القسم الأول : الكهنوت في الحضارات الشرقية القديمة

الفصل الأول
الكهنوت في أرض مصر

الكهنوت مؤسّسة قديمة وُجدت قبل الكتاب المقدّس بقرون، وقد لعب دورًا هامًا في المجتمع. ونبدأ حديثنا عن الكهنوت في أرض مصر، وعن موقعه في المجتمع.

1 - الكهنوت والمجتمع المصري
أ - خدَمَة الآلهة
ننطلق من مبدأ معروف في الشرق القديم، وهو أن مصر القديمة لم تفصل الدين عن المجتمع. فالعلم يعود إلى الدين، ومهنة الطبّ كذلك. أما علم الفلك فاحتاج إليه الكهنة ليحدّدوا الأزمنة التي فيها تمارَس الطقوس، ليحدّدوا الأعياد التي تحتفل بها البلاد.
وُجد الكهنة أولاً كخدَمَة للآلهة في معابد لعبت دورًا هامًا في المحافظة على النظام الذي خلقته الآلهة. ففي جميع مدن وقرى الريف المصري، كانت الهياكل أبنية تؤكّد بحضورها ووظيفتها، على المحافظة المستمّرة على الخلق، على التوازن الكونيّ الذي بدأ في اليوم الأول من العالم، الذي بفضله بدأت كل حياة، وبدونه يعود كل شيء إلى الخواء. والكهنة هم "موظّفون" لدى المؤسّسات التي لا يُستغنى عنها في الحياة على الأرض.
ب - ممثّلو الملك
والكهنوت في مصر هو خدمة ملَكيّة. فللمُلكيّة في مصر وضع خاص جدًا، لأن الملك هو الوسيط الحقيقيّ بين الالوهة والبشر. هو ابن الآلهة ووارثهم. بل هو إله من الآلهة. إنه وحده من يستطيع أن يقرب من الاله. وهو يقدّم لوالديه الالهيين عبادة بنوّية. أمّا الكهنة في المعبد فهم يمثّلونه. وإن قاموا بوظيفتهم، فباسم الملك يقومون بها وكموفدين من قبله. لهذا نرى على النقوش التي تزيّن المعابد، الفرعون وهو يقوم بشعائر العبادة.
ج - قداسة الله
كان لدى المصريين فكرة سامية عن قداسة الاله. لهذا، فُرضت شروط دقيقة جدًا على الذين يقربونه. فاللفظة الأكثر استعمالاً للحديث عن قداسة الله والقدسيّات، هي "د س ر" التي تعني أول ما تعني "فصل". أما "ت. د س ر" فهي تعني الأرض المقدسة أو مدينة الأموات (أي المدافن). وهذه القداسة التي تفصل الإنسان عن اللاهوت، تفرض عليه أن يمارس أدقّ القواعد في العلاقات معه. وهي إذن الأصل الديني للكهنوت. لهذا فالكاهن يتدرّج في أسرار خدمة الله، ويتعرّف إلى الأشكال التي اتّخذتها هذه الخدمة على مرّ العصور. بل عليه أن ينتمي بنفسه إلى الدائرة الالهيّة إذا أراد أن "يعاشر" اللاهوت. وهكذا صار الكهنوت المصري، على المستوى النظريّ، مجموعة ممثّلي الملك بطبيعته الالهيّة. وقد وُلد الكهنة على المستوى العمليّ حين كلّفهم الملك بحقوقه وواجباته في خدمة اللاهوت. وهذا التكليف هو الذي أدخلهم في الدائرة الالهية، في جوّ قداسة الله.
2 - الكهنة في المعابد
قبل أن نكتشف ثوابت في عالم الكهنوت المصريّ، نتعرّف إلى الكهنة العائشين في معابد مصر الهامة. نشير أولاً إلى التنوّع الكبير، لأن لكل إلهٌ معبده وكهنته. ولأن العبادة تأخذ بعين الاعتبار ممّيزات كل إله. والعلاقات متشعّبة: فقد تنطلق شعيرة عبادة من موطنها الأصليّ إلى موضع آخر. وقد يأخذ إلهٌ صفات جاره. ويتنوّع موقع إله وكهنته بالنظر إلى الوضع السياسي للمدينة التي أقام فيها هذا الاله. فبين الكهنة الأقوياء الذين خدموا أمون في طيبة مع المملكة الحديثة، وبين كهنوت شبه ميت مع خادم أو خادمين، المسافة بعيدة جدًا، والأوضاع مختلفة. أما نحن فنتوقّف عند هليوبوليس وممفيس وطيبة.
أ - هليوبوليس
هليوبوليس (أو: أون) هي مدينة الشمس. تقع في الصحراء إلى الشمال الشرقي من القاهرة. تُعبد فيها الشمسُ بأسماء متنوّعة. أما اسم كاهنها الأعظم فهو "أكبر الرائين". انتشرت عبادة الشمس انتشارًا واسعًا في مصر، وكان تأثيرها كبيرًا جدًا مع إصلاح أخناتون. ولكن اسم "أكبر الرائين" سيصل إلى طيبة. ورعمسيس الثاني سيجعل من أحد أبنائه كاهنًا أعظم في هليوبوليس.
ما أدركت هليوبوليس يومًا أهمية طبية عدّة وعددًا. ولكنها لعبت دورًا كبيرًا بإشعاع فكرها اللاهوتيّ الكبير. فقد سيطرت تقاليدها على نصوص الأهرام. وكان للاهوت هليوبوليس تأثير امتدّ أجيالاً ممّا جعل أهل اليونان يمتدحون هؤلاء الكهنة المتضلّعين بالمعرفة السماوّية.
واشتهرت هليوبوليس أيضًا لأنها كانت مهد الملكيّة. فتركيز شعائر العبادة قد تمّ تحت سلطة الملك. فصارت عبادة رع عبادة ملكيّة. ومع السلالة الثالثة تركزت سلطتها. فالكاهن الأعظم يسمّيه الملك، وسوف يُصبح الرئيسَ الأعلى لكل العبادات في البلاد.
ما هي معلوماتنا حول الكاهن الأعظم للإله الشمس؟ ينتسب إلى محيط اجتماعيّ رفيع. خلال المملكة القديمة، ومنذ المملكة الجديدة، كانوا يختارونه في العائلة الملكيّة فيمارس وظيفة سياسيّة ووظيفة دينيّة. على المستوى السياسيّ تدخّل عظماء الكهنة بشكل خاص في مناسبتين: خلال أزمة سلاليّة مع السلالة الخامسة، وخلال إصلاح أمينوفيس الرابع. ولكن الوظيفة الدينية كانت لهم الوظيفة الأولى. فقد اهتمّوا في تدخّلاتهم المباشرة بجعل تمثّلاتهم الدينيّة تنتصر. من هذا القبيل تميّزوا عن كهنة طيبة. أما وظيفتهم الدينيّة الأولى فكانت "رؤية" الاله رع. تكرسّوا لمعرفة أسرار السماء وكان مجالهم علم الفلك. وكانت وظيفتهم الدينية الثانية الوساطة بين الإله والبشر. غير أننا لا نجد هذه الوساطة إلاّ لدى عظماء الكهنة الذين كانوا أبناء الملك. وهكذا كان عظيم الكهنة في قمّة التراتبيّة الكهنوتية في هليوبوليس (ربّما على حساب الملك).
ب - ممفيس
تقع ممفيس عند الحدّ الفاصل بين مصر العليا (الصعيد) ومصر السفلى (الدلتا). والملوك الذين اعتمروا تاج "المصريين" (مصر العليا ومصر السفلى) فضّلوا الإقامة في هذه العاصمة. كان بتاح إله المدينة. وكان شفيع النحّاتين والحدّادين. وكانت ممفيس، شأنها شأن هليوبوليس، مدينة الفكر والتأمّل. أما بالنسبة إلى اللاهوت المحلي، فإن بتاح هو خالق الكون. وقد جعل الأمور المنظورة على الأرض بالقلب (= الفكر) وباللسان (= الكلمة الخلاّقة). وصار أحد شفعاء الملكية. زوِّج مع سوكاريس، إله مدينة الأموات في ممفيس ومع أوزيريس.
حين نقرأ الألقاب نجد لقبين بارزين: "الصانع لدى القدير". و"أعظم قوّاد الصنّاع". وفي بعض الوثائق (مثلاً مدوّنة ديبهاني، السلالة الرابعة)، يتحدّث النص عن الصانعين لدى القدير. هذه الثنائية المدهشة لا تشير إلا إلى إحدى وظائف عظيم الكهنة في ممفيس، بطابعها المدنيّ (لا الديني). وجاء من فسّر هذا الخلاف بين الدور الذي يلعبه عظيم الكهنة ودوره الدينيّ كنبيّ لبتاح ونبيّ لسوكاريس، كعلامة اختلاف في الأصل بين الوظيفة المدنيّة والوظيفتين الدينيتين لعظماء الكهنة في ممفيس. والوظيفة الأخرى التي ارتبطت بعظماء الكهنة لدى الإله بتاح هي وظيفة الكاهن "سام". يلعب هذا الكاهن دورًا هامًا في طقوس افتتاح الفم. في الأصل، نحن أمام عضو من كهنة بتاح في ممفيس، وقد كلّف بوضع اللباس لتمثال الإله وقد ظلّت وظيفته ثابتة طوال تاريخ مصر. ولكن اسم هذا الكاهن أعطي أيضًا لرئيس الكهنة الذي يخدم سوكاريس، الذي هو إله الأموات في ممفيس والذي تماهى سريعًا مع أوزيريس، فقُدّمت له عبادة جنائزيّة. لهذا فان "سام" (خادم) سوكاريس هو العامل الرئيسيّ في كتاب الطقوس وهكذا صار "سام" بتاح لقب خادم سوكاريس، ودلّ على تفوّق سوكاريس على بتاح. وإذا واصلنا التعرفّ إلى عظماء الكهنة في ممفيس، نفهم التداخل بين اللاهوت والنظم الدينيّة.
لا نعرف بالضبط كيف يصل عظيم الكهنة إلى الدرجة العليا. ففي السلالة السادسة، كان الملك يهتم اهتمامًا شخصيًا بتسمية عظيم الكهنة. وكان لهذا الإصلاح الهام نتائج امتدّت طويلاً في التاريخ. فتعداد الألقاب يبدأ بالأدنى ويصل إلى الأعلى. "كاهن أو أب بتاح". ثم رئيس أسرار إلهه، رئيس الصنّاع، مدير اوابت، مدير حقل سوكاريس، نديم الملك، رئيس "سام"، نبي بتاح ونبيّ سوكاريس. وأخيرًا صار رئيس "المشاركين في عيد رع". وفي الوقت عينه "عظيم رؤساء الصّناعين".
ج - طيبة
حلّت طيبة محلّ ممفيس منذ الألف الثاني. وصارت عاصمة مصر مع المملكة الوسيطة. ولكن نما نفوذها بعد أن طرد ملوكها الهكسوس. فنعم أمون "السريّ" بهذه النجاحات السياسيّة. تماهى مع رع فصار على رأس مجمع الآلهة. وكسفت ثروةُ معبده الضخمة ثروةَ سائر المعابد. فهليوبوليس وممفيس اللتان هما أكبر مدينتين في مصر بعد طيبة، امتلكتا موارد محدودة جدًا. فكهنة وموظّفو هليوبوليس كانوا سُبع ما في طيبة. وما في ممفيس واحد من سبعة وعشرين. وتحدّثت وثيقة تعود إلى رعمسيس الثالث عن 81332 شخصًا في خدمة أمون.
أولاً: كهنة أمون
تنوّع هؤلاء الكهنة، وتوزّعوا على مراتب مختلفة.
. في قمة الهرم نجد "الآباء الالهيين" الذين يمارسون وظائف الكهنوت. هم الذين يفتحون أبواب السماء. وهم المقبولون "ليروا جميع تجلّيات الاله". لهم وحدهم الحقّ بأن يشاركوا في احتفالات الذبائح. وتألّفت حلقة الآباء الالهيين من أنبياء عاديين، من أنبياء في الدرجة الرابعة وفي الدرجة الثالثة، من نبيّ ثان، ومن نبيّ أول أو عظيم كهنة أمون. وكان بالامكان إرتقاء هذه الدرجات المختلفة قبل الوصول إلى وظيفة عظيم الكهنة. ولكن ذلك لم يكن ضروريًا. فلكل من النبيّ الأول والنبيّ الثاني "منزل" مهمّ. ولقب "نبي" الذي أعطي للكهنة يعود إلى ترجمة يونانيّة للفظة مصرية تعني "خادم الله".
. بعد ذلك نجد الكهنة "وأب"، الطاهرين أو المطّهرين. فالفعل يعني طهّر، نقّى، نظّف. والوأب هو كاهن عاديّ. نصل هنا إلى مفهوم أساسيّ للعبادة في مصر. فكل من لامس أواني العبادة والتقادم المقدّسة، وجب عليه أن يكون في حالة الطهارة. كان هؤلاء الكهنة يحملون قارب الاله، فينضحون الهيكل. يزّينون تمثال الاله فيلعبون دور التطهير. كان عددهم كبيرًا، وكانوا يتوزعون في عدد من القبائل الكهنوتيّة. وكان عليهم رئيس أو عظيم كهنة. وبجانب هؤلاء الكهنة، نجد الكهنة القارئين الذين استقلوا عن الكهنة الطاهرين ولكنهم لم يكونوا أدنى منهم. وتوزّعوا فئات تراتبيّة. كلّفوا بالمحافظة على الطقوس، فوجّهوا الأعمال الدينيّة مستعينين ببردّيات تتضمن نصّ برنامج الاحتفال. وكان كهنة غير الكهنة القارئين انقسموا فرقًا وعاونهم العوام في الخدم المادية.
. وأخيرًا نجد النساء وكنّ عديدات. في البداية هنّ يقمن بالنشيد والموسيقى. ثم صرن "سريات" الاله، وتوزّعن في قبائل كهنوتيّة. على رأسهنّ زوجة عظيم الكهنة وربّما إحدى السيّدات الملكيات. كوّنت السريات موكب زوجة أمون التي سميت "اليد الالهيّة" أو "العابدة الالهيّة".
ثانيا: الحقل الزمنيّ
لم يكن جميع العاملين في هيكل أمون من الكهنة. فحقل أمون الزمني اغتنى جدًا خلال المملكة الحديثة. فاستخدم عددًا كبيرًا من الموظّفين يهتموّن بالإدارة العامة، بمراقبة المكان (الشرطة)، بخدمة الهيكل، بتأمين الطعام للساكنين فيه، بكنز الهيكل. وكان هناك من يهتم بالحقول والبهائم والأهراء. وكانت بعض الوظائف مطلوبة جدًا بعد أن أخذ عظيم الكهنة يهتمّ بالحقل الماديّ. ونمت هذه القوّة الاقتصاديّة نموًا كبيرًا، فتعقّدت بسببها العلاقاتُ بين الكهنة والسلطة الملكيّة.
ثالثًا: الملوك وعظماء الكهنة
الملك هو الذي يسمّي النبيّ الأول لأمون، ويصادق على اختياره بقول بنويّ. يعلن الملك أمام الحاشية عبارة التولية: "أنت عظيم كهنة أمون. كنوزه وأهراؤه مختومة بختمك. أنت رئيس هيكله". ويعطيه محبسين ذهبيين وعصا رمزًا لسلطته، ومناديًا مكلّفًا بإعلان الخبر في مصر كلها. ويُجعل عظيمُ الكهنة على مستوى الموظّفين الكبار. ويكون لعظيم الكهنة بدوره تأثير كبير على الملك ولاسيّما بواسطة الأقوال النبويّة التي يمتلكها الكهنوت وحده.
أما تاريخ العلاقات بين عظيم الكهنة والملك، فتبدو في ثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي حقبة عظماء الكهنة الذين سبقوا الكاهن الملك حريهور. ففي أيام حتشبسوت وتحوتمس الثالث كان عظماء الكهنة أوفى الأصدقاء للملك والسند المتين للعرش. كانت عملية إصلاح اخناتون محاولة ردّة فعل عنيفة ضد الكهنة. واستفاد عظيم الكهنة "روميروي" في نهاية السلالة التاسعة عشرة من ضعف السلطة ليقوّي مركزه. المرحلة الثانية هي حقبة الأمراء الكهنة في خط حريهور الذي استطاع في نهاية السلالة العشرين أن يرتفع إلى السلطة العليا ويعلن نفسه ملكًا. حلّ مسألة التوتّر بين الملك والكهنوت، فكلّف ابنه بيانكي بالمهمة الكهنوتيّة. وأخذت سلالة بوباس بالسياسة عينها. والمرحلة الثالثة هي حقبة عابدات أمون الالهيات. تدشّنت في القرن الثامن حين ألغى اوسركون الثالث رئاسة الكهنوت كعنصر هام في الحياة السياسيّة في طيبة، وجعل على رأس كهنة أمون الزوجات الالهيات والعابدات الالهيات.
3 - الكهنة المصريون
إذا كان الكهنوت خدمة ملكيّة، فالموظّفون الذين يقومون بهذه الخدمة كانوا عديدين ومتنوّعين.
أ - الكاهن
من الصعب أن نجيب على هذا السؤال: "من هو كاهن"؟ سبق لنا واحتفظنا بلقبين مهميّن: "خدّام الله" المقبولون لأن يشاهدوا الاله، أي أن يدخلوا في أقدس مكان في الهيكل. ثم: المطهَّرون. ومن الصعب أيضًا أن نحدّد بدقة مختلف الفرق الكهنوتيّة. هناك مجموعات نجدها تارة في الكهنوت الأعلى وطورًا في الطبقات الأدنى. هناك وظائف (مدبّر، صانع) يقوم بها الكهنة أو يقوم بها العوام. أما الكاهن فهو كل إنسان نال تطهيرًا جسديًا فصار في حالة من الطهارة المطلوبة للدخول إلى المكان المقدس أو للمس الآنية المقدسة والطعام المكرّس للاله. كانت الحفلة بسيطة، والمطهَّرون عديدين، لكن المسافة كانت شاسعة بين عامل في الهيكل وكاهن قُبل لأن يشاهد الاله.
ب - الوصول إلى الكهنوت
كيف يصبح الإنسان كاهنًا؟ لا نستطيع أن نحدّد بسهولة القواعد المعمول بها في كل المعابد وفي كل الحقبات. أما المبدأ العام، فهو التكليف الملكي الذي يصبح أمرًا ملموسًا حين يعيّن الملك شخصًا من الأشخاص أقلّه للوظائف العليا. هذا ما فعله توتنخ أمون الذي نظّم أنبياء وكهنة بعد فشل إصلاح اخناتون. واختار رعمسيسُ الثاني عظيمَ كهنة من خارج كهنة أمون. أما كيف البلوغ للوظائف الكهنوتيّة، فالسبل كانت عديدة: حقّ الوراثة الذي كوّن سلالات كهنوتيّة. الاتفاق، أي يجتمع الكهنة ويعيّنون المختار السعيد. وأخيرًا شراء الوظيفة الكهنوتيّة ولاسّيما في الحقبات الأخيرة من التاريخ المصريّ.
ج - بدء القيام بالوظيفة
هناك ثلاث مراحل في التكريس الكهنوتي: تقديم إلى الهيكل. تطهير. رؤية الاله. يقول نصّ وُجد على تمثال في القاهرة: "تقدّمتُ أمام الله فأدخلت إلى أفق السماء.. خرجتُ من نون (المياه الأولى) وتخلّصت من كل ما كان فيّ من شرّ. خلعت ملابسي والمراهم كما سيطهر حورس وسيت. تقدّمتُ أمام الاله في قدس الأقداس وأنا مملوء رعدة أمام قدرته".
د - متطلّبات الكهنوت
ما إن يتقلّد الكاهن المصري وظيفته، حتى تُفرض عليه بعضُ المتطلّبات في ممارسة وظائفه. الشرط الأول هو طهارة جسدية: يتنقّى الخدّام بالاغتسال من كل نجاسة. ويغسلون أيضًا فمهم بالنطرون المذوّب بالماء. وقال هيرودوتس: يحلق الكهنة جسدهم كله مرّة كل يومين. ويختتنون من أجل النظافة، لأن النظافة تتفوّق عندهم على الجمال. وخضع الكهنة لبعض المحرمات على مستوى الطعام، ومارسوا العفة الجنسيّة أقلّه خلال حضورهم في الهيكل. ومُنع عنهم بعض المنسوجات مثل الصوف بسبب الحرارة في المعبد.
هـ - ممارسة الكهنوت
تجتمع النشاطات المتعدّدة لدى الكهنة المصريين حول ثلاث وظائف رئيسيّة: شعائر العبادة. الأقوال النبوية. التقليد.
أولاً: شعائر العبادة
أول وظيفة من وظائف الكهنة هي تأمين شعائر العبادة للالهة، والمحافظة على تمثالهم. فيتدخلّون خلال خدمة الاله اليوميّة التي تتضمَّن ثلاث خدم، في الصباح والظهر والمساء. في خدمة الصباح يقدّم الطعام للاله ويُغسَل ويزيّن ويخضّب. هذه الخدمة هي الأهم. وقد تكون بسيطة أو احتفاليّة. واعتادوا أن يُخرجوا تمثالَ الاله في تطواف. هذا في الأيام العادية. وهناك الأعياد الكبرى. في هذه الأطر المختلفة، كانت كل فئة تعمل حسب تخصّصها.
نضع جانبًا الحفلات الجنائزيّة، لأن الكهنة الذين يقومون بها هم مستقلّون عن المعابد في أغلب الأحيان. ففي طقوس التطبيب، يكون سيّد الاحتفال "رئيس الأسرار". بجانب "المدير الإلهي" يقف عدد من الكهنة القارئين فيتلون العبارات التي ترافق أعمال التطبيب. أما طقس فتح الفم فيعطي الدور الأول للكاهن سام يُعينه كاهنٌ قارئ. أما الأشخاص الثانويون فينتمون إلى مجموعة كهنوتيّة أو دنيويّة.
ثانيًا: الأقوال النبويّة
يمسك الكهنة سلطة القول النبويّ. وأشهره قول القارب. وكانوا يستطيعون أيضًا أن يسألوا الاله في هيكله، أو يطلبوا منه طلبًا خطيًا. ويعرّف الاله بإرادته عبر الأحلام التي يجب أن تفسّر. واستُعملت تقنية ثانية هي تقنية الحيوانات المقدسة. تشير نصوص عديدة إلى أن الثور أبيس كان يكشف المستقبل لمن يسأله. ومهما كانت الأساليب المستعملة، فدور الكهنة كان مسيطرًا. لهذا كان تأثيرهم كبيرًا.
ثالثًا: التقليد
والكهنة هم حافظو التقليد. هي وظيفة مهمة جدًا في حضارة مركّزة على ثبات الأشياء، لا على تحوّلها وصيرورتها. حين ندرس الكهنوت في هليوبوليس وفي ممفيس، نلاحظ مختلف التقاليد حول الخلق كما عرفتها القرون العديدة. فالمصريون قد تعلّقوا بكل رقّ قديم، وطلبوا في نصوص من الماضي جوابًا على أسئلتهم الحاضرة. وفي "بيوت الحياة" القريبة من المعابد، دُوّنت الكتب الليتورجيّة وصيغت عناصر العلوم المقدّسة. ومع التقاليد الدينية تعاطى الكتبة في بيوت الحياة مختلف مجالات العلم من تاريخ وجغرافيا وفلكيّات وطبّ ودراسة الحيوان...
خاتمة
ما كان كهنة مصر مستودع حقيقة موحاة. ولا كانوا موجِّهين روحيين للشعب. فبدوا منفّذين دقيقين لطقوس دينيّة باسم الملك الذي هو الكاهن الحقيقيّ. كانت طهارتهم طهارة طقسيّة. وما إن ينتهوا من خدمتهم حتى يعودوا إلى أعمالهم اليوميّة. أما قوّتهم فارتبطت بالتزامهم الشخصي أكثر منه بوظيفتهم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM