الفصل الرابع الكهنوت في المفردات البيبليّة

الفصل الرابع
الكهنوت في المفردات البيبليّة

دلّت هذه المسيرة التي سرناها في ديانات الشرق القديم، على أن هناك بعض التردّد على مستوى الألفاظ التي تتحدّث عن الكهنوت. لهذا، قبل أن ندرس المؤسّسة الكهنوتيّة، نتوقّف عند المفردات البيبليّة مع عودة إلى علم الاشتقاق. نتوقف عند الكاهن، والحبر واللاوي.
1 - الكاهن
"ك هـ ن" لفظة تُستعمل بشكل حصري تقريبًا للدلالة على الكاهن. لم تستنبطها التوراة. ونحن نجدها في الاوغاريتي والفينيقي والفونيقي والآرامي المتهودّ والانباطي والسرياني والحبشي. كما نجدها في المدوّنات العبريّة. قرابتها مع "الكاهن" في اللغة العربيّة لا تشكّل صعوبة. هي مفردة ساميّة غربية. ولكن التوراة العبرية لا تعرف لها مؤنثًا (ك هـ ن ت).
ما هو أصل المفردة؟ هناك فرضيّات عديدة. ولكننا نوجز وضع الأبحاث حول طروحات أربعة رئيسية. الأول: تعود اللفظةُ إلى فعل "ك و ن" الذي يعني: كان ثابتًا، متينًا، جامدًا. فالكاهن هو الذي يقف أمام الله ليخدمه. وهكذا تظهر النظرة إلى الكاهن كرجل الذبيحة. الثاني: نعود إلى الاكادي "كانو" (محل كهانو) الذي يعني "انحنى أمام" (الاله). فالكاهن هو الذي يكرم باستمرار الاله الذي يحرسه ويؤمّن له شعائر العبادة. الثالث: انطلق الطرح الثالث من السريانية مع فعل "ك هـ ن" الذي يعني في معنى أول "عمل عمل الكاهن، كان كاهنًا". وفي معنى ثان: الوفر والبركة. فالكاهن هو الذي يحمل الوفر والرفاه والازدهار. الطرح الرابع: إن علم الاموات يتيح لنا أن نرى في "ك و ن"، "ك هـ ن" الذي يستعمل في العبريّة (وربّما في الاوغاريتيّة) لإقامة معبد. وإليك بعض الأمثلة: قض16: 26: "قال شمشون للصبي الآخذ بيده: دعني ألمس الأعمدة التي يقوم (ك و ن) عليها هذا البيت"؛ أش 2: 2: "جبل بيت الرب يثبت (ك و ن) في رأس الجبال"؛ خر 15: 17: "في موضع أقمته مسكنًا لك يا ربّ". كما يستعمل لموضع يستطيع المؤمنون بتأكيد أن يسألوا فيه الإله. في هذا الخط نفهم تبدّل اسم "أ ب ر م" إلى اسم "ا ب ر ه م".
نجد كلمة "ك هـ ن" قرابة 750 مرة في التوراة العبريّة. وهي ترد أكثر ما ترد في النصوص الكهنوتيّة من البنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة: 193 مرة من أصل 293 في المرجع الكهنوتي. وسفر العدد الذي يتضمّن بعض النصوص الكهنوتيّة، يستعمل لفظة "ك هـ ن" 68 مرة. بعد ذلك نجد 177 استعمالاً في 1و2 أخ، عز، نح. تُزاد ثمانية استعمالات أرامية في القسم الأرامي من عز. ترد اللفظة 14 مرة في تث. ولكنها ترد 163 مرة في التاريخ الاشتراعي (يش، قض، 1و2 صم، 1و2 مل). وإذا وضعنا جانبًا إرميا (41 مرة، لا ننس أنه كان كاهن عناتوت) وحزقيال (24 مرة، كان الكاهن الذي صار نبيًا) لا يتحدّث الانبياء إلاّ قليلاً عن الكاهن. نجد اللفظة خمس مرّات في المزامير ومرّة واحدة في أيوب ولا نجدها أبدًا في سائر الأسفار الحكميّة. هذه الملاحظات الجزئيّة تكفي لتدلّ على أن وثائقنا عن أصول الكهنوت في أرض إسرائيل تبقى ضئيلة. ولا تزداد معلوماتنا إلا بعد إصلاح يوشيا سنة 622 ق م. وبعد العودة من المنفى (538 ق م) تصبح الصورة كاملة عن المؤسّسة الكهنوتيّة.
نجد لفظة "ك هـ ن" في سياقات مختلفة. فهي تطبّق على كهنة الآلهة الغربية مثل بعل (فينيقية)، كموش (موآب)، ملكوم (أدوم) ، داجون (فلسطية). كما ترتبط بوظيفة الرئيس أو الملك ولا سيّما في معرض الحديث على كاهن مديان أو ملكيصادق. ففي خر 2: 16 نعرف أن يترو، كاهن مديان، كان له سبع بنات وستتزوّج أحداهنّ موسى. رج 3: 1؛ 18: 1. ونقرأ في تك 14: 18: "وأخرج ملكيصادق، ملك شاليم، خبزًا وخمرًا. كان كاهن الله العليّ". رج مز 11: 4: "أنت كاهن إلى الأبد على رتبة مليصادق". ويقدّم لنا التاريخ الاشتراعيّ أكثر من كهنوت في مملكة الشمال. في قض 17-18، اهتّم الخبر بالمعبد الذي أسّسه سبط دان وبالكهنوت الذي أقيم فيه. وسيعود كاتب بعد المنفى فيستعمل هذا الخبر ليدلّ على الفوضى في شعائر عبادة كانت بعيدة عن الاستقامة الموسويّة. وفي 1 مل 12: 31 يقول الكاتب الاشتراعيّ مندّدًا: "وبنى يربعام بيوتًا للعبادة على رؤوس التلال، وأقام كهنة من الشعب لم يكونوا من بيت لاوي". وفي 2مل 17: 32 كان حديث عن كهنة وثنيّين أقاموا في السامرة مع الذين جاء بهم ملك أشور ليستوطنوا فيها.
ويتحّدث التاريخ الاشتراعيّ عن كهنوت أورشليم ويعطينا معلومات عن معابد (مثل شيلو 1صم 1-3) هيّأت الطريق أمام أقامة العبادة الملكيّة. فالكهنة جزء لا يتجزّأ من الإدارة الملكيّة، بحيث يوبّخهم إرميا كما يوبّخ الهيئات الكبرى في الدولة. ولفظة "ك هـ ن" قد ترتبط بفئات أخرى. مثلاً نستطيع أن نتكلّم عن "الكهنة" بمعزل عن "اللاويين". كما نستطيع أيضًا أن نضع الكهنة بجانب اللاويين، أو نمزج بين الفئتين. في شرعة حزقيال، الكهنة هم "أبناء صادوق". أما في النصوص الكهنوتيّة، فهم أبناء هارون. وسوف ننتظر زمن بعد المنفى لتكون لنا أفضل صورة عن التنظيم الكهنوتي. ووجود ألـ التعريف (هـ. ك هـ ن) أمام الاسم يدل على مكانة بارزة (ليس كاهنًا بين الكهنة، بل هو الكاهن. وسوف يُسمّى فيما بعد رئيس الكهنة). تستعمل 22 مرة عبارة "الكاهن الاعظم" (ج د و ل) وسبع مرات "رئيس (ر و ش) الكهنة". وهناك عبارة الكاهن الثاني (م ش ن ي) (2 مل 25 18 = إر 52: 24؛ 2مل 23: 24) وأخيرًا نجد عبارة "الكاهن الممسوح (م ش ي ح) في لا 4: 3، 5، 16؛ 16: 15. حين يكرَّس الكاهنُ الأعظم يُمسح بالزيت المقدّس.
ونجد الفعل الاسمي (ك هـ ن. يشتقّ من الاسم) الذي يعني: كهن. تصرّف مثل كاهن. مارس الوظيفة الكهنوتيّة. هو خاص بالنصوص الكهنوتيّة. مثلاً، خر 28: 1 (ليكونوا كهنة، ليكهنوا)، 3، 4، 41؛ 29: 1، 44؛ 30: 30؛ 31: 10؛ 35: 19، 41؛ 40: 13، 15؛ لا 7: 35؛ 16: 32؛ عد 3: 3؛ 4. ونجده أيضًا في شرعة حزقيال (44: 13) وفي 1أخ 5: 36؛ 24: 2؛ 2 أخ 11: 14. في هو 4: 6 نقرأ: "أرفضكم فلا تكونون لي كهنة". وفي تث 10: 6 نقرأ حاشية حول موت هارون (كهن مكانه العازرُ ابنه) تقطع سياق الخطبة الاشتراعية. وفي أش 61: 10 يدخل فعل "ك هـ ن" كعنصر مقابلة مع عريس يستحّم بالغار: "أكهن كالعريس الذي يلبس عمامة جميلة". ونستطيع أن نقدّم ملاحظات مماثلة حول الاسم "ك هـ و ن ه" (كهنوت) الذي يستعمل في النصوص الكهنوتيّة. خر 29: 19 (يكون لهم الكهنوت فريضة إلى الأبد)؛ 4: 15؛ عد 3: 10؛ 16: 10؛ 18: 1، 7 مرتين؛ 25: 13؛ رج عز 2: 62 = نح 7: 63؛ نح 13: 29 مرتين؛ بالإضافة إلى يش 18: 7 الذي يتحدّث عن اللاويين مع الكهنوت حصّتهم، نجد لفظة "الكهنوت" في 1 صم 2: 26، داخل القول النبويّ الذي أقحم في تقاليد معبد شيلو.
2 - الحبر
قرب "ك هـ ن" نجد "ك م ر". نجد هذا الجذر في اللويحات الآشورية التي اكتشفت في كبادوكية (كومرو). ونجده بشكل خاص في الأراميّة القديمة ثم في التدمري والسرياني.
ما هو أصل هذه اللفظة؟ هناك من تحدّث عن فعل "ك م ر" الذي يعني اشتعل، اتّقد. الكاهن هو من يقدّم المحرقات. وهناك فعل آخر "ك م ر" يعني أظلم، حزن (حسب السريانيّة). يسمّى الكهنة كذلك لأنهم يرتدون ثيابًا سوداء. كتب توفيق فهد: "ينطبق جذر "ك م ر" على وجه مجهول ومظلم. هذا يدلّ على أن هذا الكاهن كان يرتدي في الأصل قناعًا حين يعلن قول الاله". وعاد القاموس العبري إلى الأشوري (كمارو) الذي يعني ركع، سجد. فالكاهن هو الساجد.
مهما يكن من أمر، فاللفظة لا ترد سوى ثلاث مرات في التوراة. في 2 مل 23: 5 (كهنة الأصنام الذين أقامهم ملوك يهوذا)؛ هو 10: 5 (سكان السامرة ومع كهنته، أي كهنة العجل)؛ صف 1: 4 (أقطع أسماء الخدّام والكهنة). هذه الاستعمالات الثلاثة هي في صيغة الجمع وتشير إلى كهنة الأصنام. وسوف يتكرّس هذا الاستعمال لدى الآراميين المتهوّدين في الفنتين (مصر). ولكن الترجمة السريانيّة لم يكن لها الاهتمامات عينها فمزجت بين "كوهنا" و"كومرا".
3 - لاوي
اللاويّة نظام أصيل في اسرائيل. أما مسألة الاشتقاق فلم تجد له بعد الحلّ المرضيّ. فالمعجم يورد ثلاثة أفعال "لوي". الأول: دار. فاللاوي هو رجل الرقصات الانخطافية (يدورون على ذواتهم). الثاني: ضُمَّ. وفي المجهول ارتبط بأحد. هذا المعنى يوافق الاشتقاق الشعبيّ لاسم ليئة، أم لاوي (تك 29: 24). الثالث: اقترض. وفي الرباعي: أقرض، أعطى رهنًا. هذا الاشتقاق هو الذي حظي أكثر ما حظي بموقف الباحثين. لا فرضيّة فرضت نفسها بشكل مطلق. ويبدو من المعقول أن لاوي لم يكن في الأصل اسم وظيفة بل اسم علم، وقد يكون إيجازًا للفظة "لاوي ايل" فتعني: من ارتبط بالله وصار تابعًا له.
هذا على مستوى الاشتقاق. أما على مستوى الاستعمال، فالتنوّع كبير جدًا. "لاوي" هو اسم علم فيدلّ على لاوي ابن يعقوب ورئيس عائلة (أو: بيت). وهو أيضًا اسم قبيلة. سبط لاوي (تث 18: 1) "م ط ه. ل و ي" (عد 1: 49). ونقرأ مرارًا عبارة "بني لاوي" التي يتبّدل معناها بتبدّل السياق. استعمل "لاوي" في المفرد أربعين مرة تقريبًا. إمّا في معنى فردي لشخص فرد. وإمّا في معنى جماعي (اللاويون بشكل عام). استُعمل في الجمع قرابة 250 مرة. في 1و2 أخ تنكسف الفكرة القبليّة (سبط لاوي) ويحلّ محلّها اللاويون كفرقة تمارس وظائف محدّدة.
إذا قمنا بإحصاء اكتشفنا أن 1و2 أخ، عز، نح تتضمّن أكثر من نصف الاستعمال (179 من أصل 345). واهتمّ سفر العدد (74 استعمالاً) بوضع اللاويين، في نصوصه الكهنوتيّة. وما يلفت النظر هو أن سفر اللاويين لا يتكلّم إلا أربع مرّات عن اللاويين (لا 25: 32- 33). لا نجد ذكرًا للاوي لدى أنبياء ما قبل المنفى (ما عدا إر 33، الذي هو موضوع جدال). وسوف تتطوّر اللاويّة مع سفر التثنية (21 مرة) ونبوءة حزقيال (9 مرات).
هناك من لاحظ أهميّة العلاقة بين اللاوي والكاهن. فالمفردتان عرفتا مصيرًا غريبًا في تاريخ اسرائيل وحياته. قد تقف اللفظة تجاه الأخرى، وقد تتعارضان وتردان في أشكال مختلفة. كل لفظة وحدها: "اللاوي". "الكاهن". وقد تُمزجان في مفردة واحدة: "الكاهن اللاويّ" (شخص واحد). وقد تنضمّ الواحدة إلى الأخرى: "الكاهن واللاوي". لسنا هنا أمام مسألة اعتباطيّة، بل أمام انعكاس لما حلّ بالكهنوت على مرّ الزمن في العهد القديم.
خاتمة
كانت تلك دراسة لغوية واشتقاقيّة حدّدت موضع الالفاظ المرتبطة بالكهنة والكهنوت. وقد هيّأت الطريق لدراسة موضوع الكهنة على مرّ تاريخ إسرائيل. ونبدأ بالحقبة الملكيّة، بل بالحقبة التي سبقتها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM