الفصل العاشر: بولس والأمانة للتقليد

الفصل العاشر
بولس والأمانة للتقليد
3: 10- 17

حين كان صراع داخل الكنيسة في فلسطين وسورية ولبنان، بين أناس يميلون إلى اليهوديّة، وآخرون يقطعون كل رباط بالعالم اليهوديّ، لأن الخلاص يتمّ بالايمان بالمسيح، قدّم الانجيليّ متّى لوحة عن الفريسيين الذين يقودون المسيرة اليهوديّة بعد دمار أورشليم سنة 70، وأظهر رياءهم وكذبهم، وشبّههم بالقبور المكلّسة، وقال فيهم إنهم يأكلون بيوت الأرامل متظاهرين بإطالة الصلاة. ثم جعل أمام المؤمنين صورة المسيح الوديع والمتواضع القلب، الذي ما جاء ليُخدم بل ليخدم ويبذل حياته عن الكثيرين. فماذا يختار المسيحيّون. وفعل الكاتب مثل متّى، في هذه الرسالة. قدّم صورة عن هؤلاء المعلّمين "الأنانيين، المتعجرفين، النمامين...". ثم أعطى صورة عن الرسول الحقيقيّ، عن بولس ذاك الأمين للكتاب المقدّس والتقليد المسيحيّ. ماذا يختار التلميذ بعد أن عرف تعليم بولس ومسيرته وايمانه وصبره ومحبّته؟

1- مثال نقتدي به
كيف يتصرّف التلميذ؟ كيف يحمل التعليم إلى المؤمنين؟ التعليم لا يكون فقط بالكلام بل بالمثَل الحيّ. مرّ بولس في كنائس آسية، ولا سيّما في أفسس، وقال: اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح. فلماذا نبحث عن معلّمين هنا وهناك يتاجرون بنا ويستعبدوننا، وفي النهاية يتخلّون عنا، باحثين عن طريدة جديدة؟
تتوزّع آ 10- 17 في مقطعين واضحين. ويبدأ كل مقطع: وأما أنت (سي دي). بُني الأول (آ 10- 13) على تعارض زمنيّ (الماضي، المستقبل) فتضمّن تذكرًا وإنباء. ارتكز الإنباء على تطوّر سلبيّ لدى الخصوم، وعلى الاضطهاد الذي يصيب العائشين حسب التقوى. والتذكّر ليس فقط ما يذكره بولس، بل ما يذكره أيضًا تيموتاوس. أو هو بالأحرى أمانة تيموتاوس لبولس في رسالتهما المشتركة. هي موازاة بين ما واجه بولس من ألم (1: 12؛ 2: 9- 10) وما واجه تيموتاوس (3: 10- 11). في 1تم 1: 12- 17 كان كلام عن بداية رسالة بولس في موازاة بداية تيموتاوس في 1تم 6: 11- 16. وهكذا لا يُقدّم موضوعُ الخادم المثاليّ كتحريض وإرشاد، بل كخبرة معاشة: إن تيموتاوس يُدعى إلى الأمانة لماضيه الخاص. هو ما اكتفى بأن يتبع بولس في تعليمه، بل دفع الثمن معه آلامًا قاساها الفريق الرسوليّ ككلّ (رج 2: 1- 13 وما قلناه عن ألم الجماعة).
التعليم هنا هو نشاط قبل أن يكون مضمونًا ومعرفة. في 1تم 4: 6 نجد فعل "تبع" في صيغة الكامل. ونجد الأمر نفسه في 2تم 3: 10. فبعد مقطع عن خصوم يعملون في الأيام الأخيرة (1تم 4: 1- 5)، اتّباع التعليم الحسن يؤسّس التعليمَ الصحيح (أعرض كل هذا، 1تم 4: 6) ويرذل "الخرافات الباطلة وحكايات العجائز" (1تم 4: 7). وهكذا يتماهى "التعليم الصالح" مع "تعليمي" المذكور في آ 10 من هذا المقطع (رج 2تم 1: 12، 14 والمقابلة بين "وديعتي" و"الوديعة الصالحة").
توجّه الارشاد إلى تيموتاوس. وها هو تيموتاوس يصبح مثالاً لما يُقال، بعد أن أخذ حصّته من الآلام التي دُعي لمواجهتها بدون خوف (1: 8). وهكذا يبدو أن ما طلبه بولس من تيموتاوس بأن يتبعه، قد تحقّق منذ الآن (1كور 4: 16؛ فل 3: 17؛ 2تم 3: 7- 9؛ رج 1تم 4: 6). في هذا المعنى نجد توازيًا مع 2تم 4: 6- 8 حيث يرى بولس أن ما طلبه من تيموتاوس في 1تم 6: 14، قد تحقّق.
في آ 1- 9، كانت لائحة رذائل. وفي آ 10ي، نجد لائحة المزايا والفضائل في عناصر غير متجانسة: التعليم كنشاط. الحبّ كفضيلة. الآلام التي نحتملها ونحن ثابتون. نجد هنا ثلاثة مثلّثات. الأول يرسم البرنامج البولسيّ: التعليم، السيرة، المقاصد (رج 1تم 4: 12 حيث نجد الكلام والسلوك). ويقدّم المثلّث الثاني الايمان (البرّ والثبات أو طول الأناة)، الفضائل الضروريّة لاتمام البرنامج. ويتوسّع المثلّث الثالث في موضوع الثبات (هيبوموني) بكلام عن الاضطهاد والعذاب، كما عرفهما بولس وتيموتاوس.
هي أمانة لتعليم بولس، مضمونًا وسلوكًا. وفضائل يُقرّ بها الجميع. وثباتٌ عاشه الرسول مع تلميذه. هي مسيرة يتبعها تيموتاوس، وهي لا تشمل فقط لائحة بالصعوبات، بل تتحدّث عن الخلاص. هذه العودة إلى الماضي، تؤسّس الواقع الحاضر. فما يُطلب من القارئ اليوم يرتبط ببولس، وهكذا يُبنى جسر بين المتكلّم (أنا، سيرتي أنا) وأنت (سي دي) الذي يقرأ الرسالة. لا شكّ في أن بولس ذاهب إلى الموت بحيث ينفصل عن تلميذه الحبيب، وعن كنيسة عزيزة على قلبه. ولكنه لم يحسّ نفسه يومًا من الأيام، قريبًا من محبّيه كما هو في هذه الساعة. ارتبطت حياته بحياتهم. فوجب عليهم أن يتابعوا التعليم والسيرة والمقاصد، ويحتملوا ما احتمل.

2- دراسة النصّ
في هذا المقطع (3: 10- 17) حثّ بولس تيموتاوس على الثبات في الايمان والأمانة، بفضل مثال يقتدي به وتعليم يتعلّمه. تلك هي التربية الحقّة التي عرفها العالم الرواقيّ وطبّقها بولس في تكوين تلاميذ مثل تيموتاوس وتيطس وتيخيكس وابفراس وغيرهم. ونحن نقسم هذه المقطوعة قسمين: بين الماضي والحاضر (3: 10- 13). بين الكتاب والتقليد (آ 14- 13).
أ- بين الماضي والحاضر (3: 10- 13)
قدّم بولس حياته قدوة، فعاد إلى الماضي وأراده أن يكون حاضرًا بالنسبة إلى تيموتاوس وإلى كنيسة أفسس. أجل، الماضي ماثلٌ أمام عين التلميذ وقد عاش قسمًا منه خلال رحلات رسوليّة قام بها فريقٌ تألّف من بولس وتيموتاوس وسلوانس.
أولاً: أنت تبعتني (آ 10)
جاء التعارض تامًا مع المعلّمين الكذبة (سي دي). فالذي تبع بولس لا يمكن أن يكون إلاّ مثال المؤمن الحقيقيّ من أجل تعليم الايمان. كانت علاقة بين إبن وأبيه، بين تلميذ ومعلّمه. والنتيجة واضحة. نقرأ فعل "أكولوتاين": تبع عن قرب، تعلّق بشخص (1تم 5: 10؛ مر 16: 20؛ 1بط 2: 21). ويعني أيضًا: مشى بجانب شخص، فهمَ تعليمه وهضمه. هذا يعني أن تيموتاوس تبع بولس ورافقه. سمعه وفهمه. لاحظ تصرّفاته وكان قريبًا من نظرته إلى الأمور. اقتدى به وقاسمه كل شيء.
تبعه في التعليم (1: 13) الصالح (1تم 4: 6). تبعه في طريقة حياته بحسب متطلّبات الايمان. »أغوغي« سيرة، طريقة عيش. "بروتاسيس" قصد. هو قصد الله ومخطّطه (1: 9؛ روم 8: 18). في العهد القديم، هو الترتيب (خر 40: 4؛ 1أخ 9: 32). من هنا، خبز المائدة أو الخبز المرتّب على المائدة (1مك 1: 22). في العهد الجديد، تعني اللفظة: نوايا القلب ومقاصده (أع 11: 23؛ 27: 13؛ رج 2مك 3: 8). هنا، نحن أمام مشاريع بولس ولا سيّما الرسالة لدى الوثنيين (روم 15: 16- 29) والرفض بالتبشير حيث بُشّر باسم يسوع من قبل (2كور 10: 12- 16). ويترافق الايمان والمحبّة (1تم 1: 5؛ 4: 12) مع الصبر (2كور 6: 6؛ كو 1: 11) والاحتمال (1كور 13: 7؛ 2كور 6: 4).
ثانيًا: الاضطهاد (آ 11- 12)
وارتبط بالمحبّة (أغابي) الاضطهادُ من أجل الكلمة (مت 13: 21)، من أجل المسيح (2كور 12: 10). كما ارتبط بالثبات والاحتمال (2تس 1: 4). ذكر بولس فقط ما احتمله في انطاكية بسيدية (أع 13: 50)، وإيقونيّة (أع 14: 5)، ولسترة (أع 14: 19). هذه حصلت خلال الرحلة الرسوليّة الأولى التي لم يعرفها تيموتاوس. نتذكّر أن تيموتاوس اهتدى إلى الايمان، على يد بولس، في لسترة، وقد يكون شهد رجم بولس. فكما وُلد اونسيمس في القيود (فلم 10)، كذلك وُلد تيموتاوس في خبرة الاضطهاد. وإذ رأى تيموتاوس ما رأى، فهمَ عظمةَ الايمان الجديد يعيشه ذاك الذي سيصير أباه الروحيّ.
أنقذ الربّ بولس من كل هذا. فما له سوى أن يرفع الشكر ويعطي الدرس: إن من يحيا حياة التقوى يناله الاضطهاد (آ 12). امتدّ مثَل بولس إلى جميع المؤمنين. "في المسيح يسوع"، أي يكونون متّحدين بالمسيح. يكونون أعضاء في جسد المسيح. ويحملون صليبهم كما هو حمل صليبه (روم 8: 17؛ لو 14: 26- 27). من أراد أن يحيا بالتقوى. من أراد أن يرضي الله، وجب عليه أن يتّخذ خيارًا يحقّقه في هذا العالم (مت 6: 24؛ 2كور 5: 14ي؛ 1يو 2: 15ي). لهذا، كان الاضطهاد: "طوبى للذين يحتملون الاضطهاد من أجل البرّ" (مت 5: 10، 10: 28). مع البرّ، أي الحياة بحسب مشيئة الله. نحن على مستوى الخلقيّة المسيحيّة. وعلى مستوى التدبير الخلاصيّ نفهم أن نهاية الأزمنة (آ 1) هي نهاية المحنة العظمى (مت 24: 21، 29؛ رؤ 1: 9؛ 2: 22؛ 7: 14). في ايقونيّة ولسترة علم بولس وبرنابا أننا "عبر مضايقات عديدة ندخل إلى الملكوت" (أع 14: 22). وعلى المستوى الرسوليّ (مت 10: 22- 23؛ يو 15: 18- 19؛ 16: 1- 4، 33)، قال بولس لأهل تسالونيكي: "لما كنا عندكم، قلنا لكم إننا سنعاني الشدائد، وهذا ما حدث" (1تس 3: 4).
ثالثًا: الأشرار والدجالون (آ 13)
تجاه الرسل الحقيقيّين الذين ينالون الاضطهاد، هناك أصحاب الدعاوة، في نهاية الأزمنة (آ 1- 9): هم رجال أشرار. هم الكفّار (أش 25: 4- 5؛ 1مك 14: 14). أهل العنف والضيق (إم 15: 21؛ مز 90: 1). وهذا ما يجعلهم في وجه الأتقياء (آ 12). والأشرار، في العهد الجديد، هم أشخاص بلا أخلاق (2تس 3: 12؛ 1كور 5: 13؛ رج يو 3: 19- 20). هم لا يحبّون الصلاح. في آلام يسوع، ازدادت الظلمة فحجبت نور الشمس، وهكذا يفعل الأشرار والدجّالون، ويتقدّمون (2: 16) في انحطاطهم الروحيّ. وفي النهاية، يسقطون في فخاخهم.
قالت الأسفار الحكميّة إن الشرّير يقع في الحفرة التي حفرها (مز 7: 16؛ أم 26: 27؛ 27: 10)، وإن الله يمسك الحكماء بمكرهم، فلا يتيح لهم أن يحقّقوا ما نووه (أي 5: 12- 13؛ رج 1كور 3: 19). عرف التقليد اليهوديّ حرب السحرة على كلمة الله فقالوا: :قصدُهم السيّئ يجعلهم يتجاوزون نفوسهم من أجل دمارهم ويخدعون نفوسهم حين يظنّون أنهم يخدعون الآخرين". رج ما قيل عن الفريسيّين، القوّاد العميان، الذين يسقطون في الحفرة (مت 15: 14).
ب- بين الكتاب والتقليد (3: 14- 17)
بعد مقابلة بين الماضي والحاضر. ها هي مقابلة بين الكتاب والتقليد. بدأت المقابلة الأولى مع "سي دي" في آ 10. وها هي المقابلة الثانية تستعيد الارشاد السابق.
أولاً: وأنت فاثبت (آ 14)
يتقدّم المعلّمون الكذبة، بل يتراجعون. أما تيموتاوس فهو ثابت في ما تعلّمه، وغير باحث عن البدع، عمّا هو جديد. "مانو"، ثبت، رج 2: 13. لا يترك حقائق الايمان التي تعلّمها (أع 14: 12؛ رج يو 8: 31؛ 1تم 2: 15)، فيتعلّق بما استُنبط من علم "باطنيّ"، لدى الغنوصيّين. هو يعرف الأسباب التي لأجلها آمن، وهو مقتنع بالحقائق التي تعلّمها. "بيستوو" (تيقّن)، مراحدة في العهد الجديد. الثقة والثبات لدى المؤمن تجاه الله وعهده (مز 78: 8، 37). والاقتناع بعد البرهان (2مك 12: 25)، والشهادة (مز 93: 5)، والقسم. في العهد القديم، يطلب المؤمن أن تتحقّق الكلمة التي قالها الله (1أخ 17: 23؛ 2أخ 1: 9؛ 6: 17). وتيموتاوس هو تلميذ كامل (مانتانو)، واع ومقتنع (1: 12؛ رج روم 16: 17)، وبالتالي التزم بما يطلبه منه عماده. نحن لا نؤمن بجزء من العقيدة ونترك أجزاء أخرى. نحن نؤمن بكل العقيدة (عب 10: 22) وإلاّ يكون إيماننا شبه إيمان.
والتعليم يرتكز على الكتب المقدّسة (آ 15) التي نقلها المعلّمون الأوّلون. إذن نحن أمام تقليد هو قاعدة حياة. يشير بولس إلى أم تيموتاوس وجدّته (1: 5)، كما إلى الشيوخ (2: 2- 8)، وسائر المعلّمين الذين نقلوا التعليم الانجيليّ وقوّوا يقينات المؤمن. كل هذا يرتبط بالمعلّمين الأول والزرع الأوّل: فالثمار ترتبط بالزرع الأول (يع 1: 21). ومعرفة التلميذ ترتبط بمعرفة المعلّم.
ثانيًا: منذ الطفولة (آ 15)
مع "عرفتَ" تبدأ جملة ثانية توازي الجملة الأولى. كلتا الجملتين تدفعان تيموتاوس إلى الأمانة: تعلّمَ في الكتب المقدّسة، وذلك منذ طفولته. فإيمانه استقاه من الينبوع، من كلام الله. وبما أنه يعرف ما يعرف، فهو لا يحتاج أن يذهب إلى مكان آخر ويمزج ما يعرفه بأخبار وخرافات. تعلّم تيموتاوس على ركبتي أمه أفنيكة أن يقرأ الكتب المقدّسة. "سوفيزو"، عرف كما يعرف الحكماء. وتصرَّف تصرُّف الحكمة (جا 2: 19؛ 7: 23؛ سي 18: 31). وبالتالي صار بارًا (جا 7: 16؛ سي 7: 5). هذا يعني أنه خضع للشريعة والوصايا وكلام الله على ما في أم 8: 33: "إسمعوا التعليم لكي تصيروا حكماء" (رج مز 105: 22؛ سي 50: 18).
انطلق بولس من الرباط التقليديّ بين التوراة و"سوفيزو"، فنقله إلى العهد الجديد: "للخلاص بالايمان" (فل 1: 19؛ 1تم 3: 13). بعد اليوم، صار موضوعُ الايمان الذي يخلّص، المسيحَ الربّ والمخلّص. ولا يصل إلى هذه "المعرفة" إلاّ ذاك الذي علّمته الكتب المقدّسة (2كور 3: 15- 16؛ عب 4: 2). نحن هنا أمام جملة مقولبة عرفتها الفقاهة المسيحيّة (غل 3: 24؛ أع 10: 43؛ 1بط 1: 10) فأوجزت كلام الكنيسة الأولى تجاه اليهود: سار الرسل في خطى يسوع (لو 24: 27، 44؛ يو 5: 39، 46)، فبيّنوا أن المسيح أتمّ ما قال عنه العهد القديم (أع 17: 3، 11). تربّى تيموتاوس تربية يهوديّة فاستقى من الكتب المقدّسة نور الخلاص، بعد أن اغتذى من الايمان بالمسيح (1تم 4: 6).
ثالثًا: الكتاب وحي الله (آ 16- 17)
كان تيموتاوس طفلاً، فاغتذى كطفل من الكتب المقدّسة (رج 1كور 13: 11). وصار مسيحيًا، فنما إيمانه مع نموّه الشخصيّ. وها هو راع في جماعة أفسس. فعليه أن يتعلّم لكي يعلّم. "الكتاب كله" هو الكتاب المقدّس، العهد القديم، كما عرفته الجماعات المسيحيّة الناطقة باليونانيّة. لا تقليد فلسطين (العبري)، بل تقليد الاسكندريّة (اليونانيّ). وحين نقول الكتاب كله، فنحن نعني جميع الأسفار الكتابيّة بمقاطعها وآياتها (عب 9: 19). فما كُتب بإلهام من الروح يفعل فعله في الخدمة الراعويّة. قال بولس لأهل تسالونيكي، جامعًا كلامه "الانجيلي" مع كلام العهد القديم: "حين تلقّيتم من كلام الله ما سمعتموه منا، قبلتموه لا على أنه كلام بشر، بل على أنه بالحقيقة، كلام الله الذي يعمل فيكم أنتم المؤمنين" (1تس 2: 13؛ رج 1كور 2: 4؛ 14: 37؛ 2كور 5: 20).
نقرأ "تيوبنوستوس". ما نفحه الله. هذا ما يدلّ على الطابع القدسيّ (هيارا) للأسفار الالهيّة (آ 15). ما يعطي هذه الكتب قيمة لا تُضاهى فتميّزها عن كل كتاب آخر، هو أنها نفخة (كلمة) خرجت من فم الله. هذا ما اكتشفه العالم اليهوديّ. والعهد الجديد قال أكثر من مرّة إن الله يتكلّم بواسطة الأنبياء (مت 1: 22؛ لو 1: 70). الروح يعلن (عب 3: 7؛ 9: 8؛ 10: 15).
ماذا نجد في الكتب المقدّسة؟ تعليم من أجل الرعاية (ديدسكاليا) في خطى يسوع (مت 4: 23؛ 9: 35) وبولس (2تم 3: 10؛ كو 1: 28). هي موهبة (روم 12: 7) ننالها، ولكننا نغذّيها بالكتب المقدّسة (أع 8: 35؛ 17: 2). ثم نردّ على المعترضين. نفنّد آراءهم، ونصلح الخطأة. فالتفنيد يجب أن يقود إلى التوبة والرجوع إلى الله. ولا نكتفي بأن نوقف الانحرافات، بل نصحّح، نحسّن، نجعل الانسان في الطريق القويم. لهذا نحتاج إلى قوّة الكتب المقدّسة وحكمتها. "إبانورتوسيس" (مراحدة في العهد الجديد. رج 1مك 14: 34؛ 2مك 2: 22؛ 5: 20). يُعاد بناء مدينة تهدّمت أو معبد أحرق، هناك إصلاح الخطأ، تصحيح السلوك.
كانت التربية والتأديب (بايدايا) في العالم الرواقيّ، الطريق لكي يكون الانسان صالحًا، محبوبًا في محيطه. وفي الكتاب المقدّس، الطريق لنصل إلى مخافة الله. الربّ هو الذي يربّي، والمربّي البشريّ يعمل معه. لهذا تحدّثت عب 12: 5 عن "تأديب الربّ". بعد الآن، النعمة هي التي تربّي المؤمنين في حياة من البرّ والتقوى (تي 2: 12؛ رج روم 14: 17؛ 2كور 6: 14). إذن الرعاة الحقيقيّون هم "معلّمو البرّ" (2كور 11: 15؛ رج 1تم 1: 11). وهم يلجأون إلى الكتب المقدّسة ليكونوا في خدمة النعمة العاملة لدى الذين يدعون الربّ (2: 22).
وهكذا كانت الكتب مفيدة، بل ضروريّة لرجل الله (1تم 6: 11)، لكل مؤمن، لكل راع. فمن أراد أن يقوم بوظيفته بأمانة، عاد إلى هذه الكتب التي هي الوسيلة الناجحة التي جعلها الله في يد عبيده، لكي يُتمّوا رسالتهم. رجل الله هو قبل كل شيء رجل الكتاب المقدّس.
3- قراءة إجماليّة
إن أراد تيموتاوس أو العاملون في أفسس، مثال حياة، يدفعهم في عمل الرسل ويحذّرهم من المعلّمين الكذبة، فما لهم سوى أن ينظروا إلى بولس (1كور 4: 16). وفي أي حال، بولس هو من يقتدي بالمسيح (1كور 11: 1؛ فل 3: 17؛ 2تس 3: 7- 9). وحين يقتدي به المؤمنون، إنما يقتدون بالمعلّم الأول. وتيموتاوس تبع بولس في طرق الرسالة، كما في طرق الحياة اليوميّة. كان التلميذ أمينًا للمعلّم، ويبقى كذلك. هي أمانة للتعليم كعقيدة، وللتعليم كنشاط. يواصل تيموتاوس عمل المعلّم، ولا يحيد عن التقليد الذي تقبّله من بولس حين يعلّم. وكما سار (أغوغي) بولس، كذلك يسير تيموتاوس. وإن كان الرسول قد طلب من الآخرين أن يقتدوا به، فلأن طريقة عمله تفعل في التلميذ كما يفعل التعليم. وحين خطّط بولس ما خطّط من مشاريع، كان تيمواتوس معه. إذن، فليتابع التلميذ في خط المعلّم بحيث لا يتحجّر الانجيل في الجماعة فلا يعود السيف القاطع بحدّين والواصل إلى أعماق الانسان.
والايمان المذكور في آ 10، ليس أمانة لمهمة تقبّلها تيموتاوس، بل فضيلة إلهيّة ترافق المحبّة المذكورة هنا، بجانب الثبات الذي هو وجه من وجوه الرجاء، والصبر (وطول الأناة). إنه يجعلنا نقبل نصائح الآخرين، ونتحاشى ردّات الفعل الفظّة والانتقاميّة. فالله دلّ على صبره حين تحمّل البشريّة الخاطئة أجيالاً وأجيالاً (روم 9: 22). والمؤمن يقتدي به فيتحمّل نقائص الآخرين (أف 4: 2؛ كو 3: 12). والصبر ضروريّ بشكل خاص لرؤساء الجماعة (4: 2). والمحبّة تُلهم الحياة كلها، لأنها رباط الكمال (كو 3: 14). والثبات هو الوقوف في المحن والاضطهادات دون تراجع. هو شكل مميّز من أشكال الرجاء. فإن كان المؤمن لا يخاف في الضيقات، فلأنه متيقّن من خلاص الربّ له (2كور 1: 10). وما يعطيه قوّة الاحتمال، رجاء لا يُغلب. "الضيق الخفيف العابر يهيّئ لنا مجدًا أبديًا لا حدّ له" (2كور 4: 17؛ رج 2تم 2: 10).
في هذا السياق، فكّر بولس في المحن التي قاساها خلال رسالته، وأوجزها بلفظين: الاضطهادات (ديوغموس) والآلام (باتيما). رج روم 8: 35؛ 2كور 12: 10؛ 2تس 1: 4. ثم رج روم 7: 5؛ 8: 18؛ 2كور 1: 5- 7؛ غل 5: 24؛ فل 3: 10؛ كو 1: 24. وتحدّث سفر أعمال الرسل عن الصعوبات التي واجهت بولس في المدن التي بشّرها. ولماذا ذكر بولس كل هذا؟ ليُبرز قدرة الله ورحمته، حين يتدخّل ليخلّص البار المضطهد: "نجّاني الربّ من جميعها" (مز 34: 18- 20).
وانطلق بولس من وضعه الشخصيّ، ليقدّم قاعدة عامة تصلح لكل مسيحيّ (آ 12): من أراد أن يحيا بالتقوى، فلينتظر الاضطهاد. تلك هي قاعدة أساسيّة في الحياة المسيحيّة، وهي تستعيد موضوعًا من الكرازة الانجيليّة. "كان على المسيح أن يتألّم لكي يدخل في مجده" (لو 24: 26). وقالت 1بط 2: 20- 21: "إن عملتم الخير وصبرتم على العذاب، نلتم النعمة عند الله، ولمثل هذا دعاكم الله. فالمسيح تألّم من أجلكم وجعل لكم من نفسه قدوة لتسيروا على خطاه". والمسيحيّ الذي أدخله العماد في موت يسوع وقيامته، عليه أن ينتقل عبر الحاش (= الآلام) والموت لكي يرث المجد. هكذا "يحيا في المسيح يسوع". أي يشاركه في حياته، ويعرف سرّ موته وقيامته (روم 6: 11، 23).
في آ 14- 17، يتعلّم تيموتاوس الأمانة للتقليد والكتب المقدّسة. فالمعلّمون الكذبة لا يحفظون التعليم الذي تسلّمته الكنيسة. ولا يتعلّقون بالتعليم الصحيح (1تم 6: 3) فيعلّمون تعاليم أخرى (1تم 1: 3؛ 6: 3)، ويتيهون في أبحاث مليئة بالحماقة (2: 33؛ تي 3: 9). وتلاميذهم الطالبون الجديد، لا يبلغون أبدًا إلى معرفة الحقّ (3: 7)، أما تيموتاوس فلا يكون متقلّبًا مع كل ريح. فإيمانه يرتكز على أساس لا يتزعزع، على التقليد الرسوليّ، والكتب المقدّسة.
وعاد بولس أولاً إلى التقليد الرسوليّ. فعلى تيموتاوس أن يَثبت في ما تعلّمه. هو ليس سيّد الوديعة التي تسلّمها. إنه حارسها (1: 14؛ 1تم 6: 20). فلا يستطيع، شأنه شأن بولس، سوى أن ينقل ما تسلّمه (1كور 11: 23؛ 15: 1- 3)، ويُسلّمه إلى أناس أمناء، يسلّمونه بدورهم إلى آخرين (2: 2). اختلف تيموتاوس عن الهراطقة، فكان وارثَ تقليد فيه يتجذّر يقينه (بستوو). من بولس، إلى سائر المعلّمين في لسترة، هذا فضلاً عن أمّه وجدّته. لهذا، تحدّث النص عن تعليم ناله تيموتاوس منذ الطفولة (برافوس). قرأه في أسفار العهد القديم. ولكن إذا اعتبرنا أن 2تم جاءت متأخّرة، فتكون نصوص العهد الجديد قد انتشرت فحملت وحي الله، شأنها شأن نصوص التوراة.
رافقت الكتب المقدّسة التقليد (آ 14)، فكانت للراعي ينبوع نشاطه الروحي وقاعدة عمله الرسوليّ. فهي مفيدة له في أكثر من وجه، بل هي ضروريّة، وإلاّ كانت كلمته كلمة بشر، لا كلمة الله.

خاتمة
انطلق بولس من نفسه فوصل إلى الكنيسة. وانطلق من تعليمه، فوصل إلى التقليد الذي تسلّمناه من الرسل، وإلى الكتب المقدّسة التي تفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب. إذا كان على التلميذ أن ينظر إلى معلّمه فيقتدي به في حياته وتعليمه ومشاريعه، فكم أحرى أن يغتذي من الكتب المقدّسة، سواء كانت أسفار التوراة، أو كانت نصوصًا من العهد الجديد بدأت تنتشر شيئًا فشيئًا في الكنائس الأولى. بما أن تيموتاوس عرف ما عرف، وبما أنه علم علم اليقين ما ينتظره من عمل، فلا يبقى له سوى أن يثبت على ما تعلّمه، دون البحث عن جديد يحمله الهراطقة، وأن يواصل العمل الذي يقوم به في أفسس راجيًا أن يأتي بعده أناس يحافظون على الوديعة التي تسلّمتها الكنيسة، وينقلون التقليد الرسوليّ كما وصل إليهم من الآباء. هكذا تتحقّق وصيّة بولس قبل موته، حين يرى كلمة الله تواصل جريها حتى مجيء المسيح الثاني.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM