الفصل السابع عشر: التوراة كتاب شريعة الله

الفصل السابع عشر
التوراة كتاب شريعة الله

سمّى اليهود كتب التوراة الأولى الشريعة (تورة في العبرية) وهي تحتوي على جوهر التشريع الموسوي. ولقد احتفظ العهد الجديد بهذه التسمية (ناموس، كلمة دخيلة من اليونانية) ليدلّ على أسفار البنتاتوكس (أي الأسفار الخمسة. رج مت 5: 17 ؛ يو 1: 45) أو أسفار العهد القديم كلّه (يو 10: 34). وإنّ هذه التسمية تدلّ أيضاً بصِورة خاصّة على تشريع بني إسرائيل (مت 15: 6؛ يو 7: 19) وبالتالي على النظام الديني المبني على الشريعة اليهودية، لا على شريعة المسيح. في هذا يقول بولس الرسول: "لستم في حكم الشريعة، بل في حكم النعمة" (روم 14:6 ؛ رج لو 16:16؛ يو 1 :17). وهذه التسمية قد أخذ بها اللاهوت المسيحي فسمّى العهد القديم "الشريعة القديمة". ولكن يجب أن نلاحظ أنّ للنظام المؤسّس على الشريعة وجهين متميّزين وإن غير منفصلين. فهناك أوّلاً الأحكام (أو الأوامر) اليَ تُعطي الشعب قواعد حياة يسلك بموجبها. وهناك ثانيًا نظم تحدّد بُنى الشعب الإجتماعية والدينية والسياسية. والحال أنّ دور الأحكام يختلف عن دور النظم في تدبير الخلاص. فالأحكام، وهي قاعدة حياة، تهيّئ القلوب لتقبّل إنجيل الخلاص الذي يحمله إلينا العهد الجديد. أمّا النظم فهي تعطينا صورة مسبّقة عن حقيقة واقع العهد الجديد. لقد صوّر نظام التوراة الديني الملامح الأساسية لسرّ المسيح والكنيسة، بحيث إنّ نعمة الخلاص كانت منذ العهد القديم حاضرة وفاعلة. نحن لن ننسى هذه الحقيقة، ولكنّنا سنتوقّف في هذا المقال على ما في هذا النظام من أمور خاصّة ومحدودة، إن نحن قابلناه بنظام النعمة الذي نعيش في ظلّه. من أجل هذا سنثبت انتباهنا على ثلاث نقاط:

الأولى: لشريعة العهد القديم سمات خاصّة تأتيها بسبب ارتباطها بالعهد الجديد. الثانية: شريعة العهد القديم تشكّل في وجهاتها المتعدّدة نظامًا إلهيًا وضعه البشر على ضوء كلام الله.
الثالثة: مصدر الشريعة هو الله، مع العلم أنّ موادّ الشريعة ترجع إلى البشر وتتطوّر في تاريخ شعب الله.

I- نظام الشريعة
أ- الشريعة عنصر من عناصر العهد
كان كل تشريع في الشرق القديم يوضح تحت حماية إله يعطيه سلطانًا ويسهر على تنفيذ مضمونه. فلولا الإله "شمش " (أي الشمس) لما وصلت معرفة الحق والعدل إلى حمورابي الذي استنجد بجميع آلهة بابل لكي يعاقبوا من يخالف هذه الوصايا. ولم يكن الأمر مختلفًا بالنسبة إلى بني إسرائيل الذين اعتبروا أسفار الشريعة وثيقة دينية. إلاّ أنّ ما يجعل شريعة موسى فريدة من نوعها، هو أنّها ترتبط ارتباطاً جوهريًا بالعهد الذي قطعه الله مع شعبه في سيناء. وعندما نقرأ سفر الخروج، نجد أنّ هذا العهد أعطى شعبَ الله وجودًا وكيانًا (خر 19: 5- 6)، ووهبه في الوقت ذاته قاعدة حياة، وألزمه بأن يحفظها مدى الدهر (خر 24: 7- 8). أجل، إنّ الشريعة هي دستور العهد، وهدفُها أن تجعل من بني إسرائيل شعب الله حقًّا.
إنّ لهذا الواقع الأساسي أهميّة كبرى في كل تاريخ بني إسرائيل. ففي بعض الظروف الخطيرة يجدّد الشعب العهد حول قوّاده. هذا ما فعله يشوع بن نون في شكيم: جعل الحجر الذي أقامه عند معبد الرب شاهدًا على الشعب لئلاّ يجحدوا إيمانهم (يش 24: 21 - 27). وهذا ما فعله سليمان يوم دشّن الهيكل (1 مل 8: 1ي)، ويوشيا الملك لمّا عرف باكتشاف كتاب عهد الرب في الهيكل (2 مل 23: 1- 3؛ 2 أخ 34: 29- 31). أمّا كتاب طقوس تجديد العهد، فيتضمّن قراءة علنية للشريعة (يش 32:8، 34 ؛ رج تث 31: 9- 13 ؛ نح 8: 1- 8)، وإيراد البركات واللعنات (يش 33:8). وقد حفظ لنا سفر التثنية عباراتها القديمة (تث 27: 4- 8، 11- 26) التي نجدها في نهاية كل قانون عرفه بنو إسرائيل (خر 23: 25- 33 ؛ لا 26: 1 ي، تث 28: 1 ي). على أساس هذه النصوص تحدّث الشرّاح عن عيد للعهد يحتفل به اليهود في الخريف، أي في بداية السنة الليتورجية (رج مز 50: 1 ي ؛ 1 مل 8: 1- 4): يتذكّرون كل سنة العهد الأوّل الذي قطعوه مع الرب، ويستمعون إلى كلمات الشريعة وكأنّها تُتلى عليهم للمرّة الأولى كما على جبل سيناء. أجل، إنّ التوراة لا تعرف شريعة بحصر المعنى خارج العهد.
وهنا نفهم أنّ الذين جمعوا التقاليد الوطنية قد أدخلوا كل تشريع في سياق حياة موسى: ربطوه بسيناء. أو بعبور الصحراء، أو بقادش أو بسهول موآب. ولهذا، فما نقرأه بعد الانطلاق من سيناء (عد 10: 1 ي) يستعيد الأحكام التي أُعلنت في سيناء. إنّ المشترع يحدّد هذه الأحكام ويربطها بالعهد في سيناء ربطاً مباشرًا. أمّا كلام سفر التثنية الذي أعلنه موسى في سهول موآب، فهو يرجع بوضوح إلى اختبار الشعب في سيناء: "لا تنسوا الأمور التي رأتها عيونكم يوم وقفتم أمام الرب إلهكم في حوريب " (أي سيناء. تث 4: 1). أجل، "إنّ الرب إلهنا بتَّ معنا عهدًا في حوريب... وجهًا إلى وجه كلّمكم الرب في الجبل من وسط النار، وقال لكم: أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر" (تث 5: 2- 6). فإذا فصلنا الشريعة عن العهد لم يعد لها معناها العميق كرباط بين الله وشعبه. لا شكّ في أنّ طقوسًا وشرائع سبقت العهد الموسوي، ولكنّ الكتّاب الملهمين يرجعونها كلّها إلى شريعة موسى. فالقوانين التي تحرّم على نوح أكل لحم الحيوان بدمه وسفك دم الإنسان (تك 9: 4- 6)، والأحكام التي تفرض الختان على إبراهيم وأهل بيته (تك 9:17- 14)، كل هذا قد ارتبط بعهود سبقت عهد سيناء وهيّأت الطريق له. أما رسم السبت (تك 2:2- 3) ونظام الفصح (خر 13:12) فقد دخلا في التشريع الموسوي بطريقة لا تحمل الالتباس. نحن نقرأ في "الوصايا العشر": "أذكر يوم السبت لتقدسه " (خر 8:20). ونقرأ في قانون العهد: "احفظ عيد الفطير" (خر 15:23؛ رج 34: 18).
وخلال مسيرة تاريخ بني إسرائيل، لا يتجرّأ أيّ مشترع أن يجعل اسمه مع اسم موسى: لا داود وسليمان اللذان نظّما المملكة، ولا حزقيا ويوشيا اللذان قاما بإصلاح واسع، ولا نحميا وعزرا اللذان أعادا بناء المدينة والهيكل والأمّة. فبالنسبة إلى الشعب، لا شريعة إلاّ تلك التي جاءته من موسى، لأنّ وجود الأمّة يرتكز على عهد سيناء الذي كان موسى وسيطه. وفي نظر الشعب، ليس موسى فقط القائد والمشترع بل هو النبيّ الذي تكلّم باسم الله. ودوره ليس فقط دور كاتب دوّن الأسفار الخمسة، بل وسيط عهد تبدو الشريعة دستورًا له. وهكذا تشدّد الأسفار المقدّسة على طابع الشريعة التي ليست كلامًا بشريًا، بل كلمة تعبّر عن إرادة الله تجاه شعبه، وهذه الكلمة ارتبطت بوحي إلهي فوجدت فيه جذورها.
هذه هي صورة الشريعة في العهد القديم: يشدّد الكاتب الملهم على أصلها الإلهي لا على الظروف البشرية التي وصلت فيها إلى الشعب. ويركّز على وحدتها الأساسية لا على تنوّع موادها وتطوّر أحكامها على مر العصور.

ب- أوجه الشريعة المتعددة
1- الوصايا الأخلاقية
عندما نتحدّث عن الوصايا الأخلاقية في التوراة، يتبادر أوّلاً إلى ذهننا الوصايا العشر (خر 20: 2- 7 ؛ تث 5: 6- 22)، والأمر صحيح. ولكنّ الوصايا العشر تتعدى الأخلاقيّات. فهناك وصيّة تتعلّق بالطقوس وشعائر العبادة، وهي: احفظ يوم الرب. ثمّ هناك أمور أخلاقية عديدة نقرأها في نصوص أخرى مثل دستور العهد مثلاً (خر 20: 22 - 23: 33).
إنّ وجود الوصايا الأخلاقية وسط ترتيبات تشريعية يميّز القوانين الموسوية عن غيرها من القوانين. فالشريعة الموسوية ترتبط بالحق والعدل، ولكنّها ترتبط أيضاً بالتعليم الحكمي الذي يلجأ إلى عبارات في صيغة الأمر تاركًا جانبًا الفتاوى التي نطالعها في التشاريع المجاورة لبني إسرائيل. فإذا أخذنا بدستور العهد نرى أنّ بعض موادّ فتاوية (خر 18:21 ي) ترافقها فرائض بصيغة الأمر تبدو فيها الاهتمامات الأخلاقية بصورة واضحة: "من ذبح لآلهة غريبة لا للرب وحده يحلّل قتله. لا تظلم الغريب ولا تضايقه، فإنّكم كنتم غرباء في أرض مصر ولا تسىء إلى أرملة ولا إلى يتيم " (خر 19:22- 21). وإذا توقّفنا عند الفرائض المتعلّقة بالعدالة الاجتماعية (رج تث 24: 10- 15 ؛ لا 19: 9 ي) نلاحظ الأمر عينه. فنقرأ مثلاً: "لا تمارسوا الرقية، لا تكذبوا، لا يغشّ أحد قريبه. لا تحلف باسمي كذبًا ولا تدّنس اسم إلهك " (لا 19: 11- 12). ونقرأ أيضا: "لا تهضم أجرة مسكين أو فقير، بل ادفع له أجرته في يومه ولا تغب عليها الشمس " (تث 14:24- 15).
لا تهدف هذه النصوص فقط إلى تنظيم مسيرة المجتمع، بل إلى ترسيخ الفضيلة عند الناس وتثبيتهم في حياة من الصداقة مع الله. أما هذا هو هدف الشريعة؟ فالعدالة، والواجبات الدينية، واحترام حياة الإنسان وكرامته، والابتعاد عن كل نجاسة، كل هذا يشكّل مثالاً أخلاقيًا تفرضه إرادة الله على الإنسان فيتغلغل عبر الترتيبات التشريعية تغلغل الخمير في العجين.
وهذا المثال الأدبي الرفيع الذي نقرأه في الأقسام التشريعية في أسفار موسى الخمسة، إنّما نجده بصور مختلفة في أخبار تقويّة كما في قصّة يعقوب بن يوسف (تك 37: 1 ي)، وفي خطب دينية نقرأها مثلاً في سفر التثنية (ف 6- 11)، وفي عظات نبوية ترد في أسفار أشعيا (1: 1 ي) وهوشع (4: 1- 2) وإرميا (5: 26- 28) وحزقيال (18: 5 ي)، وفي القسم الأكبر من المجموعات الحكمية كسفر الأمثال وابن سيراخ والحكمة وطوبيّا. في كل هذه الكتب، تبدو الشريعة الينبوع الوحيد للحكمة الحقّة. قال موصى لشعبه: "ها أنا علّمتكم سننًا وأحكامًا. فاحفظوها واعملوا بها لأنّها تُظهر حكمتكم وفهمكم في عيون الأمم. فإذا سمعوا بها قالوا: حقًّا إنّ هذا الشعب العظيم هو شعب فهيم " (تث 4: 5- 6؛ رج سي 23:24). فإذا أردنا أن نكوّن فكرة شاملة ودقيقة عن الوصايا الأخلاقية التي تتضمّنها التوراة، مع كل النتائج العملية التي تتفرعّ منها، وجب علينا أن نتعمّق في جميع أسفار التوراة: وحينئذ سنُلاحظ أنّ الأنبياء والكهنة والحكماء والمؤرّخين لم يعتبروا نفوسهم يومًا من المجدّدين، بل أعلنوا أنّهم المحافظون على التقليد الموسوي. لا شكّ في أنّهم تعمّقوا في المعطيات الأساسية وطوّروها لتواكب التطوّر السياسي والاجتماعي، ولكنّ الشريعة ظلّت بالنسبة إليهم المرجع الذي إليه يعودون والتعليم الذي عليه يعتمدون. وإن كنّا لا نستطيع أن نستخلص من حرفيّة الوصايا العشر كل الفرائض الأخلاقية التي نقرأها في الأسفار المقدّسة، إلاّ أنّ هذه الوصايا تظلّ قلب هذه الشريعة وما تبقّى فهو تفسير وتأويل لتلك الكلمات العشر التي قالها الرب لشعبه بواسطة موسى على جبل سيناء.

2- الشريعة الأخلاقية وموقعها في مخطّط الله
تعوّد اللاهوتيون القول إنّ النظام الاخلاقي للأفعال البشرية بحسب إرادة الله، تحدّده شريعة طبيعية سابقة لأيّ كشف آتٍ من عند الله. ويقولون: إنّ هذه الشريعة الطبيعية لا تحتاج إلى وحي من عند الله بواسطة كلمة النبوءة التي تعرّف الإنسان إليها. فوجدان الإنسان يدلّ على هذه الشريعة، وضميره هو بمثابة شريعة للوثنيين الذين لم يصل إليهم أيّ وحي إلهي (رج روم 2: 14- 15). والحال، أنّ مضمون هذه الشريعة التي يعرفها كل ضمير مستقيم لا يختلف عن فرائض التوراة الأخلاقية. فالشريعة الطبيعية، شأنها شأن الشريعة الكتابية، تفرض على الإنسان أعمال الفضيلة، وتحارب فيه الرذائل، وتزرع في قلبه أسلوبًا واحدًا في الحياة. من هذا القبيل تستعيد التوراة فرائض علم الأخلاق الطبيعي. وهكذا كانت حالة الوثنيين كحالة اليهود، والتقت الشريعة الطبيعية مع الشريعة الموسوية في هذه النقطة الأساسية.
غير أنّنا نجد فارقين اثنين بين الشريعة الطبيعية والشريعة الموحاة:
الفارق الأوّل: إذا كانت هناك فرائض أخلاقية عامة يتوصّل إليها العقل البشري، كاحترام الوالدين وعدم التعدّي على مال القريب أو حياته، فهناك فرائض أخرى يتردّد الحسّ الأخلاقي عند الناس في التعرّف إليها، فيتهرّب من العمل بها. أما ضلّ علماء الأخلاق في الفلسفة القديمة يوم جعلوا للوالد سلطان الموت والحياة على أبنائه وللسيّد على عبيده؟! أما ضلّ بعض علماء الأخلاق اليوم فوصلوا بنا إلى همجيّة النازيّة والفاشيّة التي تركت وراءها ملايين القتلى باسم النظريّات الفلسفية عن تحسين الأجناس والأعراق: لم تفرّق بين الإنسان والحصان، فحاولت تحسين النسل البشري وكأنّ الإنسان حيوان متطوّر وحسب، لا يملك شيئًا من عالم الروح. أجل، إنّ العقل البشري يحتاج إلى طبيب يشفيه من ضلاله ليعرف الشريعة الطبيعية معرفة صحيحة.
وهنا تتميّز شريعة التوراة الأخلاقية عن تعليم الحكمة الطبيعية الذي نكتسبه بأنوار العقل، لأنّها تستند إلى الوحي الإلهي. لا شكّ في أنّها أخذت بعض معطيات حكمة الشرق القديم، ولكنّها زادت عليها الشيء الكثير وفتحت أمامها آفاقًا جديدة، وصحّحت وكمّلت ما كانت الشريعة الطبيعية قد وصلت إليه. أجل، إنّ الشريعة الموسوية تدخل في نظام القصد الخلاصي الذي به يأتي الله ليساعد الإنسان على السير في طريق الفضيلة ولينجّيه من ضلاله: إنّ كلمة الله تنحني على الجنس البشري لتشفيه من مرضه وتقوده في طريق الله.
الفارق الثاني: يكمن في الطابع الديني الذي تتحلّى به الشريعة الموسوية. إذا نظرنا إلى الشريعة الطبيعية نجد أنّ العقل والضمير هما السلطة العليا التي تفرض على الإنسان قواعد السلوك. هذا ما قاله الفلاسفة القدماء وما زال يقوله الفلاسفة المحدثون الذين يرفضون الرجوع إلى أيّ وحي إلهي. ولقد لجأ عالمِ الشرق إلى ما عاشته الأجيال السابقة. من هذا القبيل بدا سلوك الإنسان العاقل أقلّ تعلّقًا بالدين من الشرع الذي سلّم قوانينه إلى المعابد واعتبرها صادرة عن الآلهة.
أمّا الشريعة الأخلاقية في التوراة فهي دينية في جوهرها، والسلطة التي ترجع إليها هي سلطة الله خالق وسيّد الكون، دون أيّ سلطة أخرى. حكمته وإرادته تحدّدان وحدهما ما هو خير وما هو شر، وعقل الإنسان ووجدانه يكتفيان بالتحقّق من وجود شريعة سامية تفرض نفسها عليه. فإذا ادّعى الإنسان معرفة الخير والشر (أي الحكمة الإلهية) فهو إنّما يقترف خطيئة فظيعة. يخالف الله في نقطة أساسية وكأنّه يتعدّى على حقوق الله في خلقه (رج تك 3: 1 ي). ولهذا، عندما يعطي الوحي الكتابي تعليلاً لأعمال الإنسان، فهو يشدّد بالدرجة الأولى على الأمل بالمكافأة والخوف من العقاب. لا شكّ في أنّ المكافأة والعقاب كانا أمرًا ملموسًا، ولكنّ الوحي أراد من خلالهما أن يشدّد على سلطة الله الذي يدعو جميع عابديه إلى حياة التقوى والمحبّة. "احفظوا رسومي وأحكامي. فمن حفظها يحيا بها، أنا الرب " (لا 18: 5). "أحبّوا الرب إلهكم بكل قلوبكم كل نفوسكم وكل قدراتكم.. أحذروا أن تنسوا الرب الذي أخرجكم من أرض مصر.. بل الرب إلهكم تتّقون وإيّاه تعبدون وباسمه تحلفون " (تث 5:6، 13).
وهكذا، فالتوافق بين وصايا التوراة الأخلاقية وبين علم الأخلاق الطبيعي لا يمنع التوراة من أن ترتبط بعالم يتعدّى عالم الطبيعة البشرية وأن تتعلّق بتدبير يتجاوز تدبير الشريعة الطبيعية. إنّ للشريعة مكانتها في مخطّط الخلاص وقد أعطيت للناس كنعمة ترتبط بالعهد السينائي. وهي تفتح الطريق لإصلاح الطبيعة البشرية والمنحطّة بالفداء الذي ترسله على ما يطلبه النظام الطبيعي من الإنسان. من هذا القبيل تتعدّى الشريعة خاصّيات بني إسرائيل. وهي في أساسا شاملة، لأنّها تتوجّه إلى البشرية جمعاء، وعلى أساسها سيدين الرب شعبه وسائر الشعوب (رج تك 16:18- 21؛ عا 1 :3- 8:2).
لأجل هذا لا يمكن أن تُلغى شريعة التوراة من الوجهة الأخلاقية. والعهد الجديد نفسه جاء يتمّمها (مت 17:5- 19) جاعلاً من المحبّة الأساس لكل حياة أخلاقية (مت 22: 34-.4). وفي هذا يقول بولس الرسول: "إنّ الوصايا التي تقول: لا تزن، لا تسرق، لا تشته، وسواها من الوصايا، مجتمعة في هذه الكلمة: أحبب قريبك حبّك لنفسك. فالمحبّة لا تترك الشرّ بالقريب، والمحبّة هي إتمام العمل بالشريعة" (روم 13: 9- 10).

ج- ترتيبات على مستوى الحقوق والواجبات
1- مبادئ عامّة
هدفت الوصايا الأخلاقية في التوراة إلى دفع الإنسان لممارسة الفضيلة، فشملت الأفعال البشرية في العلاقات الإجتماعية والفردية. ولكن لا يقتصر مدى التوراة على هذه الوجهة الأخلاقية: أعطيت لشعب عاش في بُنى اجتماعية واقتصادية وسياسية محدّدة، فكان عليها أن تقدّس هذا الشعب وتجعل هذه البنى مطابقة لمتطّلبات الله. فعلى النظم المدنية التي تسوس العلاقات بين الناس أن تخضع هي أيضاً لقواعد أخلاقية ودينية ليسود العدل في جماعة تعرف أنّها شعب عقد الله معه عهدًا.
هذا هو موضوع الترتيبات الحقوقية التي تحويها التوراة، وهذه الترتيبات تحدّد متطلّبات العدالة كما يجب أن تمارس في تنظيم بني إسرائيل. فالعدالة تفرض نفسها على جميع البشر بصفة عامّة، ولكنّ الفرائض التي تنبع منها تحتاج إلى أن تتوضّح في الظروف العملية التي يعيش فيها كل واحد منا. إنّ الضمير البشري يعتبر العدالة واجبًا على كل إنسان، ولكن لا بدّ من تحديد تفاصيل هذا الواجب في نظم وضعية تجسّد الخير المشترك. وهكذا ترتبط ترتيبات التوراة الحقوقية بنظم بني إسرائيل المدنية.
وكما قلنا بالنسبة إلى الوصايا الأخلاقية، نقول بالنسبة إلى الترتيبات الحقوقية. فنحن لن نجدها فقط في أجزاء البنتاتوكس التي تحفظ لنا الشرع مدوّنًا ومبوّبًا. إنّنا نرى في مجمل التوراة تلميحات إلى عادات لم تبوّب لأنّها زالت بعد أن عمل الشعب بها، أو لأنّها لم تجد مجالاً لتصبح تشريعًا مكتوبًا. بالإضافة إلى ذلك، فالقوانين والنظم تُعرَف وتُعاش قبل أن تُدوّن. وإذا أردنا أن نتصوّر مسارها، نبحث في مجموعات التقاليد القديمة والأسفار التاريخية (يش، قض، صم، مل) والكتب النبوية والحكمية. نعطي مثالاً على ذلك: تحكّم النظام الملكي بحياة بني إسرائيل سحابة خمسة قرون، ومع ذلك فهو لم يستحوذ على اهتمام سفر التثنية إلاّ ببضع آيات (تث 17: 14-. 2). وهذه الآيات تعطينا تفسيرًا لهذا الواقع يفترق عمّا نعرفه عن عهد الملكية في تاريخ داود وسليمان.

2- تطوّر الشرع ووحدته
إذا درسنا النصوص وقابلناها بعضها ببعض، رأينا تطوّرًا ملحوظاً في بُنى شعب إسرائيل الاجتماعية، وبالتالي في نظمه وشرائعه. فالعادات القبلية القديمة التي تكيّفت مع زمن الآباء وأيّام موسى، اختفت وحلّ محلّها ترتيبات تشريعية متشعّبة تلائم حياة بني إسرائيل في أرض كنعان. وإذا أخذنا بعين الاعتبار التنظيم السياسي، نرى أنّ بني إسرائيل شكّلوا في البداية اتّحادًا قبليًا، ثمّ دولة ملكية موحّدة، ما عتّمت أن انقسمت إلى مملكتين: مملكة الشمال وعاصمتها السامرة، ومملكة الجنوب وعاصمتها أورشليم. بعد هذا ستصبح جماعة مبعثرة يحميها الحاكم الأجنبي ويؤمّن لها حول أورشليم مركزًا وطنيًا صغيرًا. فتجاه هذه الحالة، هل يمكن أن نتصوّر أن نظم شعب الله المدنيّة لم تتبدّل ولم تتغيّر على مرّ العصور. إذا كان الخير العام هو ما يصبو إليه المشترع، فلا يمكن إلاّ أن تتطوّر الأسس التي تساعد على الحصول على هذا الخير المشترك.
وما بقي لنا من شرع مكتوب بعكس هذه التحوّلات المتتالية في مجتمع بني إسرائيل. فالقوانين المتعدّدة والترتيبات المتفرّقة تعطينا فكرة عن هذه التحوّلات. فمن قانون العهد الذي نقرأه في خر 20: 22- 23: 33، إلى قانون القداسة الذي نجده في لا 17- 26، إلى القانون الاشتراعي الذي نقرأه في تث 12- 28، نجد أنّ المشاكل المطروحة تبدّلت وتبدّلت معها الأجوبة والحلول. فإذا قارنّا هذه القوانين بمراجع أخرى، نلاحظ أنّ التشريع الموسوي نما وتطوّر مع الزمن. ولو لم يكن كذلك، لكان مجتمع العهد القديم مجتمعًا متحجّرًا، وهذا ما يتعارض وتاريخه المضطرب، أو كانت نصوصه التشريعية مدوّنة من أجل المستقبل، وهذا ليس بمعقول ويتنافى وطريقة الله في تدبيره لبني البشر.
تطوّر الشرع في العهد القديم، ولكنّه حافظ على استقرار وثبات عظيمين. فمبادئه الأساسية لم تتبدّل من زمن إلى آخر ومن قانون إلى آخر. وظلّت غايته هي هي في ربط كل النظم الوطنية بالمتطلّبات العامّة للعهد. في هذا الإطار أخذت هذه النظم معناها وبعدها الدينيّ. فشعب إسرائيل مجموعة لا تفترق في شيء عن سائر المجموعات، ولكنّها حصلت بفضل العهد السينائي على طابع خاص ميّزها عن سائر المجموعات.
مثل هذه النظرة التي يتضمّنها قانون العهد نقرأها صراحة في القانون الاشتراعي وقانون القداسة. يقول سفر التثنية (7: 6) "لأنّكم شعب مقدّس للرب إلهكم، وإيّاكم اختار الرب إلهكم لتكونوا له أمّة خاصّة من جميع الأمم التي على وجه الأرض " (رج تث 4: 1-8؛ 17:6- 25). ويقول سفر اللاويين (19: 2): "مر كل جماعة بني إسرائيل وقل لهم: كونوا قدّيسين لأنّي أنا الرب إلهكم قدّوس " (رج لا 18: 3- 4). إنّ كل هذه النصوص كُتبت يوم كان تطوّر النظم يطرح تساؤلات حول ديمومة تقليد بني إسرائيل وأمانة شعب يهوه (الرب) لعهد سيناء. وهكذا، عندما نتحدّث عن وحدة الشريعة لا نتحدّث عن وحدتها من وجهة البنية الأدبية، ولا عن تناسق النصوص التي جمعتها، بل عن تجانس في هدفها الأساسي والروح الذي كُتبت به. إنّ الحقوق والنظم تحافظ على ليونة تساعدها على التكيّف مع الحياة، ولكن مبدأها الأساسي هو هو: العهد الموسوي هو النموذج الأخلاقي والديني.

3- الشرع في العهد القديم والشرع الإلهي الوضعي
إذا نظرنا إلى التوراة من الوجهة الأخلاقية وجدنا فيها شريعة طبيعية ذات قيمة شاملة، بمعنى أنّها تتوجّه إلى كل إنسان. أمّا إذا نظرنا إليها من الوجهة التشريعية فهي تظهر بمظهر انفرادي ضيّق. فالحقوق والنظم تتكيّف وظروف حياة شعب صغير، فتتبّنى عقليّته ونوع حياته لتحدّد قوانينه وأنظمته. قد تتوافق ومتطّلبات الشرع الطبيعي، إلاّ أنّها تعبّر عن هذا الشرع تعبيرًا خاصًّا ضيّقًا. فمن الوجهة السياسية، لا يمكننا أن نجعل من النظام الملكي أو تجمّع القبائل قاعدة عامّة يفرضها الله على كل جماعة بشرية، بل هذا تطبيق محدود في وقت من الأوقات. إذن، نحن أمام شرع وضعي.
غير أن هذا الشرع الوضعي يعبّر، في نظر بني إسرائيل، عن إرادة الله. ليس هذا الشرع الوضعي نظامًا بشريًا محضاً، بل هو يرتبط بالوحي السماوي وله موضعه في مخطّط الخلاص. لا شكّ في أنّه أخذ هذا الشكل الخاص لأنّ شعب الله انطق من عهد سيناء فتجسّد تاريخيًا ولفترة محدودة في شعب إسرائيل. غير أنّ هذا الوضع سوف يزول بمجيء المسيح. حينئذ يرتبط هذا الشرع بالديانة بصورة عامّة تاركًا للجماعات المحلية اختيار النظام الذي يوافق عقليّتها ونوع حياتها.
أجل، بعد المسيح تبدّلت أمور. كانت انفرادية الشعب اليهودي تجعل شعب الله معزولاً عن سائر الشعوب. أمّا الآن فشعب العهد الجديد هو منفتح على جميع الشعوب. لأجل هذا، فترتيبات التوراة التشريعية قد نُسخت وألغيت. أمّا فكرها العميق الذي أتمّه الوحي المسيحي فلا يزال حاضرًا في الحقّ الطبيعي الذي تتّفق وإيّاه النظم البشرية عند جميع الشعوب. ولمّا جاء المسيح، هدم السياج الذي كانت تشكّله الفرائض والنظم، وأعاد الوحدة بين اليهود والوثنيين داخل بشرية جديدة (رج أف 2: 14- 16). ولكن يبقى أنّ هذا الشرع الذي تجاوزه الزمن، قد شكّل في وقت من الأوقات متطّلبات الله الوضعية إزاء شعبه. وعندما يقرأه المسيحي فهو يكتشف، عبر ترتيبات نسبيّة ومتغيّرة ومتطوّرة، الغاية السامية التي هيّأتها لها هذه الترتيبات بحسب أمر الله.

د- قواعد العبادة
1- تنوعّ العبادة وتطوّرها ووحدتها
تحدّثنا عن الوصايا الأخلاقية التي تنظم سلوك الأفراد، وعن الترتيبات التشريعية التي تنظّم المجتمع من أجل الخير العام، وها نحن نتوقّف عند قواعد العبادة كما نقرأها في التوراة (العهد القديم). إنّ هذه القواعد لا تعني بالمعنى الحصري الفضيلة التي نمارس ديانتنا بموجبها. فهذه الفضيلة هي جزء من الوصية الأولى من الوصايا العشر وهي توجّه الإنسان نحو الله غايته الأخيرة وتجعله يحقّق مشيئته فيتّحد به ويتقدّس. ولكننا لا نرى وجودًا صحيحًا لهذه الفضيلة إن لم نعبّر عنها، بطريقة ظاهرة، بأفعال خاصّة تشكّل العبادة. وذلك لسببين اثنين:
الأوّل: لأنّ الإنسان نفس وجسد، ولأنّ للجسد حصّته في الرجوع إلى الله.
الثاني: لأنّ الإنسان كائن اجتماعي ولأنّ على الديانة أن تأخذ شكلاً منظورًا وجماعيًّا لتقدّس المجتمع البشري. وهكذا، كما أنّ ترتيبات التوراة وتشريعاتها تحدّد متطلّبات العهد القديم في وقت من الأوقات، كذلك تحدّد قواعد العبادة متطّلبات الديانة العامّة بشكل فرائض خاصّة، وهذه الفرائض ترتبط بمجمل نظم العبادة التي تشكّل جزءًا من النظام الخاصّ الذي أعطاه الرب لشعب إسرائيل.
أمّا نظم العبادة فمتنوّعة ومتشعّبة. نذكر منها الذبائح التي هي أفعال العبادة السامية والتي بها يتحقّق اتحاد الإنسان بالله. ثمّ المقدّسات، أي الآنية والأمكنة المرتطبة بالذبائح. ثمّ الطقوس التي تحمل في طيّاتها مضمونًا مقدّسًا فتؤول إلى تقديس الأشخاص (الختان، وليمة الفصح، طقوس التكريس والتطهير). ثمّ الممارسات التي تميّز المؤمنين من غير المؤمنين (المحرّمات التي نقرأها في قانون الطهارة. رج لا 11- 15). ثمّ خدّام (كهنة، لاويون) العبادة والأزمنة المقدّسة.
ولقد تطوّرت نظم العبادة كما تطوّرت النظم المدنية على مرّ العصور. وسجّلت النصوص الكتابية هذا التطوّر منذ عهد الآباء، إلى موسى والملوك وزمن السبي. وها نحن أمام مجموعات تتجاور فيها أمور قديمة جدًّا (ذبيحة البقرة الحمراء. رج عد 19: 1ي. تيس الكفّارة. رج لا 16: 1ي) وتنظيمات جديدة (الفصح الثاني. رج عد 9: 1- 14). ولقد وصلت إلينا تقاليد قديمة، ولكنّها مرّت في عملية ترميم وإصلاح، فتضخّمت وتكيّفت بحسب الأزمنة الحديثة. نذكر على سبيل المثال صورة معبد البرّية في القانون الكهنوتي (خر 25- 31، 35- 40) الذي يستوحي عناصر تصويره من هيكل سليمان (1 مل 7: 1ي) دون أن ينسى المعبد الذي عرفته القبائل في عهد موسى (عد 33:10- 36).
ولكن رغم هذا التطوّر في شرائع العبادة ونظمها، فنحن نلاحظ وحدتها العميقة عبر أسفار العهد القديم. إنّها تتطوّر، ولكن لا بطريقة فوضوية وبحسب الصدف والظروف التاريخية. تتطوّر داخل تقليد متين ثبتت عناصره الأساسية في زمن الحياة في البرّية وقبل إقامة الشعب في أرض كنعان. وهذا التقليد يربط هذه العناصر بالمبدأ الأساسي الذي هو العهد، ويقدّم لها القواعد التي توجّه هذا التطوّر. ولنا مثال على ذلك في وحدة المعبد (تث 12: 1- 12)، وهي ممارسة لم يعرفها زمن الآباء وعهد الملوك، وقد جاءت لتقف بوجه انحطاط ديني سبّبه تعدّد المعابد. غير أنّنا لسنا أمام تجديد مطلق، بل أمام رجوع إلى المعبد الاتّحادي الذي كان امتدادًا لمعبد سيناء الحاوي تابوت العهد (رج خر 14: 3- 8 ؛ يش 8: 30- 35 ؛ 24: 1- 28؛ 2 صم 6: 1 ي). وهكذا لعب التقليد الخارج من عهد سيناء دورًا منظّمًا وموحّدًا بالنسبة إلى شرائع العبادة.

2- العبادة في العهد القديم والشرع الديني الوضعي
إنّ شرائع العبادة ونظمها في العهد القديم تحمل طابعًا انفراديًا واضحًا. لا شكّ أنّنا نجد فيها حركات وطقوسًا مشتركة بين كل الديانات. ثمّ إنّ الرموز التي تدلّ عليها قريبة ممّا نجده عند جميع الشعوب لأنّها تتجذّر في أعماق طبيعة الإنسان. غير أنّ هذه العبادة تحمل سمة المدنية الشرقية السامية، سمة أرض كنعان بنشاطها الرعائي والزراعي الذي لازم حياة بني إسرائيل عبر تاريخهم. ثمّ إنّ طقس ربط الإنسان بالجماعة، وكل المحرّمات التي جاء بها قانون الطهارة، كل هذا لا يقدر أن يطبّق على جميع الناس. فقد وضع ليميّز شعب إسرائيل عن سائر الشعوب الذين لا تجمعهم قرابة عرقية أو روحية بعضهم إلى بعض.
ولكنّنا لسنا هنا أمام شرع بشري محض حدّدته السلطات الاجتماعية لأسباب طبيعيّة. فقواعد العبادة تعبّر، بالنسبة إلى بني إسرائيل، عن إرادة الرب الواضحة. وإذ تعبّر عن هذه الإرادة، تحدّد شكل الطقوس والممارسات الدينية. إذن، نحن أمام شرع إلهي وضعي. ومن اليقين أنّ نظم العبادة التي نقرأها في التوراة قد تحفّظت حين أخذت باحتفالات عالم كنعان، فنقّتها وأعطت تفسيرًا جديدًا لحركات كرّسها تقليد قديم. لم يعد عيد الفصح فقط عيد انطلاق القطيع إلى المرعى في بداية الربيع أوعيد حصاد الشعير، بل صار عيد التحرر من العبودية. ولم يعد عيد المظالّ يذكّر الشعب بالحياة وسط الكروم، بل نقلهم إلى البرّية وذكّرهم بالإقامة في الخيام مع الرب. وهكذا خلق التشريع عبادة جديدة، بعد أن انطلق من موادّ قديمة، وذلك على ضوء تدبير جديد أوحى به الله وثبّته عهد سيناء.
غير أنّ هذا الشرع الإلهي الوضعي سيُلغى في يوم من الأيّام. فُرض في الأصل على شعب من الشعوب، ولكنّه كان عابرًا وزائلاً كمجموعة النظام الديني الذي يدخل فيها. وليست القضيّة قضيّة ارتباط الديانة بشعب خاصّ ومدنية خاصّة. فالعبادة المسيحية تبقى، هي أيضاً، في حركاتها الدينية الأساسية، مطبوعة بمدنيّة خاصّة وأرض معروفة: فالخبز والخمر في القربان المقدّس هما نتاج حوض البحر الأبيض المتوسّط، وليسا طعام سائر شعوب الأرض. ولكنّ هذه الخاصّية تدلّ على ربط العبادة الجديدة بالواقع الذي هو تجسّد ابن الله وموته. فالخبز والخمر في الإفخارستيا يشهدان بطريقة غير مباشرة على سرّ خلاصنا. واستعمالهما لا يبغي إعطاء قيمة شاملة لرموز عبادة عرفتها مدنيّة البحر المتوسّط، بل التشديد على الواقع التاريخي لديانة لم تصل إلى الشمولية إلاّ بواسطة حدث حصل في قلب تاريخ البحر المتوسّط عنيت به حياة يسوع وموته وقيامته. أمّا العبادة في العهد القديم فلم تصل إلى هذا الحد. وهي تتوق إلى تحقيق هذه الديانة الحقّة دون أن تستطيع بذاتها أن تقدّس البشر وتجمعهم مع الله (رج عب 10: 1- 3). لهذا ستزول هذه العبادة كما يختفي الظلّ أمام الحقيقة (كو 2: 16- 17). ولكن رغم ذلك، يجب أن ندرسها لأنّها ظلِّت، حتّى مجيء المسيح، تعبيرًا عن ديانة حقيقية وإن ناقصة، ختمها الله بختمه وأعطاها لشعب كان في ذلك الوقت "مملكة كهنوتية وشعبًا مقدّسًا" (خر 6:19).

هـ- الله مصدر الشريعة
تشكّل شريعة العهد القديم مجموعة من القوانين تغطّي كل مجالات النشاط البشري وتنظّم حياة شعب الله، باسم سلطة إلهية مرتبطة بعهد سيناء. ولكنّنا نتساءل: كيف تتوافق سلطة الشريعة الإلهية مع موادّ آتية من عالم البشر؟ كيف تطوّرت كما يتطوّر كل شيء عند البشر؟ هنا نتساءل من أين جاءت مواد الشريعة في التوراة؟
إنّ الشريعة التي نقرأها في التوراة لا تشكّل بداية مطلقة. فعلم الأخلاق يستوحي نصوصه من فرائض الشريعة الطبيعية، والنظم المدنية والدينية تستقي شرائعها من ينابيع تقاليد الأجداد ومن المدنيّات المجاورة. إذن، كيف نتحدّث عن شرع إلهيّ حين نرى ما أخذه بنو إسرائيل عن عادات الساميّين (وغير الساميين) وطقوسهم وشرائعهم؟ وأين نكتشف علامات تدخّل علوي؟
إذا ألقينا نظرة إجماليّة إلى العهد القديم، وجدنا تعبيرًا صحيحًا عن الأخلاق في الوصايا العشر وفي شروح هذه الوصايا، واكتشفنا فكرة التوحيد تسيطر على النظم. وهكذا تُمنع العبادات الوثنية والممارسات الدينية المرتبطة بالبغاء والزنى، وتجعل الإنسان يهتمّ بديانة شخصيّة عميقة قلّما نجد مثلها في المحيطات المجاورة. إذا ألقينا نظرة رأينا متطلّبات عهد سيناء تطبع بطابعها الحقوق والنظم المدنية فتعلّمها احترام الإنسان وتقدّم لها نموذجًا عائليًا وتوجّهها شطر العدالة الاجتماعية.
أمّا إذا توقّفنا عند عناصر تفصيلية أخذت بها التوراة، سوف نرى كيف أنّها شذّبتها ونقّتها وصحّحتها وأعطتها تفسيرًا جديدًا نابعًا من تعليم العهد قبل أن تدخلها في تقليد شعب الله. ونأخذ على هذا مثلين. لا يمكن أن تكون الملكية في بني إسرائيل نظامًا يشبه ما عند سائر الأمم (1 صم 8: 2) ولاسيمّا في ما يتعلّق بتأليه الملك. ولكن لمّا دخلت الملكية في إطار النظم الوطنية، جعلت الملك خاضعًا لمتطلّبات سامية تحدّ من حرّيته في العمل (تث 17: 14-20). وإذا تعدّى صلاحياته واجهته معارضة دينية وسياسية. أجل، لم يعد الملك شخصاً مقدّسًا بذاته، بل ممثّل الله. وحين زال الملك من أرض إسرائيل لم يزل الشعب بزواله. ونأخذ المثل الثاني من النظم الدينية التي تبنّت طقوسًا عديدة من العالم القديم وطوّرتها. كان بنو إسرائيل يكرّسون الأبكار لله ولكنّهم رفضوا، أقلّه في تشريعهم، عادة ذبح الأولاد كما كان الكنعانيون يفعلون (خر 13: 2، 11- 13 ؛ 34: 19- 20 ؛ رج تك 22: 1 ي). كانوا يكرّسون بواكير الغلال (رج تك 4: 3- 4) دون أن يأخذوا بالروح الوثنية فربطوا فدية الأبكار بالخروج من مصر (خر 13: 14- 15؛ رج 4: 22- 23) وتقدمة البواكير بامتلاك أرض الموعد (تث 26: 1- 11).
نحن هنا أمام خلق جديد، ولسنا فقط أمام تطوّر تاريخي أو إنتاج أحد العباقرة العظام. ولولا الحرب التي شنّها المدافعون عن التقليد الحقيقي، لكانت ديانة بني إسرائيل تجميعًا لتقاليد مختلفة لا تفترق بشيء عن ديانة شعوب الشرق. ولولا هؤلاء الأشخاص الملهمون، لولا هؤلاء الأنبياء "المتكلّمون باسم الرب " (وأوّلهم موسى)، لكان هذا التطوّر سار في معارج لا يعرف أحد مداها. ولكنّه انطلق من عهد سيناء فوضع المبادئ الأساسية التي ستخضع لها دومًا حياة بني إسرائيل. وإذا كان التشريع قد نما والترتيبات العملية تطوّرت، فكلّ هذا من أجل المبادئ التي وضعها موسى فعملت عملها في مجتمع تحوّلت بنياته وطرحت أمامه مسائل عديدة. أمّا الذين أعادوا النظر في الشرع وكيّفوا بنوده، فلم يطمحوا يومًا إلاّ أن يكونوا "كتبة لدى موسى" وأن يحفظوا التقليد حقا في قلوب المؤمنين وحياتهم.
ولا ننسَ عمل الروح القدس في شعب الله. هو الذي أقام موسى. وبعد موسى أقام شيوخًا على مثاله يسوسون شعب الله. ثمّ جاء رؤساء يتابعون قيادة الشعب، وكهنة يقولون الحقيقة (رج تث 8:17-13) ويحافظون على الطقوس بحسب التقليد، وأنبياء يتابعون إعلان الشريعة. عندما نتحدّث عن الوحي الإلهي نريد أن نحصره في أسفار الأنبياء، ولكنّ الواقع هو أنّ الإلهام الكتابي يرتبط بكل أسفار التوراة وهذا ما يجعل الكتاب المقدّس كلّه في عهدة السلطان الإلهي. وعندما ندرس الأسفار على أنّها نصوص أدبية، فنحن لا نشكّ بدور موسى في أساس العهد، ولا نهدم الطابع الديني المرتبط بعناصر الكتاب، بل نسعى لاتّباع آثار عمل الله في تاريخ شعبه وللتعرّف إلى عمل الكلمة الخفيّ الذي تحدّث عبر مرسلين عديدين قبل أن يصير إنسانًا في يسوع المسيح.

II- الشريعة القديمة في مخطّط الخلاص
نودّ أن نحدّد الآن دور الشريعة القديمة في مخطّط الخلاص. وهناك نقطتان نتوقّف عندهما:
الأولى: لفرائض الشريعة دور تربوي هو أنّها تهيّئ الناس لمجيء المسيح.
الثانية: للنظم الدينية والمدنية بُعد مثالي يعلن بطريقة خفيّة وعبر الرموز حقيقة العهد الجديد، ويدلِّ على كمالها في نهاية الأزمنة.

أ- كانت الشريعة مؤدّبًا لنا إلى مجيء المسيح
هذا الكلام الذي قاله القدّيس بولس (غل 3: 24) يلخّص دور الشريعة القديمة في حياة شعب الله بما فيها من طقوس وممارسات كانت سبب خلاف بين اليهود والوثنيين الداخلين في الديانة الجديدة. ولكنّ هذا الكلام يطبّق على كل النظام الديني للعهد القديم. فأوّل وظيفة للشريعة في وجهتيها الطقسية والأخلاقية هي تأديب شعب الله وإعداده لتقبّل الإنجيل. فما كانت السمات المميّزة لهذا التأديب الإلهي، وبأيّ شيء يختلف نظام الشريعة عن نظام النعمة؟

1- طابع هذا التأديب الإلهيّ
يمكننا القول إنّ الله بدأ يؤدّب البشرية ويهذّبها قبل شريعة التوراة. فهو لم يترك الناس في ضلالهم الديني وضعفهم، فكانت فطرتهم شريعة لهم (روم 2: 14- 15) تساعدهم على معرفة الله وتبيّن إرادته. وإنّ نعمة المسيح وصلت إلى قلوبهم فأعانتهم على العمل بإرادة الله. أجل، في زمان الجهل الذي سبق إبراهيم وموسى، وفي كل المدنيّات التي لم تتعرّف إلى الوحي الكتابي، لم يزل الله يعمل في القلوب والمجتمعات ليقود الناس إلى المسيح. إلاّ أنّ هذه التهيئة ظلّت بعيدة والهدف غامضاً والوسائل ناقصة. فلمّا جاء نظام الشريعة بدأت مرحلة جديدة في مخطّط الخلاص. أخذ الله البشر من مستوى الوثنية (يش 24: 7) فرفعهم إلى مستوى آخر استطاع فيه المسيح أن يظهر بينهم ويلقي عليهم إنجيله ويبني فيهم كنيسته. هذا هو التأديب الإلهي لشعبه: تأديب تشدّد الله فيه، وتنازل إلى مستوى الناس، ثمّ رفعهم إليه بطريقة تدريجية.
تشدّد الله في تأديبه لشعبه فلم تكن وصاياه ترديدًا لعادات وصلت إليه من المجتمعِ المحيط به، بل مثالاً يفرض عليه ممارسة جميع الفضائل. تشدّد الله فجعل أمام شعبه هدفَا ساميًا يكمن في تتميم إرادته احترامًا له ومحبّة. ولم تهدف الفرائض إلى تنظيم بني إسرائيل وحسب، بل إلى إحلال الفضائل في العادات والعلاقات الإجتماعية: العدالة، محبّة القريب، واجب المساعدة لكلّ إنسان ولو كان عدوًّا، احترام حياة الإنسان وكرامته، استقامة الحياة العائلية. ولم تسعَ الترتيبات إلى تنظيم الممارسات والطقوس فقط، بل إلى تكوين ديانة حقيقية في قلب الإنسان، فتبعده عن الأوثان وتربطه بالإله الحيّ الحقيقي (1 تس 1: 9). بفضل الشريعة تمّ تأديب البشرية تأديبًا دينيًا، وفي إطار عبادة مؤقّتة تهيّأت القلوب للعبادة بالروح والحقّ (يو 23:4) التي جاء الإنجيل يعلن عنها.
وتنازل الله في تأديبه لشعبه، وهو الذي أعطاهم قاعدة حياة سامية، فتصرّف معهم كالمربّي الحكيم. بدأ فتكيّف وعقليّة الشعب الذي اختاره ودخل في عهد معه. هذا الشعب الذي كانت له مدنيّته وعاداته وتقاليده الخاصّة، احترم الله شخصيته وأعطاه شريعة توافق هذه الشخصية دون سائر الشخصيات. وتنازل أيضاً إلى مستوى ضعفه البشري فقبل بطرق ناقصة لممارسة الشريعة الأخلاقية والعدالة، وقبل، بصورة مؤقّتة، بنظم مبتورة كالطلاق وتعدّد الزوجات، بسبب قساوة قلوب الناس (مت 8:19) الذين يتوجّه إليهم. أجل، تنازل الله إلى مستوى الضعف البشري فلم تكن شرائع العهد القديم ونظمه كاملة وناجية من كل نقص وعيب.
أدّب الله شعبه فرفعه بطريقة تدريجية. انطلق من الوصايا العشر التي تكوّن قلب الشريعة فأوحى بكلامه إلى الأنبياء والكهنة والحكماء، فشدّدوا على متطلّبات الوصايا العملية في أدقّ تفاصيلها، وعمّقوا معنى الواجب في علم الأخلاق: يطيع الإنسان ربّه خوفًا ورهبة (خر 23: 21 ي)، لا بل حبّا به (تث 6: 5؛ هو 4:6) وتشبهًا بقداسته (لا 19: 2). وهكذا نجد في آخر أسفار التوراة (طوبيا، ابن سيراخ، مز 119، أي 31) تعبيرًا ساميًا عن العدالة والكمال، عن ديانة داخلية حقيقية تجعلنا قريبين من خطة الجبل التي نقرأها في مت 5-7.

2- نظام الشريعة ونظام النعمة
أدّب الله شعبه فأوصله إلى المسيح، وحمله من نظام الشريعة (كما في العهد القديم) إلى نظام النعمة (كما في العهد الجديد). وهنا نقابل بين النظامين.
إذا تأمّلنا في الالتزام الأخلاقي اكتشفناه إكراهًا يفرض ذاته من الخارج على الإنسان فيصوّب له أعماله، أو نداء داخليًا يمسّ القلوب فيدفعها بحرية شطر الخير. أمّا الإنجيل فهو نداء داخلي، نداء إلى الكمال (مت 48:5) صارت فيه شريعة المسيح (غل 6: 2 ؛ 1 كور 9: 2) مكتوبة في قلوب المؤمنين. وأقام الله فينا روحه فدفعنا إلى العمل بحسب كلمته (غل 32:5- 25؛ روم 8: 1- 4، 14- 17). وأمّا في العهد القديم فالشريعة مكتوبة في ألواح من حجر (2 كور 3: 7) وهي تلجأ إلى الإكراه الاجتماعي لتفرض على أعضاء شعب الله سلوكًا يتوافق وسلوك الجماعة. كان الناس في العهد القديم موضوعين في حراسة الشريعة (غل 23:3) التي تمنعهم من عمل الشر ولا توجّههم بحرّية إلى ناحية الخير.
هذه هي النظرة المجرّدة. ولكنّنا في الواقع نجد في العهد القديم أمورًا هيّأت الطريق للعهد الجديد. فهناك أنبياء مثل إرميا وحزقيال، وهناك أسفار مثل سفر التثنية شدّدوا على أهمّية التوبة الفردية فجاءت الشريعة مطبوعة في ضمير الإنسان ومكتوبة في قلبه لتعرّفه إلى الرب إلهه (إر 31: 33- 34). قال الرب: "أعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، أنزع منكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم. أجعل روحي فيكم وأجعلكم تسلكون في رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (حز 26:36- 27، رج أش 17:48 ؛ 7:51).
إكراه وحرّية، خوف وحبّ، هذا ما يميّز العهد القديم عن العهد الجديد. إنّ العهد القديم يزرع في قلب المؤمن لا الخوف المفعم بالاحترام أمام عظمة الله وسلطانه (خر 20: 19- 20) وحسب، بل الخوف من العقاب الذي يهيّئه للعصاه والخطأة. لهذا جاءت عظات الأنبياء والحكماء تذكيرًا بأمثلة عن عقوبات الله الرهيب في الماضي. أمّا العهد الجديد فيعتبر المحبّة أولى الوصايا (مت 22: 34- 40؛ روم 8:13- 10)، بل وصيّة الرب بالذات (يو 13: 34) وقمّة عطايا الروح القدس (1 كور 13: 1 ي)، وجوهر الحياة المسيحية (1 يو 7:4- 5: 4).
ولكن يقول القدّيس يوحنّا: "لا خوف في المحبّة، بل المحبّة الكاملة تنفي كل خوف، لأنّ الخوف هو من العقاب، ولا يخاف من كان كاملاً في المحبّة" (1 يو 18:4 ؛ رد روم 8: 15- 16). فكيف نوفّق بين العهدين؟ من جهة، تبقى المخافة الدينية تجاه الخالق أمرًا ضروريًّا في العهد الجديد (رج 1 بط 1 :17 ؛ 27:2؛ غل 2: 12)، وكذلك الخوف من عقوبات (عب 18:12- 29). ومن جهة ثانية، نُلاحظ في العهد القديم ظهور المحبّة كمحرّك للإنسان في حياته الأخلاقية. قالت الرب لشعبه: "إنّ محبّتكم لي كسحابة الصبح وكالنّدى الذي يزول باكرًا" (هو 6: 4).
والشريعة القديمة تعد المؤمنين بخيرات الأرض، إن هم عملوا بوصايا الله وفرائضه. إلى هذا الحدّ تنازل الرب فوعد بخيرات الدنيا أناسًا تعلّقوا بهذه الدنيا، ونزعها منهم يوم أخطأوا ليدل على أنّه لم يعد راضيًا عليهم. ولكنّ تأديب الرب عرف أن يوقظ عند المؤمنين الحقيقين تشوّقًا إلى خيرات السماء، فجعلهم يعبرون من نظرة إلى خيرات الزمن إلى نظرة إلى خيرات الآخرة. وعرف المؤمنون أنّهم، بعد حياة في هذه الدنيا معرّضة لكل أنواع الخيبات، سيتمتّعون بحياة مع الله لا تنتهي. قال صاحب المزامير مصلّيًا: "أنا معك كل حين، وأنت تأخذ بيدي اليمنى. تهديني بمشورتك ومن بعد إلى المجد تأخذني " (مز 73: 23- 24). وأعلن سفر دانيال (12: 2): "إنّ كثيرين من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون للحياة الأبدية". وقال سفر الحكمة: "إنّ الصديق وإن تعجّله الموت فهو يستقرّ في الراحة.. كان مرضيًا لله فأحبّه الله، كان يعيش بين الخطأة فنقله " (حك 7:4 -10 ). وقال أيضاً: "الصدّيقون سيحيون إلى الأبد وعند الرب ثوابهم " (حك 5: 15). نحن مع هذه النصوص في جوّ الرجاء المسيحي الذي سيجد في قيامة يسوع أساسه الثابت الأمين.
ومع أنّ الشريعة القديمة هي صالحة ومقدّسة (مز 8:19 ي) وروحية (روم 7: 12- 14)، إلاّ أنّها تبقى عاجزة عن خلاص البشر هي تعرّفنا بإرادة الله ولكنّها لا تعطينا القوّة الكافية لإتمامها. قال القدّيس بولس في ذلك: "الشريعة سبيل إلى معرفة الخطيئة" (روم 3: 20). استفادت الشريعة من هذا الظرف لتقود الإنسان إلى الموت (روم 7: 10- 13). ولكنّ هذه النتيجة كانت جزءًا من مخطّط الخلاص والتأديب الإلهي. إنّ الله جعل شعبه يختبر ضعفه وعجزه، كما أنّ الشريعة دلّت على الحاجة إلى الخلاص والفداء. ولقد جعل الكتاب كل شيء في حكم الخطيئة ليتمّ الوعد للمؤمنين بفضل إيمانهم بيسوع المسيح (غل 3: 22). وهكذا عملت الشريعة في العهد القديم لتبرير البشر إذ هيّأتهم لتقبّل نعمة المسيح التي كانت فاعلة منذ القديم في قلوب المؤمنين.
ب- نظم العهد القديم رمز إلى الزمن الحاضر
قالت الرسالة إلى العبرانيين (9: 9) إنّ العبادة في العهد القديم رمز إلى الزمن الحاضر هذا القول يساعدنا على تفحّص دور الشريعة في مخطّط الخلاص، وهو يرسم صورة مسبّقة عن سرّ المسيح بواسطة النظم التي كانت إطارًا أعلنت فيه الفرائض المدنية والطقسية.

1- النظم المدنية في شعب إسرائيل
إنّ أوّل الناس الذين اختبروا الإيمان المسيحي سبق لهم أن اختبروا الإيمان اليهودي. لذلك عبّروا عن إيمانهم بسرّ المسيح في أطر هيّأها لهم العهد القديم، وفي نظم تكلّموا من خلالها عن دور وطبيعة ما اختبروه في العهد الجديد. لا شكّ في أنّ كتَّاب العهد الجديد لم يستنفدوا كلّ رموز العهد القديم، ولم يحصروا تفكيرهم داخل هذه الرموز، بل تعدّوها ليعبّروا عن الحقيقة الجديدة التي جاءتهم في شخص المسيح. ونحن، إذ نتوقّف عند نظم بني إسرائيل المدنية نحاول أن نفهم كيف دلّت هذه النظم على سرّ المسيح والكنيسة.
أوّلاً: شعب إسرائيل هو شعب الله وقد اختبر في إيمانه أمورًا ثلاثة نجدها هي هي في الكنيسة: اختبار الاتّحاد بالله بواسطة العهد: أنتم شعبي وأنا إلهكم؟ اتّحاد بين أعضاء الجماعة ينبع من اتّحاد الأفراد بالله؛ انفراد الشعب عن سائر الشعوب الوثنية التي لا تعرف الله. غير أنّ اختبار الإيمان هذا يحمل في طيّاته عناصر خاصّة تُبعدنا عن شمولية الكنيسة. فشعب الله لا يختلف عن سائر الشعوب في مرتكزاته الزمنية، وعهده مع الله يكرّس روابط تنتج عن وحدة عرقية أو اتّفاق أو احتلال. وهذا ما يدّلنا على أنّ شعب إسرائيل ليس الكنيسة رغم أنّه أعلن عن سرّها من خلال البنى الزمنية. فالكنيسة هي شعب الله في العهد الجديد (أع 15: 14؛ 2 كور 16:6؛ تي 2: 14) المنفتح على الأعراق والشعوب والالسنة (رؤ 5: 9؛ 7: 9؛ 11: 9).
ثانيًا: إنّ النظام السياسي لشعب إسرائيل عرف مراحل ثلاث سنجد بعض ملامحها في العهد الجديد. في البداية كان بنو إسرائيل رابطة مقدّسة بين اثنتي عشرة قبيلة (خر 24: 3- 8) تستند إلى شريعة واحدة وعبادة واحدة. وعندما أسّس يسوع ملكوته اختار اثني عشر رسولاً (مر 3: 14- 19 ؛ مت 28:19؛ لو 3:22) لأنّ الشعب الجديد يحقّق وحدة الجماعات (والكنائس الثي أسّسها الرسل) على وحدة الشريعة (مت 5- 7) والعبادة (1 كور 11: 24- 25). بعد ذلك عرف بنو إسرائيل الملكية في عهد داود الذي مسحه الله وتبنّاه (2 صم 7: 5- 16؛ مز 89: 20 ي). وفي العهد الجديد دخل يسوع الملك (يو 33:18 ي) في مجده (أع 26:2؛ 3: 20 ؛ رؤ 5: 5؛ 19: 15-16) واحتلّ في شعب العهد الجديد المكان الذي احتلّه داود في شعب العهد القديم. وأخيرًا، عرف بنو إسرائيل بعد السبي حياة الجماعة المقدّسة المبنية على مثال جماعة البرّرة في زمن موسى، والمؤسسّة كل عبادة الله والخضوع لنواميسه. ويسوع، حين أسّس كنيسته على الرسل أرادها جماعة عابدة (مت 18:16؛ 17:18) لا ترفض الطاعة لربّها كما فعلت جماعة بني إسرائيل في البرّية (أع 39:7- 41)، وجعلها عروسًا مقدّسة لا عيب فيها، وطهرّها بماء الاستحمام (أف 5: 25- 27).
ثالثًا: أعطى الرب شعبه أرضاً تدرّ لبنًا وعسلاً، أرضاً يجد فيها بنو إسرائيل سعادتهم، إن هم ظلّوا أمناء للعهد حافظين للشريعة. أمّا في العهد الجديد، فاختبار الإيمان يدخلنا في نظام جديد يتعدّى معطيات الأرض. غير أنّنا لا نقدر أن نعبّر عن سرّ السماء إلاّ بكلمات من عالم الأرض. فنتحدّث عن "الوطن " (عب 11: 14- 16) السماوي حيث لنا مدينة المستقبل (عب 14:13). ونتطلعّ إلى موطننا في السماوات فننتظر مجيء المخلّص يسوع (غل 3: 20)، ونتوق إلى أورشليم الجديدة أمّنا (غل 4: 26؛ رؤ 21: 10 ي). لقد كانت أورشليم، عاصمة مملكة داود، صورة ناقصة عن أورشليم السماوية، كما أنّ أرض إسرائيل كانت صورة ناقصة عن الفردوس الذي تتوجّه نحوه الكنيسة منذ الآن ببنيتها الظاهرة، إلى أن يظهر ربّنا يسوع المسيح (1 تم 6: 14) في منتهى العالم.

2- نظم العبادة في بني إسرائيل
إنّ نظم العبادة في العهد القديم رسمت صورة مسبّقة عن العبادة الكاملة في العهد الجديد، فرمزت إلى المسيح وإلى الكنيسة ببنيتها المتطوّرة، وإلى الأبدية حيث سيلتقي أعضاء الكنيسة برئيسهم الممجد. ونتوقّف عند بعض نظم العبادة.

أوّلاً: الكهنوت
عرف العهد القديم كهنوتًا يمارسه رب العائلة أو القبيلة والملك (2 صم 2: 17- 18 ؛ 1 مل 8 : 55 ي؛ مز 110: 4) أو يمارسه بنو لاوي. تقوم وظيفة الكاهن بأن يكون وسيطاً بين الله والبشر فيرفع إلى الله صلوات الناس وتقادمهم (عب 5: 1) ويوزع على البشر بركات الله عبر رتب وممارسات يقوم بها لتقديسهم. ولكنّ هذا الكهنوت في العهد القديم كان ناقصاً، لأنّه لا يستطيع الحصول على مغفرة الخطايا ولا أن يقود الناس إلى الكمال (عب 10: 1، 11). ولهذا بتي هذا الكهنوت مؤقّتًا بانتظار الكاهن الأعظم، يسوع المسيح، حبر الخيرات الآتية (عب 9: 11) الملتحف بكهنوت أزلي (عب 7: 24) والقائم في القداسة (عب 7: 26) والمتّحد بالله (عب 9: 11- 12). إنّه الوسيط الحقيقي (عب 6:8) الذي يربط الناس بالله فيخلّصهم ويقدّسهم (عب 5: 9 ؛ 7: 25؛ 10: 14).

ثانيًا: الذبائح
تجد الديانة كمالها في المسيح، إذ فيها تتمّ عودة الإنسان إلى الله، وعودة يسوع إلى أبيه عبر آلامه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء (يو 13: 1؛ 14: 28)، وعودة كل البشر إلى الآب بواسطة يسوع الذي هو الطريق والحق والحياة (يو 14: 6- 7). انطلاقًا من هذا الواقع، نفهم جوهر ذبيحة يسوع التي تكمن في تقدمة ذاته للآب في حياة طائعة انتهت بالموت على الصليب (عبْ 10: 5-10). هذه هي الذبيحة الحقّة والوحيدة التي حصلت للإنسان على الخلاص وأدّت المجد لله (يو 17: 1- 2). إنّها ذبيحة قدّمت مرّة واحدة (عب 27:7) في نهاية الأزمنة، فكان لنا بها الفداء الأبدي (عب 9: 12) والتقديس بالقربان الذي قرّب فيه يسوع جسده مرّ واحدة (عب 9: 12). أرادت ذبائح الشريعة القديمة أن تصل إلى هذا الهدف، ولكنّها كانت أضعف من ذلك، إلاّ أنّها قدّمت لنا ملامح مسبّقة عن ذبيحة المسيح، فاستفاد منها العهد الجديد ليحدّثنا عن مضمون حياة يسوع وموته. فيسوع قدّم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله طيّبة الرائحة (أف 2:5؛ رج مز 7:40)، قدّم نفسه فداء وكفّارة (مز 45:10؛ روم 25:3) فجعل من دمه دم العهد الذي يراق من أجل جماعة كثيرة لمغفرة الخطايا (مت 26: 26- 28 ؛ رج 1 كور 16:10).

ثالثًا: المقدّسات
ونعني بالمقدّسات المعبد والأواني التي تستعمل لتقدمة الذبائح. كان المعبد يرتفع في الهواء الطلق (تك 12: 27 ؛ خر 20: 24- 26). ثمّ تركّز في خيمة الشهادة أو الموعد أو الاجتماع (خر 24: 4- 8؛ عد 11: 16- 24). وفي النهاية صار هيكل سليمان (1 مل 6 - 8). المعبد هو علامة حضور الرب على الأرض، لأنّ قلبه هو تابوت العهد الذي يذكّر الشعب بإله سيناء. في المعبد يجلس الرب على الكروبيم (خر 18:25؛ 1 صم 4:4 ؛ 1 مل 27:8- 29) وتخدمه السرافيم (أش 6: 1 ي). ولكن، مع كل هذا، نبقى أمام صورة ناقصة ستساعد بني إسرائيل على تصوّر مسكن الله في السماء. وهذه الصورة ستزول بعد تأنّس ابن الله الذي صار جسده علامة حضور الله على الأرض (يو 2: 19- 21). وبعد قيامة يسوع سيكون لسرّ جسده امتداد في لسرّ القربان المقدّس (1 كور 11: 24- 25) وفي الكنيسة (1 كور 3: 16- 17؛ أف 2: 20- 22). أمّا في أورشليم السماوية فلن يبقى إلاّ حضور الله الحيّ وسط شعبه (رؤ 3:21، 22).

رابعًا: الممارسات الدينيّة
نذكر الختان الذي يدلّ على دخول الإنسان في شعب الله (تك 17: 9- 14): إنّ عهد الله مطبوع في لحم الناس الذين يؤلّفون شعب الله. وسيعمل العهد القديم على روحنة هذه الممارسة فتصبح ختانة اللحم وكأنها لا شيء تجاه ختانة القلب التي تربط الإنسان بالعهد (تث 16:15؛ 6:30؛ ار 4: 4). انطلق العهد الجديد من هذا الكلام (أع 7: 51) فبيّن أن لا أهمية إطلاقًا لختانة اللحم (1 كور 7: 19؛ غل 5: 6 ؛ 6: 15؛ روم 2: 25- 29)، وأنّ المسيحيين هم المختونون الحقيقيون (غل 3:3) بختانة روحية أعطيت لهم في المعمودية (كو 2: 11- 13) فأدخلت الإنسان في عداد شعب الله.
ونذكر أيضاً الفصح حيث الممارسة الدينية ترتبط بتذكّر الخروج من أرض مصر إنّ المسيح المذبوح على الصليب قد حلّ محلّ حَمَل الفصح القديم (1 كور 7:5؛ يو 36:19؛ رؤ 6:5)، والوليمة القربانية (في الإفخارستيّا) حلّت محلّ الوليمة الفصحية (الحَمَل الذي يذبح في 14 نيسان). ونذكر أخيرًا ذبائح التكفير التي هدفت إلى إعطاء الناس الطهارة والقداسة، ولكنّها كانت بدون جدوى. أمّا المسيح فدخل الأقداس مرّة واحدة فكسب لنا فداء أبديًا. قرّب نفسه إلى الله بروح أزليّ، قربانًا لا عيب فيه فطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة وأهّلنا لنعبد الله الحيّ (رج عب 9: 11- 14).

الخاتمة
وهكذا ما زالت الشرائع والنظم تنقل إلينا تعليمًا إلهيًا. ولكن لمّا جاء المسيح خسرت علّة وجودها على مستوى قانون نتبعه وطريق نسير فيها. وإذ ألغى الله الشرائع الناقصة المعدّة لنظام مؤقّت في حياة شعبه، ألغى في الوقت عينه البنى الناقصة التي توجّه هذه الشرائع. أو بالأحرى، صارت الآيات الناقصة من دون جدوى لأنّها تمّت في واقع أرفع منها وهو حضور سرّ النعمة في نظم الكنيسة. ونحن العائشين على مستوى الإيمان لا على مستوى العيان، ننتظر أن يُرفع الحجاب الأخير ويَتمّ الاتّحاد مع الله فنراه وجهًا لوجه.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM