"هل من عنف في الكتاب المقدّس؟..

"هل من عنف في الكتاب المقدّس؟..."
يتضمّن العهد القديم أكثر من ست مائة مقطع نرى فيها شعوباً وملوكاً وأشخاصاً يدمرون بعضهم بعضاً ويتنازعون. كما أننا نرى إله العبرانيين بالذات يأمر أكثر من مرة بالمجازر، ويشجع على الحرب، فيسبّب غضبه أكثر من ألف مرة الدمار أو الانتقام.
إنّ عدد المصطلحات المرادفة للعنف يبلغ المائة تقريباً في الكتاب المقدس كلّه: فنستطيع القول من دون مبالغة بأن موضوع العنف يشكل أحد المحاور الرئيسية في الكتاب المقدس.
سنعالج أولاً موضوع العنف في العهدين القديم والجديد، ثم نتطرق إلى مفهوم "السلام" كجواب ممكن على مأساة العنف.

العنف في العهد القديم
يفتتح الكتاب المقدس تاريخ العنف البشري مع جريمة قتل: وهي جريمة قاين (تك 4: 1- 8). في الواقع يكشف هذا الحدث رغبة قاين في أن يكون محبوباً ومباركاً مثل أخيه هابيل. وهذا الحدث يفسّر منهجية العنف: إن أردنا أن نتملك شيئاً ما، نتمثل بصاحبه، وإذا رغب اثنان في الشيء نفسه، تدخّل العنف.
وإذا استعرضنا تاريخ تكوين شعب إسرائيل، نلاحظ أنّ:
لم يتم احتلال أرض كنعان من دون عنف وتدخل عسكري ومجازر (يشوع 10: 4؛...). أما الحكم الملكي، فيحلّ فيه النظام العسكري، ويشنّ داود الملك حروباً هدفها الانتشار وتثبيت الحدود، كما سيفتتح انشقاق الملكتين، بعد وفاة سليمان، تاريخ عنف، داخل إسرائيل بين الشمال والجنوب، وخارجها ضد الأعداء والدول المجاورة. وسيؤدي هذا العنف إلى دمار السامرة، ثم أورشليم. وسيستمر تاريخ الدمار هذا حتى أيام الاحتلال اليوناني، لا بل الروماني.
لكن عنفاً آخر يواكب أيضاً تاريخ الشعب: وهو العنف الناتج من استغلال الفقراء والمساكين، من نبذ الأرامل واليتامى، من عبادة الأوثان ورفض الطاعة لله. هو العنف الذي تسببه الخطيئة، خطيئة الشعب الذي يتمرّد على الله ... ليثير "غضبه".
إن قمّة العنف عند البشر هي أن يلقوا على الله صورة عنفهم الشخصي...
يذكر الكتاب المقدس 168 مرة الغضب الإلهي. وسببه هو تصرف الإنسان الخاطئ (مز 78: 40). لكن غضب الله يأتي كنتيجة عدله وحبته، تلك المحبة الإلهية التي يترجمها الكتاب المقدس ب "الغيرة الإلهية". يرد 30 مرة التعبير "أن إله غيور"، فيحذّر من عبادة الأوثان وفسخ العهد بين الله وشعبه. إن هذا التصرف يجعل الله يعاقب شعبه، فيوجه عنفه ضده وضد الأمم التي تتعدى عليه.
يدخل هنا مفهوم الحرب "المقدسة"، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدعوة إسرائيل الإلهية إلى أن يكون شعب الله المختار. ونرى أولى تطبيقاتها في الأحداث العسكرية التي رافقت الخروج من مصر: ستُعتبّر هذه الحروب حروباً مقدسة: حروب من أجل الله وحروب الله. فهي لا تسعى إلى نشر الإيمان، بل هدفها أن تؤمن استمرارية الشعب وبقاءه. يحارب إسرائيل إذاً بصفته شعب الله: فالله هو المستولي على جيشه (خروج 14: 41؛ 1 صم 7: 26)؛ وهذا يعني أنّ الله نفسه يتحرك في وسط المعركة (تث 23: 14).
فمن هو هذا الإله الذي يحارب وينتقم (مز 137: 8- 9)؟ والذي يقبل سفك الدم ويباركه؟ (أش 34: 5 ي؛ ار 49: 17؛ يوء 4: 19؛ ملا 1: 3 ي).
ستأخذ صورة العنف يوماً بعد يوم، مع الأنبياء، بعداً روحياً: يؤكد الأنبياء أن العنف لن يبقى من دون عقاب إن لم يوضع حدّ له (هو 4: 1- 3؛ عا 5: 22- 24).
ويشدَّد العنف، وإن حُكم عليه، يبقى مقترناً بوجه العقاب والجزاء.
وستبرز أيضاً نظرة مختلفة للعنف في صورة الله الذي يشارك الانسان في معاناته ويتأثر بها. فيرتبط مصيره بمصير شعبه: هو بالتالي الزوج المنبوذ والأب المهان والصديق المغشوش. لكنه مستعد دائماً للسماح: "أنت استعبدتني بخطاياك وأسأمتني بآثامك. أنا أنا الماحي معاصيك لأجلي وخطاياك لا أذكرها" (أش 43: 24- 25). ويقول زكريا: "سينظرون إلى الذي طعنوه" (زك 12: 10)، وهو يتكلم عن مرسل من عند الله، عن ملك وراعٍ متواضع وبلا عنف؛ سيحتقره إسرائيل وينبذه (زك 9: 9)؛ لا بل سيعتبر الله نفسه مهاناً من خلال مرسله: "من يمسّكم يمسّ حدقة عيني" (زك 2: 12؛ 11: 13).
ستتبلور هذه النظرة بصورة مأسوية مع نشيد الكرم، حيث تصف أربعة أناشيد (أش 42: 1- 4 (+ 5- 9)؛ 49: 1- 6؛ 5: 4- 9 (+ 10- 11)؛ 52: 13- 53: 12) وجه شخص ذي مصير مميز: يتألم هذا الشخص بسبب رسالته النبويّة؛ فيعاني العنف من قبل البشر الذين يعذبونه (أش 50: 6)، ومن قبل الله الذي جعل عليه خطيئة البشر (53: 1- 11). وسيبدو هذا العنف وكأنّه عنف "استبدالي": يتألم الخادم من أجل الآخرين ومكانهم: "طعن بسبب معاصينا وسحق بسبب آثامنا، نزل به العقاب من أجل سلامنا وبجرحه شفينا" (53: 5، 12).
سيجسد أخيراًَ هذا الواقع الأليم شخص يسوع المسيح: سيتوضح بتعليمه وأعماله، لا بل يلقي موضوع العنف جواباً حاسماً.

العنف في العهد الجديد
من البديهي أن يقال إنّ العنف مذكور في العهد الجديد: مقتل الأطفال الأبرار (متى 2: 13- 28)، استشهاد يوحنا المعمدان (مر 1: 27)، رواية الالآم والصلب، اعتقال الرسل في أعمال الرسل، الاضطهادات التي عاناها بولس...
لكن بالمسيح تعالج جذور العنف: ليست جريمة القتل فقط ممنوعة، بل كل كلمة عنيفة وكل شتيمة أيضاً (متى 5: 22)؛ وحب الأعداء يحلّ محل شريعة العين بالعين والسن بالسن (متى 5: 38- 47).
أما اعنف لا مكان للمساومة: هناك وسيلة واحدة لتقبّل هذا النداء وهي التتلمذ للمسيح (مر 10: 17- 52). لكن هذا التتلمذ يدعو إلى شنّ حرب عنيفة على سيّد هذا العالم (يو 12: 31؛ 14: 30؛ 16: 10)، في سبيل إنشاء ملكوت الله وإقامة السلام الحقيقي.
ستتميّز حياة يسوع الأرضية بهذه المقاومة:
يستخدم يسوع القوة، لا بل العنف ضدّ الأغنياء (لو 6: 24- 26)، والفرنسيين (متى 23: 1- 36)، وضد باعة الهيكل (مر 11: 15- 17)؛ يقاوم أعداءه (متى 26: 53، لو 22: 38؛ يو 18: 6)، وينجو من حيلهم (مر 8: 11)، ومن اعتدائهم عليه (لو 4: 29،...).
لكن، عندما سيشتعل العنف بصورة حاسمة عند البشر، لن يحاول يسوع التهرب منه، بل سيخضع له معلناً حبه للبشر حباً ملئه التواضع والمسامحة.
إن الموت لا يلغي العنف، لكن اجتيازه سيجعل المسيح ينتصر عليه: "آخر عدوّ يبيده هو الموت، لأنّه أخضع كل شيء تحت قدميه" (1 كور 15: 26- 27).
مع موت المسيح، يكتشف البشر أن لا عنف عند الله، بل أنّ الله يدين العنف بلا قيد ولا شرط.
أمام الصليب، كل محاولة عنف تفشل...
لكنّ السلام المسيحاني الذي يفتتحه شخص يسوع المسيح لن يلغي روح المقاومة والعنف في حياة الكنيسة والمؤمنين. والبرهان على ذلك تلك المصطلحات العسكرية الواردة في كتب العهد الجديد (يو 15: 18- 21؛ 2 كور 10: 4؛ 1 تيم 1: 18؛ فل 2: 25)؛ وحتى في ذكر "الأسلحة" (1 تس 5: 8)؛ يصف أفسس 6: 10- 17 بوجه خاص هذا الصراع بأنّه ضد الشيطان وحيله. وتلك الأسلحة هي أسلحة العدل (2 كور 10: 4)؛ أسلحة النور (روم 13: 12)، والتي تضمن النصر للكنيسة.
ليس هذا الصراع موجّهاً نحو الخرج فقط، ضدّ عدو معتد، بل هو موجّه أيضاً إلى تجاوز حدود الإنسان الداخلية، من أجل تحقيق مشيئة الله بصورة أكمل. إنّ هذه المقاومة تحركها فضيلة أو قوة تتخطى المنطق العسكري، فهي "قوة من عُل" (لو 24: 49)، ينالها المسيحي الذي "يستطيع فعلاً كل شيء" إنّما "بالذي يعطيه القوة": يسوع المسيح (فل 14: 14).
يصف العهد الجديد يسوع المسيح بأنّه "إله السلام" (7مرات عند بولس)، و"رب السلام" (2 تس 3: 14)، و"جاء وأعلن بشارة السلام" (أف 2: 17). فما هو مفهوم هذا السلام ومضمونه البيبلي؟ وهل يشكل ردّاً مباشراً على مأساة العنف؟

السلام البيبلي
إنّ السلام في مفهوم العبرانيين هو أولاً هبة أساسية من الله. كما هي.
فعلى الصعيد الشخصي، يحتوي مصطلح السلام مفهوم "الخير"، الخير الذي يرافق الصحة الجسدية والهناء العائلي. وهذا الوضع "الخيري" هو ثمرة بركات إلهيّة تصحب وتحمي المؤمن والبار طول أيام حياته: فيعيش بسلام يترجمه في انسجامه التام مع الطبيعة ومع نفسه ومع الله.
أما على الصعيد الاجتماعي وال "ياسي، فالسلام يخصّ الشعب كلّه، وضمانه هو في غياب العنف والحرب أو التهديد بهما.
لكن الأمن الخارجي لا يكفي: فالسلام مرتبط أيضاً ارتباطاً وثيقاً بالعدالة. وهذا ما سينادي به الأنبياء (عاموس وأشعيا وإرميا): "إنّ نتيجة العدالة هي السلام" (أش 32: 17). لكنّه سلام لا يمكن تحقيقه في زمن البشر. فالسلام الحقيقي هو هبة نهائية –بالمعنى "الأخيري"- من الله. هو سلام لا يستطيع الإنسان أن يختبره الآن إلا إذا دخل في زمن انتظار وإيمان: على أعقابه، ستكفّ الحرب بين الأمم (أش 2: 1- 5؛ مي 4: 1- 4؛ أش 9: 1- 8)، ويتمّ اتحاد الشعوب الديني والشامل حول مدينة الله، أورشليم (أش 66: 22- 24). يرتبط هذا السلام الأخيري بشخص "المسيح" وعمله. "سيكون هو السلام" (مي 5: 4)؛ ويصفه أشعيا ب "ملك السلام" الذي سيتّسم "ملكه العظيم" ب "سلام لا ينتهي" (أش 9: 5- 6)؛ وسيعزز العدالة بين الأمم (42: 1- 4)، ناشراً الخلاص حتى أقاصي الأرض (أش 49: 6)؛ وبصفته "عبد الرب"، سيعمل بخضوع تام لله، خضوع يقوده إلى تضحية كاملة "من أجل خلاصنا" (أش 53: 5).
وسيتحقق هذا السلام المشيحاني مع مجيء يسوع المسيح.
تعلن بشرى السلام، منذ بداية الإنجيل، في نشيد الملائكة للرعاة: "المجد لله في الأعالي وعلى الأ{ض السلام" (لو 2: 14). السلام الذي لا يعني بالضرورة إزالةالحروب أو المحن، إذ سيقول المسيح: "لا تظنوا إني جئت لألقي على الأرض سلاماً" (متى 10: 34؛ لو 12: 15).
لكنه سلام مقترن بعمل خلاصي: "ولد لكم اليوم مخلّص" (لو 2: 11)؛ وهذا الخلاص يحلّ خصوصاً في مغفرة الخطايا: "هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى 1: 21)؛ سلام مرتبط إذاً بعمل تبرير ومصالحة، مصالحة الله مع البشر.
إنّ عبارة "إذهبي بسلام" التي يوجهها يسوع إلى المرأة النازفة (مر 5: 24)، أو إلى المرأة الخاطئة (لو 7: 50)، تحمل هذا المضمون الخلاصي؛ وهذا ما يبرز بقوة تتجاوز كل إدراك في تحية القائم من بين الأموات: "السلام لجميعكم" (لو 24: 36؛ يو 20: 19- 20؛ 26). هو سلام مرتبط بالحياة، ملء الحياة، وهو بذلك يعاد إلى الموت؛ وبه سيتمّ الانتصار الكامل والأخير على "كل قوات العدو" (روم 16: 20).
إنّ هذا السلام يدعو إليه المسيح علناً في التطويبات عندما يقول: "طوبى لفاعلي السلام": ليس هنا أن نحلم بعالم وهمي، لكن أن نقوم ب "عمل" بنّاء في عالم تهزّه التناقضات والأنانيّات.
ومحرّك هذا السلام هو المحبة... كما ستظهر بقوة في تعاليم يسوع وأعماله. المحبة التي ليست "عواطف فارغة"، بل طاقة فعّالة وبنّاءة. طاقة تستطيع أن تحوّل الإنسان الأناني والعنيف إلى الإنسان يعيش المسامحة، وقادر بالتالي على أن يحوّل العالم من العدوانيّة والدمار إلى... عالم تضامن وأخوّة.

الأب سمير بشارة اليسوعي


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM