الفصل الحادي :عشر إعلان الكلمة

الفصل الحادي عشر
إعلان الكلمة
4: 1- 8

تسلّم تيموتاوس إرث بولس، فوجب عليه أن يمارس وظيفته كمناد بالكلمة، يمارسها بأمانة وشجاعة. ويبدأ الرسول كلامه باستحلاف احتفاليّ (1: 6، 8، 13؛ 2: 1، 3، 8، 14؛ 3: 4) يُوجز مضمون الرسالة، ويستلهم النظرة إلى الأزمنة الأخيرة وإلى موت الرسول. تلك هي وصيّة بولس قبل موته: أن يتكرّس تيموتاوس لعمل الكرازة، لخدمة الانجيل والكنيسة. وأن يقتدي بمعلّمه الذي يبذل حياته على مثال الربّ الذي قدّم حياته لله الآب حين جاءت الساعة.

1- مسيرة بولس حتّى الموت
حين نتعرّف إلى مسيرة بولس، نفهم أنها الواسطة بين زمن الخلاص وزمن المؤسسات الكنسيّة. في 1تم 1: 12- 16، يعود بولس إلى اهتدائه الذي دشّن بالنسبة إليه تاريخًا جديدًا. وفي 1تم 1: 3، 18ي، يؤسّس الحرب على الهرطقة بحيث يتابع تيموتاوس عمله في أفسس. وفي 1تم 2: 7، يبدو كافل التعليم. وفي 1تم 3: 14- 15 و4: 13، نرى تنظيم الكنيسة مع نشاط الخدم في قراءة الكتب المقدّسة والتعليم والارشاد. وفي 2تم، تشدّد الاشاراتُ الشخصيّة على الآلام التي قاساها الرسول فوصلت به إلى حافة الموت. في 1: 8، هو السجين الذي يشارك في الآلام من أجل البشارة. في 1: 12، يدلّ على ثقته بذاك الذي حمّله الأمانة. في 2: 3، يدعو التلميذ أن يقتدي بالمعلّم، وفي 2: 9، يشير بولس أنه صار كمجرم (على مثال المسيح). ولكن لا بأس. فإن هو قُيّد بالسلاسل، فكلمة الله حرّة طليقة. وإن هو تحمّل الآلام، فمشاركةً مع آلام المسيح من أجل المختارين (آ 10).
حثّ بولس تلميذه على حفظ الوصيّة حتى تجلّي ربنا يسوع المسيح (1تم 6: 14). فالرسول تأخّر (1تم 3: 14). ومجيء المسيح تأخّر. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تقدّم 2تم 4: 6- 8 إلى تيموتاوس مسيرة تستند إلى خبرة بولس السابقة. فنهاية الشوط ترتبط بالحفاظ على الايمان (4: 7). وما يطلبه بولس من تيموتاوس، قد سبق له وعاشه بنفسه. فبولس ليس فقط في بداية التاريخ، بل في نهايته. فهو يعيش منذ الآن العلاقة بين "الآن" و"في ذلك اليوم"، ويكفل أن القرّاء المباشرين وغيرهم يعيشون هذين الزمنين. أما الاكليل فجاهز منذ الآن، ولكنه سيُعطى في اليوم الأخير، "ليس لي فقط، بل لجميع الذين أحبّوا ظهوره".
ويتثبّت هذا المنظار التاريخيّ لبولس، حين نقابل 2تم 4: 6- 8 مع آيات من الرسالة إلى فيلبي، يبدو هذا المقطع صدى لها. نلاحظ مثلاً ألفاظًا مثل "يُراق" (4: 6؛ فل 2: ،17 سباندوماي). "الرحيل" (آ 6، أناليسيس) مع "أناليساي" في فل 1: 3: أرغب في الرحيل. هي صورة الجري والمكافأة والهدف الذي لم نبلغه بعد في آ 7. رج فل 3: 12- 14. في آ ،7 جريُ بولس، شوطه (درومون). وفي فل 2: 16، نجد الفعل (سعى، جرى). جهاد بولس السابق والحاضر (آغون) في فل 1: 30. تحرك تيموتاوس في 4: 9ي وفل 2: 19.
بدا الانتقال واضحًا في فل 2: 17 حيث كانت الجماعة حاضرة مع بولس في الاعتبارات حول جريه. وتصرّف الفيلبيّين، قرّاء الرسالة (فل 2: 12؛ 4: 1)، هو الذي يمنحه في "يوم المسيح" مجده وبرّه، وذلك بعد نهاية الشوط (فل 2: 16). والفيلبيّون هم استباق "إكليله" (فل 4: 1). أما في 2تم 4: 8، فالمؤمنون هم الذين ينالون الاكليل بعد بولس.
وفي هذا الارشاد إلى أهل فيلبيّ، يبدو بولس بلا يقين حول النصر الأخير (في 4: 6، صيغة الايجاب، وفي فل 3: 12، النفي: لا أدّعي. في 4: 7: أتممت. وفي فل 3: 12: ما أتممت، ما بلغت الكمال). فما فيه ارتياب، وما هو في طريقه من علاقة بين الرسول والجماعة، صار في الرسائل الرعائيّة أمرًا يعيشه بولس ومثالاً وكفالة للمؤمنين. فالانتقال من عالم إلى آخر، له هدف ارشاديّ. وهو يعبّر أيضًا عن الوجدان التاريخيّ الذي يفسّر "خسارة" بولس: بولس سبقنا في الماضي. وهو يسبقنا بعد.
وهكذا يسبق بولس المؤمنين ويستبق الدينونة بمناسبة ظهورين. بالنسبة إلى الظهور الأول، هو أول الخاطئين وأول المخلّصين. وفي خطاه سيكون المؤمنون الآتون (1تم 1: 15- 16). بالنسبة إلى الثاني، هو ينال إكليل البرّ، الذي سيناله أولئك الذين "أحبّوا ظهور" الديّان العادل (4: 8). إذن، موضوع التبرير ما زال هنا: لا يعبَّر عنه بلغة "التبرير بالايمان" بقلم بولس المبشّر (غاب موضوع الايمان من هذه المقاطع)، بل يفسّر هو أيضًا في مسيرة بولس الذي تسلّم البشرى، فاستبق جميع المؤمنين. بولس هو نموذج الانسان المفديّ والمؤمن (والخادم) الذي ينال الاكليل. نحن هنا أمام القطب الثاني في موضوع التبرير، كما نقرأه في الرسائل الرعائيّة. فنعمة الله التي قرّرت منذ الأزل أن تأتي بالبشر إلى الخلاص (القطب الأول: موضوع الله المحسن إلينا"، 1: 9؛ تي 1: 2- 3)، فُسّرت من خلال "مسيرة" بولس (ما حدث له يمكن أن يحدث لكل انسان، لكل مؤمن) الذي صار هكذا طريقًا نتبعها. والتبرير المجاني (تي 3: 2ي؛ رج 2تم 1: 9: لا بالأعمال؛ تي 3: 5) الذي عاشته الجماعة، هو الذي يُسند الارشاد حول رحمة الله وحنانه كأساس للعلاقة مع العالم الخارجيّ، وكأساس للرسالة.
أخيرًا، في 4: 6- 8، لسنا أمام تمثّل تنظيريّ يجعلنا نفسّر الزيارة المرتقبة والتأخّر المنتظر في 1تم 3: 14- 15 (رج 4: 13) كساعة لقاء أخير مع بولس في المجيء. ما نجد هنا هو إطار الارشاد. ما يُطلب من تيموتاوس، وبه من خدّام الجماعة، قد ناله بولس منذ الآن، الذي لا يكتفي بأن "يقول"، بل "يبيّن" أيضًا "كيف يجب أن نتصرّف في بيت الله".
هنا نفهم أن التاريخ المقدّس يقف في ثلاث زمانيات: زمانيّة في الله. الزمانيّة الاخباريّة البولسيّة. الزمانيّة الموسّسيّة. ونجد في قلب كل زمن مساحة الزمن اللاحق.
أ- الله إله مخلّص. منذ الأزل قدّم نعمة للبشر (1: 9؛ تي1: 2- 3)
ب- هذا القرار الأزليّ للخلاص، صار "ظهورًا" خلاصيًا للمسيح (الظهور الأول. 1: 10؛ تي 2: 11؛ 3: 4؛ رج 1تم 1: 15؛ 2: 6 "في الأزمنة المحدّدة").
ج- بولس عند مفصل الأزمنة
ج 1- أعلن بولس. هذا التجلّي أعلن على أنه "انجيل"، "كرازة"، "شهادة" كلّف بها بولس (1: 11؛ 2: 8؛ 1تم 1: 11؛ 2: 7؛ تي 1: 3: "في الأزمنة المحدّدة).
ج 2- سبق بولس. في 1تم 1: 15، هو أول الخطأة، وأول المخلّصين. إنه المثال الأول للذين سوف يؤمنون.
د- ترك وراءه تلاميذ (1تم 1: 3؛ تي 1: 5). سلّمهم مهمّة (1تم 1: 18؛ تي 1: 5). وضع يديه عليهم (1: 6). علّمهم كيف يحتملون الآلام (2: 8ي). ودلّهم كيف يتصرّفون في »بيت الله« (زمن الاخبار البولسيّ).
د د- حيث كان بولس، وفي أثره، نجد الآن "الزمن الموسّسي"، زمن المؤسّسة والجماعة. نجد زمن الرسائل الرعائيّة، مع ماض نستعيده (النبوءات، 1تم 1: 18؛ وضع اليد والرسالة، 1: 6؛ 1تم 4: 14؛ التربية المسيحيّة، 1: 3- 5؛ 3: 14- 17). وحاضر مليء بالتعارضات (هرطقة نحاربها، كل جماعة تأخذ مكانتها) وتوصيات (كيف نتصرّف" إرشاد). ومستقبل منتظر (سبقنا بولس، الظهور الثاني، الأزمنة المحدّدة، الحياة الأبديّة).
ج ج- الجماعة... قد سبقها بولس الذي يقدر أن يرحل (منذ الآن) بعد أن أتمّ رسالته وتأكّد من الأجر والاكليل (4: 6- 8؛ رج 1: 16، 18).
ب ب- في انتظار واثق لظهور المسيح الثاني (الظهور الثاني، 1تم 6: 14- 15 "في الأزمنة المحدّدة"، 2تم 4: 1- 8؛ تي 2: ،13 في "ذلك اليوم" 1: 12، 18: 4: 8).
أ أ- متأكّدة من وعد الحياة الأبديّة (1: 1؛ تي 1: 2؛ 1تم 1: 16؛ 4: 8؛ 6: 19).

2- دراسة النصّ
بدأ بولس فاستحلف تيموتاوس. فالأمر خطير جدًا: بشّرَ بكلام الله. ألحّ في إعلانه، ثم تطلّع إلى نهاية حياته، إلى رحيله من هذه الدنيا: سيكون موته ذبيحة على مثال ذبيحة المسيح على الصليب. فالعماد الذي نلناه فجعلنا شبيهين بموت المسيح، لا يكون حقيقة وواقعًا إلاّ عند ساعة الموت. وكما انتصر يسوع نصره النهائيّ حين مات على الصليب فكان ذبيحة عن الخطأة، هكذا ينتصر المؤمن في المسيح، عند موته، وهو يرجو القيامة والمجد في خطى يسوع المسيح.

أ- إعلان الكلمة (4: 1- 5)
تبدأ هذه القطعة باستحلاف (آ 1) وخمسة أفعال في صيغة الأمر، تدعو تيموتاوس إلى الخضوع كجنديّ صادق للمسيح (آ 2). وتنتهي بالوداع (آ 6- 8). فليتكرّس التلميذ إذن للكرازة وللخدمة في الكنيسة (آ 5).
أولاً: أمام الله والمسيح (آ 1)
"ديامتيروماي". ناشد، استحلف. كان هذا العمل يتمّ في إطار الوصيّة والوراثة، أمام شهود قد يكونون الآلهة أو البشر. وهنا، الشاهد هو الله الآب، والمسيح يسوع كالديّان الآتي. سيأتي المسيح ويدين جميع البشر، الأحياء والموتى الذين يقومون ساعة مجيئه (مت 25: 31؛ لو 18: 8؛ يو 5: 27- 29). نحن هنا أمام عبارة كرازة وجدنا مثلها في أع 10: 42؛ 1بط 4: 5، فكانت جزءًا من الاعتراف الإيمانيّ الذي يُشرح للموعوظين (عب 6: 2). ما قاله بولس في 1تس 4: 16- 17؛ 1كور 15: 51- 52، يتردّد هنا.
ستكون هذه الدينونة احتفاليّة: الظهور (ابيفانيا) المنير للملك (2تس 2: 8=1تم 6: 14؛ تي 2: 13؛ 2تم 4: 8). جلالته الملوكيّة: هو يأتي كالديّان ليُدخل أخصّاءه إلى ملكوته (1تس 2: 12؛ 2تس 1: 5=2تم 2: 12؛ 4: 18؛ رج عب 12: 23؛ رذ 3: 21). في خلقيّة هذا المقطع، نجد صورة الأمير الذي مضى يطلب ملكًا، ثم عاد وجازى خدّامه خير مجازاة (لو 19: 15).
ثانيًا: وصيّة الرسول (آ 2)
ما هو موضوع الاستحلاف؟ ما هي وصيّة بولس التي يريد من تيموتاوس أن ينفّذها؟ أكرز بالكلمة. أعلنها في كل مكان (1تم 3: 16). كن المنادي أمام الملك العظيم (1: 11) الذي منح رسله سلطة إعلان (مت 10: 27) الكلمة (2: 9). حسب 1تم 1: 15؛ 2كور 5: 19، نحن أمام بُشرى الخلاص للخطأة، أمام الانجيل (4: 15) كلمة الحقّ (2كور 6: 7؛ 2تم 2: 15). هذا الاعلان الصارخ (تي 1: 3) يقابل التسلّل الذي يقوم به المعلّمون الكذبة ليتّصلوا بشخص أو شخصين (3: 6).
بعد الاستحلاف يأتي التنبيه (آ 2: 5). في آ 3- 4. يُذكر الخصوم المصطفّون للقتال، نقرأ "إفيستيمي": ظهور فجائيّ لشخص في مكانه (أع 17: 15)، يستعدّ للتدخّل (إر 46=26 (في السبعينيّة): 14). قف واستعدّ. فالمسؤولون دومًا مستعدّون. تخلّصَ تيموتاوس من اهتمامات أخرى فبدا دائم الاستعداد. فكلمة الله لا ترتبط بأزمنة وظروف. هي تُعلن في كل وقت. والرئيس هو كالزارع ولو ضاع بعضُ الحبّ. فالنتيجة أكيدة في النهاية. يكرز سواء تقبّل الناس الكلمة أو لم يتقبّلوها. في أي حال، في الأيام الأخيرة لن يتقبّلوها (آ 3). ولكن مع ذلك لا نسكت. فالنبع يجري دائمًا وإن لم يكن هناك من يستقي (الذهبيّ الفم). بشّر بولس في كل مكان: في المجامع والساحات العامة، في السجون وعلى السقف وفي قلب العاصفة، وتكلّم أمام الملوك والولاة.
ماذا يعمل تيموتاوس؟ يوبّخ (إلانخاين، 1تم 5: 20؛ تي 1: 9، 13؛ 2: 15). يردّ على الخصوم. ويُنذر بصبر مليء بالحنان. والصبر يرتبط بالمحبّة والسلام والوداعة (غل 5: 22؛ كو 3: 12).
ثالثًا: زمان مظلم (آ 3- 4)
يعلن تيموتاوس الكلمة بشجاعة. ويعيد الكرّة ويلحّ. فسيأتي يوم (وقد بدأ، 3: 1؛ 1تم 4: 1) فيه لا يحتمل الناس التعليم الصحيح كما تقدّمه الكنيسةُ (1تم 1: 10؛ 6: 3؛ تي 1: 9؛ 2: 1). لماذا، لأنهم يرغبون في سماع أمور أخرى: ما هو جديد، ما يلفت النظر (أع 17: 21). فينتقلون من معلّم إلى معلّم (3: 7) ولا يتعلّمون. أوهم يتعلّمون ما يريدون. حسب أهوائهم. المعلّم الكاذب يُرضي أذواقَ الناس. أما صاحب التعليم الصحيح فيكون مصيره كمصير ميخا بن يملة (1مل 22: 23- 24): قال الحقّ فنال صفعة ووُضع في السجن (آ 27). رج أش 30: 10؛ إر 5: 3؛ حز 33: 32.
بدا المنّ بلا طعم في نظر بني اسرائيل، والتعليم الصحيح في آذان بعض المؤمنين. حينئذ انتقلوا إلى الخرافات.
رابعًا: اليقظة عند الرسول (آ 5)
تجاه مثل هذا الجنون وهذا العمى، وجب على تيموتاوس أن يتّخذ الحيطة، أن يكون يقظًا. يحافظ على هدوئه. لا يبلبله وضعٌ محيّر. يعرف ماذا يقول، فيتجنّب كلامًا تفرزه مخيّلة لا شيء يوقفها (روم 12: 3؛ 1كور 4: 6). "الآلام" (كاكوباتايا). هي الأخطار والأتعاب التي يواجهها موظف في عمله (كاكاباتايو: احتمل الألم). ولكنه يهتمّ بالناس أكثر من اهتمامه بنفسه وبراحته. رج يع 5: 10. يعمل عملاً متواصلاً، فلا تُوقفه صعوبة في حمل البشارة (أع 21: 8؛ أف 4: 11؛ رج 2كور 8: 18). العمل (إرغون). هو عمل شريف كما في 1تم 3: 1، وقد يصل بنا إلى النصر فيكون مأثرة نفتخر بها. وليكن العمل تامًا كاملاً، لا ينقصه شيء.

ب- ساعة الرحيل (4: 6- 8)
بدا بولس وكأنه يودّع تيموتاوس. هي كلمته الأخيرة يقولها لها بشكل وصيّة: ظلّ بولس في الخدمة حتى النهاية، فيبقى على تيموتاوس أن يواصل العمل في خطى معلّمه الذي جعل البشارة بالانجيل نصب عينيه، وجعلها أولى واجباته.
أولاً: أنا ذبيحة (آ 6)
تأكّد الرسول من موته القريب. ها أنا أستعدّ للرحيل. الآن (1كور 4: 8؛ روم 1: 10). سيموت شهيدًا. يُقتل في سبيل المسيح. لهذا كان موته ذبيحة (فل 2: 7) وسكيبًا للربّ (2صم 23: 16). حسب الليتورجيا العبريّة، كان يُسكب الزيت (تك 28: 18؛ 35: 14؛ مي 6: 7) أو الخمر (خر 29: 40؛ عد 15: 1- 10؛ تث 12: 38؛ هو 9: 4). ويسكب الدم على المذبح (خر 24: 6- 7؛ 2مل 16: 13) فيكون تقدمة لله بها تكرّس الضحيّة (روم 12: 1؛ 14: 8).
تلك صورة أولى عن الموت: الدم الذي يراق والذبيحة. والصورة الثانية: الساعة التي فيها يرحل الرسول. يترك السجن. تحلّ قيوده فينطلق. "أناليسيس". رحيل من هذه الحياة. يبدو الرسول وكأنه سفينة فكّت حبالها فانطلقت في البحر.
ثانيًا: أتممتُ شوطي (آ 7)
فكّر بولس في حياته الرسوليّة بصعوباتها، بأفراحها وأحزانها. ها قد صارت إلى النهاية. عاد إلى ضميره. ضميرُه لا يوبّخه. فعل كل ما في وسعه. بدا كالمصارع في الحلبة. قاتل بأفضل ما يكون، وقاتل حتى النهاية (1تم 4: 10). جعل الفعل "جاهد" في صيغة الكامل، فدلّ على نتيجة هذا الجهاد الآن. هو خدمة المسيح والانجيل. والعمل "تمّ" (تالو). نتذكّر أن يسوع قال من على صليبه: تمّ كل شيء. وبولس أتمّ ما طُلب منه، فكان عمله امتدادًا لعمل المسيح. قال الذهبيّ الفم: أتمّ المسيرة، وبالتالي أنهى العمل، رغم كل الصعاب. فجاء جرْيه أمجد من جري الشمس في السماء.
"الايمان" (بستيس). حافظتُ على الايمان. أي حافظتُ على الوديعة (التعليم الانجيلي)) فما شابهتُ أولئك الذين انكسرت بهم السفينة (1تم 1: 9). وحافظت على التزامي. تعهّدت للمسيح ولبثت على التعهّد، أمينًا لما طُلب مني. وهكذا جاء الدم الذي يراق ختمًا لصدق وأمانة عرفهما الرسول طوال حياته.
ثالثًا: إكليل البرّ (آ 8)
بما أن كل شيء تمّ، وتمّ على ما يرام، فلا يبقى للجنديّ والمصارع والرسول سوى أن ينتظر الجزاء. منذ الآن (لويبون). في نهاية الأمر (1كور 4: 2؛ 2كور 13: 11). الشيء الأخير هو الجزاء. "أبوكايماي". انتظر. حُفظ لانسان الهدايا والأمور الحلوة والكرامة. ولا شكّ في ذلك (كور 1: 5؛ لو 19: 20). سواء كان الجزاء منظورًا أو غير منظور.
بدت السعادة الأبديّة المحفوظة لبولس بشكل إكليل. فالاكليل علامة اكرام ورمز إلى الفرح. رج فل 4: 1؛ 1تس 2: 19. الاكليل هو جزاء المنتصرين (مت 27: 29؛ عب 2: ،7 9؛ رؤ 6: 2) وأجر المصارعين (1كور 9: 25؛ 2تم 2: 5) ورمز الخلود والعظمة في نهاية الحياة (يع 1: 12؛ 1بط 5: 4؛ رؤ 2: 10).
الله بار. وبالتالي عادل. وهو يجازي الذي قاتل وانتصر (2: 5؛ 1كور 9: 25)، لأنه وعد بذلك (يع 1: 12؛ رؤ 2: 10). هذا الاكليل هو امتلاك حياة من البرّ، الحياة الأبديّة (روم 8: 23). هذا يقابل "إكليل الحياة، إكليل المجد" (1بط 5: 4).
بما أن المسيحيّين، الذين هداهم بولس، هم فرحه وإكليله (فل 4: 1)، وبما أنه لا يقدّر أن يفكّر أنه سينفصل عنهم (1كور 4: 8)، فأرسل يؤكّد لهم أنهم سيشاركونه في سعادة الله (يو 17: 26). وأكّد ذلك لجميع المؤمنين: هم الذين يشتاقون إلى ظهوره. يتوقون. في الأصل "أغابان" أحبّ. أما هنا، فاشتاق كما في اليونانيّة الهلنستيّة. فالموضوع الأول للايمان المسيحيّ هو موضوع رجاء (عب 11: 1)، هو موضوع عودة المسيح (1تس 1: 10=تي 2: 3=فل 3: 20؛ رج رؤ 22: 17، 20، مرانا تا). وهذا يتضمّن امتلاك الحياة الأبديّة (1كور 2: 9؛ تي 1: 2؛ يع 1: 12). في هذا الجوّ، نسي بولس آلامه الماضية وعزلته الحاضرة وضيق دعاوة الهراطقة الذين يهدّدون ما عمله في حياته. فهو منذ الآن يتذوّق النصر في يسوع المسيح، له، ولمؤمني أفسس، ولجميع الذين اشتاقوا ظهور الربّ.
3- قراءة إجماليّة
انتهت التعليمات المعطاة لتيموتاوس كراعي القطيع باستحلاف احتفاليّ شبيه بما في 1تم 5: 21؛ 6: 13. ناشد بولس تلميذه أمام الآب والابن، فجعل من الأقنومين الالهيين شاهدين على الأهميّة التي يعلّقها على توصياته الأخيرة. وذُكرت عودة المسيح الذي سيكون الديّان الاسكاتولوجي. حين لمّح بولس إلى هذه العقيدة، ذكّر تيموتاوس أنه، في ذلك اليوم، سوف يؤدّي حسابًا عن المهمّة التي أوكلت إليه. وذكّره أيضًا أن عمل التبشير أمر ملحّ، ويجب أن يتمّ قبل المجيء الثاني: يجب أن يُعلن انجيل الملكوت في الأرض كلها، شهادة لهم (مت 24: 14).
في يوم الدينونة، يمثُل جميعُ البشر أمام منبر الله (روم 14: 10) والمسيح (2كور 5: 10؛ رج مت 25: 31). في الأصل، الديّان هو الله الآب (روم 12: 19؛ 1كور 4: 5). ولكنه يدين العالم (أع 10: 42؛ 17: 11؛ رج يو 5: 22) بواسطة ابنه الذي أقامه من بين الأموات. وهكذا ننتظر المسيح في اليوم الأخير كالديّان (4: 8؛ يع 5: 9). إن عبارة "يدين الأحياء والأموات" نقرأها في 1بط 4: 5 وفي أع 10: 42. نحن هنا أمام قانون إيمان أو كرازة أولانيّة استعادها الكاتب، ودخلت اليوم في قانون الايمان. الجميع سيدانون سواء كانوا أمواتًا أم ظلّوا على قيد الحياة في مجيء الربّ. "إن كان المسيح مات وعاد حيًا، فلكي يصير ربّ الأموات والأحياء" (روم 14: 9).
ناشد بولس تيموتاوس بظهور المسيح وملكه. إبيفانيا، ظهور، تجلي. باسم هذا الظهور. باسم عودة الربّ في نهاية الأزمنة. والملك، شأنه شأن الدينونة، هو ملك الله (مت 6: 10؛ 13: 43؛ 26: 29). ولكن الأب أعدّ الملكوت من أجل الابن (لو 22: 29)، بحيث إن ملكوت الله هو أيضًا ملكوت الابن (مت 13: 41؛ 20: 21؛ لو 22: 30؛ يو 18: 36؛ 2تم 4: 8؛ تي 2: 13. رج أف 5: 5: "ملكوت المسيح والله"). هذا الملكوت حاضر منذ الآن بشكل سريّ (كو 1: 13)، ولكنه سيظهر بقوّة ومجد ساعة العودة (مت 16: 28؛ لو 23: 42؛ رج 1كور 6: 9؛ 15: 50؛ غل 5: 21؛ أف 5: 5؛ 1تس 2: 12؛ 2تس 1: 5 والكلام عن الطابع المقبل لهذا الملكوت). أشار النصّ إلى الدينونة، فذكّر تيموتاوس بمتطلّبات رهيبة. وأشار إلى الملكوت، فوضع نصب عينيه المجازاة الموعود بها للخدّام الأمناء: سوف يملكون مع سيّدهم (مت 25: 34؛ 2تم 2: 12؛ رؤ 5: 10؛ 20: ،4 6؛ 22: 5).
ناشد الرسول تلميذه. ثم نبّهه، حذّره. أن ينادي (كيريساين) بالكلمة كما يفعل المنادي (كيريكس). هو ينادي بالكلمة، بالانجيل الذي هو كلمة الحق (2: 15). ذاك هو الواجب الأول للرسول: المناداة بالانجيل (1كور 1: 17؛ 9: 16). وهو واجب ملحّ، لأن كلمة الخلاص يجب أن تبلغ إلى كل خليقة قبل الدينونة الأخيرة. لهذا، لا يتراخى بولس. يكون دومًا في المقدّمة. يكرز، وهكذا يُتمّم واجبات رسالته. لا مكان للاستعفاء، لا مكان للتحفّظ والتأخّر. فالوقت يدهمنا. ونحن نرى أولى إشارات الأزمنة الأخيرة. نحن لا نتساءل إن كان الوقت مؤاتيًا أم لا. نحن لا ندرس إمكانيات النجاح البشريّ أم لا. بل نتدخّل في كل وقت. هذا ما فعله بولس فقال: "صرت كلا للكل لكي أربح بعضهم بكل وسيلة" (1كور 9: 22- 23). ما جاء إلى البشر بسحر الكلام أو الحكمة (1كور 2: 1)، بل نقل تعليم الله مستندًا إلى روح الله وقوّته (1كور 2: 4). كل وقت كان مؤاتيًا للبشارة. هذا ما يفعله تيموتاوس، مع أن الزمان يبدو صعبًا.
على تيموتاوس أن يوبّخ، أن يهدّد، أن يحضّ (باراكالاين). هكذا يساعد المؤمنين على الثبات في الايمان، والضالين على العودة إلى طريق الحقّ. فالتحريض (1تم 4: 13) هو مساعدة إيجابيّة تفترض صبرًا كبيرًا (مكروتيميا) وصفات تربويّة حقيقيّة (همّ التعليم). لا يبحث الرسول عن "شعبيّة" رخيصة، بل يسعى إلى التعليم بكل الوسائل.
تطلّع بولس مرّتين إلى المستقبل بنظرة ملؤها الخوف (1تم 4: 1- 2؛ 2تم 3: 1)، إذ عرف أن الأزمنة الأخيرة تنطبع بثورة قوى الشرّ، وبضعف عام على مستوى الايمان. حين فكّر بموته القريب (4: 6) جعله هذا التقليدُ يتكلّم مرّة أخيرة عن نهاية الأزمنة. نظرته ما زالت متشائمة: عددٌ كبير يتركون الايمان. نشاط فاعل لمعلّمين لم يكلّفهم أحد. والضيق الأخير يكون ذروة في أزمة نرى ملامحها منذ الآن، وهي تتنامى وتتنامى. وما يشير إليه الرسول خصوصًا هو تراجع المسيحيين على مستوى الايمان. يأتي وقت لا يحتمل البشر التعليم الصحيح الذي يصبح ثقلاً عليهم لا يُطاق. يفضّلون أن يتبعوا الطريق السهلة، طريق الشهوات (إبيتيميا). فيطلبون معلّمين يساومون على الحقّ، ويتركون الرسل الحقيقيّين.
وبعد أن قال بولس ما قال عن الهراطقة، وجّه الكلام إلى تلميذه. "أما أنت". تجاه أناس يبحثون عن الجديد ويجرون وراء الخرافات، يكون تيموتاوس معتدلاً على مستوى التعليم فيقف عند الوديعة التي تسلّمها ويمتنع عن المجادلات الفارغة. يحاول المعلّمون الكذبة أن يتملّقون آذان سامعيهم. أما رسول الانجيل فلا يحاول أن يرضي الناس. هو لا يريد أن يعرف إلاّ يسوع المسيح وإياه مصلوبًا (1كور 2: 1- 3). هي دعوة متطلّبة. وستقوم عليها المعارضة. فلينتظر تيموتاوس الصعوبات والآلام، ولا يخفْ من المحن، ولا يتراجع عن أداء مهمّته في حمل الانجيل. بل يُتمّ عمله على أكمل وجه فتكون خدمته بلا عيب. وتبدأ خاتمة الرسالة في آ 6- 8 حين يرى بولس أن نهاية حياته أطلّت. وقف أمام الله الديّان. فعاد الحاضر (آ 6) إلى الماضي (آ 7)، وتوجّه إلى المستقبل (آ 8). مثلُ هذا الكلام، رغم إيجازه، يذكّرنا بخطبة يسوع بعد العشاء السريّ (يو 13: 17) وكلام بولس لشيوخ أفسس (أع 20: 18- 35).
على مستوى الحاضر. بالنسبة إلى الرسول، جاء وقت الذبيحة العظمى والرحيل الكبير. شبّه حياته بخمر (أو زيت أو دم) يُسكب على مذبح الله. ما اكتفى بولس بالقول إنه صار في نهاية حياته، بل أراد أن يفهمنا أن موته سيكون ذبيحة (فل 2: 17) شبيهة بذبيحة المسيح. هكذا اعتقد اليهود بأن لموت الشهداء قيمة ذبائحيّة (4 مك 6: 28- 29؛ 17: 21- 22). إذا كانت حياته الرسوليّة، كما يجب أن تكون حياة كل مسيحيّ، احتفالاً متواصلاً ب "عبادة روحيّة" (روم 12: 1)، فقد جاء الوقت لكي يُراق الدمُ على المذبح. وهكذا اقتدى بولس بالمسيح الذي قدّم للآب سكيب دمه، دم العهد الجديد، الذي يراق لخلاص العالم. وعاد الرسول أيضًا إلى صورة أخرى ليتحدّث بها عن موته القريب: السفينه التي تترك الميناء وتُبحر، والجنديّ (أو المسافر) الذي طوى حوائجه لينطلق.
على مستوى الماضي، ألقى بولس نظرة شاملة إلى حياته الرسوليّة، فأوجزها في ثلاثة أفعال جاءت في صيغة الكامل (هذا يعني الكمال والتمام). جاهد الجهاد الحسن، كالجنديّ (2: 4) أو المصارع (2: 5). وذُكر الاكليل، فجعلنا نفكّر في المتسابقين في الميدان (1كور 9: 25). وعلى مستوى المستقبل الذي ينتظر بولس، بدا الرسول واثقًا برحمة الله، ورأى من بعيد الاكليل المحفوظ له. "كل مسابق يمارس ضبط النفس في كل شيء من أجل إكليل يفنى، وأمّا نحن فمن أجل إكليل لا يفنى" (1كور 9: 25). أجل، إكليل البرّ معدّ، والربّ هو الذي يقدّمه للرسول في ذلك اليوم، في اليوم الأخير، مجازاة لخدمته الصادقة. لا شكّ في أن بولس لا يفكّر بأن يفتخر شخصيًا بما أنجز. فهو يعرف أنه هو ما هو بنعمة الله (1كور 15: 10). فلولا رحمة الله لما كان سوى أول الخطأة (1تم 1: 15). والجزاء الذي يناله هو في النهاية، إكليل النعمة. وهو لا ينال هذا الاكليل وحده، بل يناله أيضًا جميعُ الذين انتظروا ظهور الربّ في مجيئه الثاني.

خاتمة
ثلاثة أشخاص في هذه القطعة. تيموتاوس الذي يطلب منه الرسول أن يكون متيقّظًا. أن يبشّر ويعظ ويوبّخ دون أن يخاف الصعوبات، دون أن يتراخى أمام المقاومة. وبولس الذي رأى أن ساعة رحيله قريبة. وأصحاب التعاليم الضّالة الذين عملوا في أيام بولس، ويتابعون دعاوتهم مع تيموتاوس. ذاك هو وضع الكنيسة من جيل إلى جيل. تنتقل الرسالة من يد إلى يد، وتسلّم الوديعة إلى أشخاص أمناء يتابعون المسيرة. كانت نهاية بولس الموت من أجل المسيح فصارت حياته ذبيحة. وهذا ما ينتظر تيموتاوس، وكل حاملي الكلمة. فمن أراد أن يكون للمسيح ناله الاضطهاد. بما أن المسيح أنبأنا بذلك، فلا ندهش. وبما أن الرسول نبّه تلميذه إلى ما ينتظره، فليستعدّ للجهاد مثل جنديّ صادق، مثل متسابق ينتظر أن ينال إكليل البرّ الذي يقدّمه له الربّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM