الكتاب المقدس وحقوق الإنسان الأخت

الكتاب المقدس وحقوق الإنسان
الأخت باسمة خوري


ولدت شرعة حقوق الانسان من الناحية التاريخية خارج الكنيسة، وقد رفضها الجميع لمدة طويلة، وساندها العديد من المؤمنين وغير المؤمنين. وفي النضال لتطبيق هذه الشرعة يستند المناضلون الى نصوص قانونية والى تصريحات عالمية هي نتيجة سنوات عديدة وظروف تاريخية وحوارات واتفاقات. ولا يحاول المناضلون الاستناد في ذلك الى النصوص الكتابية كما انهم لا يحاولون تبرير التزاماتهم الإنسانية من خلال كلمة الله. لا بل على العكس من ذلك، في هذا العالم الذي كبر فيه الوعي الإنساني وكثُر فيه الحديث عن الحق والحقوق، وتنامت فيه الإرادات لرص الصفوف والعمل على تنفيذ الشرائع التي ترعى حقوق الإنسان كل الإنسان، تبدو الصفحات الأولى في الكتاب المقدس عائقاً أمام المؤمنين. فكيف يمكننا أن نقبل بكتاب مقدس يجب أن يكون المعقل الأول للدفاع عن حقوق الإنسان في حين أن صفحاته لا تخلو من جرائم تقشعر لها الأبدان، ومن مكائد تطال الأخوة كما تطال الأعداء؟ وكم مرة سمعنا مؤمنين ينادون بطيّ صفحات العهد القديم لأنه يتكلم عن إله قاس، قاتل لا يرحم، إله لا يشبه إله يسوع المسيح بأي صورة من الصور؟ فما هي قصة حقوق الإنسان في الكتاب المقدس، وكيف نفهم كل هذه الجرائم التي تزخر بها صفحات الكتاب ؟ وهب نجد في هذا الكتاب شرعة تحمي حقوق الإنسان؟

إنسانية العهد القديم
في فجر الإنسانية والإنسان في بدء تطوّره الثقافي والعلمي والفلسفي، كان وعي الإنسان في طور الولادة، وعياً بسيطاً غير ناضج؛ إنه وعي الإنسان الأول لأبسط قواعد الأخلاق : سعي لاستمرارية العيش ولو على حساب حياة الآخر. في هذه الفترة من الحياة الإنسانية، كان الإنسان بربرياً جاهلاً إن عقلياً أو نفسياً أو أخلاقياً، وعلى هذا الأساس يجب أن نفهم أولى الصفحات البيبلية.
نتذكر مثلاً قايين الذي افتتح شريعة الغاب حيث يتخلّص الأقوى من الأضعف، أو نتذكر معاصري نوح الفاسدين لدرجة أنهم أوصلوا الله نفسه لقطع الرجاء منهم ؛ نتذكر أهل بابل المتكبرين الى حدّ انهم ارادوا وضع أنفسهم مكان الله ذاته فوصلوا الى الفشل الذريع والإنقسام الكامل والإقتتال فيما بينهم. في خضم هذه المتاهات، يظهر إبراهيم وكأنه منارة في ليل حالك، وحيداً بين جماعات فاسدة وهمجية يرمز اليه الكتاب المقدس بمدينة سادوم، التي لم يستطع الله أن يجد فيها عشرة أبرار بحيث ينقذها من الدمار لأجلهم؛ ولا تبدو مدينة عامورة أفضل حالاً : انهما صورة المجتمع في ذلك الوقت.
ويصل الشر الى عائلة إبراهيم بالذات، فنرى لوطاً يعرض بناته فريسة لسكان سادوم، ثم نراهما يوصلان أباهما للسكر فيناما معه ليؤمّنا ذرية تبقى ! نحن نتفهّم طبعاً دوافع فعلتهما بحسب القيم التي كانت سائدة في تلك الأيام، ولكن هذا ما يدفعنا للتأكيد بأن إنسانية ذلك الوقت كانت لا تزال في طور الهمجية.
في نهاية حياة إبراهيم، نفهم أن ممارسة ذبائح الأطفال كانت طبيعية لدرجة أن إبراهيم كان يظن بأن الله يطلب منه إكمال هذه الممارسة، الى أن فهم أن هذا الطلب كان امتحاناً لإيمانه فقط (تك 22: 1). وكيف نفهم ضرب الإحتيال الذي قام به يعقوب بمعاونة أمه رفقة ضد أخيه عيسو ؟ أليست سرقة دور البكر جريمة حقيقية ؟ صحيح أن الله يحوّل الشر الى عناية إلهية لخير البشرية، لكن عمل يعقوب كان قد تسبب بنفور دائم بينه وبين أخيه.
وننتقل الى الجيل الأصغر فنرى أن التعدي على دينا ابنة يعقوب كان السبب في ثأر همجي لم يطل الفاعل وحسب بل أدى الى هجوم إخوتها على كل مواطني الفاعل وقتلهم دون أي تردد وبكل برودة أعصاب. إن في ذلك تأكيد جديد على غياب أي قانون يحكم في الخلافات، ويكون الحق الفاصل لحل المشاكل بين الناس في تلك الحقبة من التاريخ؛ هذا ما جعل من الهمجية قوة بلا حدود كما يظهر من ردة فعل يعقوب أمام جرائم أولاده، فلا يلومهم إلا على طيشهم القادر أن يؤدي الى خطر ممكن على حياته (تك 34: 30).
وهذا ليس الحدث الوحيد، فسفر التكوين يخبرنا عن بطولات أبناء يعقوب ضد ...أخيهم يوسف. لقد أراد هؤلاء أن يقتلوا أخاهم (تماماً كما قتل قايين أخاه هابيل) واستطاع روبين أن ينجيه من الموت في اللحظة الأخيرة بمساعدة أخيه يهوذا، ولكن يتأكد لنا أن في قلوب "الآباء" الثمانية الباقين قتلة لا يتورّعون عن تصفية أخيهم.
في تلك الأيام ... لم يكن لحق الإنسان بالحياة وجود، فنشهد مشروع إبادة جماعية من قبل المصريين تجاه العبرانيين الذين تكاثروا في مصر، فيأمر الفرعون بقتل كل صبي عبراني عند ولادته (خر1: 15- 16). إن قسوة الإنسان لا تقتصر على البالغين بل تقتل الأطفال الأبرياء الذين لا قدرة لهم على الدفاع عن أنفسهم : هذه هي قمة الهمجية.

المبادرة الإلهية لإنسانية أكثر إنسانية
في هذا الوقت ستشهد البشرية خطوة كبيرة في طريق تقدّم الوعي الأخلاقي الإنساني محو العدالة والتفتيش عن حق الإنسان وذلك من خلال القابلات اللواتي عصين أمر الفرعون ولم يقتلن الأطفال رغم الخطر الذي كان محدقاً يهن، وذلك لسبب واحد "كن يخفن الله" (خر1: 17). إن خوفهن الله هو اول دفاع جماعي ومنظّم عن حق الطفل بالحياة. ،حده خوف الله أوقف قتل الضعيف، وبفضلهن عاش موسى.
ولكن القاتل لم يستسلم فأمر برمي الأطفال بالنهر فكان هذا مصير موسى. وهنا تظهر بادرة أخرى لحماية الحياة وقد أتت هذه المرة من إبنة الفرعون بالذات التي تجاهلت أمر والدها الفرعون فانتشلت الطفل المحكوم بالموت غرقاً، وأدخلته قصر الفرعون ليحيا ويتعلّم (خر 2: 6).
ثم أتى دور موسى ليأخذ مكانه في الحرب ضد الجرائم وفي الدفاع عن حق الضعيف في وجه القوي. فبعد دفاعه هن عبراني ضعيف ضد مصري قوي، دافع عن عبراني أقوى واضطر بسبب دفاعاته هذه للهرب من مصر الى صحراء سيناء في بلاد مدين. هنا أيضاً نراه يدافع عن نساء يستقين أمام رجال أخذوا مكانهن لأنهم الأقوى (خر 2: 17). لقد بدأت رياح التغيير تهبّ على شريعى الغاب القاضية بحق القوي على الضعيف. فبعد الدفاع عن حق الطفل بالحياة، بدأ الدفاع عن حق المرأة بالمساواة وحق الأضعف بالعدالة. ولكن للأسف لم يكن باستطاعة موسى وهو المطرود من بلده أن يقوم بالكثير تجاه شعبه المستعبَد في مصر، ولا تجاه الضعفاء في أي مكان. إن قوة الإنسان وحدها غير قادرة على تغيير واقع الجريمة والظلم.
هنا تدخّل الله الذي لم يكن موسى يعرفه حتى الآن. تدخّل في حياة موسى اليائس الخائف الذي فشل في محاولاته المتعددة لمحو الجريمة والظلم من الإنسانية. تدخّل الله في العلّيقة المشتعلة ليعرّف عن ذاته "أنا إله أبيك، إله إبراهيم واسحق ويعقوب ... لقد رأيت آلام شعبي في مصر، وسمعت صراخهم ... ونزلت لأخلّصهم من أيدي المصريين ولأخرجهم ... والآن أني ارسلك الى الفرعون لتخرج شعبي ... (خر 3: 12- 18). نحن لا نجد في هذه الآيات فصلاً بين الحرية الجسدية والحرية الروحية (خر 3: 12- 23)، وحرية العبادة (خر 10: 24- 26). إن الدفاع عن الحياة الروحية مساوية للدفاع عن الحرية الجسدية. لقد عاش الناس حتى الآن في ظل همجية القوي الذي يحق له قتل الضعيف، ونموا في ظل قانون غير موجود يعطي الضعيف الحق باغتصاب حق الأضعف. في صفحات الكتاب المقدس الأولى صورة عن البشرية في طورها الأول والتي تجهل معنى الأخلاقية الإنسانية الحقّة. مع هذه البشرية نواكب مسيرة التحوّل اإنساني.
مع موسى نشهد تدخّل الله في حياة الإنسان الساعي نحو الوعي الأخلاقي والعدالة والحق. لقد قرر الله ان يتدخّل، ولكنه لم يفعل ذلك إلا عندما فهم الإنسان انه، بعيداً عن القوة الإلهية، يبقى عاجزاً عن إحقاق العدالة. ويبدو ان وعي موسى لضعفه جعله قادراً على أن يكون رسول الله للفرعون وللشعب "من أنا لأذهب الى الفرعون وأُخرج أبناء إسرائيل؟" فيجيبه الله "أنا اكون معك" (خر 3: 12). ومنذ ذلك الوقت أخذ الله على عاتقه همّ موسى الأول بالدفاع عن الضعفاء، والذي لم يكن بمقدوره أن يحققه. بمبادرته، أراد الله ليس فقط أن يفهمه أنه يأخذ المبادرة لإحقاق العدالة، بل انه يأخذ المبادرة الأولى لتحرير الشعب، وأن موسى سيكون الناطق بإسم الإرادة الإلهية. وتظهر نصوص حدث الخروج استحالة تحقيق العدالة واحترام حقوق الإنسان بعيداً عن الله، كما تؤكد أن مساعدة الرب والاعتراف بعمله الخلاصي، هو ما يحقق الحرية التي يحلم بها الإنسان.
فلنعترف دون خوف بأنه طالما بقيت مطالبتنا بإحقاق حقوق الإنسان ملحدة، بعيدة عن العلاقة بالله، فسوف تبقى كلمات بالهواء، أو نصوصاً قانونية لن تصل إلا الى اختلافات بابلية أو الى ظلم أكبر يحل مكان الظلم الأصغر، أي عدالة الأقوى.
مع تجلّي الله لموسى على جبل سيناء، ظهرت مرحلة جديدة هي بالحقيقة خطوة عظيمة الى الأمام. منذ تجلّي سيناء، أصبح احترام الحقوق الأساسية للإنسان أمراً مفروغاً منه. أعطى الله لموسى الوصايا العشر. بهذه الوصايا نقل الله شعبه من وضع الضعيف المحميّ ، الى وضع المسؤول. اختاره ليكون مثالاً أمام الشعوب الأخرى، اختاره ليخرج من قوقعته واطمئنانه، ليقوم بواجباته بالدفاع عن حقوق الآخرين كل الآخرين.
إن معنى الوصايا العشر يكمن في إخراج الإنسان من وضع الدفاع عن نفسه الى موقع المهتم بواجباته تجاه الله وتجاه الآخرين. فكلما تمّم البشر واجباتهم، غابت انتهاكات الحقوق. إن الله لم يعطِ هذه الواجبات الأساسية للشعب الظالم بل للشعب الضحيّة، لأن الإلتزام الأخلاقي يأخذ دور الأولوية أمام المطالبة بالحقوق ما إن يصبح الإنسان بمعزل عن الخطر. إن واجبات الإنسان الآمِن أكثر بكثير من حقوقه التي يطالب بها.

إله العهد القديم، إله محرِّر
يكشف الله عن ذاته من خلال العهد القديم على انه الإله الذي يحرر، الإله الذي يعاهد، انه إله الحياة وإله الفقراء. وقد إكتشف شعب الله مع الوقت ومن خلال خبراته العديدة ، وجه هذا الإله الذي سيأتي ليحقق هذا الوحي كمن يبحث في العتمة.
يأخذ الله الكلام للمرة الأولى في سفر الخروج، ليشجب التحقير والظلم الذي يتعرّض له شعبه: "لقد رأيت مذلّة شعبي في مصر وسمعت صراخه... إذهب الآن، اني أرسلك الى فرعون، لتخرج شعبي من مصر..."(خر 3: 7- 10)، عندها كشف الله عن اسمه، وعن قراره بالتدخل في التاريخ بإسناده الى موسى مهمة تحرير شعبه. سيبقى يهوه الى الأبد "من يخرجنا من مصر بيد قوية وذراع ممدودة" ( تث 6: 20- 25؛ 26: 4- 9 ؛ عا 3: 12...) هذه الذكرى ستقوّي شعب اسرائيل على مدى تاريخه. "إن الله لا يريد عبيداً إنه يريدنا أحراراً"
الله هو إله العهد
دعا الله الشعب الذي حرّره من العبودية ليكون شعبه. دعاه ليحمل مسؤوليته، اعترف بكرامته وجعل منه شريكاً له. إن لنا في تاريخ اسرائيل الطويل المنسوج من الأخطاء وعبادة الوثن والحروب والعنف...درساً يدعونا الى عدم اليأس من الإنسان. إن الله يدعو هذا الإنسان وبشكل دائم كي يتحرر من العبودية ليكون شعب الله.
ولكن لكي يحيا العهد، يحتاج هذا الشعب الى قانون يعلّمه :
احترام الحياه "لا تقتل"
احترام مقتنيات الغير "لا تسرق"، "لا تزن"، "لا تشهد بالزور"
احترام الأضعف العبد، الغريب، الأرملة واليتيم.
يطلب منه ان لا ينام قبل أن يدفع لأجيره أجرته، والى عدم الاحتفاظ بالرداء المرهون لفترة الليل... (خر 21و22؛ لاو 19؛ تث 42). ويربط الأنبياء والمزامير بشكل دائم الأمانة لله الحق باحترام شريعة العهد.
الله هو إله الحياة
يصف لنا سفر التكوين فرح الله العظيم أمام ظهور الحياة " ورأى الله ذلك أنه حسن". وكان تتويج عمل الخلق هذا، بأن "صنع الله الانسان على صورته ومثاله" (تك 1: 26). هذا النص هو تشريع بيبلي لمختلف المفاهيم المسيحية المختصة بحقوق الانسان وهو ما عبّرت عنه الشرعة المسكونية بمناسبة الذكرى الثلاثين لإعلان حقوق الانسان بقولها "علينا ان نعتبر كل كائن بشري حتى المحتقر في عيون الناس، على أنه صورة الله ذاته" .
الانسان، رجلاً وامرأة ، هو المخلوق الوحيد الذي يقول الكتاب المقدس انه خلق على صورة الله. هذا ما يعطيه كرامة ليست لغيره من المخلوقات. لقد وضعه الله في مقابله ، يتوجه اليه ويكلّمه ويسند اليه مهمة الاهتمام بالخلق. وأجمل تعليق على آية من سفر التكوين (2: 26) هو المزمور 8
ما الانسان حتى تذكره؟
ابن آدم حتى تفتقده؟
ولو كنت نقصته عن الملائكة قليلاً
بالمجد والكرامة كللته
سلّطته على أعمال يديك، وجعلت كل شيء تحت قدميه
إن الله هو دون أدنى شك غير المدرك، من لا نستطيع أن نراه ولا أن نسمّيه، ولا أن نضع يدنا عليه: "ليس بمقدورك أن تراني، لأنه لا يمكن لإنسان أن يرى الله دون أن يموت" (خر 33: 20) لكن كل مخلوق على صورته ومثاله هو أيضاً غير مدرَك، هو آخر علينا احترام حياته :" عن دم كل انسان أطلب حساباً من أخيه الانسان. من يسفك دم الانسان يسفك الانسان دمه. فعلى صورة الله صنع الله الانسان" (تك 9: 5-6). نحن لا نستطيع احترام الله إن كنا لا نحترم من هو على صورته. "لا أحد يستطيع أن يحب الله وهو لا يحب أخاه" يقول القديس يوحنا.
إقترح الله على شعبه سبل الحياة ( تث 30: 15 ؛ إر 21: 8؛ أمثا 2: 19؛ مز 16: 11) وهذه السبل ليست إلا سبل العدالة لأن "العدالة هي طريق الحياة" (أمثا 11: 19). واحترام الحياة هو احترام كل ما يسمح بالحياة . هذا ما أعلنته شرعة لاهوتيي العالم الثالت في نيودلهي 3891 عدد 25 بقولها " ان الايمان بإله الحياة هو ايمان بالمحبة وبالعدالة وبالسلام وبالحقيقة وبملء الوجود البشري. هو أيضاً شجب لكل أسباب عدم أنسنة شعوب العالم الثالث، ومواجهة كل ما يهدد او يطفيء حياة البشر".
الله هو اله الفقراء
يصدح صوت الفقراء في كامل العهد القديم والله يسمع. والفقير في لغة العهد القديم هو من لا يملك مصدراً لعيشه، وهو خاصة من ليس له ملجأ ولا معين يدافع عنه في وجه الغني أو القوي الذي يظلمه ويستغله. هو الأرملة واليتيم والفاعل المياوم والعامل الغريب والأعمى والمعاق الخ.
تقوم مسؤولية الملك في كل الشرق القديم عادة في "إحلال العدالة" لهؤلاء الفقراء، أي حمايتهم وفي حال الضرورة الأخذ بثأرهم ضد ظالميهم. إن دور السلطة السياسية تكمن في حماية الصغار، لأن الآخرين قادرون على حماية أنفسهم. ولكن في اسرائيل الله هو الملك، وإن كان ملكه لم يظهر بملئه بعد بانتظار زمن المسيح أو الأزمنة النهائية، فإن ذلك لا يعني أنه غير موجود. فالاهتمام بالفقراء هو هم الله الأول، المحتقرون والبؤساء والمرضى هم جميعاً المفضّلون عند الله، ليس بسبب استحقاقاتهم بل لأن الرب في جوهره إله محامٍ "ينصف المظلومين، ويرزق الخير للجياع، ويطلق الأسرى. يحرس الغرباء ويعين الأيتام والأرامل" (مز 641: 7). ولأن هذا هو اهتمام الله فإنه يشكل واجب المسؤولين أولاً، وواجب كل مؤمن أيضاً "لا تظلم الغريب ولا تضايقه، فأنتم كنتم غرباء في أرض مصر. لا تسء الى أرملة ولا يتيم فإن أسأت اليهما وصرخا اليّ أسمع صراخهما فيشتد غضبي" (خر 22: 20- 23). ومقياس الأمانة للعهد هو الاهتمام بالفقير. هذا ما يذكّر به الأنبياء دون ملل، في معرض شجبهم للظلم كما لعبادة الوثن (راجع عاموس 3: 13- 16؛ 10: 1- 2...).
حدود العهد القديم
من خلال الوصايا العشر طلب الله من الشعب أن يعترفوا به أوّلاً ذلك لأنه يعرف أن من يبتعد عنه يبتعد في الوقت عينه عن كل أخلاقية، لأنه هو مصدر الأخلاق ومنبع الحياة. لكن هذه الوصايا تحوّلت مع الوقت الى شريعة جامدة قاسية، فأُفرغت من معناها، وأصبحت جثة بلا روح.
هنا تأتي الخطوة الإلهية الأعظم في طريق تطوّر الوعي الإنساني بحسب الكتاب المقدس، والمتجسّدة بحياة يسوع المسيح، وموته وقيامته، ورسالة من آمنوا به وبتعليمه بتأثير من الروح القدس. لقد أعلن يسوع منذ البداية أنه لم يأت لينقض ما سبقه بل ليتممّه (متى 5: 17- 19). علّم يسوع بسلطة، دون عنف ولا ضعف، وقد شرح ان الإلتزام الأخلاقي الذي يرضي الله لا يقوم بالأعمال بل يبدأ بالنوايا. من هنا فإن جرائم القتل والزنى ... تبدأ أولاً في الداخل قبل أن تظهر للعيان. كذلك الأمر بالنسبة للصلاة والصوم والصدقة وكل الفضائل الأخرى فإنها ليست مراءاة ليراها الناس. مع يسوع لم يعد هناك تشريع ممكن لأنه نقلنا من المستوى القانوني الى مستوى حقوق الإنسان، ومن مستوى الشريعة الموسوية أو المستوى الأخلاقي الى مستوى المحبة أي المستوى الروحي، هذا ما يرمز اليه مثَل فعَلة الساعة الحادية عشرة، ومثَل الإبن الضال، وما يعلّمنا إياه الرب من خلال عفوه عن المرأة الزانية، وبطلبه من بطرس الغفران سبعين مرة سبع مرات.
لقد رافق الله مسيرة الإنسان من الحياة الوحشية التي تطالب بحياتها على حساب حياة الآخر، الى الدفاع عن حق الضعيف في وجه القوة، ثم الى وضع قوانين تحفظ حقوق الأضعف، ومن ثم الى تحمّل مسؤولية القيام بواجباته تجاه الآخرين قبل المطالبة بحقوقه الخاصة، حتى أنه تجسّد ليوضح للإنسان الأول ان المحبة تقوى على القانون، وأن حق الإنسان الأول هو أن يكون محبوباً مغفوراً له.
يسوع آدم الجديد
يسوع آدم الجديد هو "صورة الله الذي لا يرى ، بكر الخلائق كلها" (كول 1: 15). مع يسوع أصبحت دعوة كل إنسان ان يصير "مطابقاً لصورة الإبن" (رو 8: 29).
يسوع يظهر محرِّراً لشعبه
يسوع هو موسى الجديد (راجع الهرب الى مصر، عظة الجبل، التجلي...). انه الآتي ليعلن البشرى السارة للفقراء، الآتي لينادي بالحرية للأسرى، وليعلن الوقت الذي فيه الله يقبل شعبه (لو 4: 18- 19). وليست الشفاءات التي تممّها يسوع إلا آيات تظهر تحقيق الوعود. فبين كشف الرب عن ذاته وبين التحرير علاقة وثيقة.
إن إعلان الإنجيل يحرر، لإنه يخلق أزمنة جديدة ويضع الانسان في مسيرة مع آخرين. لقد دخل الله في التاريخ ليرسلنا لنحرر شعبه وليكتب التاريخ معنا.
إن الرجاء بالدخول يوماً الى الأرض الموعودة حيث "لا يكون حزن ولا صراخ ولا ألم" (رؤ 21: 4) ليست أفيون الشعب، إنه كسر للقدر وخلق لدينامية الهية. اليوم هو يوم بناء هذه الأرض. إن للتاريخ معنى ونحن قادرون على أن نكون صانعيه.
يسوع نفسه هو البشارة الجديدة
بيسوع أصبح الله مشابهاً للبشر، به أُبرم العهد بين الله والبشرية. صار يسوع واحداً منّا، كأحد الذين لم تحترم حقوقهم. هنا يكمن الخلاص، لأن اللقاء مع الله يكمن في اللقاء مع الجائعين والعطاش، مع العراة والمرضى، مع الغرباء والمسجونين "كل ما تعملونه لأحد هؤلاء الصغار، فلي تعملونه" (متى 25).
قدّم بيلاطس يسوع المرذول والمحكوم عليه بالموت والمكلَّل بالشوك للعالم قائلاً : "هذا هو الرجل". ويرد عليه صوت قائد المئة وكأنه صدى "كان هذا حقاً ابن الله".
أن نرى في كل انسان محتقر ومعذَّب ومرذول ابناً للّه ، هل هناك سبب طاريء أكثر من ذلك للدفاع عن حقوق هذا الانسان؟ وقد وثق الله في الوقت عينه، بهذا الانسان مهما كان خاطئاً "قصبة مرضوضة لا يكسر ، وعوداً مدخناً لا يطفيء" (متى 12: 20).
يسوع الى جانب الفقراء
"هو الذي في صورة الله ... أخلى ذاته آخذاً صورة العبد" (فيل 2: 6- 7). في معرض رفضه لمسيحانية القوة، لم يركّز يسوع رسالته على السلطة السياسية ولا على الأغنياء والقوة الاقتصادية، ولا على القوى المسلّحة، حتى ولا على السلطة الدينية. لقد أتي ليخدم، فوضع ذاته في خدمة الأصغر. هذا ما نراه من خلال اختياره للرسل، ومن خلال ممارساته اليومية مع الجموع، والمرضى والخطأة. ولكي يشبّه ملكوته، أعطى مثلاً الأطفال، والكنعانية التي تطلب فتات طاولة الأبناء، والأرملة التي أعطت فلسها، والسامري الذي جعل من نفسه قريباً للرجل المتروك على قارعة الطريق، والعشّار والخاطئة. أعاد لكل شخص كرامته. قدّر ايمان الكنعانية، وقدرة الأطفال على دخول الملكوت، وكرم الأرملة الفقيرة وبذل السامري لذاته، قدَّر حقيقة السامرية ورغبتها، كما قدَّر حب الزانية. أخرج من شفاهم من عزلتهم : تبعه ابن طيما الأعمى الجالس وحده الى جانب الطريق مع الجموع؛ وأرسل البُرص الى الكهنة ليُظهروا شفاءهم والمسكون ليبشر مدينته. من الرعاة الى اللص التائب، كل المنبوذين مدعوون لأن يصبحوا من تلاميذه. مات يسوع ليشهد بأي جدية يجب علينا احترام الآخر وتحرير الضعيف، مات يسوع كي تحلّ العدالة، وموته أكبر شهادة على عدم انسانية مجتمعاتنا البشرية، موته شهادة لنا تؤكد انه من المستحيل احقاق واحة من السعادة والراحة ان استخففنا بالآخر أو سمحنا باستغلاله.
لقد طوّب يسوع الفقراء ليس لكونهم فقراء، بل لأنهم لا يظلمون. طوّب المضطهدين ليس لأنهم مضطهدون بل لأنهم لا يضطهدون. من خلال التطويبات التي تؤكد أن الضعيف والفقير والمظلوم هم ورثة الملكوت، يظهر التناقض مع مجتمعاتنا العنيفة، لا تبرر التطويبات الألم والأسى بأي شكل من الأشكال، بل تعلن أن الانسانية ما زالت هدفاً يجب أن نعمل لتحقيقه. فعدم الانسانية موجود والانسانية هي في طور التحقيق، فإن كانت ولادتها عسيرة ومؤلمة فذلك لأن عدم الانسانية يحيط بنا من كل جانب.
إن صليب يسوع هو نبوءة تعلن ان الانسانية تولد من التأمل في ولادة صعبة. لا يمكن للانسانية أن تكون شيئاً تلقائياً، طبيعياً. انها نتيجة جهد دائم من أجل السيطرة على العنف الذي يملك على كل علائقنا الانسانية.
خاتمة
لا يمكن لحقوق الانسان ان تتحقق دون أن تمر بعمل جاد لأنسنة المجتمعات، ولبناء عالم أكثر عدالة كل من موقعه. لكننا لا نستطيع أن نحققه إلا سوياً، مع الآخرين، مع أكبر عدد ممكن من الناس.
إن كلمة الله لا تتركنا نرتاح. انها نور، وقوة، وتحدٍ للسير دائماً قُدماً، من أجل الدفاع عن كرامة هذا الانسان، رجلاً وامرأة وطفلاً، هذه الانسانية الغالية جداً في نظر الله. بدفاعنا عن حقوق الانسان، نكون تلامذة من أراد ان تكون لنا الحياة وافرة (يو 10: 10) لأنه نبع الحياة (يو 4: 14)، وخبز الحياة (يو 6: 35)، وهو من يعطي الحياة للعالم (يو 6: 33، 15)، وقد وضع في قلوبنا الرغبة في أن نرى حياة كل من أخوتنا محترمة مصانة.
فالانسان مدعو من خلال القيامة أن يصبح إنساناً جديداً. لقد شفيت الانسانية بقيامة المسيح فصار الانسان في مسيرة للولادة الجديدة. بالقيامة تغيّرت كل القيم القديمة القائمة على التمييز والحواجز أمام الحياة فلم "يعد هناك يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حر، لا رجل ولا امرأة، لأنكم جميعاً واحد بالمسيح يسوع" (غلا 3: 28). إن الكنيسة هي جماعة الانسان الجديد والعالم الجديد الذي دشّنته القيامة. والتحدي اليوم هو ممارسة العالم الجديد.



Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM