الوصيّة الجديدة بحسب التقليد اليوحنّاويّ

الوصيّةالجديدة بحسب التقليد اليوحنّاويّ

مقدّمة

خلفيّة الأيّام البيبليّة التي اخترناها لهذه السنة هي حقوق الإنسان أو مفهوم الإنسان من خلال البيبليا. اخترتُ في هذه المحاضرة التكلّم على ناحية معيّنة من العلاقات الإنسانيّة، لا بل على أساس هذه العلاقات، ألا وهي "المحبّة". موضوع المحبّة سهلٌ وصعبٌ في آنٍ معًا: سهلٌ من حيث الطَرح والمضمون، صعبٌ من حيث التطبيق وتفنيد الحالات التي تُطبّق المحبّة فيها.
أساس المحبّة اللاهوتيّ هو أنّ كلّ إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، ومُخَلَّص بيسوع المسيح. فمَن أنا كي لا أُحبَّ صورة الله في الإنسان؛ ومَن أنا كي لا أُحبَّ مَن أحبَّه المسيح ومات من أجله؟ أمّا أساس المحبّة الإنسانيّ فينتج عن وحدة العائلة البشريّة والتضامُن فيها. نستخلص سريعًا من هَذَين الأساسَين أنّ المحبّة هي حقُّ كلّ إنسانٍ وواجبُه. ولكن ماذا نعني بالمحبّة؟
إذا أردنا التوقّف على المستوى البيبليّ للمحبّة فقد نُلاحظ وجود بعض الوصايا المتناقضة. فالوصيّة "أحبّوا أعداءَكُم" التي نسمعها في عظة الجبل في إنجيل متّى غائبة في التقليد اليوحنّاويّ؛ لا بل نرى في الإنجيل والرسائل المنسوبة إلى يوحنّا دعوة إلى كره العالم وكلّ ما في العالم. في الواقع، إنّ دراسة اللاهوت الخاصّ لكلّ إنجيل يُفهِمنا سبب هذه الاختلافات.
الموضوع الذي يستوقفنا هنا هو مفهوم المحبّة في التقليد اليوحنّاويّ. والسؤال الذي يُطرح هو: هل هناك عدّة مفاهيم للمحبّة؟ ما هو مضمون الوصيّة الجديدة التي يُعطيها يسوع؟ يبدو أنّ نظرة إنجيل يوحنّا ورسائله إلى المحبّة نظرة مُميّزة. سوف نعرض هذه النظرة بعد التطرّق سريعًا إلى مفهوم المحبّة الكلاسيكيّ الذي يظهر في سائر كتب العهد الجديد.
1- نظرة سريعة إلى مفهوم المحبّة في العهد الجديد (باستثناء الكتابات اليوحنّاويّة)
قد يبدو غريبًا للبعض التكلّم على مفهوم المحبّة. هل هُناك تعبير عن المحبّة سوى الأعمال؟ أليسَت أعمال الرحمة هي أعمال المحبّة؟ ألا يتجلّى مفهوم المحبّة من خلال الابتعاد عن عمل الشرّ والسعي إلى عمل الخير؟
تتحدّث الأناجيل الإزائيّة عن المحبّة الموروثة من العهد القديم: "أحبب قريبك كنفسك" (لا 19: 18)؛ إنّها الوصيّة الثانية التي تأتي بعد وصيّة المحبّة الموجّهة إلى الربّ والتي ترتبط بها مُباشرة. "أحبب الربّ إلهَك بكلِّ قوّتك...". تتجلّى محبّة الإنسان للربّ من خلال تطبيق وصاياه. فالبيبليا عامّة بعيدة عن النظرات الفلسفيّة المجرّدة؛ إنّها تتحدّث عن الحقائق الإلهيّة بتجلّياتها التاريخيّة. فالمحبّة بالتالي تُفهم عمليًّا وتطبيقيًّا.
أمّا مفهوم القريب في وصيّة محبّة القريب التي ترتبط بالعهد القديم فقد أخذ أبعادًا متعدّدة. فبعض الربّينيّين فسّروا القريب بالذي هو من الدين اليهوديّ؛ فتُصبح المحبّة مقتصرة على أتباع هذا الدين. وقد توسّعت هذه الوصيّة حتّى حُدِّدَت كالتالي: أحبِب قريبَك وأبغض عدوَّك. هناك بعض الربّينيّين الذين رأوا في الدعوات الواردة في العهد القديم إلى الاهتمام بالغرباء والنزلاء نوعًا من المحبّة الواجبة لتجسيد اهتمام الربّ بشعبه يوم كانوا نُزلاء في أرض مصر. فتوسّعت بالتالي فكرة القريب ومحبّته. هُنا تُطرح مسألة جديد يسوع في هذا المجال. في الواقع، يسوع لم يوسّع فقط مفهوم القريب، بل سعى أيضًا إلى قلب المقاييس: القريب لا يُحدَّد بالنسبة إليّ (أي أن أكون أنا المحور)؛ أنا أكون قريب الآخر (أي أن يُصبح الآخَرُ نقطة الثقل).
بالإضافة إلى هذا التحوّل الجوهري في العلاقة بالقريب هناك توسيع هذه المحبّة إلى الأعداء. لن ندخل في هذا المفهوم الصعب وفي كيفيّة تطبيقه. هل أُحبب عدوّي وهو آتٍ ليقتلني؟ هل أُصلّي لأجله كي يبقى عدوًّا لي؟ كيف يُمكِنُني أن أحوّل الخدَّ الآخر للذي صفعني على الخدّ الأوّل؟ هل مسيحيّة يسوع استسلام وخنوع؟
قد يُجيبُنا الرسول بولس على هذه الأسئلة في الفصلَين الثاني عشر والثالث عشر من الرسالة إلى أهل رومة واللذين يستحقّان دراسة مفصّلة. يدعو الرسول بولس إلى المحبّة الأخويّة وإلى تجنّب الشرّ والتمسّك بالخير مع جميع الناس؛ أمّا عمل الخير مع العدوّ فيُعطيه صورة تكديس جمر نار على رأسه: قد يُفهم ذلك كدينونة للعدوّ أو كخجل. أمّا نشيد المحبّة في الفصل الثالث عشر من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس وإطاره الكتابيّ فيُشكّلان صورة واضحة عن المحبّة التي هي أعظم الفضائل.
بكلمة واحدة، لقد حاولت التقاليد القديمة، ولا سيّما اليهوديّة منها، اختصار المحبّة بما نُسمّيه القاعدة الذهبيّة التي عُبِّر عنها بشكلَين سلبيّ وإيجابيّ: "ما تُريد أن يعمله الآخرون لك، اعمله أنتَ لهم" أو "لا تعمل للآخرين ما لا تُريد أن يعمله الآخرون لك". تظهر إذًا المحبّة من خلال تجلّياتها التطبيقيّة (راجع مثلاً مقاييس دينونة ابن الإنسانِ لجميع الأمم). وفي التقاليد الإزائيّة خاصّة تظهر هذه المحبّة في معظم الأحيان وكأنّها محبّة من طرف واحد (راجع مثلاً مسألة محبّة الأعداء). أمّا من جهة التعبير اليوحنّاويّ بشأن المحبّة فإنَّه يتوقّف عند المُبادلة في المحبّة: "أحبّوا بعضكم بعضًا". هذه المُبادلة في المحبّة تجعلنا نطرح مسألة حقل تطبيق المحبّة بحسب يوحنّا، لا بل تضطرُّنا إلى النظر في مفهوم يوحنّا للمحبّة وتحديده لها.
2- المحبّة في التقليد اليوحنّاويّ
أ- ملاحظات عامّة (ورود المحبّة في إنجيل يوحنّا)
يتحدّث إنجيل يوحنّا عن المحبّة بشكلٍ موسّع في كلام يسوع الوداعيّ وفي صلاته للآب (يوحنّا 13-17). هذا القسم من إنجيل يوحنّا موجّه كلّه للتلاميذ، وبالتالي وصيّة المحبّة: "أحبّوا بعضكم بعضًا". أمّا في القسم الأوّل من الإنجيل (أي قبل الفصل 12) فهناك أقوال سريعة ولكنّها أساسيّة لمفهوم المحبّة عند يوحنّا. الاعتبار الأوّل والجوهريّ يأتي على لسان يسوع في لقائه مع نيقوديموس: "هكذا أحبّ الله العالم حتّى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلِكَ كلّ مَن يؤمِن به، بل تكون له الحياة الأبديّة. والله أرسل ابنه إلى العالم لا ليدين العالم، بل ليُخلِّص به العالم" (يو 3: 16-17). فالجوهريّ هو أنّ يسوع يبني وصيّته الأخيرة على هذا الإيمان الأساسيّ: محبّة الله للعالم. وبين هَذَين الحبَّين يأتي حبُّ يسوع ليكون رمزًا (بالمعنى العميق السرّيّ) لمحبّة الآب ومثالاً ومصدرًا لمحبّة التلاميذ بعضهم لبعض. هكذا نفهم معنى محبّة يسوع للعازر (يو 11) الذي أحياه بعد موته ومحبّته للتلميذ الحبيب الذي شاء أن يبقى إلى أن يجيء من خلال شهادته. لن نتوقّف على الأبعاد الأولى للمحبّة سننحصر فقط بمضمون وصيّة المحبّة بين التلاميذ.
هناك ذكر مزدوج لوصيّة المحبّة في إنجيل يوحنّا: 13: 34- 35؛ 15: 12- 17. الوصيّة المذكورة في الفصل 15 لا توصف بالجديدة ولكنّ مضمونها يتشابه مع الوصيّة في الفصل 13 حيث يُذكَر واضحًا بأنّها جديدة. أضف إلى ذلك ذكر الوصيّة الجديدة في رسالة يوحنّا (1يو 2: 7- 8)؛ لكنّ دراستنا ستنحصر في إنجيل يوحنّا. لن يختلف مضمون الوصيّة الجديدة في الرسالة الأولى إلى يوحنا عن مضمونها في الإنجيل. سوف ندرس الإطار الكتابيّ لكلّ ذكر لوصيّة المحبّة ولمضمونه.
ب- يوحنّا 31: 43- 53
يبدأ الفصل 13 من إنجيل يوحنّا بذكر غسل يسوع أرجل تلاميذه. ثمّ يأتي ذكر خيانة يهوذا الإسخريوطيّ مع كشف يسوع الواضح لهويّة الخائن للتلميذ الذي كان يسوع يُحبّه. دفع الحديث على تسليم يهوذا يسوع إلى فتح إطار إسكاتولوجيّ: إطار التمجيد على الصليب. تعرض الآيات 31- 33 التي تسبق مباشرة الوصيّة الجديدة تمجيد ابن الإنسان ومسألة رحيله. سوف يُستكمل الحديث على رحيل يسوع في الآيات 36 ي مع إضافة ذكر استعداد بطرس للموت في سبيل يسوع. يأتي إذًا ذكر الوصيّة الجديدة في الفصل 13 كخاتمة لغسل الأرجل من جهة، وليدخل في إطار رحيل يسوع وتخلّي بطرس عن نفسه من أجل يسوع من جهة أخرى.
دراسة لنصّ غسل الأرجل تُظهر معنَيَين لعمليّة غسل الأرجل. يأتي المعنى الأوّل من خلال جواب يسوع على اعتراض بطرس: "إن كنتُ لا أغسلك فلا نصيب لك معي" (آ 8). فغسل الأرجل هو علامة الوصول إلى حيث موجود يسوع؛ إنّه الطريق للوصول إلى الاتّحاد به. من هنا نفهم لماذا اعتبر إنجيل يوحنّا أنّ غسل الأرجل يقوم بمثابة تأسيس سرّ الإفخارستيّا.
أمّا المعنى الثاني فيُستنتج من إعلان يسوع في ختام غسل الأرجل: إعطاء مثال يقتدي به التلاميذ. ما هذا الاقتداء إلاّ القيام بالمحبّة. يظهر هذا التوضيح من خلال بُنية الآية 34 التي نحن بصددها:
وصيّةً جديدةً أعطيكم
أحبّوا بعضكم بعضًا
كما أنا أحببتكم
هكذا أنتم أحبّوا بعضكم بعضًا
بالتالي، يمكننا أن نستنتج من هذين المعنيَين أنّ عمل المحبّة هو الاتّحاد بيسوع. قول يسوع: "كما أنا أحببتكم" يُفهم ليس فقط من خلال الصليب، بل أيضًا وخاصّة من خلال التجسّد أي الاتّحاد بالطبيعة البشريّة. حبّ الله للعالم جعله يُرسل ابنه ليتّحد بالبشريّة ويُخلِّصها. المحبّة إذًا ليست أعمالاً بل حالة، حالة متبادلة بين التلاميذ، حالة الشراكة مع بعضهم البعض ومع معلّمهم. هذه الشراكة، وإن كانت داخليّة، فهي منفتحة على الناس أجمعين. إنّها خاتمة الوصيّة الجديدة: "فإذا أحببتم بعضكم بعضًا، يعرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي" (آ 35). الشهادة الحقيقيّة تأتي نتيجة الشراكة مع يسوع وضمن الجماعة المسيحيّة. من هنا نفهم مبدأ المُبادلة (بعضكم بعضًا) ودخول الوصيّة الجديدة ضمن الحديث على ذهاب يسوع وعلى تمجيده وعلى اتّباعه إلى حيث سيكون. فالمحبّة تُبقي التلميذ باتّحاد كلّي مع المعلّم وتجعله يسير في هذا الزمن بتخلٍّ كلّي صوب الاتّحاد الكامل في المكان الذي يذهب يسوع لإعداده.
ج- يوحنّا 15: 12- 17
قد نستغرب إيراد إنجيل يوحنّا لوصيّة يسوع نفسها مرّة ثانية في الفصل 15: "هذه هي وصيّتي: أحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم" (آ 12). دراستنا لإطارها الكتابيّ سوف تكشف لنا السبب. يدخل ذكر هذه الوصيّة ضمن قسم من الفصل 15 (آ 1- 17) مُحدَّد بتضمين: "حَمْل ثمار". أمّا القسم الثاني من الفصل 15 فيُركّز على شهادة التلاميذ ليسوع في العالم.
15: 1- 3 تُظهِر أنّه من الطبيعيّ أن يكون التلاميذ-الأغصان متّحدين بالمعلّم-الكرمة كنقطة ارتكاز. لكنّ الموضوع المطروح هو موضوع "حمل الثمار": كلّ غصن منّي لا يحمل ثمرًا يقطعه".
15: 4- 6 هي آيات كريستولوجيّة تُركّز على أنّ الثبات المُتبادل بين التلميذ ويسوع يؤدّي إلى ثمر كثير، وأنّه بدون يسوع لا يقدر التلميذ أن يفعل شيئًا.
15: 7- 11 هي آيات لاهوتيّة تكشف أنّ الطلب ضمن الثبات بيسوع يُستجاب؛ ولكنّها تُركّز على مصدر المحبّة. في الآية 9 يُجذِّر يسوع محبّته للتلاميذ بمحبّة الآب له. والآبُ هو أيضًا مصدر وصايا يسوع لأنّ يسوع لا يتكلّم من عنده بل بما سمعه من الآب. وصايا يسوع في صيغة الجمع تُصبح وصيّته في صيغة المُفرد عندما تكون الوصيّة وصيّة المحبّة.
15: 12- 17 يحدُّها تضمين بواسطة الوصيّة: "أحبّوا بعضكم بعضًا". هذه الوصيّة تُمهّد، كما هي الحال في الوصيّة الواردة في الفصل 13، للحديث على تضحية الإنسان بنفسه (آ 31). وضع التلميذ ليس إذًا وضع العبد بل وضع الحبيب. بل أكثر من ذلك، يدعو يسوع التلاميذ "أحبّائي" ويشترط لهذه الحالة العملَ بما يوصيهم به.
ملاحظة: يتحدّث القسم الثاني من الفصل 15 على بغض العالم وخطيئته مُمهّدًا لدور البارقليط، روح الحقّ، الذي يشهد ليسوع والذي يجعل التلاميذ يشهدون لأنّهم بشركة محبّة بيسوع منذ البدء. إنّه اكتمال الدور الثالوثيّ للمحبّة ولإعطاء الثمر وللشهادة.
إذا كان للصيغة الأولى لوصيّة المحبّة (الفصل 13) دور التركيز على المحبّة كشراكة فإنّ الصيغة الثانية (الفصل 15) تأتي لتُركّز على أهمّيّة إعطاء ثمر ضمن هذه الشراكة. يبقى أن يُحدَّد مفهوم الثمر. يبدو أنّ الثمر داخل الجماعة يأتي من خلال الصلاة إلى الآب ضمن الجماعة المسيحيّة (آ 7 وآ 16)؛ (رسالة يوحنّا الأولى تتحدّث بشكل صريح عن النظر إلى حاجة الأخ) أمّا الثمر الخارجيّ فهو الشهادة للعالم على أساس الشراكة.
خلاصة القول، وصيّة المحبّة في إنجيل يوحنّا محصورة بالجماعة المسيحيّة. قد يرجع سبب هذا الحصر إلى الاضطهادات (طرد المسيحيّين المُرتدّين من اليهوديّة من المجامع)؛ تستعمل الجماعة المحبّة لِتُعبِّرَ عن هويّتها. قد يرجع أيضًا إلى انقسامات داخل الجماعة؛ تأتي وصيّة المحبّة لتكون دعوة إلى الوحدة. بالمُقابل، ليست الجماعة المسيحيّة جزيرة: إنّها من العالم وإن كانت ليست من العالم. دورها الرساليّ ينبع من عمل البارقليط الذي يجعلها تشهد من خلال عيش المحبّة، أي الوحدة مع يسوع. وفي صلاة يسوع للآب (17: 21- 23) تظهر هذه الوحدة وسيلة لجعل العالم يؤمن؛ أي أن يتغيّر وجه العالم فلا يعودُ العالَمُ عالمًا بالمفهوم السلبيّ للكلمة. هذه هي قوّة الوحدة بين المؤمنين. قوّة الشهادة الناتجة عنها تنبع من أنّ هذه المحبّة-الوحدة ليست أعمال خير أو مبادئ أخلاقيّة خارجيّة بل لأنّها تتجذَّر في وحدة الآب والابن.

خاتمة
إذا كان التقليد اليوحنّاويّ يُركّز على البُعد اللاهوتيّ للمحبّة كشراكة فإنّ سائر تقاليد العهد الجديد تُركّز على البُعد الأخلاقيّ (المسلكيّ) للمحبّة. إنّه التكامل بحدِّ ذاته. في الواقع إنَّ الرسول بولس يجمع بين التقاليد الإزائيّة والتقليد اليوحنّاويّ بشأن وصيّة المحبّة. يتوجّه الرسول بولس إلى أهل رومة بقوله: أحبّوا بعضكم بعضًا كإخوة، مُفضّلين بعضكم على بعض في الكرامة... ساعدوا الإخوة القدّيسين في حاجاتهم، وداوموا على ضيافة الغرباء. باركوا مُضطهديكم، باركوا ولا تلعنوا..." (رو 12: 10- 14). بهذا القول يلتقي الرسول بالتقليد اليوحنّاويّ بشأن المحبّة المُتبادلة، وبالتقليد الإزائيّ بشأنّ محبّة الأعداء. أمّا فكرة المحبّة-الشراكة التي تظهر في التقليد اليوحنّاويّ فيُعبّر عنها الرسول بولس بقوله إلى أهل كورنثوس: "لا تقترنوا بغير المؤمن في نير واحد. أيُّ صلة بين الخير والشرّ؟ وأيّ علاقة للنورِ بالظلام؟ وأيّ تحالُفٍ بين المسيح وإبليس؟ وأيُّ شَرِكةٍ بين المؤمِن وغير المؤمن؟" (2كور 6: 14- 15).
ختامًا، وبالعودة إلى موضوع أيّامنا البيبليّة الثالثة، نرى أنّ المحبّة في التقاليد الإزائيّة تُعلن صراحة أنّ كلَّ إنسان من واجبه أن لا يستثنيَ أحدًا من حبّه -حتّى ولو كان عدوًّا- ومن حقِّ كلِّ إنسان أن يُكونَ محبوبًا. أمّا المحبّة في التقليد اليوحنّاويّ فتكشف من خلال الشهادة التي يجب أن تؤدّيها للعالَم أنَّ كلَّ مؤمِن من واجبه أن يتّحد بيسوع وبالجماعة المسيحيّة ليوصِل الشهادة الحقيقيّة، وأنَّ كلَّ إنسانٍ من حقِّه أن تصلَه البشارة المسيحيّة.

الأب أنطوان عوكر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM