الحرّية في الكتاب المقدّس

الحرّية في الكتاب المقدّس
حين نقرأ الكتاب المقدّس، ونسأله عن الحرّية، تبدو الصورة قاتمة. فمنذ البداية، تسمع المرأة العقاب الذي ينزل بها: سيود عليك زوجُك (تك 3: 16). ويخبرنا سفر التكوين عن ابراهيم الذي امتلك الخدم والعبيد والقطعان (تك 12: 5). ويقول عه أيضاً حين كان في مصر: "صار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال" (آ16). جُعل العبيد والجواري بين فئات الحيوانات، لأنهم يُشرون ويباعون كما تُشرى البقر والجمال وتُباع. وإذا وصلنا إلى العهد الجديد، نسمع بولس يقول في الرسالة إلى أفسس: "أيها العبيد، أطيعوا أسيادكم في هذه الدنيا بخوف ورهبة وقلب نقيّ كما تُطيعون المسيح" (6: 5). وفي الرسالة إلى تيطس يطلب الرسول من تلميذه: "علّم العبيد أن يطيعوا أسيادهم، وينالوا رضاهم في كل شيء، وأن لا يخالفونهم" (2: 9). فإذا كان الوضع على هذه الحال، فلماذا الكلام عن الحرّية؟ وهنا أسارع إلى القول بأن الكتاب المقدّس هو مشروع حرية يُدعى فيها كلُّ انسان لأن يدخل فيه ويكتب فصلاً من فصوله، على ما حدث مثلاً في تحرير العبيد الذي ما زال مشكلة حتى اليوم حيث يُسرق الناس عامة، والنساء والأولاد خاصة، فيباعون عبيداً. أمّا كلامنا، فيدور حول ثلاثة محاور: في البيت والأسرة، في المجتمع، في الشعب والوطن.
1- في البيت والأسرة
المبدأ الأساسيّ الذي يُطلقه الكتاب المقدّس في هذا المجال، هو كلام الربّ في الخلق: "صنع الله الانسان على صورته ومثاله. ذكراً وأنثى صنعهم" (تك 1: 27). الرجل والمرأة كلاهما على صورة الله. وللواحد ما للآخر على مستوى العقل والارادة والحرّية، وهذا أمر ظلّ مثار جدال في القرون الوسطى المسيحيّة حين تساءل المعلّمون: هل للمرأة نفس مثل الرجل؟ وهذا المبدأ يبقى هو هو حتّى بعد الخطيئة. فالكاتب الملهم يفتتح نسل البشر بهذه العبارة: "يوم خلق الله الانسان، على مثال الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم وسمّاهم بشراً يوم خلقهم" (تك 5: 1). هذا الكلام سيستعيده يسوع في جداله مع الفريسيين حول الزواج والطلاق (مت 19: 4).
ولكن، هل طُبّق هذا المبدأ في المجتمع، كما يصوّره الكتاب المقدّس، على مستوى المرأة، وعلى مستوى الأولاد؟ كلا، بعد أن سلب الرجلُ المرأة حرّيتها فصارت سلعة تباع وتُشترى، وتكون في خدمة الرجل وحاجاته، وسلب الولدَ حرّيته فصار يتصرّف به وكأنه ملك من أملاكه، سواء كان ابناً أو ابنة.
منذ البداية، مع لامك، ابن قايين، أخذ الرجل يعدّد زوجاته. له امرأتان، عادة وصلّة (تك 4: 19). فحقوق الرجل ليست حقوق المرأة التي لا يمكنها حتّى أن تختار زوجها. فرقة زوجة اسحاق لم ترَ زوجها. بل ذهب عبد ابراهيم إلى أرض بعيدة وجاء بها وكأنها سبيّة من السبايا. ويلفت نظرنا ما حدث ساعة وصولها أمام اسحق. سألت الخادم: "من هذا الرجل الماشي في البرية للقائنا" (تك 24: 65)؟ لا شكّ في أن رفقة جاءت مع جواريها (آ61)، ولكنها تركت بيتها بعد أن دفع طالبُ يدها المال إلى أخيها وأمّها (آ53). بهذه الصورة تزوّجت راحيل وليئة من يعقوب. بل إن يعقوب كان ضحيّة عمل غشّ. أراد أن يتزوّج راحيل، بعد أن اشتغل سبع سنوات من أجلها، فإذا ليئة زوجته الأولى: وُضعت امرأة مكان أخرى، دون أن يكون لهذه أو تلك حريّة اختبار زوجها. ولا نطيل الحديث، بل نذكر أن داود كان له عدد من الزوجات من أجل نفسه ومن أجل مشاريعه السياسيّة. ويعدّدهن الكتاب أكثر من مرّة (مثلاً، 2 صم 3: 1- 5). وقال الكتاب أيضاً عن سليمان إنه أحبّ نساء غريبات، أو بالأحرى جمع الجواري من أجل معاهدات سياسيّة مع الموآبيين والعمونيين والادوميين... (1 مل 11: 1).
هذا يعني أن المرأة كانت بدون إرادة في البيت، بعد أن صارت بعض متاع الرجل. والعبارة المعروفة هي التي نقرأها في الوصايا العشر: "لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا حماره، ولا شيئاً ممّا له" (خر 20: 17). كل هؤلاء له، والمرأة معهم. أما بدايات التحرّر فهي بعيدة. على مستوى العلاقات الجنسيّة، حُلّت بعض الشيء من خضوعها التام لزوجها، وعلى مستوى العلاقات البيتيّة تحرّرت بعض الشيء من العبوديّة. أقلّه فترة أربعين يوماً لكي تبكي زوجها (تث 21: 13).
وستكون الطريق طويلة قبل أن نصل إلى نشيد الأناشيد حيث الحبّ هو الذي يسيطر، وحيث الحبّ يكوّن الحرية المتبادلة على مستوى الأخذ وعلى مستوى العطاء. قالت العروس: أنا لحبيبي وحبيبي لي. وساعة لم تستقبله حين جاء عندها، لم يهدّد حرّيتها بالقوّة، بل يقول الكتاب: مضى الحبيب وراح. هو ما حطّم الباب، بل حطّم قلبها. فقامت بملء حرّيتها، في الليل، وشرعتْ تبحث عمّن يحبّه قلبها.
وما قلناه عن المرأة نقوله عن الولد. فالوالد يستطيع أن يبيع ابنته (خر 21: 7) كما يبيع أي سلعة لكي يفي ديونه. لاشكّ في أن الكتاب حدّ بعض الشيء من حرّيته: لا يبيعها لغريب (آ 8). وسوف نرى يفتاح ينذر ابنته لتُذبح كأنها شاة أو عنزة، بعد أن جاء منتصراً من الحرب. لم يكن للابنة الوحيدة أن تجادل. بل كل ما طلبته: "أمهلني شهرين فأذهب إلى الجبال وأبكي بتوليّتي أنا ورفيقاتي" (قض 11: 37). فأعطيتْ لها الحريّةُ بأن تذهب على أن تعود. فالحريّة التي أُعطيت لها هي حريّة الموت. وسوف يتوسّع التقليد اللاحق في هذا الاستعداد لدى بنت يفتاح، فيسميّها "شيلة" أي تلك التي رفعها والدها وذبحها. والشيء نفسه حصل لاسحق الذي أخذه أبوه ليذبحه. فهو مُلك الوالد يفعل به ما يشاء. وما على الوالد إلاّ أن يعمل المستحيل، فلا يحرّك حتى رجليه لئلاّ تصبح الذبيحة غير مقبولة (تك 22: 1 ي).
لا شكّ في أنه ستكون ثورات من قبل البنين على آبائهم. ترك اسماعيل أباه ومضى إلى البريّة، وعيسو أختار المرأة التي يريدها هو، لا تلك التي يريدها له أبوه. فخاب أمل اسحاق ورفقة (تك 26: 35). ويبقى ابشالوم ذاك الرافض لحكم والده الذي طال طويلاً. فأخذ استقلاليّته، وتصرّف كأنه ملك وبدأ يقضي في الناس (2 صم 15: 1- 6). في هذا الاطار، نفهم أن يكون الكتاب تأخّر في الكلام عن الله عي أنه أب، والخيرات التي أمامه لا تشجّع على ذلك. فما هي العلاقة بين الأبوّة والبنوّة إن لم تكن علاقة الحريّة والحوار؟ ما استطاع يوناتان أن يتحاور مع أبيه شاول الذي طلب قتله في يوم من الأيام لأنه عصى أوامره، فطلب "أباً" آخر يختاره بحريته، وهو داود (1 صم 20: 1 ي). لا شك في أن يوناتان قال لداود: "أبي لا يفعل أمراً كبيراً ولا صغيراً من غير أن يكاشفني به" (آ 2). ولكن يبقى الشرعُ واضحاً: الولد الذ يلا يطيع والديه يُقتل. وكاد شاول يطبّق هذا "القانون"، لو لم يتدخّل الشعب وينقذ الابن من سلطة الوالد (1 صم 14: 45). خضوع الوالد لأبيه، خضوع المرأة لزوجها. هل نستطيع في هذا الإطار أن نتكلّم عن الحريّة في الحياة اليوميّة، داخل الأسرة؟ وأين صار المبدأ الأساسيّ حيث كل انسان على صورة الله ومثاله؟ هنا نتذكّر بشكل خاص أن العهد القديم هو مسيرة الانسان إلى الله، وبما أن الانسان خاطئ، فالكتاب يتحدّث عن خطايا اقتُرفت وليس آخرها حين باع ابراهيم امرأته وزنى لوط مع ابنتيه. في أي حال، تلك صورة عن مجتمعنا الذي يجب أن يميّز بين الحرية الحقّة التي تُنمي الانسان وتلقه من كل عبوديّة، وبين تحرّر يصل في النهاية إلى الفلتان والاباحيّة فينتقل الانسان من عبوديّة فُرضت عليه إلى عبودية اختارها لنفسه.
2- في المجتمع
المبدأ المسيطر في المجتمع هو التضامن إلى درجة يصبح فيها الانسان عضواً في جسد، لا يتحرّك إلاّ إذا تحرّك الجسد ككلّ. إن مسؤوليّته محدّدة في إطار القبيلة: عليه أن يحسّ إحساسها ويشعر شعورها. بل إن تزوّج فهو يتزوّج من داخل القبيلة. وإذا أصابته مصيبة وبحث عن خطأ لديه يعاقبه الله بسببه، فإن لم يجده عنده يطلبه في القبيلة. وهكذا يكون الانسان من أجل المجتمع الذي يحركه بعضُ الأشخاص النافذين: هم الشيوخ ورؤساء القبائل (تث 5: 23)، مع الكتبة والقضاة (يش 8: 33). ما الذي يعطي هؤلاء السلطة على الشعب؟ امتلاك الأراضي الشاسعة، مع أن الكتاب شدّد على أن موسى (وبعده يشوع)، قسم الأراضي بالتساوي (عد 26: 53؛ يش 13: 7). أو الغنى الصارخ الذي يسمح للوجيه بأن يكون له العدد الكبير من العبيد والجواري. وهناك العنف والقتل. منذ البداية، قتل قايين أخاه هابيل (4: 8). ووسّع لامك ابن قايين شريعة الانتقام إلى ما لا حدود له: سبعة وسبعون قتيلاً مقابل قتيل واحد. بالعنف استولى ابيمالك بن جدعون على السلطة بعد أن قتل إخوته (قض 9: 5). وثبّت سليمانُ ملكه على الدم المسفوك، وفي النهاية قتل أخاه أدونيا.
فما قيمة الانسان في هذا الوضع؟ لا شيء. هو يسير مع الناس دون أن يستطيع أن يُبرز شخصيّته. وما يدّل على هذه الأمور هو أن جميع سكّان المملكة عبيد للملك، بمن فيهم الموظّفون الكبار. وسليمان استَعبد في النهاية مملكته كلها. سوف يحاول النصّ أن يبرّره بعض الشيء، فيقول إنه استعبد أبناء الغرباء (2 أخ 2: 16؛ 8: 7) من أجل بناء قصور له، وهيكل لربّه. نقرأ في سفر الملوك الأول أنه سخّر ثلاثين ألف رجل، ثم سبعين ألفاً ما عدا الذين أقامهم وكلاء على الأعمال (5: 27- 32). حاول الشعب أن يثور فما استطاع في حياة هذا الملك، بل بعد مماته. وكانت تلك أول ثورة من ثورات العبيد. أراد حبعام بن سليمان أن يحافظ على سياسة والده (1 مل 12: 14)، فانقسمت البلاد بقيادة يربعام الذي هرب إلى مصر في أيام سليمان، وعاد في الوقت المناسب.
كانت نحاولات تحرّر في المجتمع، ولكنها قُمعت بسرعة. بالقتل حيناً. وبالهرب حيناً آخر. ذاك كان وضع يربعام الذي هرب إلى مصر بعد أن لاحقه سليمان (1 مل 11: 26؛ 12: 20). ورزون الذي ثار على ملك صوبة، حليف سليمان (11: 23- 25). ويفتاح نفسه الذي كان "رجلاً جباراً". طرده إخوته وقالوا له: "لا ميراث لك في بيتنا" (قض 11: 1- 2). ولكنهم سيعودون إليه بعد أن احتاجوه ليخلّصهم. هذا على مستوى الرجل. أما المرأة فلا تستطيع أن تأخذ دوراً في المجتمع إلاّ إذا كانت أرملة مثل يهوديت، أو مثل دبّورة التي كانت زوجة لفيدوت دون أن نعرف إن كان زوجها بعدُ حياً أو مات.
ونحن نرى إلى أي حدّ يسحق المجتمعُ الانسان، فيربطه بأبيه وجدّه. لهذا كانوا يقولون: "الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين تضرس" (إر 31: 29). وهكذا اعبروا أن الانسان مسيّر، فلا حريّة له، ولا هو مسؤول عن أعماله. فأجاب إرميا: "كل واحد بخطيئته يموت، وكل انسان بالحصرم الذي يأكله تضرس أسنانه" (آ30). هذا يعني أنه مسؤول عن عمله ولا سيّما إذا كان شراً. في هذا المجال نقرأ ما يقوله سفر التثنية القريب جداً من تعليم إرميا: "جعلتُ أمامك الحياة والسعادة، الموت والتعاسة" (تث 30: 15). فالانسان يختار الحياة والبركة إذا شاء، وذلك حين يحفظ وصايا الله. وهو إذا شاء، يزوغ قلبه فتطاله اللعنة وتغيب عنه البركة (آ 16- 19). يبقى عليه أن يختار. نشير هنا إلى أن سفر التثنية يتضمّن وصايا في صيغة المخاطب المفرد: أنت. كما في صيغة المخاطب الجمع: أنتم. فهذه تدلّ على طبعة قديمة، يوم كان الانسان جزءاً من المجتمع. أما الصيغة الثانية، فتجعل الفرد أمام مسؤوليته. هذا ما نفهمه عند حزقيال الذي أورد أيضاً العبارة حول "الحصرم"، فقال بلسان الربّ: "ما بالكم تردّدون هذا المثل في أرض اسرائيل: "الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين ضرست"؟ حيٌّ أنا، يقول الربّ. لن تُردّدوا بعد الآن هذا المثل" (8: 2- 3). وتابع النبيّ: الأب أمامي والابن أمامي. برّ الأب لا يخلّص الابن إن كان الابن لا يختار طريق الربّ. وشرّ الأب لا يُهلك الابن، إذا شاء الابن أ يسير في وصايا الله. وكانت النتيجة: "الخير يعود على صاحبه بالخير، والشرّ يعود على صاحبه بالشرّ" (آ 20).
وهكذا انفتحت الطريق أمام الحرية الفردية التي يعيشها الانسان في وسط المجتمع بحيث لا يصبح خروفاً في قلب قطيع لا يعرف إلى أين يتوجّه، بل يلتصق بالذي يسير أمامه ولو كان إلى الهلاك. في هذا الخطّ سار كتّاب الأسفار الحكميّة: رفض أيوب حكمة الحكماء التي ربطت كل "مصيبة" بشرٍّ صنعه الانسان. ورفض حكيم سفر الجامعة سعادة قصيرة المنظر، فرأى مشاريع الانسان تبقى باطلة. أما الذي عاش هذه الحرية بشكل خاص، فهُم الأنبياء. نذكر هنا ميخا بن يملة الذي دعاه الملك لكي يتنبأ له: هل يذهب إلى الحرب أم لا؟ قال له الوفدُ الذي أرسله الملك: "بصوت واحد تنبّأ الأنبياء... فليكن كلامك مثل كلامهم" (1 مل 22: 13). ولكن متى كانت الكثرة على حقّ تجاه الفرد، ولا سيّما إذا كان ذاك الفرد ينتظر أن يقول ما يقوله له الربّ (آ 14)؟ قال ميخا الحقيقة للملك، فلطمه على فكه نبيٌّ كاذب، ووضعه الملك في السجن مع قليل من الخبز والماء (آ 27). وميخا هذا كان سلف إرميا الذي ألقيَ في جب موحل (إر 38: 6) فكاد يموت (آ 10)، لأنه رفض أن يكون امتداداً لصوت سيّده. وبرزت شخصيّة عاموس حين حطّم التقاليد فمضى، وهو ابن الجنوب، إلى الشمال. أرادوا أن يؤثروا على حرّيته، فربطوا كلام بسبل المعيشة: "اذهب إلى أرض يهوذا، وهناك تنبّأ وكل خبزك" (عا 8: 12). ونقول الشيء عينه عن أشعيا الذي رفض الارتباط بالعائلة المالكة، وعن ارميا الذي صار نبياً مع أنه من عائلة كهنوتيّة في جوار أورشليم.
والمجتمع عرف اجمالاً فئتين من الناس: الأحرار والعبيد. أما العبد فلا حقوق له. لا حرّية له. يلتصق بالأرض ويبع الأرض ولو تبدّل مالكُها. ذاك كان وضع الضياع التي أعطاها سليمان للملك حيرام (1 مل 9: 10- 14). أوهو يلتصق بصاحبه، فلا يتركه إلاّ إذا دًفعتْ الفدية عنه. في الممالك الكبرى، كان العبيد أسرى الحرب. أما في فلسطين، فالعبد شخص باع نفسه بسبب دَيْن عليه. في هذا المجال، ميّز الشرع بين عبد عبرانيّ وعبد غريب. أما الغريب فيبقى حتّى موته عند سيّده، الذي يرث أولادَه أيضاً. أما العبد العبرانيّ فيخدم سيّده حتى السنة السابعة، السنة اليوبيليّة، وبعدها تعود إليه حرّيته. ولكن الشعب لم يعمل بهذا الشرع، بعد أن سيطر عليه حبّ المال والتسلّط. والمثل اللافت نجده في سفر إرميا. خاف العظماء من عقاب يُهيّأ لهم، فحررّوا عبيدهم. ولكن حين زال الخطر، "عادوا وأرجعوا العبيد والاماء الذين أطلقوهم أحراراً، إلى العبوديّة" (34: 10- 11).
في المسيحيّة، لم يعد من تمييز بين غريب وقريب، كما علّمنا يسوع في مثل السامري الصالح (لو 10: 29- 37). ولم يعد تمييز بين عبد وحرّ، كما نقرأ في الرسالة إلى غلاطية (3: 28). ولكن الواقع ظلّ غير ذلك. فالعبد الذي ترك سيّده فيلمون، ومضى إلى بولس الذي عمّده إلى سيّده، بل أرجعه الرسول الذي لم يدعُ إلى ثورة العبيد، كما فعل سبارتاكوس فترك وراءه عشرات آلاف القتلى، كما لم يدعُ إلى ثورة المرأة على الرجل. وسوف تشدّد الرسالة إلى تيطس على دور الشهادة التي يشهدها العبدُ للمسيح حين يكون أميناً لسيّده (2: 10). هكذا "يعظّمون في كل شيء تعاليم الله مخلّصنا". لاشكّ في أن بولس طلب من فيلمون أن يعامل عبده أونسيمس، منذ الآن، كأخ لا كعبد (فلم 16). ولكن المبدأ هو أن على العبد أن يحتمل حالته السيئة ليخزى الذين يعيبون حسن سيرته في المسيح (1 بط 2: 16). وقال الرسول: "من الأفضل أن تتألّموا وأنتم تعملون الخير" (آ 17). والمثال هو المسيح (آ 18). نفهم كل هذا في إطار عالم رومانيّ عرف الآلاف من العبيد، فاكتفى بولس أن يقدّم المبدأ الأساسي الذي ردّده أيضاً في الرسالة إلى كولسي (3: 11)، علّه يكون الخميرَ في عجين بشريّة ما زال قسم كبير منها يعيشون في العبودية، ولا يعرفون الحريّة التي يتخلّون عنها من أجل لقمة العيش.
3- في الشعب والوطن
ما قلناه في نهاية القسم الثاني يذكّرنا بخبرة العبرانيين في سفر الخروج. تحرّروا من عبودية مصر، وصاروا في صحراء سيناء مع قطعانهم، قبل أن يسمعوا نداء الحريّة من عند الربّ على الجبل المقدّس. ولكنهم ما زالوا يحنّون إلى مصر، وبالتالي إلى العبوديّة. عطشوا، فتذكّروا مياه مصر مع نهر النيل الذي ألّهوه. وتاقوا إلى شيء آخر غير المنّ الذي عافته نفوسهم في النهاية. "هناك، في مصر، كنا نجلس عند قدور اللحم ونأكل من الطعام حتّى نشبع" (خر 16: 3). ونقرأ تشكياً آخر في سفر العدد: "نذكر السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً، والبطيخ والكرّاث والبصل والتوم. والآن، فنفوسنا يبست. لاشيء أمام عيوننا غي المنّ" (11: 5- 6). وحين نعرف أن المن هو عطيّة الله التي ترافق الشعب، فترمز إلى السعادة لم يعرفها أولئك الذين كانوا يعملون عبيداً في أرض مصر، نفهم معنى سفر الخروج.
فهذا السفر وضع في صورة واحدة ما يعيشه شعب مصر وشعب بابل، وما عاشه الشعب العبراني في أيام سليمان الذي هو صورة واضحة عن فرعون حين استعبد شعبه من أجل أعمال السخرة، وما يعيشه الآن أبناء يهوذا وأورشليم بعد أن أخذهم البابليون إلى بلاد الرافدين ليعملوا هناك في الأراضي أو الأبنية. وهكذا كُتب سفر الخروج من أجل الشعب العبراني ومن أجل كل شعب يبحث عن الحريّة، بحيث لا يرضى بوضعه مهما كانت الحياة سهلة في ظلّ المحتلّ. والخبرة التي عاشها هذا الشعب بقيادة موسى الذي يعني اسمه المخلّص، ستكون المثال الذي يستقي منه المؤمنون على مدّ تاريخهم، بحيث يصبح كل خلاص، مهما كان صغيراً، صورة عن ذاك الخلاص الأول الذي كان في أساس تكوين شعب جعله الله لنفسه منطلقاً من مزيج متعدّد المشارب دعاه الكتاب "الأوباش" (عد 11: 4) الذين جُمعوا من هنا وهناك (خر 12: 38).
في هذا الاطار، يفتح سفر اشعيا عيوننا على شعوب أخرى تنتظر خلاص الله: شعب مصر. "إذا صرخ المصريون إلى الربّ في ضيقهم، أرسل لهم مخلّصاً ومحامياً فينقذهم.. ومع أن الربّ ضربهم بقساوة، فإنه يشفيهم حين يرجعون إليه ويستجيب لهم" (19: 20، 22). وهكذا يكون شعب أشور مباركاً، بالرغم ممّا حمل من ظلم ودمار. وكذلك شعب مصر. فالربّ يريد الحرية لمختلف الشعوب، حيث يحترم كلّ شعب الشعب الآخر. وهذا واضح في سفر عاموس حيث يحكم الله على شعب استعبد شعباً يعيش بقربه. ورأى النبيّ في دمار ناله العمونيون أو الأدوميون، عقاباً من عند الله لشعب سحق الناس بدون رحمة، فطاردهم بالسيف، وشقّ بطون الحبالى، وأمرّ النوارج على أجساد المقاتلين (عا 1- 2).
في أي حال، تبقى خبرةُ الخروج من مصر رغم المخاطر الذي فيه، وأوّلها عبور البحر الذي يمثّل عالم الشرّ، الخبرةَ الأساسيّة التي فهم الشعب فيهاأن عليه أن يتّكل على الربّ ويستسلم لعونه مهما كانت الظروف. أما الغريب عن الوطن فلا يمكن أن يحمل الخير إلى الوطن. مضى يربعام إلى مصر، وجاء بالعون من هناك، فسيطر على شمال البلاد، ولكن هذه السيطرة لم تدم طويلاً. وتواصلت الثورات إلى أن انتهت مملكة السامرة في يد الأشوريين، بعد أن عرفت ضيق الحرب مع الأمم المجاورة. وأراد الملك حزقيا أن يستند إلى الخارج ليساعدوه ضد هجمة ممالك مجاورة تحالفت عليه. فقيل له: هذه القبة المرضوضة، لا تستطيع أن تستند إليها. فإن استندتَ، غرزتْ في كفك وثقبتها (أش 36: 6). أما أحاز فهرب من الأراميين والسامريين والصيدونيين، والتجأ إلى الأشوريين، فكان هذا اللجوء تنازلاً عن الكرامة، وتجريداً من كنوز الهيكل، وبناء مذبح يسبه ذاك المبنيّ في أشور. فقال اشعيا: إن لم تؤمنوا لن تأمنوا (7: 9). إن لم يكن لكم إيمان بالله، ثم بنفوسكم، فلن تعرفوا الأمان والسلام.
وسيطرت على فلسطين الممالك العديدة من البايلبيين، إلى الفرس، إلى الاسكندر، إلى بطالسة مصر وسلوقيّي انطاكية، إلى الرومان. كانت ثورة خاصة على السلوقيّين لم تتوقّف مع تحرير الهيكل وأقداسه. ولكن المقاومة الحقيقة من أجل الحريّة، كانت تلك التي طلبت العودة إلى الأرض رغم التهجير الذي أصاب النخبة في البلاد، فرفضت أي تعامل مع المحتلّ. هنا نسمع مز 137 الذي هو نشيد المنفى.
على أنهار بابل هناك جلسنا
فبكينا عندما تذكّرنا صهيون (= أورشليم).
على الصفصاف في وسطها،
علّقنا كناراتنا.
هناك طلب منّا الذين سبَونا
أن ننشد لهم،
والذين عذّبونا،
أن نفرّحهم:
"أنشدوا لنا من أناشيد صهيون".
كيف ننشد نشيد الربّ
في أرض غريبة؟
إن نسيتك، يا أورشليم،
فلتنسني يميني!
ليلتصق لساني بحنكي،
إن غابت عني ذكراك.
وهناك مقاومة أخرى من أجل الحريّة، هي البقاء رغم المضايقة التي يحسّ بها الشعب. هذا ما فعله الفريسيون الذين ظلّوا صامدين رغم ما أصابهم من اضطهاد. وحين ُمرّت أورشليمُ سنة 70 ب م. كان تعلّقهم بكلام الربّ وشريعته أكبر قوّة في وجه الرومان الذين حاولوا قتل الروح في الشعوب التي سيطروا عليها، ودعوا الناس إلى عبادة أشخاص مثل نيرون وكاليغولا، لا بعد مماته وحسب، بل في حياتهم. أما يسوع فلم يأخذ موقفاً سياسياً. ولما سُئل عن دفع الجزية لقيصر، كان تشديده على حقوق الله في حياة الانسان (مت 22: 5- 22). ومن هذا المنطلق، يعرف الانسان واجباته. يبقى أن يسوع شدّد على الحريّة الداخليّة التي بها رفض أن يدخل في المنطق اليهوديّ وطريقة ممارسته للشريعة. فتابع بولس الرسول في خطّ معلّمه، فتحرّر من الشريعة كما طلب من المؤمن أن يتحرّر من الخطيئة، لأن من يفعل الخطيئة يكون عبداً للخطيئة كما قال يسوع في إنجيل يوحنا (8: 34).
خاتمة
الكلام عن الحرية في الكتاب المقدّس حديث طويل، وهو يفترض قراءة النصوص ووضَعها في إطارها الحضاريّ، مع إبراز الهدف من كتابها. أما السمة المسيطرة فهي نقص في الحريّة، وتطلّع إلى تلك الصورة الأولى التي بُني الانسان بحسبها، فوصلت بنا إلى الذي "هو صورة الله الذي لا يُرى" (كو 11: 5)، الذي لأجله خُلق شيء، الذي صارت النُظم والمؤسسات في خدمته، بعد أن كان السبت له ولم يكن يوماً للسبت وكأنه مطلقٌ يسجد أمامه. كما انطلق الانسان من عالم شوّهته الخطيئة فوصلت به الأمور إلى عبادة الحيوانات من طيور ودواب وزخرفات (روم 1: 23)، فتطلّع إلى خليقة تتحرّر من عبوديَّتها لتشارك أبناء الله في حرّيتهم ومجدهم. لهذا فالخليقة كلها تنتظر، تئن، تتألم، ونحن معها نئنّ في سبيل الحرية منتظرين من الله التبنّي وافتداء أجسادنا (روم 8: 21- 23).

الخوري بولس فغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM