل كل حقبات التاريخ: منذ الخطيئة الأولى حتّي الدينونة الأخيرة. ومركز الثقل فيه هو الحدث الذي به تمّ الخلاص على هذه الأرض، أي: صليب يسوع وقيامته. فعلى الصليب، مات عالم قديم في ذاك الذي تضامن مع خطيئة البشر (روم 3:8: جسد يشبه جسدنا الخاطئ). وفي القيامة تدشّن عالم جديد في ذلك الذي شكّل باكورة الأموات والأحياء (1 كور 15: 20- 28). فهل من مكانة خاصّة للعهد القديم في هذه المجموعة الواسعة؟ وأين تقوم هذه المكانة؟
ونُجمل التعليم في بضع كلمات: يتحقّق مخطّط الله بالنسبة إلى خلاص البشر على مراحل في التاريخ البشري. كان خفيًّا منذ الأزل في الله. وبدأ ينكشف في العهد القديم. وقد أتمّه المسيح في ملء الزمن. لهذا سنُعالج في هذا الفصل مسألتين أساسيّتين. الأولى: ما هو مخطّط الخلاص، وما هي علاقته بالتاريخ البشري؟ الثانية: ما هي مراحل تحقيق هذا المخطّط على الأرض وأين هي مكانة العهد القديم؟

I- ما هو مخطّط الخلاص
تتضمّنِ فكرة الخلاص بوجهتها العامّة عنصرين، عنصرًا سلبيًّا وعنصرًا إيجابيًّا. حين نخلّص إنسانَا ننتزعه من خطر، ننجّيه من حالة الألم والمرض. هذا هو العنصر السلبي. وفي العنصر الإيجابي، يُقام الإنسان المخلَّص في وضع جديد يفترض الصحّة والسعادة والطمأنينة.

سننطلق من هذا الإطار العامّ ونعالج فكرتين، الأولى هي النظرة المسيحية إلى الخلاص: ما الذي يميّزها عن نظرة غير مسيحية؟ والثانية هي مخطّط الخلاص والتاريخ المقدّس. هنا نبحث في إطار الوحي عن علاقة مخطّط الخلاص بالتاريخ البشري.

أ- النظرة المسيحية إلى الخلاص
1- الخلاص في الديانات غير المسيحية
نبدأ فنقدّم ملاحظة منهجيّة: نترك جانبًا ديانات ترتبط بالوحي التوراتي دون أن تكون مسيحيّة. نعني بهذا الكلام اليهودية التي جاءت بعد المسيحية، حيث النظرة إلى الخلاص هي نظرة العهد القديم. نحن أمام وحي ناقص (سوف يكتمل في المسيح) قد تحجّر في بعض عناصره. ونعني أيضاً الإسلام حيث احتفظت فكرة الخلاص برنّة توراتية، بل يهودية، طوّرتها نظرة القرآن إلى الوحي والإيمان وإلى دور محمّد. وتبدو النظرة اليهودية والمسيحية في عمق أصالتها حين نقابلها مع المذاهب الوثنية الكبرى. ونتوقّف عند الديانة اليونانية والديانة البوذيّة. لماذا اخترنا هاتين الديانتين؟ لأنّ الإنجيل واجه في بداية تاريخه الديانة اليونانية، ولأنّ عليه أن يواجه في يوم من الأيّام عبقريّة بوذا الدينية.

أوّلاً: المقابلة الأولى: الخلاص في الديانة اليونانية
ليست الديانة اليونانية في جوهرها ديانة خلاص. تشبّهت بسائر الديانات القديمة، فجمعت منذ البداية عبادة القوى الكونية إلى عبادة المدينة، فاعتقدت بقدَر لا يرحم يرخي بثقله على قلب الإنسان. وهذا القدَر يفرض نفسه على الآلهة والبشر.
وجاءت ردّة الفعل على هذا التشاؤم حمله أفلاطون متأثّرًا بالعالم الشرقي. هناك أمل بالخلود. ولكن كيف تصوّروا هذا الخلود؟ تصوّروه داخل نظرة ثنائية إلى الكون والإنسان. فعالم الأرض الذي يلصقنا به الجسد، هو عالم الأشياء المتحرّكة، عالم الزمن والتاريخ، عالم الألم والشقاء. ولكنّ هناك عالمًا آخر، هو عالم الآلهة، عالم الطوباويين والسعداء، عالم الخالدين واللامائتين. هذا هو العالم الحقيقي لأنّه يفلت من قبضة القدر ولا يعرف التبدّل والتغيّر. ونحن لا نعرفه إلاّ بعد الموت، ساعة تنضمّ نفسنا الخالدة (هي شعلة من النار السماوية، كما قال الرواقيون) إلى العالم العلوي الذي كُوّنت في جوهرها من أجله.
إذن الخلاص في الخلود هو نجاة من العالم الحسيّ والتاريخي الذي يجعل نفسنا سجينة عنده. فالنفس إلهية في أساسها، وتشكّل الحياة على الأرض انحطاطاً بالنسبة لها. وتحوّلت هذه النظرة في الإطار الغنوصي (المبنيّ على المعرفة). فالخلاص بالغنوصية هو خلاص كوني، خلاص من هذا العالم. يجب أن نتنقّى من المادّة لنعيد طبيعة النفس الأثيرية (هي مثل الأثير). وهكذا نفلت من رباطات القدَر الذي لا سلطان له إلاّ على المادّة. فالأثير هو فوق الكواكب. وعندما نعيد إلى العنصر الأثيري نقاوته الأولى، نعيده إلى الله. ولكنّ هذه التنقية ليست على المستوى الأخلاقي. فليس هناك من تنقية من الخطيئة. فالنفس تنجّست ساعة اتّحدت بالجسد. وهي تستعيد نقاوتها بقدر ما تتحرّر من هذا الجسد.
إذن، الخلاص هو تفلّت خارج المحسوس والمتحرّك، خارج التاريخ. والسقطة هي سقطة النفس التي تصبح سجينة الجسد. وطريق النجاة مفتوحة أمام كل إنسان يستعمل التقنية التي تساعده على التفلّت من رباطات الجسد والحواس. هناك التأمّل على طريقة أفلاطون، والارتخاء على مثال الرواقيين، والطقوس السريانية، والغنوصية المحرّرة. وهكذا لا نجد هنا شيئًا علويًا، شيئًا يرتبط بعالم النعمة، ويفترض مخطّط خلاص يتحقّق في التاريخ. فلا خلاص في الديانة اليونانية إلاّ حين نفلت من التاريخ.

ثانيًا: المقابلة الثانية: الخلاص في تقليد بوذا
مهما كان تطوّر التقليد البوذي على مرّ الأجيال، فهو يبدو في كل الحالات على أنه "سبيل إلى النجاة". إذن، فكرة الخلاص عنصر أساسي عنده. ولكن ما هو هذا الخلاص؟ وممّ سينجو الإنسان؟ من وضع يربطه بالالم، لا في هذه الحياة الحاضرة وحسب، بل في الولادات المستمرّة التي يخضع لها. ففكرة نجاة بالموت كطريق عبور إلى عالم سعادة، أمر غير معقول. فالموت هو عبور إلى مرحلة أخرى من مراحل الصيرورة. فالمسألة المطروحة هي: كيف نُفلت من هذه الدائرة؟ كيف نخرج من دولاب الولادات؟ كيف ننجو من الصيرورة والوجود الذي يربطنا بها؟ كيف ننجو من الألم الذي ينتج عن هذه الصيرورة؟
لن نبحث عن "سبيل النجاة" هذا لا في الفلسفة، ولا في الشعائر الطقسية ولا في الحياة النسكية. لا وسيط في البوذية. فبوذا المستنير هو معلّم يشركنا في اكتشافه ويدعونا لكي نقوم بأنفسنا بهذه النجاة.
هناك رغبة في الحياة، رغبة في السعادة، رغبة في كل ما يربطنا بعالم الظواهر. وهكذا يجتذبنا دولاب الصيرورة. فإذا أردنا النجاة، أمتنا فينا هذه الرغبة. أمتنا العطش إلى الأشياء، بل العطش إلى أن نكون. حينئذ تُدمَّر أصول الألم وندخل في الزمان الذي هو قطب الانخطاف السلبي.
ما الذي نحصل عليه؟ لا السعادة، بل نهاية وضع مؤلم. وذلك بواسطة تقنيةِ حكمة لا تتحدّث عن الله. فلا حاجة إلى نعمة علوية. فكل يخلّص نفسه بنفسه. أمّا النجاة فهي انفلات من هذا العالم، بل من كل وجود يمكن أن نتصوّره.

2- المسيحية والخلاص
تتسجّل الفكرة البيبلية عن الخلاص منذ العهد القديم في مقولات مختلفة سيعطيها كامل معناها وحي العهد الجديد. فإليك نقطة الانطلاق ونقطة الوصول.

أوّلاً: نقطة الانطلاق
الخلاص، كما يتصوّره الوحي البيبلي، يحرّر الإنسان من وضعه الحالي. ولكن من أين يأتي هذا الوضع؟ ما هي عناصره المكوّنة وأيّ عنصر هو ينبوع الشرّ الذي يحصل للبشر؟ نُبعد أوّلاً الفكرة التي تتحدّث عن سقطة ميتافيزيقية، سابقة للزمن والتاريخ، بها صارت نفوسنا الروحية سجينة جسد مادّي. فالفلسفة الثنائية، سواء عبّرنا عنها في شكل مجرّد أو في سطرة، لا تعطي فكرة عن وضعنا الحالي. لماذا؟ لأنّها تتجاهل حقيقتين أساسيتين. من جهة، الخليقة كلّها، الخليقة المادّية والروحية هي صالحة في الأساس. فسفر التكوين يكرّر هذه العبارة: "ورأى الله ذلك إنّه حسن ". من جهة ثانية، يشاركنا كياننا في الوقت عينه في وضع الأجساد والأرواح، فيمتلك وحدة ملموسة يتضامن فيها اللحم والدم مع الروح.
إنّ النظرة المسيحية إلى الكون والإنسان تترك الفكر اليوناني، وتربط أصول الوضع البشري بخطيئة في تاريخ البشر. فتعليم الخطيئة الأصلية يتضمّن خطيئةً شخصيّة اقترفها أبوانا الأوّلان، وتضامنًا بين كل أفراد البشرية. قد نطرح هنا أسئلة متعدّدة. كيف تمّت هذه الخطيئة؟ فالتوراة تحدّثنا عنها بطريقة مصوّرة. ما كان امتداد الفرع البشري الذي أخطأ؟ هل نحن أمام رجل وامرأة فقط أم أمام مجتمع بدائي أوسع؟
نضع هذه الأسئلة جانبًا. ولكنّنا ندمّر المدلول البيبلي للخلاص إذا رفضنا مبدأ خطيئة إرادية أدخلت الشرّ إلى العالم، أو رفضنا مبدأ التضامن الذي يفسّر كيف أن نتائج الخطيئة شملت الكون كلّه. منذ بداية التاريخ، انقطع الإنسان عن الله بالخطيئة، فرأى انحطاط وضعه في الخليقة، وتَشوُّه علاقاته مع أقرانه، وخسرانَ وحدته الداخلية. والنجاة من هذا الوضع الشقي، أي إعادة الوحدة الباطنية إلى الكائن البشري والوحدة الاجتماعية، وإعادة التناغم بين الإنسان والكون، كل هذا يتضمّن أن يعود الرباط بين الله والإنسان كما كان في البدء. إذا كانت مسألة الخلاص تعني كل وجهات الحياة، إلاّ أنّها تبقى في جوهرها مسألة دينية.

ثانيًا: نقطة الوصول
قد نظنّ إن توقّفنا عند هذا التقريب الأوّل، أنّ النظرة إلى الخلاص لم تتجاوز مستوى الطبيعة البشرية. لا شكّ في أنّنا نفهم هذا الخلاص من منظار ديني: بما أنّ الإنسان هو خليقة الله، فإنّه يرتبط بعلاقة دينية بخالقه. لا يتيح لنا العهد القديم أن نتعدّى هذه الحدود إلاّ بصورة ناقصة. ولكن يتّضح على نور العهد الجديد، أنّنا نفهم دراما الخطيئة والسقطة وواقع الفداء والخلاص بالنظر إلى مخطّط علوي (فائق الطبيعة) حيث تقوم العلاقة الدينية بين الله والإنسان على مستوى يتجاوز علاقة الخليقة بالخالق.
ما يريد الله أن يمنحه للإنسان لا يتوقّف عند إمكان الحصول على سعادة بشرية تساعده لكي يعرفه ويحبه ويقدّم له شعائر العبادة. بل يريد أن يمنحه المشاركة في حياته الخاصّة. هذا هو مخطّط الحبّ الذي كشف الله عنه منذ الخلق، الذي لا يزال حاضرًا من خلال حالة الانحطاط التي عرفها الإنسان بعد الخطيئة، الذي عاد إلى الظهور في مخطّط الفداء بوسائل أخرى.
هذا الهدف الأخير يتجاوز كلّ ما عند البشر من أحلام. فهو يفترض وصولاً إلى حياة الله (الثالوث) الحميمة. كما أنّه يحافظ على القوام الفردي للخلائق البشرية التي ألّهها الله دون أن يجعل شخصيّتها تنحلّ فيه.

ثالثاً: إله الخلاص
بما أنّ الخلاص هو هكذا، فيستحيل على الإنسان أن يحصل عليه بقواه الخاصّة. أمّا العالم البوذي فبحث في ذاته عن سبيل للنجاة. والحكيم اليوناني فلجأ إلى الوسائل التقنية التي تقدّم له الخلاص الأكيد.
وماذا يقول الوحي في الخلاص المسيحي؟ الوحي هو إظهار مخطّط متسامِ حيث نشاط الله الخلاصي يسبق الإنسان. فالخلاص عطيّة مجّانية من الله، وإن طُلَب من الإنسان أن يشارك في عمل النعمة التي تخلّصه (أف 3: 8- 12). لهذا، يقدَّم الخلاص المسيحي لجميع الناس، لا لفئة محدّدة. ليس من درجات في المسيحية. والصغار يتفوّقون على الحكماء والفهماء (مت 25:11).

رابعًا: طريق الخلاص
هنا نصل إلى المعيار الحاسم الذي يساعدنا على التمييز بين الخلاص المسيحي وأي خلاص آخر. ففي الطرق الأخرى، يفترض الخلاص انفلاتًا من عالم الأرض، من العالم الزمني، من عالم الأشياء المحسوسة التي تجرّنا في لا استمراريّتها. الخلاص هو قفزة خارج التاريخ. فمن العبث أن نبحث عن خلاص يتحقّق في التاريخ وبواسطة أحداثه. كيف نريد للإله السامي أن ينحدر إلى المادّة المنحطّة؟
أمّا في الوحي البيبلي، فالخلاص هو ثمرة مخطّط إلهي يأخذ التاريخ على عاتقه ويصل إلينا بواسطة الأحداث. فالله لا يريد أن ينتزعنا من عالم الجسد أو من المجتمع البشري أو من الصيرورة. بل يحقّق في قلب الصيرورة وبفضل مجتمع محدّد، يحقّق بواسطة جسد يسوع المسيح، الظروف الملموسة التي تتيح لنا أن ننال الخلاص نفسًا وجسدًا، فردًا وجماعة. بهذه الطريقة وبها وحدها، يعود الرباط بيننا وبين الله، كما يصبح بإمكاننا أن ندرس غايتنا الفائقة الطبيعة.
فالله لا يخلّص الإنسان دون أن يفتدي في الوقت عينه عالم الأجساد والزمن والتاريخ الذي شاركه في انحطاطه. "فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر تجلّي أبناء الله. فقد أخضعت للباطل، لا طوعًا منها، بل بسلطان (الإنسان) الذي أخضعها، ومع ذلك لم تقطع الرجاء لأنّها هي أيضاً ستحرَّر من عبودية الفساد لتشارك أبناء الله في حرّيتهم ومجدهم " (روم 19:8-21).
هذا هو سرّ إرادة الله وقصده الحنون الذي هيّأه منذ البدء في يسوع المسيح ليحقّقه عندما تتمّ الأزمنة: "أن يجمع تحت رأس واحد هو المسيح كل شيء. ما في السماوات وما في الأرض " (أف 1: 9-10). وهكذا تقوم طريق الخلاص لكل إنسان بأن يدخل في هذا السرّ بإيمان حيّ. وهكذا ينتقل، دون أن يترك مستوى التاريخ حيث جعله وضعُه كخليقة، ينتقل من مصير بشرية خاطئة إلى مصير بشرية مفتداة، من تاريخ يقود إلى الهلاك إلى تاريخ مقدّس، من الدهر الحاضر إلى "الدهر الآتي ".
كم نحن بعيدون عن خلاص يقوم بالهرب من عالمنا وتاريخنا! فالذي يقدّمه الله لنا، يدعونا إلى أن ندخل في التدبير التاريخي الذي دشّنه بنفسه على الأرض.

ب- مخطّط الخلاص والتاريخ المقدّس
إذن هناك رباط جوهري بين النظرة المسيحية إلى الخلاص والتاريخ البشري: فلا يحصل الخلاص إلاّ بقصد حرّمن الله، والتاريخ هو الموضع الذي فيه يتمّ هذا القصد الإلهي. ولكن أيّ تاريخ؟ فالتاريخ يشكّل شيئًا متشعبّا تلعب فيه الأسباب المتعدّدة فتؤثّر أحداثه في البشر على مستويات مختلفة. فهل يدخل هذا كلّه في القصد الخلاصي؟ ألا يترك الوحي المسيحيّ مكانًا للتاريخ الدنيوي القائم بحدّ ذاته على مستواه الخاصّ؟ كيف نحدّد التاريخ المقدّس؟

1- التاريخ الدنيوي
من المعروف أنّ اللاهوت المسيحي يؤكّد أنّ تاريخ البشرية الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، الفنّي لا يتوقّف على المستوى الأرضي حيث يسير مساره. يجب أن يتجاوز مستوى التاريخ لينال التاريخ معناه الأخير. التاريخ هو كالبشر الذين لا يكون هدفهم الأخير بتفتّح قوام الطبيعة. ولكن لا بدّ من تفتّح هذه القوى على مستوى البشر والتاريخ، تلك هي إرادة الله منذ بداية الخلق.

أوّلاً: الهدف الطبيعي للتاريخ الدنيوي
إذا عدنا إلى مخطّط الخلق العام، نقول إنّ الله هيّأ على مرّ العصور وأراد للبشرية نموًّا طبيعيًّا. لا إنسان "بالغًا" منذ البداية. إنّه تملَّك غنى طبيعيًا قد وضعه الله فيه، ولكن بقي عليه أن يستثمر هذا الغنى. ماذا يقول الكتاب؟

- الإنسان والأرض
جعل الله الإنسان على الأرض كسيّد عليها ووكيل من قبل الله على الخليقة (تك 1 :28- 29؛ 8:2، 19- 20؛ مز 7:8- 9). هذا لا يعني أنّ هذه السيادة كانت منذ البدء أمرًا واقعًا. إنّها بالأحرى أمر إلهي لا بدّ من تنفيذه. قال الرب للأسرة الأولى: "املأوا الأرض وأخضعوها. تسلّطوا على سمك البحر وطير السماء وكل حيوان يدبّ على الأرض " (تك 1: 28). فإذا أراد الإنسان أن يمتلك هذه السيادة على الأشياء، فعليه أن يتّصل بها ويعرفها ويكتشف سرّها. هذا لم يُعطَ له منذ البدء. ما أعطي له هو إمكان اقتناء هذه المعرفة. حين يعمل الإنسان في الأرض، فهو يطبعها بطابعه.

- الإنسان في المجتمع
ويتطلعّ خبر التكوين ثانيًا إلى تكاثر الجنس البشري: "انموا واكثروا واملأوا الأرض " (تك ا:28). ماذا يريد الرب أن يوحي لنا؟ الإنسان الأوّل أو بالأحرى الزوج البشري الأوّل لا يستنفذ كل إمكانات البشرية. فتكاثر البشر والمجموعات البشرية يساعد الإنسان على ملء الأرض والتسلّط عليها. كما يساعده على تأوين غناه البشري فلا يبقى مجرّد إمكانات لم تتفتّح.
يعي الإنسان نفسه عاملاً في الأرض، ويعي الإنسان نفسه بنفسه. هذا هو التاريخ. هذا هو معنى الحضارات والثقافات التي تصوّرها التوراة بشكل تنوعّ الألسنة.
بُعد شخصي وبُعد اجتماعي. ولكن يبقى البُعد الديني للكائن البشري، تبقى العلاقة بين الله والإنسان. هذه العلاقة يجعلها الوحي البيبلي منذ البداية على المستوى الفائق الطبيعة أو ما سُمّي "البر الأصلي ".

ثانيًا: جرح في البشريّة التاريخيّة
حين خلق الله الإنسان جعل فيه هذا الهدف البشري والهدف الاجتماعي. ولكنّ الخطيئة الأصلية لا تستطيع أن تدمّر هذين الهدفين. هذا يعني أنّ الإنسان سريع العطب، وقابل للانجراح ويتميّز جرح الطبيعة بعلامتين: تناقضات داخلية في النموّ البشري، ميل إلى الاستقلالية المُطلقة.
- تناقضات النموّ البشري
إذا ألقينا نظرة إلى الأجيال المتعاقبة، نرى سيادة متدرّجة للإنسان على الطبيعة، نرى صعودًا للحضارة المادية والعقلية والفنية، نرى توقًا لدى المجموعات البشرية لكي تكون جماعات أوسع، كدت أقول وسع البشرية. لقد صار العالم كلّه "قرية" صغيرة بسبب وسائل الاتّصال التي تنعم بها البشرية.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، نرى انتشار نتائج الخطيئة. تارة تسحق الأرض الإنسان، وتارة يكون الإنسان ضحيّة اكتشافاته. فهناك حضارات متقدّمة يجتاحها انحطاط يجعل المشاركين فيها يخسرون إنسانيّتهم، يُصبحون أداة في آلة كبيرة لا نفس لها ولا روح.

- ميل إلى الاستقلالية المطلقة
قلنا إنّ هدف التاريخ البشري يخضع لهدف أسمى، والإنسان حين يحاول أن يعي نفسه يطلب الاستقلالية المطلقة. يقول كالجاهل: ليس إله. قد يحاول الإنسان أن يتهرّب من كل سلطة، من كل متطلّبة على مستوى الخير العام. وهذه تكون حال البشرية. فلا تبحث عن شريعة خارجة عنها. وهكذا نصل إلى سعادة كاملة على الأرض في امتلاك العالم وفي امتلاك ذواتنا!
أجل، الجرح الأعمق في طبيعة الإنسان هو التكبّر والاعتداد الذي به ينطوي الإنسان على ذاته ليجعل من ذاته إلهه. قالت الحيّة (أي الشيطان): "إن أكلتم من هذه الثمرة (قتم بهذا العمل) تصيرون آلهة" (تك 3: 5). هذه هي التجربة الاساسية التي سنجدها في نهاية التاريخ كما وجدناها في بداياته. قال ملك بابل: "أصعد إلى السماء، أرفع عرشي فوق كواكب الله، وأجلس على جبل جماعة الله في أقاصي الشمال (جبل حرمون، الجبل المقدّس). أصعد فوق أعالي السحاب، وأكون شبيهًا بالعليّ " (أش 13:14- 14). ولكنّ ملك بابل نسي أنّه إنسان ذاهب إلى الموت (أش 14: 15).

- هدفان في مخطّط الخلاص
هذا هو وضع الإنسان التاريخي. لهذا جاء مخطّط الخلاص بمبادرة حرّة من الله، فجاوب على هاتين الحالتين. من جهة، أعاد إلى البشرية إمكان إدراك الغاية الأخيرة. هي غاية فائقة الطبيعة ما زالت تتوق إليها بعد الخطيئة والسقطة. ومن جهة ثانية، شفى جراح طبيعة الإنسان فانتصر بنعمته على الحواجز التي تمنع البشرية من إدراك غايتها الطبيعية، وأعاد هذه الغاية الطبيعية إلى مرتبتها، فجعلها خاضعة لغاية أسمى.
هل يستطيع التاريخ أن يولّد هذا الإنسان الجديد الذي نحلم به؟ لا. ولكن هل نحن أمام حلم كاذب؟ كلاّ ثمّ كلاّ. فالمسيح قد جمع في جسد واحد كل الذين خلّصهم، فحقّق هذا الإنسان الجديد على مستوىً ما كنّا لنحلمَ به، شرط أن نشارك في سر صليبه الفدائي. قال القدّيس بولس عن المسيح إنّه "ألغى شريعة الوصايا وما فيها من أحكام ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين (اليهود والوثنيّين) إنسانًا جديدًا واحدًا" (اف 2: 15). ووعظ أهل غلاطية فقال لهم: "أنتم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. اعتمدتم جميعًا في المسيح فلبستم المسيح. فليس هناك يهودي ولا يوناني، وليس هناك عبد أو حرّ، وليس هناك ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح " (غل 27:3- 28).

2- التاريخ الدنيويّ والتاريخ الدينيّ
أوّلاً: واقعان متشابكان
قلنا أعلاه إنّ للتاريخ الدنيوي غاية طبيعية أرادها الله، وهو يقوم بذاته في نظامه الخاصّ. من هذا القبيل، يحتلّ التاريخ الدنيوي واجهة مسرح العالم. ولكن وراءه يسير تاريخ آخر هو تاريخ مخطّط الخلاص الذي غايته فداؤنا الكامل في المسيح: اسمه التاريخ المقدّس. وإذ تتوجّه البشرية إلى احتلال العالم وإلى وحدتها الروحية (مع التمزّقات الداخلية التي أشرنا إليها)، يهيّئ الله لها كل شيء ليمنحها نور وحيه وغنى نعمته، ليخلّصها من تجاربها وفشلها، وليقودها رغم كل شيء إلى غايتها الأخيرة.
ساعة يسير التاريخ السياسي والاقتصادي والثقافي مسيرته، يسير تاريخ آخر في ضمائر الأفراد كما في المجموعات البشرية. فالله يوجّه كلامه كل لحظة إلى الإنسان، ويدعوه لكي يتّخذ موقفًا بالنسبة إلى هذه النعمة المقدّمة له: هل يقبلها، هل يرفضها؟ وهكذا يحدّد مصيره.
إذن ليس التاريخ المقدّس والتاريخ الدنيوي واقعين منفصلين، فيسير الواحد بمحاذاة الآخر. بل هما متشابكان متداخلان. فليس هناك إلاّ تاريخ بشري واحد يسير مساره على المستويين معًا. فنعمة الفداء التي يشكّل مسارها السرّي التاريخُ المقدّس، تعمل في قلب التاريخ الدنيوي وتسعى لأن تنتزعه من الأخطار التي تتربّص به: تحاول أن تعيده إلى غايته العلوية التي يضيعها، أو تشفي جراح الطبيعة البشرية. وبما أنّ مجيء الإنسان الجديد في المسيح هو الغاية الأخيرة التي يتّجه إليها كل شيء، نستطيع القول إنّ التاريخ المقدّس يستعيد التاريخ الدنيوي ويعطيه غايته الأخيرة.

ثانيًا: تاريخ مقدّس من خلال تاريخ دنيويّ
كل أحداث الأرض ترتبط بالتاريخ المقدّس والتاريخ الدنيوي معًا. ولكن من خلال التاريخ الدنيوي يبرز التاريخ المقدّس من خلال أحداث رتّبتها العناية الإلهية من أجل تحقيق الخلاص. قد يتدخّل الله بصورة خارقة بالوحي أو المعجزات، وقد يتدخّل بصورة عاديّة فيوجّه مخطّطه. مثلاً، كان سقوط أورشليم سنة 587 ق م مناسبة لكي يتحرّر العبرانيون من الأرض والملك وسائر النظم، لكي يتعلّقوا بالله وحده. واضطهاد الكنيسة على يد الامبراطورية الرومانية كان بذارًا لانتشار المسيحيّة. فلهذه الأحداث، رغم وجهها البشري، مدلول أسمى لا يدركه إلاّ الإيمان. إنّها أعمال الله في تاريخ البشر هذا هو التاريخ المقدّس وبه يتمّ الخلاص على مستوى الخبرة البشرية.
وحين نحدّد التاريخ المقدّس على هذه الصورة، يصبح هذا التاريخ تاريخ الجماعة البشرية التي يدعوها الله لتكون شعبه: هناك العبرانيون أوّلاً، ثمّ الكنيسة بعد أن صارت نهاية التاريخ حاضرة في قلب العالم بتجسد يسوع المسيح وصلبه وقيامته. وفي نهاية تاريخ الكنيسة، تنضم المجموعة البشرية كلّها إلى الله بحيث يمتصّ التاريخ المقدّس التاريخ الدنيوي كلّه.

3- التاريخ المقدّس والنظرة البيبلية إلى الزمن
إنّ مفهوم التاريخ المقدّس هو عنصر أصيل في الوحي البيبلي. وإذا أردنا أن نتعرّف إليه، نقابله بنظرة ديانات العالم القديم إلى التاريخ المقدّس.

أوّلاً: التاريخ المقدّس وزمن البدايات
لا تعرف الديانات القديمة تاريخًا مقدّسًا إلاّ تاريخ الآلهة السطري. ولقد تمّ هذا التاريخ لا في الزمن البشري، بل في زمن قبل الزمن، في زمن البدايات، ساعة اتّخذ العالم الإلهي وجهه النهائي. لم يكن له هذا الوجه في البدء ولكنّه حصل عليه بعد حروب ومغامرات جعلت كل إله في موضعه وسط مجلس الآلهة، وأعطته دورًا خاصًّا يلعبه في العالم.
وهذا التاريخ المقدّس الذي هو فوق الأرض وفوق الزمن، هو نموذج أوّل لكل ما يحدث في الزمن. ولا قيمة لواقع أرضي إلاّ بقدر ما يقتدي بهذا النموذج الأوّل ويكرّره. ولهذا يحمل التكرار الدوري للظواهر الكونية مدلولاً دينيًا هامًّا. أمّا أحداث التاريخ البشري، فلا قيمة دينية لها إن كانت جديدة ولا تطابق النماذج الأولى. ولكن حين تتشبه بمثال سابق وتخضع لقواعد عامّة تتكرّر، فهي تصبح "ظهورًا إلهيًا". وهكذا يسعى الزمن البشري في الديانات القديمة إلى الالتصاق بالزمن الكوني، وهكذا يكون انعكاسًا نقيًا وحقيقيًا لزمن الآلهة. هنا نفهم موتْ الآلهة في الشتاء وقيامتها في الربيع.

ثانيًا: التاريخ المقدّس والزمن البشري
كم نحن بعيدون عن الوحي البيبلي. حين تحدّثت التوراة عن وحدة الله، افرغت التاريخ السطري من مضمونه. فإن كان من زمن قبل الزمن، فهو الأزليّة التي هي عالم الله الحيّ. حين يخلق الله "في البدء"، فهو يجعل الزمن يبدأ. فالزمن يرافق الخليقة. والزمن الكوني الذي تنظّمه حركة الكواكب (تك ا: 14- 18) هو الإطار الذي وضعته العناية الإلهيّة لتسير فيه حياة الإنسان (تك 8: 22). ولكنّ الزمان البشري يستقلّ عنه ساعة يرى أعمال الله تمنح التاريخ كلَّه غايتَه. وبدل أن تتكرّر الأحداث بشكل دوري، فهي تتكوّن من لائحة بأحداث أصيلة لا تعود إلى الوراء.
لا شكّ في أنّ التاريخ الدنيوي هو هنا، وهو يعيد نفسه. كم من الأحداث تقابل رسمات عامّة سبقتها. وفي هذا المجال قال سفر الجامعة: "ما كان فهو الذي سيكون. وما صُنع فهو الذي سيُصنع، فليس تحت الشمس شيء جديد. رُبّ أمر يُقال عنه: أنظر، هذا جديد. بل قد كان في الدهور التي سلفت قبلنا" (جا 1 :9- 10).
هناك تكرار، ولكن لم يعد من وجود للنموذج الإلهي الأوّل بالنسبة إلى أحداث عالمنا. فالزمن الذي يسيّر التاريخ البشري يبدو بشكل خط يسير إلى هدف معيّن. هو ينطق من قطب إلى قطب عبر الزمان البشري، من الخليقة الأولى والسقطة الأصلية إلى الخليقة الجديدة في يسوع المسيح. ويدخل التاريخ الدنيوي في حركة تتجاوزه نحو هدف أخير، نحو هدف يفوق الطبيعة البشرية.

II- مراحل مخطّط الخلاص
إذا نظرنا إلى الكتاب المقدّس نظرة إجمالية، اكتشفنا تحقيق مخطّط الخلاص في ثلاث مراحل: المرحلة الأولانيّة: من آدم إلى إبراهيم؛ مرحلة الاستعداد الموقّت: من إبراهيم إلى يسوع المسيح ؛ المرحلة النهائية: من يسوع المسيح إلى تتمّة الخلاص الأبديّ.

أ- من آدم إلى إبراهيم
منذ البداية كانت نعمة الخلاص تعمل في تاريخ البشرية. ويُشير سفر التكوين إلى هذا الحضور الناشط. ففي ف 4- 11 نجد موضوعين. تُصوّر بطريقة شعبية بدايةُ الجنس البشري، وتُذكر الحقائق الأساسية التي عليها يرتكز البحث عن خلاصنا الأبديّ.
تقدّم لنا التقاليد الشعبية تصوّرًا عن المجتمع البشري في تطوّره ونموّه من جيل إلى آخر. في 6: 1 "كثر البشر على الأرض ". وفي 10: 1- 32 نجد لائحة بكل العالم المعروف في آفاق فلسطين الجغرافية. ونشهد أيضاً اختراع التقنيات والنظم الاجتماعية، حياة البدو التي يعيشها هابيل الراعي، حياة الزراعة التي يعيشها قايين باني المدن (4: 1- 17). ونشهد تعدّد الزوجات عند لامك مع تنظيم انتقام لا حدود له (4: 19، 23- 24). وتوزّعت طبقات المجتمع من رعاة وأصحاب موسيقى، وحدّادين متجوّلين، وعمّال في الخشب مع سفينة نوح، وكرّامين يصنعون النبيذ (9: 20- 21)، وبناة الأبراج المقدّسة (زيقوورات) بالتراب الأحمر (11: 2- 4) وتكوين الممالك الكبرى في بلاد الرافدين (10: 10- 11).
لسنا هنا أمام نظرة علمية، ولكنّ هذه النصوص تتيح لنا أن نعود إلى ماضٍ لا نملك عنه إلاّ معلومات قليلة تعود إلى بلاد الرافدين أو إلى عالم الصحراء. ولكن ليس هذا هو الموضوع الأساسي لهذه الفصول. فالشيء الذي هدف إليه الكاتب الملهم، هو أن يدخلنا في إطار مخطّط الخلاص ويحدّثنا عن الوضع الديني للجنس البشري قبل الوحي الذي وصل إليه إبراهيم.

1- الخطيئة في التاريخ
أوّلاً: الخطيئة حاضرة
ما نلاحظه أوّلاً هو حضور الخطيئة في التاريخ وقد دخلت منذ البدء (تك 3). وما زالت تظهر في التاريخ وتحمل ثمرًا. ونجد من جيل إلى آخر نماذج من الخطأة يشوّهون الحياة الاجتماعية: قايين حين قتل أخاه، فتبع هذا القتلَ عملياتُ الانتقام المريعة (4: 8، 15). لامك الذي تعدّدت زوجاته وزاد بشاعة الانتقام قساوة (4: 19، 23- 24). جيل الطوفان الذي عرف الجبابرة المشثورين (6: 1- 4) بفسادهم الجذري الذي ملأ الأرض عنفًا (6: 5، 11- 12). حام مع عاداته المجونية التي هيّأت الطريق لفساد الأخلاق لدى الكنعانيين (10: 22، 25). جيل بابل الذي انتهك حرمة الله بتكبّره واعتداده (11: 4). نماذج من الخطايا عرفها الكاتب الملهم في أيّامه، فتصوّرها في الأيّام السابقة. انطلق من الحاضر إلى الماضي ليدلّ على أنّ الخطيئة مرافقة للتاريخ البشري منذ البداية.
ومع تطوّر المجتمع البشري وتشعّبه، سنجد الخطيئة تشوّه النظم الأساسية: نظام الأسرة في بغض الأخ لأخيه. لم يعد للرجل زوجة واحدة بل زوجات. حياة المدينة وصلت بالمجتمع إلى الممالك الكبرى. وهناك التكبّر والعبادات الوثنية. وبدأت وقائع اجتماعية ستكون ثقلاً على البشر: عداء تقليدي، بين أهل الزراعة والرعاة البدو (قايين وهابيل) ، تعدّد الزوجات (لامك)، أعياد زراعية تنتهي بالسكر والمجون. هذه الوقائع تدلّ على أنّ نموّ الحضارة يبقى شيئًا ملتبسًا فيمزج التقدّم بالانحطاط.

ثانيًا: والدينونة حاضرة للخاطئين
وظهرت في هذا المجتمع المثقل بالشرّ علامات أكيدة عن غضب الله (روم 1 :18 ي). فمنذ بداية الأزمنة والعالم الشرّير تضربُه دينونةُ الله. ونجد تعبيرًا واضحًا عن هذه الدينونة لآدم وحوّاء (3: 14- 19)، لقايين (4: 10- 11)، لجيل الطوفان (5: 7، 13، 17)، لجيل بابل (11: 6- 7). لهذا، تتحقّق بصورة ملموسة نتائج الحكم الإلهي بحيث تضرّر النظام المثالي الذي عرفه الكون: فالمرأة تلد في الألم، والرجل يأكل خبزه بعرق جبينه على أرض ملعونة فلا تنبت إلاّ شوكًا وقرطبًا (16:3- 19). ودخل الموت إلى العالم (8:4) وقصرت أيّام الإنسان (3:6) واهتزّت شرائع النظام الكوني فولّدت الطوفان (7: 11- 12، 17-.2). وتحطّمت وحدة الشعوب، وتشتّت الناس فما عادوا يتكلّمون لغة واحدة. لقد أضاعوا وحدة الروح التي تقدّمها حضارة مشتركة (7:11-9).
وهكذا بدت بصورة تدريجية السمات العامة للعالم الذي نعيش فيه، العالم الذي فيه سيحقّق الله مخطّط خلاصه. قد يكون لهذه السمات بعض الشر، فتحمل آثار الخطيئة. لأنّ إحدى نتائج دينونة الله هي أن تسلّم البشر لفيضان الشر (روم 1: 24- 32). وهذا العالم الفاسد كان ذاهبًا إلى الهلاك لو لم تكن نعمة الخلاص تفعل بطريقة خفيّة فتدلّ هنا وهناك على علامات من حضورها.

2- النعمة في التاريخ
أوّلاً: بقيّة الأبرار
ولكنّ الله احتفظ له بعبّاد حقيقيين في هذا العالم الفاسد: هابيل (3:4 ي). أنوش الذي دشّن العبادة للرب (4: 26)، أخنوخ الذي سلك مع الله (حسب ارادة الله) فأخذه الله إليه (5: 23- 24)، نوح البار الكامل في جيله (6: 9 ؛ 7: ا)، سام ويافت اللذان أظهرا احترامًا لوالدهما (9: 23، 26- 27).
ذُكرت هذه الوجوه لتدلّ على واقع تاريخي مهم: فالله احتفظ لنفسه من جيل إلى جيل ببقيّة من الأبرار. بفضلهم تتابع تاريخ الخلاص، بل التاريخ كلّه. وهذا ما نراه في مغامرة نوح الذي نجا في سفينة: لولاه لعادت الأرض إلى العدم. ولتوقّف مصير نسل آدم عند هذا الحدّ.
في هذه الفترة السابقة للتاريخ، ليست من وجود لشعب الله كما سيكون بعد دعوة إبراهيم وعهد سيناء. ومع هذا، نجد في سلالة آدم سلسلة من الأتقياء يشكّلون باكورة هذا الشعب. لن نقول كاليهود بسلسلة متواصلة من آدم إلى أنوش... إلى إبراهيم، ولكنّنا نكتشف أولى تمتمات شعب الله قبل أن يتحقّق بشكل ملموس في التاريخ.
والأبرار في ذلك الوقت لم يُترَكوا وحالهم من دون نظم دينية. فالعبادة تُتَرجَم في علامات مقدّسة: سجود وتقديس. هناك شرائع الطهارة والمحرّمات (7: 2- 3، 8- 9؛ 8: 20) ستكملها فرائض أعطيت لنبرح (3:9- 4). وهناك شرائع تفرض علينا أن لا نسفك الدم (9: 5- 6). نحن هنا أمام تسبيق للوضع المقبل الذي سيمنحه الله لشعبه.

ثانيًا: حضور مخطّط الخلاص
بالخطيئة تحطّم الرباط بين الله والبشر غير أنّ الله أبان عن قصده بإعادة هذا الرباط. وهذا يعني أنّه لا يتخلّى عن البشرية الخاطئة. فحنانه تجاه نوح لا يظهر فقط في تخليص عجيب سيكون نموذج الخلاصات التي سيحقّقها في التاريخ من أجل الأبرار، بانتظار الخلاص الأسمى (مع يسوع) الذي يوصل قصده إلى كماله. بل إنّ هذا الحنان يتّخذ شكل عهد (8:9- 16). وهكذا نجد رسمة أولى لتاريخ الخلاص. وهذا العهد يتجاوز شخص نوح ويمتدّ إلى نسله أي إلى البشرية كلّها. بل يمتدّ إلى الحيوان (9: 10) ويصل إلى الخليقة المادية: بسبب هذا العهد سيدوم النظام الكوني رغم الخطيئة التي بلبلت كل شيء (8: 21- 22 ؛ 9: 14- 16)، وتأمّنت سيادة الإنسان على الخليقة (9: 1- 3). وبمختصر الكلام، نحن أمام عهد لا ينقصه شيء (9: 12- 17؛ أش 54: 9 ي). وسيكشف لنا وَلْيُ التاريخ مضمونه بصورة تدريجية.

3- المرحلة الأولانية والديانات غير المسيحية
إنّ لهذه الفصول من سفر التكوين (ف 4- 11) أهميّة كبيرة في مخطّط الخلاص لا تقاس بدقّة المعلومات التاريخية التي تعطيها. نحن هنا أمام صور شعبية تستعمل معطيات سُطُرية. ولكنّ لهذه الصور قيمتها. فكل منها تمثّل واقعًا بشريًا شاملاً. ثمّ إنّنا نجد وراء الصور لاهوتًا سيجد امتداده في الوحي المسيحي. وتَوالي الأجيال الذي يربط بدايات البشر بدعوة إبراهيم، يتّخذ صفة دينية محدّدة: إنّه جزء من تاريخ الخلاص، وإن لم يظهر مخطّط الله إلاّ بصورة متقطّعة. فالديانة التي تُمارَس ستكون تهيئة لديانة العهد القديم، كما ستكون ديانة العهد القديم تهيئة لديانة العهد الجديد.
هنا تُطرَح على اللاهوت المسيحي مسألة الوحي الأولاني. إذا نظرنا إلى النصوص التي تدلّ بصورة ملموسة على عمل الله، نجد أنّ الله يكلّم أصدقاءه منذ البداية. يتمشّى مع آدم عند نسيم النهار (تك 8:3). يعطي أوامره لنوح من أجل بناء السفينة، ثمّ يقدّم متطّلباته ووعوده في عهد يقطعه مع صفيّه بعد الطوفان. لا شكّ أنّ هناك طريقة بها نجعل الله على مسرح البشر. ولكنّ الوحي البيبلي يبيّن لنا أنّ الله لم يترك البشرية القديمة في ظلمة اللادين. هناك وحي فوق العادة، ودفعٌ خفي تُحدثه النعمة في القلوب المستعدّة. نحن هنا أمام استباق لعهد النعمة، قبل أن يعطى لشعب الله العهد مع الآباء وعهد سيناء.
من هذا العمق الديني تفجّرت الديانات غير المسيحية. هذا لا يعني أنّها احتفظت بقيم سفر التكوين الدينية على نقاوتها. قال بولس: أفسدوا مجد الله الحيّ (روم 1: 20- 23؛ رج 13: 1- 9؛ 14: 12-20). ولكن يبقى أنّه بقدر ما احتفظت بهذه القيم وأنمتها، فقد جعلت التهيئة الأولانية تمتدّ إلى عصور وعصور، وسيجد فيها الله العابدين الحقيقيّين. إنّهم مثل أخنوخ الذي أخذه الله إليه (5: 24). وهناك نوح الذي نجّاه من العقاب الشامل.
بما أنّ تدبير خلاص المسيح ونعمته كانا حاضرين في العالم منذ أزمنة التهيئة الأولانية،
فهما حاضران أيضاً في الديانات غير المسيحية التي لم تتخلّ عن هذا الإرث الديني. وما دام الوحي لم يصل بشكل إعدادي (شعب إسرائيل) أو بشكل كامل (الكنيسة)، فلهذه الديانات مكانتها في تدبير الله الخلاصي: إنّها احتياط موقّت وتهيئة بعيدة. ولكن حين يصل الإنجيل، تترك هذه الديانات محلّها من أجل الكنيسة، كما فعل العالم اليهودي حين دخل إليه العهد الجديد.

ب- من الترتيب الموقّت إلى الترتيب النهائيّ
لن نتوقّف طويلاً عند المرحلتين التاليتين، لأنّنا سنتوسع فيهما خلال الفصول اللاحقة.

1- ترتيب موقّت: من إبراهيم إلى يسوع
والمرحلة الثانية من مخطّط الخلاص تبدأ مع إبراهيم (تك 12: ). وسيكون لها خطّان يوجّهان تفكيرنا، لأنّ النظام الموقّت الذي سيقيمه الله يرتكز على قاعدتين: المواعيد والشريعة.
أمّا في ما يخصّ المواعيد فنحن نتبع آثارها منذ إبراهيم (تك 12: 1- 3، 7؛ 13: 14- 17؛ 18:15؛ 16:22- 18؛ 26: 4- 5) وموسى (خر 17:3؛ 23: 20- 23) إلى الأنبياء (حتّى مع داود، 2 صم 7: 5- 6) وأصحاب الرؤى. سنعود إلى هذه النقطة في فصل لاحق.
وبموازاة المواعيد، تتوسّع نظم أعطاها الله للبشر لكي يحقّقوا بصورة فاعلة اتّحادهم به، كما أعطاهم شرائع لكي تسير هذه النظم مسارها. إنّ نظم الآباء تحتفظ بإرث تقليدي ولا تزيد عليه فرائض جديدة. أمّا العهد الذي أعطي لإبراهيم ونسله، فقد صار مع موسى قضيّة مجموعة كبيرة (حز 19: 5- 6 ؛ 3:24- 8). وتوسّعت القوانين فصارت شريعة متشعبّة لا تني تتوسع حتّى مجيء المسيح. وسنعود أيضاً إلى الشرائع والنظم في فصل لاحق.
إذن، لا نجد منذ الآن فقط في التاريخ البشري بقيّة من الأبرار ممزوجة بعالم خاطئ، بل مجموعة منظّمة وشعبًا فرزه الله من أجل مخطّط الخلاص. فإن كان الله قد أعطاه فرائض خاصّة (مثلاً، معنى الشريعة)، فقد فعل من أجل قداسته وسعادته (هذا هو البعد الأخير للمواعيد).
وحي غير محدّد عن الهدف الذي إليه يسير التاريخ المقدّس. ولكنّ هذا الهدف سيتحدّد شيئًا فشيئًا: فشعب الله الذي نال الشريعة والمواعيد، يرى اقتراب ملء الأزمنة. والتاريخ الذي يعيشه ليس إطارًا فارغًا تتوسع فيه الشريعة والمواعيد بصورة مجرّدة. فأحداثه جزء من الترتيب الموقّت الذي يعدّ إعدادًا إيجابيًا مجيءَ الخلاص.
2- الترتيب النهائيّ
وأخيرًا جاء "ملء الزمن " (غل 4: 4). وصلت أزمنة التهيئة إلى هدفها، وصارت الأزمنة الأخيرة حاضرة. لا شكّ في أنّ "الدهر الحاضر" لم ينتهِ. ولكنّ "الدهر الآتي " هو حاضر بشكل من الأشكال في قلب التاريخ البشري منذ الوقت الذي فيه تجسّد كلمة الله. فخلال مرحلة الشريعة والمواعيد، تطلعّ رجاء شعب الله إلى "اليوم " الذي فيه يحقق الله مخطّطه الخلاصي تحقيقًا كاملاً. ولكنّها جمّدت في نظرة واحدة الحقبات المتعاقبة في هذا التحقيق الأخير. أمّا الآن فانفتحت نظرة زمنية جديدة داخل "الأزمنة الأخيرة" نفسها. فقبل "نهاية الدهور" سيكون "للعالم الآتي " حضور خفيّ على الأرض. حضور سرّي بشكل علامات فاعلة. أوّلاً في شخص يسوع الذي أتمّ في حياته ذبيحة الخلاص، وثانيًا بعطية روحه في الكنيسة وفي تدبيره الأسراريّ.
فبعد تاريخ العهد القديم، جاءت الحقبة الأخيرة في التاريخ المقدّس. وهي حقبة مهمّة، لأنّ شعب الله تخلّى عن كل سند زمني ودخل في مجمل الجنس البشري. وهكذا انضمّ التاريخ الدنيوي إلى مخطط الخلاص، ونجت نتائج تقدّم البشرية من الأخطار الروحية التي تترصّدها فعادت إلى الغاية الأخيرة.
وفي النهاية ستكون عودة المسيح في المجد رجاء المسيحيين. وسيكون الفداء تامًّا حين يصل إلى أبناء الله فيحرّر أجسادهم من الفساد الذي يستعبدهم اليوم. تدشّن العالم الجديد بالقيامة، وهو سيكرّس النجاح التامّ لمخطّط الخلاص (روم 19:8- 25؛ 1 كور 22:15، 28؛ رؤ 21).

3- مكانة العهد القديم في مخطّط الخلاص
هذا هو الخطّ العام لمخطّط الخلاص. بما أنّنا نسمّي "العهد الجديد" مرحلة التدبير الأخير التي تهيّئ بطريقة مباشرة تتمّة الخلاص في المجد، لهذا نسمّي "العهد القديم "كل ما يسبق هذا التدبير. فالمرحلة التي تمتدّ من آدم إلى إبراهيم ترد سريعًا في التوراة، وسفر التكوين تحدّث عنها انطلاقًا من الحاضر، حاضر شعب الله في العهد القديم. فالعهد مع نوح صوّر على مثال العهد مع الآباء أو مع موسى. ثمّ إنّ هذه المرحلة الأولانية لم تتضمّن كل وجهات نظام ديني: هي لا تعني جماعة منظّمة (شعب الله) لها نُظُم توجّه كل وجود الفرد والجماعة.
أمّا بعد إبراهيم، فنرى شعب الله يخرج من التاريخ. فرزه الله لكي يحقّق في مصيره الزمني مخطّط الخلاص. وأمّن له البنى الأساسية. وبانتظار اليوم الذي فيه يأتي الخلاص، منح شعبه نُظُمًا ترتبط ارتباطاً وثيقًا بالخلاص، ووجّه تاريخه بحيثُ يعدّ بصورة مباشرة حدثَ الخلاص على الأرض.
هذه الميزات تحدّد العهد القديم وتجعل منه مجموعة تفترق عمّا نجده في التاريخ الديني للجنس البشري. إنّه ترتيب موقّت، ومن هذا القبيل هو جزء من تدبير الخلاص الذي يجد كماله في سرّ المسيح.
يبقى السؤال: أيّة علاقة لشعب الله هذا بسرّ المسيح الآتي؟ هذا ما نعالجه في فصل لاحق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM