الفصل الثالث الكهنوت عند الساميين الغربيّن

الفصل الثالث
الكهنوت عند الساميين الغربيّن

بالرغم من الوثائق العديدة التي وُجدت في أوغاريت، وما يمكن أن ننتظر من حفريات إيبلا، تبقى معرفتنا للكهنوت في العالم الساميّ الغربيّ ناقصة. أما المدوّنات الآرامية والفينيقيّة فتبقى أجزائيّة، فتصوّر لنا بعض نشاط العاملين في الهياكل. والتفتّت الجغرافيّ والسياسيّ في "مدن ممالك" مستقلّة بعضها عن بعض، يمنعنا من كل تعميم. ومع ذلك، فهذه الحضارة هي المحيط القريب الذي تشرّب منه العبرانيون. سوف نتحدّث عن أوغاريت، عن الكتابات الفنيقيّة، والمصادر الأراميّة.
1 - أوغاريت
أ - مقدّمة
قبل أن نتحدّث عن أوغاريت نشير إشارة عابرة إلى إيبلا التي تعود نصوصها إلى الألف الثالث، ولكنها نصوص لم تسلّم بعد كل أسرارها. يسمّى الملك "إن". ونجد لفظة "ملكتم" للدلالة على الملكة. المسحة الملكيّة هي موضوع جدال. ووظائف الشيوخ كانت مهمّة في الدولة. وُجدت عدّة فرق من الكهنة والكاهنات. نذكر منها "العرافة" التي تفسّر الأحلام. والكاهن الممسوح بالزيت. ولكن تبقى النصوص صعبة والخلاف مستفحلاً بين الأخصائيّين.
أمّا في ما يخصّ أوغاريت فالدراسات عديدة حول السطر والحكايات، حول الحياة اليوميّة في أوغاريت من لوائح إداريّة، دفع وقبض، طقوس متنوّعة. أما النصوص الطقوسيّة، فتتضمّن لائحة الآلهة، لائحة التقادم، أنماط الليتورجيا، طقوسًا سحريّة. أو هي تحمل أقولاً نبويّة، صلوات وتعازيم...
ونبدأ ببضع ملاحظات. الأولى: إذا كانت أوغاريت قد فتحت أمامنا نصوصًا عديدة، فمعرفتنا بالممالك المجاورة لها تبقى ناقصة. لهذا نتجنّب كل تعميم، نتجنّب أن نجعل في مدن أخرى ما وجدناه في أوغاريت. الثانية: لا نستطيع أن نفسّر النصوص العلميّة بواسطة السحر والحكايات التي تعود إلى حقبة سابقة لديانة أوغاريت. الثالثة: يُذكر الكهنة بشكل خاص في اللوائح الإداريّة. ويغيبون بشكل عام من كتب الطقوس التي تبدو متحفّظة حول الاحتفالات ودور المحتفلين. لهذا، نكون نحن أيضًا متحفّظين حول الوظائف الكهنوتية. الرابعة: رغم القرابة اللغويّة، لا نستطيع أن نفسّر كل ما في أوغاريت بالتوراة، ولا كل ما في التوراة بأوغاريت. لهذا، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار إطار كل ديانة، فنقول مثلاً إن الكاهن الأوغاريتيّ لا يتماهى كليًا مع الكاهن العبرانيّ.
ب - دور الملك في شعائر العبادة
حين ندرس ديانة أوغاريت، نتوقّف عند وجهين للملك:
أولاً: شخص الملك
إن الوثائق التي بين أيدينا لا تتيح لنا أن نقدّم درسًا واضحًا كل الوضوح عن شخص الملك. فالحكايات تقدّم لنا بعض العناصر حول الايديولوجيا الملكيّة. فلا كارت كان ملكًا في أوغاريت ولا دانيل. ونصوص الممارسة هي موجزة بحيث لا تتضمّن شروحًا لاهوتيّة. فتأليه الآباء (ج ث ر م) وتكريمهم لا يقولان شيئًا عن الوظيفة الرمزيّة للملك الحاكم. لا نستطيع أن نتكلّم عن ملك إلهي، بل عن الطابع القدسيّ للملك، وهذا الطابع هو أمر عاديّ في السياق الدينيّ للشرق القديم. ولا نستطيع أن نعود إلى الألقاب لأن لائحة الصفات الملكيّة تبقى محدودة.
ثانيًا: وظيفة الملك
يتدخّل الملك في شعائر العبادة كالعامل الرئيسيّ. فإذا كان دانيل يقدّم ذبيحة للآلهة فكارت يلعب دورًا هامًا في الذبيحة. والمعلومات التي تقدّمها نصوص تتحدّث عن الممارسة العباديّة، تعطينا صورة لا بأس بها. "حين ننظر إلى الممارسة العلميّة لملوك أوغاريت، كما تكشفها لنا الطقوس الليتورجيّة، نقول إن الملك يعمل في عدد من كتب الطقوس كالعامل الرئيسيّ في شعائر العبادة. وما يعمله محدود جدًا. فهو يقوم بطقس التطهير بواسطة ماء طهور. وعند غياب الشمس يخسر الطابع القدسيّ الذي له في النهار. تُحمل أمامه إلى القصر الملكيّ، تماثيل صغيرة لبعض الآلهة، وتماثيل الآباء (ج ث ر م)، فيزورها ليكرّمها ويتمسّك بها. ثم إن الملك والملكة يحضران في حقل عام يجمع كل سكان أوغاريت، في طقس ينشدون فيه الأناشيد ويقدّمون خروفا وحمارًا".
إن نقل التماثيل الإلهية إلى بيت الملك (ب ت. م ل ك) يدلّ على تداخل الوظيفة الملكيّة في حقبة البرونز الحديث في شعائر العبادة. كما أن طقوس التطهير واضحة في ارتباطها بالملك. ولكن هذه الوظيفة الملكيّة ستعرف الانحطاط، لأن سلطة الملك كانت محصورة في نهج إقطاعيّ وخضوع لدولة خارجية هي مصر أو الحثيّون.
ج - العاملون في شعائر العبادة
إذا أردنا أن نتحدّث عن العاملين في شعائر العبادة، نطرح سؤالين. الأول: ما هو دورهم في شعائر العبادة؟ الثاني: ما هي مكانتهم في المجتمع؟ يستحيل علينا على المستوى العمليّ أن نحدّد دور الكهنة في شعائر العبادة، لأنهم لا يظهرون في أي طقس يكون فيه شخصُ الملك مسيطرًا. أما في ما يخصّ مكانة الكهنة في المجتمع، فلا نجد في أوغاريت أي تنظيم عباديّ مستقلّ: فالكهنة، شأنهم شأن سائر الموظّفين، هم جزء من "رجال الملك" (ب ن ش. م ل ك). أما صفة كل شخص فتساعدنا على تحديد بعض هؤلاء الأشخاص.
نذكر أولاً "ا ن ش. ا ل م" (رجل إيل). لا نعرف شيئًا عن وظيفته. كل ما نعرف هو أنه لا يرتبط بطقس محدّد، لأنه يُذكر في كتب طقوس مختلفة. رأى فيه بعضهم "خادم المعبد" المرتبط بالمعبد كالعبد بسيّده (مثل صموئيل مثلاً). ونذكر ثانيا "ك هـ ن م" (نجد اللفظة في العبريّة). لا نجد مؤنّث هذه اللفظة. ولكننا نجد "رب. ك هـ ن م" أي عظيم الكهنة. لم يحدّد الدور الليتورجي لهؤلاء "ك هـ ن م"، كما لا نستطيع أن نماهي بين "رب. ك هـ ن م" ورئيس الكهنة في العهد القديم. وهناك من قابل بين "ك هـ ن م" الاوغاريتي و"شنغو" الأكادي. ما انحصرت وظائف الكهنة في الهيكل، بل هي ارتبطت أيضًا بالقصر. نحن نجد الكهنة في لوائح إداريّة مع موظّفين آخرين مثل "ن ق د م" و"ط ن ن م" الذين ارتبطوا بالعبادة وإن كنا لا نستطيع أن نحدّد كليًا هذا الارتباط. كان الكاهن موكلاً على تعليم الكتبة. فقد وُجد في رأس شمرا، في خريف ،1961 بيت الكاهن الحوريّ ومكتبته. كما وُجد أكثر من مرّة توقيع الكاتب "إيلوملكو". "كتبه إيلوملكو الشوباني، تلميذ اتانو فورلي أني، رئيس الكهنة، رئيس الرعاة". لا تعطينا النصوص تحديدًا حول تقسيم الكهنة إلى فرق. هذا يعني إن المهمّة الكهنوتيّة انحصرت في عائلة واحدة مع لفظة "ن ح ل ه" (الميراث أو الوارثون). وهكذا يرتبط اعتبار الكاهن بالوجهة الدنيويّة كرئيس عائلة (رئيس بيت)، أكثر منه بالوظيفة الكهنوتيّة.
وهناك لفظة "ق د ش م" وعلاقتها بالبغاء المكرَّس. نلاحظ أننا لم نعثر على مؤنّث هذه اللفظة. لهذا اعتبر بعضهم أن "ق د ش م" هم موظّفون إداريون في الهيكل. هم من العوام، وصفتهم "ق د ش" ترتبط بالمعبد (القدس) لا بتكريس (= تقديس) شخصيّ. إن اسم وظيفتهم يرتبط بمكان عملهم وهو الهيكل (= المقدس، المعبد). وهذا ما يفسّر جمعهم إلى "ك هـ ن م" في اللوائح الإدارية: هم أيضًا في الهيكل. ولكن كان خطُُّ آخر ماهى "قدشو" الاوغاريتي مع "بارو" الاكادي (الكاهن العرّاف)، مستندًا إلى اللوائح. فإن "ق د ش م" يأتون دومًا بعد "ك هـ ن م" كما أن "بارو" يأتي بعد "شنغو" في لوائح أوغاريت الاكاديّة. سنعود إلى "ك هـ ن م" و"ق د ش م" حين ندرس النصوص العبريّة.
وهناك وظائف أخرى "ن ح ل ل م". تدلّ على المطهِّرين. "م ل س م" أو الراكضون، وهم العاملون المرتبطون بشعائر العبادة. رج 1مل 14: 28 حيث نقرأ: "وكان إذا دخل الملك هيكل الرب، يحملها (= التروس) الراكضون إلى هناك، ثم يردونها إلى غرفة الراكضين" (ربّما الحرس). "ا ر ب م". رج ما قلنا عن "اريب بيتي" في العالم الأكاديّ. ثم النساء اللواتي يجلبن الماء (ش ي ب. م ق د ش ت) من أجل التطهير. والمغنون في الهيكل (ش ر م). وضاربو الصنوج (م ص ل م).
2 - الكتابات الفينيقيّة
تعود بنا الوثائق الفينيقيّة إلى الألف الأول ق م. ولكن إن أرادت الدراسة أن تكون وافية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تواصل العبادات الفينيقيّة في المستوطنات الفينيقيّة. فقد كان في الهياكل عدد كبير من الكهنة. سمّي الكهنة، كما في أوغاريت، "كوهانيم" ورئيسهم "رب"، ولكن صيغة المؤنّث حاضرة هنا (عكس ما في أوغاريت). فعبادة إلاهة الخصب جرّت وراءها ممارسات شجبها الكتاب المقدّس. وهناك إشارات تجعلنا نفكّر أن الوظائف الكهنوتيّة كانت وقفًا على بعض العائلات. جاءت معلوماتنا من عدد من المدوّنات تعود إلى العائلة الملكيّة أو المباني الجنائزيّة للكهنة أو الكاهنات. ونزيد أيضًا حسابات الهياكل وتعرفة الذبائح (مثل تعرفة مرسيليا) التي تقدّم معطيات عمليّة ثمينة.
نتوقّف عند ثلاث مدوّنات تجمع لقب الكاهن إلى الوظيفة الملكيّة: في جبيل مدوّنة تعود إلى القرن الرابع أو قبل ذلك الوقت. "من بت نعم، أم عزبعل ملك جبيل، إبن فلطيبعل كاهن (ك هـ ن) بعيت". في صيدون، مدوّنة تبنيت واشمونصّر. كان تبنيت وأبوه اشمونصر ملكي الصيدونيين في القرن الخامس. كلاهما كاهن عشتار، وهذا ما يوضح وظائف الملك الكهنوتيّة. في المدوّنة الثانية، مدوّنة اشمونصر الثاني ابن تبنيت وحفيد اشمونصر الأول، ذكر الملكُ أنه بنى معابد الآلهة مع أمه اموتشتار، كاهنة عشتار. إن الطابع المقدّس للملك مع ميزاته الكهنوتيّة، قديم جدًا.
لن نعدّد جميع المدوّنات. ولكن نكتفي بمدوّنتين فينيقيتين في قرطاجة تذكران الكاهنات: "مدفن هتاليت كاهنه (هـ ك ه ن ت)، ابنة مغون، ابن بود ملقارت، زوجة اشملك ابن بود ملقارت". "مدفن صفن بعل الكاهنة، ابنة ازروبعل ابن مغون، ابن عبد عشتورت زوجة حنون الحاكم وعظيم كهنة ابن عبد ملقارت الحاكم وعظيم كهنة". تجمع هذه المدوّنة الاخيرة لقب "الحاكم" (ش ف ط، القاضي) وعظيم الكهنة (رب. ك هـ ن م).
وإذا أردنا أن نتعرّف إلى العاملين في الهيكل ، نعود إلى لويحة تقدّم لنا حسابات هيكل عشتار في كيتيون (قبرص). المسؤولون عن ستائر عشتار. ثم حرس باب القلاية. والمغنون (ش ر م). والذابحون (ز ب ح م) والخبّازون والحلاّقون والصنّاع وعظيم الكتبة (رب. س ف ر م) وأصحاب البغاء المكرّس.
3 - المصادر الآرامية
هناك مدوّنتان من نيراب، وهي قرية تبعد 7 كلم إلى الجنوب الشرقيّ من حلب، تعودان إلى حوالي سنة 600 ق م. يرتبط لقب "ك م ر" بالاله القمر الذي يُسمّى باسمه المعروف في العالم السامي الغربي "س ه ر" (سهرا في السريانيّة).اسم أحد العاملين هو: سين-زار-ابني: الله خلق زرعًا. والثاني: سين جبور أي سين جبّار. في تدمر، مدينة الصحراء، اسم الكاهن هو "كومرا". نجد جذر هذه اللفظة في مدوَّنة في تيماء، في الجزيرة العربيّة، تعود إلى القرن الخامس ق م. وفي الوثائق الأراميّة التي اكتشفت في مصر، يُستعمل الجذر "ك م ر" للكهنة الوثنيين، والجذر "ك هـ ن" للكهنة اليهود.
أمّا الأنباط الذين عدّوا في صفوفهم عددًا كبيرًا من العرب، فقد احتفظوا بالآرامية من أجل كتاباتهم. في المدوّنات الآرامية المحضة نجد "ك م ر". أما مدوّنات سيناء التي تأثّرت بالعربيّة فاستعملت "ك هـ ن". ونجد لفظة ثالثة لدى الأنباط "ا ك ف لا" (وتكتب أيضًا أف ك لا). نجدها في تدمر. وهي تعود إلى الأكاديّ "افكالو". وُجدت مدوّنة في جبل مُنيجة الذي يشرف على واحة فيران: "سلام على امايو، الكاهن، ابن عبد اهيو". ولكن لا يقال شيء عن الوظيفة التي يمارسها هؤلاء الاشخاص المذكورون.
4 - في منطقة عرابية
ماذا نجد في نظم القبائل التي أقامت في عرابية الشمالية وعرابية الوسطى في الحقبة السابقة للإسلام؟ هناك "السيّد". و"الكاهن". و"السدين".
السدين هو حارس المعبد حيث تُحفظ صورة الاله مع الأواني المقدّسة. وظيفته العناية بالمعبد. حين يأتي المؤمنون ليسألوا إله المعبد، فالسدين هو الذي ينقل جواب الاله، بواسطة السهام (استقصام). وكان يتقبّل تقادم المؤمنين في هذه المناسبة. أما الاستقصام فيذكّرنا بممارسة الاوريم والتميم في العالم العبريّ.
وكان الكاهن شخصًا معتبرًا في القبيلة، لأنه يستطيع الاتصال باللاهوت، ويؤمّن المساعدة للسائلين الملتجئين إليه. ما ارتبط بمعبد ثابت، فرافق القبيلة مثلاً إلى الحرب. وهكذا بدا كالرائي أو العرّاف، فصار أقرب إلى النبيّ العبراني منه إلى الكاهن.
هذا التمييز بين الكاهن والسدين لا يأخذ بعين الاعتبار واقعًا معقّدًا. فلفظة "كاهن" تنتمي إلى أساس كنعاني وأرامي وعربي، وأصلها يظلّ مثار جدل. ويقول توفيق فهد إن التقليد العربي احتفظ بآثار كهنوت حقيقي في "الكاهن" الذي جمع في شخصه حراسة المعبد، ونقل الأقوال النبويّة، وتقدمة الذبائح، وتفسير العلاقات عن طريق العرافة. فالكاهن اسم "جنس" يضمّ وظائف عديدة. هناك "رب" وهو ذاك الذي يدبّر أمور المعبد. "ذو إيله" هو الذي يحتفظ بالنصب المقدس فيحرسه خلال تنقّلات القبيلة. "السدين" و"الحاجب" يعملان في وظيفة الحراسة. وإذا كان البعض يترجمون الكاهن بالعرّاف، فلأن دوره كعراّف كسف سائر وجهات وظيفته. وسيطرة الحياة البدويّة لعبت دورًا في هذا التطوّر. فرئيس البيت (والقبيلة) كان يقدّم الذبائح وبسبب التنقّلات المتواترة ما استطاع أن ينظّم عبادة رسميّة وأماكن للعبادة ثابتة. لهذا كان الكاهن رفيق القبيلة.
خاتمة
من عالم أوغاريت إلى الفينيقيين والآراميين والعرابيين، أمور عديدة عن الكهنوت ووظائفه، عن علاقات بالملك. نصوص قليلة ومبعثرة. ولكنها أعطتنا عناصر عديدة نستطيع أن نقابلها مع ما نعرفه في الكتاب المقدس. يبقى علينا أن ندرس بعض الألفاظ المهّمة التي تتحدّث عن الكهنوت، قبل أن نعود إلى التوراة لنكتشف تطوّر الكهنوت في الشعب العبراني منذ بدايته حتى العهد الجديد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM