المحبة والحق، السلام والعدل: تلاق وعناق!

المحبة والحق، السلام والعدل: تلاق وعناق!

توطئة
من يسمع عنوان المحاضرة أو يقرأه –"الرحمة والحق تلاقياً"- تتبادر إلى ذهنه مشاعر متنوّعة واعتبارات مختلفة، ولنقل بإيجابية اعتبارات متكاملة، قد تبلغ حدّ اعتماد الموقف أو الاعتقاد بذلك، منها ما يلي:
- أوّل ما يوحي به العنوان هو أنه ذو بُعد اجتماعي وإنسانيّ؛ هذا صحيح إلى حدّ كبير، لأن المقهور والمظلوم، والمنبوذ والشريد، واليتيم والأرملة، والمسكين والغريب، كلهم يشعرون بأن "الرحمة والحق" هما مخرجهم وفرجّهم وخلاصُهم.
- ويوحي أيضاً ببُعد آخر ذي طابع قانونيّ بحت، حيث يسمح "تلاقي الرحمة والحقّ" بالسموّ والاتقاء بالعمل القانوني القاطع إلى نوع من القضاء العادل الممزوج بالرحمة، كما يفعل الله الكليّ الرحمة والحنان بعدما يغضب ليحيي وليس لينتقم أو يُبيد.
- لكن للعنوان بُعد أهم وأعمق من السابقين، ألا وهو البعد البيبلي واللاهوتي والروحي، الذي لا بدّ وأن ينتج عنه الاعتبار أن السابقان. فـ "الرحمة والحقّ يتلاقيان" فقط بعد زوال نقيضيها اللذين هما علّة كلّ فوضى وتشتّت وبلبلة ورحيل عن بيت الآب بعيداً، وبعد أن يبادر "الربّ الحنون الرحوم الطويل الأناة" إلى "غسلي كثيراً من أثمي، وإلى تطهيري من خطاياي" (مز 51)؛ لكنه لا يفعل ما لم يحترم حريتي أولاً، وهو الذي زيّنني وميّزني بها أساساً.
ممّا تقدّم، ننطلق لعرض بعض الأقكار التي توطئ للتوسع في موضوعنا، وهي التالية:
كما يتوق المؤمن التقيّ الورع، المخلي ذاته حتّى الامّحاء كمعلّمه، إلى ربّه وإلهه وسيّد حياته وخالب قلبه،
كذلك يشتاق المظلوم إلى العدل،
والمُستعبد إلى الحرية،
ومُعاني قهرَ الحرب وإبادتها المتنوّعة إلى السلام،
وضحية الكره إلى المحبّة المُحيية،
وصريعُ البغض إلى خمور نار الغضب المُفنية،
والمنبوذُ إلى ذراعين مفتوحتَين تقبّلانه،
والمحكوم عليه بالرجم أو الطرد أو اللعن إلى قلب يهمس في السامعتين كلمة الحبّ، فيهوي الشرّ، ويسلم فاعله، ويصبح الجميع "مملوئين نعمة وحقاً، وبالطبع فرحاً وسلاماً!
إذا حصلَ ما تقدّم وأوردنا، فليعلم القارئ "أن ملكوت الله" عندها "هو حقاً في داخل" هؤلاء، (لو 17: 21)، وأن أنشودة الملائكة يوم هل النور على وجه المعمورة (رج أش 60: 21ي) صارت أنشودتهم، فإذا "المجد لله في العلى" معتقدهم، "وعلى الأرض السلام" منشودة وعملهم"، و"الحق والعدل منطقة حقويهم" (أش 11: 5)، وإذا "سيوف الإبادة ورماحُ" الإهلاك في أيديهم "سكك، وأسنّتهم مناجل" (أش 2: 4)، ليس لحصد الناس وإفنائهم، بل لجمعهم حصاداً للرب (مت 9: 37- 38؛ لو 10: 2) الذي يشاء حياة الانسان، حتّى الانسان المنافق، لا موته "ليست مرضاتي يموت المنافق لكن بتوبته عن طريق فيحيا" (حز 33: 11؛ رج حك 11: 26؛ 12: 13؛ 2 بط 3: 9؛ يو 6: 33).
وإذا فعل بنو الأرض () ما أسلفنا، فليعلم المراقب النّبيه الفطن أن الذي "اشتهى" أن يُقيم في هياكل من قلوب من لحم (إر 32: 38؛ 1قو 3: 16؛ 2 قو 6: 16؛ أف 2: 21)، صار في ضيافتهم، وأنهم، إن "ارتكضوا فرحاً" (رج لو 1: 44)، فلأن زائرهم هو ربّ بيتهم، لا بل ربّهم بالذات! وليدرك القارئ أيضاً أن ما "يرى ويسمع" هو ما سبق و"رآه وسمعه" قديسون عظماء، هم أنبياء الله وعبيدهم ومختاروه، وأن "الرحمة والحقّ تلاقيا، والعدل والسلام تلاثما" (مز 85: 11)، لذا يمكن عندها أن تدفق من القلوب والعقول "أنهار ماء حي" (يو 7: 38) "للعطاش إلى البرّ" (مت 5: 6)، ولمن له عينان تبصران وأذنان تسمعان (رج مت 131: 6؛ الخ).
لنتبيّن كيف يصبح للمجبول من تراب الأرض (تك 2: 7) والمشدود إليها، الرغبة والشهية، والقدرة والقوة على أن "تتلاقى الرحمة والحقّ"، و"يتلاثم العدل والسلام" (مز 85: 11) فيه هو وبه وله. لنتبيّن بالأحرى في كل هذا هويّة الفاعل الإلهي وفعله، هو الذي يؤتي من عليائه "روح الفهم والحكمة" (أش 11: 2)، و"القدرة على القول لجبل: انتقل وارتم في البحر فيكون ذلك" (مت 21: 21).
من أجل أن يتحقّق هذا الحلم المنشود، هناك إذن مسيرة، تبدأ بفك التحالف بين المعصية والموت، وبكسر قيود العهد بين الحرب والظلم، ثم بـ "خلع الانسان القديم" (أف 4: 22؛ رج روم 6: 6)، والانتقال إلى "لبس الانسان الجديد" (أف 4: 24). لنستعرض هذه الأمور بالإيجاز.
1- المعصية والموت تحالفا
الخطيئة هي بلبلة في الذات وعند الآخر، كما أنها اعتداء على "النظام الصحيح" (رج تك 1- 2) الذي ثبّته منظّم الكون وما من فيه، وهي، في الوقت عينه، إهانة لكرامة الله وجلالته طبعاً. تُقاس أهميّة هذا الذنب الناتج عن تخريب وعن إهانة كهذين، استناداً إلى عظمة مَن توجّهان إليه، تماماً كما في الحق البشري وفي القوانين القضائية. يتطلّب عدل الله وجلالته اللامتناهيان إذاً تكفيراً عظيماً. لكنّ الانسان "الذي ينتهي"، والمحدود في الزمان والطاقة، هو غير قادر على تقديم تكفير غير متناهي، حتى عندما حلّت الضربات التأديبية بالبشرية بكاملها (رج تك 6- 9؛ 11). لذلك قرّر الله، وفي شخص ابنه، بأن يكسب الفدية اللامتناهية، التي هي أهل لأن تُرضي عدله الذي هو لحياة الانسان. فيسوع صار ضحية عن البشرية الخاطئة، إذ حملَ بدلاً عنها عار الصليب (عب 11: 26؛ 13: 13)، واحتمل العقاب مكانها، من أجل أن تدخل من جديد في نعمة الشراكة مع الله".
كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الانسان الذي يتعرّض لاعتداء من الآخر أو يأتي هو فعلاً مماثلاً. فلا يمكن بالتالي فكّ التحالف بين الموت والمعصية من دون العودة إلى شريعة الرب، التي ترعى حياة الانسان، وتحفظ له حقوقه، وتحمي كرامته، وتعيد التحالف بينه وبين الربّ الإله.
2- الظلم والحرب تعاهدا
إن الدخول في عالم الظلم، وارتكاب المظالم، وشنّ الحروب بين الشعوب، وذرّ الخصومات بين الناس، كلّها من نتاج روح الشرّ، وثمارها معروفة لدى الجميع، ألا وهي الطرد أولاً من جنة الرب، ثم حلول الخراب والدمار، فنتصار الموت والفناء.
من أجمل كلمات الكتاب المقدس هي كلمة "العهد"، التي تضج بأسمى المعاني العقائديّة واللاهوتيّة، التي تدّل على الرباط الوثيق، رباط الحبّ بين الله والانسان (رج هوشع)، بمبادرة مجانية منه. لكن، كم تصبح هذه الكلمة حمالة سوء عندما ترسم أمام ناظرينا حلفاً بين الظلم والحرب، وكأني بهما اثنان يتعاهدان، ولكن ضدّ إرادة الله! بالطبع يشكل هذا التعاهد ضريبة قاسية للعدل والسلام، وهما عطيتان يهبهما لبني البشر الرب العادل، "إله السلام" (روم 15: 33؛ 16: 20؛ كول 5: 23؛ عب 13: 20)، و"صانع السلام" (أي 25: 2؛ أش 45: 7)، و"رئيس السلام" (أش 9: 6). هذا يعني أنه لا يمكن أن نتكلم عن "تلاقي العدل والسلام" ما لم يتمّ وضع حدّ للظلم والحرب. كم هو صحيح القول بأنه، "عندما يقع الظلم، تضيق الأرض"!
3- التوبة قبل الرحمة والحق
مما تقدّم، ننطلق إلى الفكرة التالية، ألا وهي أن التوبة، أو العودة عن ارتكاب الشر، خاصة المظالم والحروب، هي الشرط الأساسي والمسبق للكلام على "الرحمة (أو المحبة) والحق". فهذان الأخيران لا يتحققان ولا يلتقيان إلاّ بمنّة منه تعالى، أولاً، وبمجهود بشرى صادق ومتواصل وثابت، ثانياً. إن عودة الله إلى الانسان، يجب أن تلاقيها عودة مماثلة من هذا الأخير إلى الله؛ فالأرض التي لُعنت بسبب المعصية (تك 3: 17) تستعيد البركة، وتدفق الخيرات عندما يعود الله إليها. لكن قبل الإقرار بالخطيئة، لابدّ للمصليّ من أن يبدأ أولاً بأن "يدعو باسم الرب" (تك 4: 26)، ويتذكر ثانياً صفات الله، التي يوردها خر 34/6-7 قائلاً: "يهوه، يهوه، إله رحيم ورؤوف، طويل الأناة كثير الرحمة والأمانة، يحفظ الرحمة لألوف، ويحتمل الإثم والمعصية والخطيئة". مقابل واقع الخطيئة، هناك رحمة الله اللامتناهية.
إذا ما قارنّا بين "تلاقي الرحمة والحق"، من جهة، كما في مز 85، مثلاً، وبين فقدانها من جهة ثانية، كما في مز 51، مثلاً، لتبيّن لنا أننا أمام نوع من التوازن بين الخوف والرجاء، بين الإقرار بالخطايا ورفع التسبيح، بين شقاء الانسان وبهاء صورته وعظمته. هنا يبان لقاء الرحمة الالهية، والندامة البشرية، من جهة ثانية، وينتج عن ذلك غفران للخطيئة، وولادة جديدة للتائب، على أساس رحمة الله وحقه، وعدله وسلامه.
يُبرز المزمور 51 كيف أن "المعصية" (3 ب)، و"الإثم" (4 أ)، و"الخطيئة" (4 ب)، وهي المفردات الثلاثة التي يستعملها كاتب المزمور، تُخرج فاعلها من جنة الله ومن حضرته، وتمنع عنه البركة والخيرات السماوية، موديةً به، وطارحة إياه في صحراء الهلاك والفناء، في "الظلمة وظلال الموت" (مز 107: 10 و14؛ أش 42: 7؛ رج لو 1: 79). و"لن يخرج الخاطئ الأثيم الشرير من هناك قبل أن يفي أخر فلس" (مت 5: 26؛ لو 12: 59) من الدين المتراكم عليه، لولا عدل الله الخلاصي، هو "الذي قاس المياه بكفّه، ومسح بشبره السماوات، وكال بالثلث تراب الأرض، ووزن الجبال بالقبان والتلال والميزان" (أش 40: 12)، ولكنه الذي يرمي ميزانه بعيداً عندما يكون الموزون الترابي صنع يديه (تك 2: 7)، ولولا خافقه الحنون الكليّ الرحمة الذي يدبّ من جديد روحه في الرميم المبعثر كما كان قبل أن تلمّه وتجمعه يدا البادع الخالق.
يتدفّق شعاع النعمة بعد الإقرار بالخطيئة، ونوال الغفران، والتطهّر، لا بل بعد العودة إلى الحق والحقيقة، أي إلى من هو "الحق" و"عنده الحقيقة"، إلى الاعتراف به دون سواه إلهاً جباراً قادراً، لا على البطش واللاإفناء، بل على أن يبيد الموت، ويقيم من التراب. إنه الرحمة –الـ"حسد"، الذي يجعل المولود من جديد على صورته ومثاله (تك1: 26- 27)، مملوءاً على مثاله رحمة وحقاً، يدفقها، من دون سؤال، "على الأخبار والأشرار"، هو"الذي يُشرق شمسه" من دون تمييز ولا تمنين ولا حساب، "على الطالحين كما على الصالحين" (مت 5: 45)، ولا عجب فهو الذي صرّح يوماً قال: "الخطأة والزواني يسبقونكم إلى ملكوت السماوات" (مت 21: 31- 32).
عندما يولد "القلب النقيّ" (مز 51: 12) في التائب، لا بل عندما يخلق الربّ هذا القلب في العائد و"عظامه ذليلة" (مز 51: 10)، وعندما "يجدّد في أحشائه روحاً مستقيماً" (مز 51: 12)، يتحوّل مَن كان يؤال الخنازير (لو 15: 15)، وحتى يشاركها في المقام، إلى "قائم" يشترك و"الحمل المنتصر" (رؤ 14: 1 ي) في "المجد والكرامة" (مز 8: 6)، وهما "إكليل" (مز 8: 6) هامته التي زيّنه بها مزيّن البرايا. وعندها أيضاً يتحوّل "مولود الروح" (يو 3: 6) نفسه "قربان رضى" (مز 51: 18 و21) "يرتفع ويتسامى جداً" كـ" عبد يهوه" (أش 52: 13) "المختار الذي سُرّت به نفس الرب" (أش 42: 1 ي)، وعندها "يتنسّم الرب رائحة الرضى" (تك 8: 21)، فيعمّ الأرض وبينها السلام الذي أهدته السماء للأرض يوم هلّ النور من الأعالي، إذ أنشدته الملائكة صدّاحة، مالئة رحاب الكون والوجود فرحاً عظيماً، وعندها ينتشر العدل الذي إليه، أجيالاً تلو الأجيال، تاقت الانسانية الجريحة بالخطيئة والظلمة والمظالم، ولا عجب فإن المسيح هو هنا، عمانوئيل، الله معنا!
فإن كانت الخطيئة تشكل انتقاصاً للكمال وسيراً نحو الهاوية، فان سلام الله هو ملء، يهبه لأنمه "يتحنّن" و"يرحم" (مز 51: 3)؛ فـ"الرحمة" تعبّر ضمناً عن أمانة الله المُحبّة لعهده، وهي واحد من التعابير الأساسية في اللاهوت المزموري خاصة وفي لاهوت العهد عامة؛ تملأ "الرحمة" الأرض (مز 33: 5؛ 119: 64)، وهي متسامية ولا متناهية كالسماء (36/6؛ 57/11؛ 108/5)، تنزل على الانسان وتستقر عليه (33: 22؛ 86: 13؛ 89: 25؛ 117: 2؛ 199: 41)، تحيط بالمؤمن (32: 10)، تتبعه (23: 6)، وتشبعه (90/14). في المزمور 51، الرحمة هي في أساس إعادة بناء العلاقة بين الله والانسان.
مقابل كلمة "حق" في مز 85: 11، لدينا في مز 51: 6 مفردات قضائية متقاربة: "برّ" الله، وهو قبل كل شيء صفة إلهية شخصية تحمل في طياتها الخلاص والمحبة (انظر مز 51: 16). إنها حقيقة الله بالذات التي، من خلال اعتراف المصلّي، تتجلّى بكل صفاتها. الله "بار" أو "عادل" عندما يصدر حكمه، و"مصيب" في قضائه. باعتراف المصلّي أن الله "بار"، يرفع دعواه إلى "العدل" الالهي الخلاصي، إلى الرحمة التي تسامح التائب، وليس إلى العدل الذي يحكم على الخاطئ. يقرّ الخاطئ بأنه من حق الله أن يعاقب (مز 28: 22؛ سي 36: 4)، ولكنه في الوقت ذاته يعلم أن الله البار والعادل، هو، تجاه القلب التائب، مخلّص (إقرأ روم 1-3). لا تلغي عدم أمانة الانسان أمانة الله: الله أمين لكلمته ويبقى كذلك إلى الأبد.
إن الاعتراف العميق بالخطيئة يتحوّل إلى نداء لنوال نعمة الله التي تجعل الانسان يعبر من اللعنة إلى الربكة (أنظر تك 3: 17؛ 4: 11: لعنة البشرية؛ تك 12: 2- 3: بركة البشرية الجديدة). تفوق قدرة المحبة قدرة الخطيئة: "حيثما كثرت الخطيئة تفاضلت النعمة" (روم 5/20). عند ذلك يزهو الفرح في كيان المصلي (مز 51: 10)، نتيجة للغفران، وتتم عملية خلق جديدة (آ12). بعد الآن ستكون الحياة الجديدة بالروح، فـ "تتلاقى الرحمة والحق" من جديد في "الانسان الجديد".
نعم لن يكون "عدل ولا سلام، لا رحمة ولا حقّ"، ما لم تعدل البشرية عن سوئها إلى الرب إلهها، وما لم تتحوّل إلى جماعة ليتورجية ملتئمة أفقياً برباط السلام، وعامودياً بروح العبادة والاعتراف والتسبيح والتمجيد.
4- المحبّة والحقّ تلاقيا (مز 85: 11)
مُدهش أنّ الأرض هي الأولى في الاستقادة من النعمة التي تُستعاد. هذا يحصل لأنها كانت هي الضحية الأولى لغضب الله. الجفاف والضربات الزراعية الأخرى هي غالباً وقت رثاء وطني (إر 14: 1- 10؛ يؤ 1- 2). هكذا، إذ يُعطي الله حياةً للأرض، فهذا يعني أن ارادته هي أن يُعيد بناء مصير يعقوب (مز 14: 7؛ إر 30: 18؛ أي 42: 10).
توجّه هذه الكلمات انتباهنا من جديد نحو قيمة الرمزية المكانية، والمتضمن بين "أرضك" (مز 58: 2؛ رج لا 25: 23؛ يش 22: 19) وبين "ارضنا" (مز 85: 13، تبديل في الضمير المتصل يُطبّق بطريقة مرهفة على المصطلح "شعب" أيضاً في خر 32: 7- 14). ولادة الانسان الروحية يستتبعها بذات الفعل تجدّد وجه الأرض.
يتكلّم المزمور 85 على "عودة " اسرائيل، كما أيضاً على "عودة" الله في الماضي (مز 85: 2- 4)، وهاتان الحركتان التصاعدية والانحدارية يؤمّنان ما يلزم لتواصل الحياة، بعد عودة النظام، وتجلى الرحمة، واستتاب الحق، ووسيادة العدل، وانتشار السلام.
"لي الأرض"، يهتف الله أكثر من مرة في البيبليا (أش 14: 25؛ إر 2: 7؛ حز 36: 5؛ يؤ 1: 6)؛ بنوع خاص، له "الأرض المقدّسة" (حك 11: 3؛ زك 2: 16؛ 2 مك 1: 7)، أرض الميعاد، الأرض التي فيها يتجلى جلال الله ومجده. الأرض هنا، في الواقع، هي موازية لاسرائيل الذي يقبلها من الله لاستغلالها، ولأن الأرض والشعب، والمكان والزمان، يلتئمان في الوحدة، أي المحبة، والرضى "رصه"، والحنو الذي يبديه الله تجاه الأرض، هي ذاتها التي يبديها تجاه شعبه. الأرض التي تتبارك من جديد هي علامة خلق جديد، وخروج جديد، وعمل خلاصي جديد، كما سيردد أشعيا الثاني من خلال لاهوته حول "الخروج الثاني" (مثلاً: أش 43: 16- 21).
إن تصفية الماضي من العبودية ومن الخطيئة هي ثمرة محبة الله التي غلبت عدله، كما يؤكد مز 85: 4. يصف الفعل العبري "شوب" "عودة" الله عن نار غضبه، نار لا يمكن أحداً سواه أن يطفئها (أش 1: 31)، وهذا التوقيف لغضبه، هو انطلاقة فجر جديد.
إنّ الله "الراجع"، أي النادم على غضبه، "يُعيد" بناء اسرائيل، كما يُعيد إليها أيضاً بهاءها (أنظر مز 80: 4 و8 و20). ولأن حوار المحبة بين الله والانسان يتفعّلبالتمام، كون طريقاً "الرجوع تتلاقيان، لابدّ للغضب الإلهي من أن يخمد، إذ لا يمكن للاستيلاء الالهي أن يتواصل إلى ما لا نهاية. أما إيجاباً، فيتمّ التأكيد على أن الله، بعد غضبه العابر، "يعود" "شوب" يهب الحياة والفرح.
نصل هكذا، ومن جديد، إلى الانسجام، الذي لا خلل فيه، والمملوء حياة، فتتعانق السماء والأرض، وتتلاثمان في عرس كامل، إذ لم تعودوا في صؤاع، كما من قبل. هكذا يصبح هناك حالة انسجام دائمة بدلاً من حال اختلاف، بعدما تمّ التفكير، وحلّ الخلاف مع الله بالذات.
هكذا تتجلّى "المحبة" (رج أيضاً 17: 7؛ 62: 3) و"الأمانة" أنهما هما شريكتنا في خلاص الانسان، كما أن "العدالة" أيضاً تلعب دوراً حاسماً في تصويب الأخطاء (رج أبضاً 24: 5؛ 65: 6)، وليس التنديد بها فقط، بهدف العودة إلى الطريق المستقيم، طريق الحياة.
5- العدل والسلام تلاثما
يقول الأب ليونّيه: ليس "العدل" الذي "يُظهره الله في الوقت الحاضر" عندما "يعرض يسوع المسيح كأداة تكفير بدمه هو" (روم 3: 21- 26)، عدلاً انتقامياً وعقابياً، بل عدل خلاصي، يُعادل أمانة الله تُجاه وعوده الخلاصيّة"... إنها "عدالة خلاصيّة تتخطّى عدالته التوزيعيّة، لكن من دون إلغاء هذه الأخيرة". بالطبع إن "العدل" الذي يمارسه الله على الجلجلة هو العدل الذي يُخلّص؛ لكن تعابير "اللعنة" (غل 3: 13)، و"الدينونة" (روم 8: 3)، وخاصةالغضب" (روم 5: 9) ليست كلمات "تمّ تخطّيها، أو أنها لا تتلاءم مع إرادة مصالحة الله المحبّة". فمن أجل أن يحرّرنا يسوع، مات "بدلاً عن الخطأة"، و"رُفع" (يو 3: 14) على الصليب.
وحده مَن هو من دو خطيئة، وبالتالي لا يُثير غضب الله، ولكن مَن "حسن لله أن يسحقه بالآلام، فقدّم حياته كفّارة" (أش 53: 9- 10)، "يمكنه أن يسير تحت وطأة الغضب فيخمده".
"محبة وحق"
إنّ الـ "بريت"، أي العهد، هو حاضر في الفعل التأسيسي لقبائل اسرائيل كشعب، حاضر في كلّ التاريخ السابق للآباء، وفي كلّ تاريخ اسرائيل اللاحق، ودائماً كضمانة علنيّة لوعود الربّ الخلاصيّة تجاه اسرائيل، بواسطته، تجاه كل الخطأة (رج إر 3- 11)، وهو يظهر في البيبليا وفي الفكر البيبلي، وكأنه الشيء الفريد لإبراز علاقات بين الله والانسان.
بطريقة ما، لا بل وبطريقة أفضل جوهرياً، العهد هو الفكرة "الحاملة" للخلاص. به يبدو مرتبطَين، في الواقع، الخيران الإلهيان الأعظمان، "السلام" ("شالوم") (حز 34: 25؛ 37: 26؛ إش 54: 10؛ عد 25: 12؛ ملا 2: 5)، و"الرحمة" (الـ "حسد") (أش 54: 8 و10؛ مز 106: 45؛ رج أش 54: 7 ي؛ إر 3: 12 ي؛ 31: 3؛ مي 7: 18؛ أش 63: 7 ي؛ مز 90: 14؛ الخ.). ليس "عهد" الرب، في الحقيقة، سوى "عهد سلام" ("بريت شالوم") (حز 34: 25؛ 37: 26؛ الخ)، "سلام" هو عطيّة فقط من "رحمته" ("حسد"، تث 7:9 و12؛ 1 مل 8: 23؛ الخ). إنه "العهد" الذي، في الفكر البيبلي، يبدو وكأنه أساس كلّ العطايا الأخرى.
إنّ إعلان السلام هو إذاً موجّه إلى منّ هو مؤمن أصيل، أي إلى شعب الله الحقيقي، إلى بقيّة اسرائيل، يرغب اله في تثبيت الشراكة معه. يشعر هذا الشعب عندها بالقرب الإلهي (مز 22: 12)، قرب خلاصيّ (أش 51: 5؛ 56: 1) يغمر الأرض بالفرح. نعلم قيمة الـ "شكينة" الجديدة، أي سكنى المجد في صهيون بعد رحيله عنها قّبيل انهيار عام 586 ق.م. ومع رحيل الله، "تباعد الحق عنها"، والعدل لم يعد يمكن بلوغه، وحلّت الظلمة بدل البهاء" (أش 59: 9، وكلّ البركات التي كانت متجذّرة في مجد الله الحاضر في الهيكل تبخرت. أما الآن، وبعد التوبة عن الإثم والعصيان، وبعد العودة المتبادلة، صار هناك فرح عظيم: لقد قرّر الله أن يدخل صهيون من جديد بمجده، وأن يعود من جديد ماطناً في أورشليم عن طريق سكناه في وسط شعبه (سي 24). من السهل العودة إلى كلمات أشعيا الثالث: "قومي، توشحي بالنور، لأن نورك وافى، ومجد الربّ أشرق عليك..." (أش 60: 1- 2). من هذا الحضور التمجدّد يتطلق عالم جديد أبعاده الأفقيّة والعاموديّة هي كلّياً خاضعة لـ "أوامر" الله (مز 43: 3؛ 89: 15؛ أش 58: 8؛ 59: 14- 16).
يرتبط "الحسد"، وهي الفضيلة المميّزة للعهد، بالـ أمت، أي "الحقيقة-الأمانة"، إلى حدّ أنهما يشكّلان صيغة ثابتة، كمن نرى في الصيغة الليتورجية المحفوظة في خر 34: 6: "الرب رحيم...، طويل الأناة، غنيّ بالـ "حسد" والـ"إمت" (عد 14: 18؛ يؤ 2: 13؛ يون 4: 2؛ مز 86: 15؛ 103: 8؛ 145: 8؛ نح 9: 17). يتصوّر الكاتب أنّ هاتين الفضيلتين "تتلاقيان" في عناق، مُطلتَين العنان حبّ تتوضّح في الفضيلتين الأخريين، الـ "صدق" والـ "شلوم"، العدل الخلاصي والسلام المسيحاني. يُعاد هكذا بنيان مشروع الانسجام الذي كان في أساس الخلق (تك 2؛ أش 11)، ويتوحّد الخط العامودي، أي الأرض – السماء، في نشيد كمال وبهاء. الـ "إمت" تُفرخ"؛ قد يكون الفعل تلميحاً مسيحانياً إلى كلمة "نبت" يرتفع من الأرض ويرتفع نحو العلاء محاولاً أن يلتقي "العدل" الذي ينزل من السماء نحو الأرض. يشبه العالم الذي سيولد التصميم الذي شاءه الله منذ البدء، "ملك الحق، والعدل، والمحبّة، والسلام".
لقد صار العالم في سلام، وأصبح مُعداً لاستقبال تجلي الربّ الذي يهيمن الآن على أفق العالم الجديد والذي هو مرمى كل أمل (مز 85: 14). يفتح العدل الدرب، فيأتي الرب إلى العالم كينبوع فرح وسلام.
هكذا، وكما جاء في أش 9: 1- 2: "الشعب الذي كان يسلك في الظلمات، أبصر نوراً عظيماً؛ على أولئك الذين كانوا يقطنون في أرض مظلمة، أضاء نور. ضاعفت الفرح، أكثرت السرور. يفرحون أمامك كما يكون فرح عند الحصاد، وكما يكون فرح عندما يتمّ تقاسم الغنيمة". هذا هو نشيد السلام الذي جاء به ميلاد المسيح.
خاتمة، لا بل إطلالة وانطلاقة!
إنّ السلام المسيحاني، وهو خلاصة كلّ فرح وكلّ خير (مز 9 و11)، والخلاص المتلألئ (مز 85: 10؛ أش 51: 5؛ 56: 1)، والصلاح، والأمانة، والعدل، والخير (مز 85: 11- 14)، أي أوصاف الله الخلاصيّة المشخصنة، وازدهار الطبيعة، هي علامات هذا الإطار العجيب لاسرائيل الجديد المخلّص. يعود إلى أورشليم مجد الله (مز 85: 10)، أي حلوله ("شكينه") في الهيكل، ويجب أن يوازي هذا الرجوع "اللاهوتي"، "الرجوع البشري الانساني" بالتوبة من كلّ القلب. يولد هكذا عالم جديد تلتقي فيه محبّة الله المشغوف بالانسان وأمانته، كما "يتلاثم العدل والسلام"، و"الحقّ ينبت"، كما في ربيع متجدّد، و"العدل" يُطلّ من السماء ليبدأ مسيرَه على الأرض سوياً مع الخلاص: "أمامك يسير العدل، ومجد الله يتبعك" (أش 58: 8).
الربّ يتكلّم بالسلام، والسلام ليس فقط توقف الحرب، ولكنه عطية الغنى والسعادة والخير والغلال. الرب يعلم أن الخلاص التام والبناء التام قريبان. سيرجع الرب قريباً ومعه الرحمة والحق، والعدل والسلام؛ سيرجع الرب إلى شعبه، ويتزوّجه بالحق والعدل والرأفة والرحمة، يتزوجه بأمانة ى تتبدّل (هو 21: 9- 20). مع هذه الصفات التي ستأتي في اسرائيل سيكون للشعب الغلال الوفيرة. سيحلّ مجد الرب (أش 44: 4 و7)، وستقطر السماوات من فوق، وتمطر الغيوم العدل (أش 54: 8).
تختصر عبارة "الرحمة والحق تلقائياً" إذاً مسيرة خلاص من العبودية إلى الحرية، من الرحيل غلى الرجوع، من البُعد إلى القُرب. نحن أمام خلاص تحقق في الماضي، وآخر نهائي تنتظره في نهاية الأزمنة. إن عودة الانسان غلى الله، وعودة الله إلى الانسان هما في أساس تلاقي الرحمة والحق.



Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM