الفصل الرابع اونسيمس ابني

الفصل الرابع
اونسيمس ابني
آ 8- 12

ووصل بولس الآن إلى قلب موضوعه في ثلاث "موجات" متعاقبة تراعي جانب فيلمون وبالتالي تؤمّن نجاح الطلب، وهو: استقبال أونسيمس أفضل استقبال. في مرحلة أولى، وفي أسلوب إيقاعيّ جميل، يتخلّى الرسول عن صفته كآمر، فيقدّم طلبه متضرّعًا (باراكالو، آ 9 أ؟ 10 أ). هو شيخ (برسبيتيس، آ 9 ب). وهو سجين (دسميوس، آ 9 ج). نحن هنا أمام أسلوب يتوخّى تحريك عواطف فيلمون. بل نحن أمام دعوة للمشاركة في سرّ الانجيل، الذي هو كشف للقوّة في عمق الضعف. وهذا السرّ قد بيّن فاعليّته في ارتداد أونسيمس، وهو سيفعل أيضًا حين يلتقي العبد مع سيّده.
لهذا يأتي ثقل الخطاب حول أونسيمس الذي أُظهر له حنانٌ ومحبّة كبيران في كلمات قليلة. فأونسيمس هو هذا الابن (آ 10) الذي ولده الرسول. هو لحم من لحمه (آ 10 أ). قبل أن يسمّي بولس أونسيمس باسمه، يغمره بعطف البنوّة التي تربطه به (آ 10 أ). وفي النهاية يذكر اسم العبد المتّهم لدى فيلمون والذي يستحقّ اللعنة بعد أن فرّ من بيت سيّده. تبدّل كليًا بما فعله الانجيل فيه، فصار نافغًا بعد أن كان غير نافع.
وقبل الشرح نقدّم ملاحظات نصوصيّة. في آ 9 هناك من اقترح "برسبوتيس" (سفير) بدل "برسبيتيس" (شيخ). في آ 10 نقرأ في الاسكندراني: "أنا هو الذي ولدته" (زاد "إغو" أنا). وفي غيره يزيد الضمير (مو، أنا): "في قيودي" (لا في القيود كما نقرأ في النصّ المنشور). في آ 11، لا نرى في بعض المخطوطات الإفادة المتبادلة من أونسيمس وتجاه بولس وتجاه فيلمون (سقط حرف العطف الواو). وفي آ 12 هناك تقليد نصوصيّ يزيد: "وأنت من جهتك تقبّله". من زاد هذه العبارة لم يرد أن ينتظر آ 17 ليجد تعبيرًا عن طلب بولس.

1- لا آمرك (آ 8)
"لهذا" (ديو) تُقدّم الفاعل بشكل خاص وتستند بشكل إجمالي إلى الاستعدادات الطيبّة لدى فيلمون كما ذُكرت في آ 4- 7، وإلى "محبّته" (آ 5، 7، 9) بشكل خاص. هذا المنظار يستبعد فرضًا يأتي من سلطة وأمرًا (إبيتاساين) من كبير إلى صغير. ويبقى الطلب والتضرّع "بسبب الحبّ". "بفضل الحبّ". هذا التخلّي عن السلطة ليس سيكولوجيًا وحسب. إنه يتماسك مع مجمل الرسالة: كان النظام القديم (الذي لم يُلغَ كليًا) يستند إلى التراتبيّة (من السيّد إلى العبد، من الرسول إلى المؤمن). أما النظام الجديد، نظام الانجيل، فيقيم علاقات تبادل وأخوّة. بعد هذا، كيف يستطيع بولس أن "يفرض" نفسه، أن يلجأ إلى حقوق، إلى سلطة وإن كانت شرعيّة؟ وعلى فيلمون أن يتخلّى عن ممارسة حقوقه وسلطته (الشرعيّة هي أيضًا) تجاه أونسيمس. لو ظللنا على مستوى التراتبيّة لكنّا غير منطقيّين مع الانجيل حيث الكل إخوة (مت 23: 8). ولكن الرسول يكرز بالمثل، فيدلّ محاورَه على الينبوع الذي يستقي منه. وهو يسوع. كما يدلّ على نتيجة التخلّي عن السلطة التي تنفتح على طلب الحبّ (آ 9 أ).
هذه السلطة (باريسيا، دالّة) هي الحقّ بأن يقول الانسان كل شيء "بان" في اليونانيّة: كل. ثم "ريسيا" في اليونانيّة: (كلام). هي حقّ أساسيّ في الديموقراطيّة القديمة، وهي ترتبط بـ "الحقيقة" (اليتايا) و"الحرّية" (الوتاريا). يستعمل بولس اللفظة ليتحدّث عن حرّية الكلام التي نالها من الانجيل (2 كور 3: 12؛ 7: 4؛ غل 1: 20؛ رج أف 3: 12؛ 6: 9؛ كو 2: 15؛ 1 تم 3: 13)
سلطة فيلمون هي سلطة المالك بالنسبة إلى أونسيمس. ولكنّه على المستوى الروحيّ (في المسيح) لدى الرسول الذي تعطيه وظيفته سلطة "بأن يأمر بالواجب" (بما يجب على المؤمن أن يفعله). إن لفظة "أنيكون" تحمل رنّة قانونيّة وسياسيّة، وهي تستعمل لدي الرواقيّين. لا تظهر إلاّ هنا وفي أف 5: 1؛ كو 3: 18 (واجبات البيت). هي تقابل تحديد "الخير" (اغاتون) الذي أعلن في المسيح (آ 6) وتجسّد في أوضاع ملموسة. قد يكون الرسول نال بعض الامتيازات في تحديد هذا "الخير". وهذا ما تدلّ عليه الارشادات الخلقيّة التي نجدها عادة في القسم الثاني من رسائله: غير أننا نلاحظ أنه لا يستعمل أبدًا لفظة "أمر" (إبيتاساين)، فيفضّل برهن أو أقنع. هنا نتذكر 1 كور 7. حين يعطي بولس "أمرًا" (إبيتاغي) فهو يعطيه من قبل الله (آ 25؛ روم 16: 26). أما هو فيقدّم مشورة. يعطي رأيًا (آ 17). ولكن هذا لا يستبعد بعض السلطة كما في 1 كور 11: 24؛ 16: 1؛ رج روم 10: 20؛ 16: 19؛ 2 كور 10: 20.

2- بل أتضرّع إليك (آ 9)
إن بولس يتضرّع (باراكالو) بمحبة، عبر (ديا) المحبّة (أغابي). ليست اللهجة لهجة العبد أمام سيّده. لأن فعل "باراكالوا" يعني أيضًا الحزم والارادة.
ولكن ما يوازي هذا النصّ نجده في 1 تس 2: 11- 12 حيث ذكر بولس الرباطات التي توحّده بقرّائه بحرارة الأمم ووداعتها (آ 7 ي). ثم قال: "تعلمون أيضًا كيف كنا لكل واحد منكم كالأب لأولاده، نعظكم ونشجعكم ونناشدكم لكي تسلكوا على ما يليق بالله الذي يدعوكم إلى ملكوته ومجده".
ذاك الذي يتضرّع ويحضّ، لا يستند إلى وظيفة تسلَّمها، بل إلى اسمه الخاص: بولس (آ 19). وهكذا يتّخذ مكانته في سلسلة الاشخاص المعنيين بشكل مباشر بمسألة الرسالة (آ 1- 3، 23 ي). وهذه المكانة تبدو قريبة من أونسيمس الذي سيُذكر اسمه بعد قليل (آ 10 ب، 11) كشخص مساو له، كشخص يحميه. كأني ببولس ترك فيلمون السيّد ووقف بجانب العبد على مثال يسوع الذي ترك سمعان الفرّيسي ووقف بجانب الخاطئة (لو 7: 36- 51).
بولس "شيخ". لا "سفير يسوع المسيح" كما اقترح البعض. مرمى النصّ واضح: يربط الشيخوخة بالسجن (آ 9، فيزيد ضعفًا على ضعف) وبالولادة (آ 10- 12). الرسول سجين (آ 1). يعني، لا يستطيع أن يفعك شيئًا. وصارت خدمة البشر عنده "عقيمة"! ومع ذلك ها قد جاء أونسيمس الذي لا نفع منه (آ 11). ومجيئه كشف خصبًا ممكنًا في وضع بشري بدا وكأن لا مخرج منه. وهذا اللقاء بين "المفيد واللامفيد" (يشدّد على ذلك تكرار "نيني دي كاي" وفوق ذلك الآن بالنسبة إلى بولس في آ 9، وبالنسبة إلى أونيسمس في آ 11) هو علامة عن حضور الانجيل ومولّد الايمان.
ووجه إبراهيم، أبي المؤمنين (روم 4: 1 ي)، الذي بدا ضعيفًا في شيخوخته، يقول فيه بولس: "لم يضعف في إيمانه حين نظر إلى جسده (كان له نحو مئة سنة) ولا إلى مستودع سارة الذي مات. لم يشككّ قط في وعد الله، بل تقوّى بالايمان ممجّدًا الله ومتيقنًا أن الله قادر أن ينجز ما وعد به" (روم 4: 19- 21).
ونشير بشكل عابر إلى أننا لا نستطيع أن نرتكز على لفظة "برسبيتيس" لنحسب عمر بولس حين كتب هذه الرسالة. فحسب هيبوكراتيس المزعوم، "برسبيتيس" هو الذي يقف بين الرجل البالغ (أنير) والعجوز (غاون). ولكن مراجع أخرى تقول إن "برسبيتيس" هو شخص قارب السبعين.

3- استعطفك لأجل ولدي (آ 10)
ويستعيد بولس الآن صورة الولادة الروحيّة (الاحشاء) ويوضحها. ويشدّد على طابعها الخارق بتلميح جديد "إلى القيود". لقد ولد بولسُ ولدًا. أنجب ولدًا. هو أحشاؤه. وهي عزيزة على قلب الرسول الذي يقدّم نفسه كأب وأم للمسيحيين الذين ولدهم (غاناوو 1 كور 4: 15؛ اودينو، غل 4: 19؛ رج 4: 27) بكرازة الانجيل (1 كور 4: 15؛ 1 تس 2: 9 ي)، والذين يحاول أن "يربيّهم" بالحنان والارشاد والمثل، وبعض المرّات بالتوبيخ. كل هذه السمات التي نقرأها في 1 كور 4: 14 ي؛ غل 4: 12- 20؛ 1 تس 2: 7- 12 هي في خلفيّة هذه الآية التي تتحدّث وحدها عن ولادة شخص (لا جماعة) (رج 2 كور 6: 12- 13؛ غل 2: 22؛ 1 تم 1: 2- 18؛ 2 تم 1: 2؛ 2: 1؛ تي 1: 4). ونضيف وجه ابراهيم، أبي المؤمنين، الذي اختبر حياة الايمان بالانجاب وهو "في شيخوخته".
لهذا لا يُذكر اسم "المولود"، إلاّ في نهاية الجملة: أونيسمس. هذا الاسم هو اسم عدد كبير من العبيد ومعناه: "ما هو مفيد". يُذكر في كو 4: 9. ويشير أغناطيوس الانطاكي، في بداية القرن الثاني، إلى أسقف أفسس الذي كان اسمه أونيسمس (إلى الافسسيين 1: 3).

4- كان لانافعًا فصار نافعًا (آ 11- 12)
الاسم في العالم القديم هو الشخص. وهكذا فالارتداد إلى المسيحية كان يقود إلى تبديل الاسم: سمعان صار بطرس. شاول صار بولس. أو إلى ابراز شخصيّة الفرد الحقيقيّة. وهذا ما يبيّنه الرسول هنا. فأونيسمس بارتداده قد استعاد معنى دعوته الحقيقيّة. كان عبدًا رديئًا في الماضي، حين هرب، فصار "لامفيدًا" (اخريستوس) مع أن اسمه "مفيد" (أونسيمس). في المسيح صار الآن "مفيدًا جدًا" (اوخريستوس) حسب دعوة اسمه (رج "بتروس" بطرس الذي صار "بترا" صخرًا عليه تُبنى الكنيسة، مت 16: 18). وهكذا يؤمّن الانجيل خروج "خليقة جديدة" (2 كور 5: 17؛ غل 5: 6؛ 6: 14 ي) تؤمّن الدخول إلى الكرامة الجوهريّة لكل انسان، مع ايراد الاسم واستعادة معنى الاسم. ذكر الرسول الماضي بلا فائدته، فوصل إلى الحاضر وإلى المستقبل اللذين افترقا عن الماضي افتراقًا جذريًا.
هذا الحاضر وهذا المستقبل يتوجّهان الآن إلى بولس (لي) وفيلمون (لك). فلم يعد فيلمون معزولاً في موقفه كالسيّد، بل دخل في مغامرة جعلته على قدم المساواة مع الرسول نفسه. والفائدة التي يحصل عليها من أونسيمس تقوم بخدم حقيقية قام بها بعد ارتداده (آ 13). وتقوم في أنه بيّن لبولس ما يستطيع الانجيل أن يفعل في وضع صعب. وقد رجا بولس أن يختبر فيلمون هذه الخبرة، حين يصل بواسطة أونسيمس، إلى إمكانيّات حياة جديدة.
لهذا ردّ إليه بولس أونيسمس (آ 12)، لا توافقًا مع الشريعة الرومانيّة، ولا تباعدًا عن الشريعة اليهوديّة، بل لكي يستطيع الانجيل أن يحمل ثمارًا تحوّل الأشخاص وعلاقاتهم. يبقى أن ذاك الذي يرسله بولس ليس عبدًا، بل هو "أحشاؤه" الخاصة، ذاك الذي وُلد منه، ذاك الذي هو لحم من لحمه وأعزّ أعزّائه، ذاك الذي حياته أثمن حتّى من حياة الرسول نفسه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM