الفصل الثاني العنوان والتحيّة

الفصل الثاني
العنوان والتحيّة
آ 1- 3

إن عنوان الرسالة مع قصره، يكشف ظروفًا وصفات خاصة. يقدّم الكاتب أولاً كاتبي الرسالة (بولس وتيموتاوس). ثم الذين أرسلت إليهم الرسالة: فيلمون، ابفية، ارخبّس. وينتهي هذا الفصل بالبركة التي هي "نعمة وسلام". هذا البناء المثلّث يوافق كل الموافقة ما نجد في بداية روم، 1 و2 كور، غل، أف، التي تجد ذروتها في مباركة ذات طابع ليتورجيّ. ومهما تكن السمات الشخصيّة الحميمة في فلم، فهي تبدو بشكل رسالة "رسوليّة". لا يلجأ بولس هنا إلى لقب رسول في ارتباطه بجماعة وبالانجيل الذي يؤسّس هذه الجماعة.
هذه الجماعة (اكليسيا) مؤلّفة من أشخاص محدّدين، يسميّهم باسمهم (أش 43: 1؛ يو 10: 3). وهكذا نجد خمسة أسماء علم، يضاف إليهم اسم يسوع المسيح والله الآب. منذ البداية ندخل في قلب الرسالة بالأشخاص والاسماء والتبادلات في العلائق وداخل الجماعة. إذن، هي رسالة تستند إلى نسيج من الوقائع البشريّة المتداخلة (حياة في كنيسة) لتحييها وتقوّيها. وهي تتسجّل في إطار جماعيّ من خيرات نتقاسمها (ضمير المتكلّم الجمع، حبيبنا نحن) وأخوّة نعيشها ومحبّة (أغابي، رج حبيبنا في آ 1).
هذه العلائق الجماعية "الافقيّة"، تسجل في الواقع البشريّ عموديّةَ علاقة أولى تولّدها وتحييها، هي علاقة عطيّة الله في يسوع المسيح، عطيّة "النعمة والسلام". لهذا، فكل الواقع الكنسي والجماعيّ الذي أشير إليه بإيجاز في آ 1- 2 يتأسّس (ويحيط به كما الاطار) على ذكر المسيح يسوع مرتين، فيكشف أبوّة الله ورحمته. لهذا تتّحد المحبّة والاخوّة في عمل مشترك (سينارغوس). في جهاد مشترك (سستراتيوتيس). هو البشارة بالانجيل.

1- من بولس أسير المسيح (آ 1 أ ب)
قدّم بولس نفسه بخلاف ما تعوّد أن يفعل. لم يقدّم نفسه كـ "رسول" بل كـ "سجين المسيح يسوع". لهذا حاولت المخطوطات أن تصحّح، فقال البازي مثلا: "رسول" (روم 1: 1؛ 2 كو 1: 1...). وقال غيره: "عبد" (روم 1: 1؛ غل 1: 1). وزاد البازي لفظة "أخ" على اسم فيلمون، وسمّى التقليد المشترك ابفية "الحبيبة". قال بولس "سجين" فدلّ على وضع تاريخيّ خاص، كما توخَّى نيّة خاصة.
إن لفظة "سجين" (داسميوس) أو "أسير" هي عند بولس خاصّة برسالتنا (آ 1- 9) وبالرسالة إلى أفسس (3: 1؛ 4: 1). وهي تترافق مع لفظة "قيود" التي نجدها في الرسالة إلى فيلبي (1: 7، 13، 14، 17؛ رج فلم 10، 13) ولا نعود نجدها في المجموعة البولسيّة إلاّ في كو 4: 18؛ 2 تم 2: 9. وهكذا نستطيع أن نتكلّم عن قرابة بين مختلف هذه الكتابات.
بولس هو سجين، لأن كرازته (هو سجين "المسيح يسوع"، سجين "بسببه") حرّكت القلاقل والمقاومة. وحياته هي في خطر (غل 1: 13- 21). كان باستطاعته أن يحسّن وضعه، بل أن ينجو من السجن لو أعلن أنه مواطن رومانيّ. ولكنه رفض بادئ ذي بدء، لأنّه ظنّ أن ساعته جاءت ليشهد للصليب حتى الاستشهاد. ولكن برزت ظروف لاحقة جعلته يغيّر رأيه (هذا ما نجده في غل وفي فلم 22).
شدّد بولس ثلاث مرّات (آ 9، 10، 13) على أنه سجين، فما كان لتشديده فقط هدف تاريخيّ. هذا التشديد "لوّن" طلب بولس بلون خاص. فهذا الذي يطلب طلبًا من فيلمون ليس حرًا. وهو لا يلجأ إلى سلطته كرسول، بل يقدّم نفسه على أنه سجين يلتمس خدمة. لا شكّ في أن هذا السجين ليس سجينًا كأيّ انسان آخر: هو يعيش تحت سلطة "يسوع المسيح"، ويسوع هذا هو الرب، ربّ الرسول وربّ مراسليه، بل ربّ الكون كله وبُناه بما فيها البنى الاجتماعيّة (غل 2: 9 ي) كما يقول الإيمان المشترك.
بالإضافة إلى ذلك، بولس هو انسان حُرم من أيّة إمكانيّة تصرّف. ومُنع من أن يحمل لانجيل بسبب الانجيل. وفي هذا الضعف الخاص، ستنكشف قوّة الانجيل (وهي قوّة تدعو ما هو غير كائن كأنه كائن) مرّة أخرى. إن اتّحاد ضعف الرسول بقدرة يسوع المسيح (رج 2 كور 12: 9)، يدلّ منذ الكلمات الأولى على المحور الرئيسيّ في الخطبة.
وانضمّ تيموتاوس إلى بولس كما في 2 كور 1: 1؛ غل 1: 1؛ كو 1: 1. وهذا ما يبرز أيضًا القرابة بين هذه الكتابات. يقدَّم تيموتاوس هنا على أنه "الأخ" (أي أخ في الإيمان. نجد اللفظة 133 مرّة في المجموعة البولسيّة). أصله من لسترة في ليكونية. هناك جنّده بولس خلال الرحلة الرسوليّة الثانية (أع 16: 1) فصار في الفريق الذي عمل في فيلبي (أع 16: 12 ي). ولكن دوره كان هامًا في كورنتوس (أع 18: 5؛ 1 كور 4: 7؛ 16: 10- 11؛ 2 كور 1: 1؛ روم 16: 21). كلّفه بولس، من سجنه في أفسس، بمهمّة في فيلبي (فل 2: 19- 24؛ أع 19: 21)، فقال فيه: "ليس لي نظيره للاهتمام بشؤونكم بنيّة خالصة: فإن الجميع يلتمسون ما هو لأنفسهم، لا ما هو للمسيح يسوع. أما هو، على ما تعلمون، فرجل مختبر، قد خدم معي في الانجيل خدمة الولد مع أبيه" (رج 1 تس 3: 2- 6).
ذُكر تيموتاوس هنا، مع أن الرسالة كُتبت بيد بولس، لتعكس أهميّة حضوره الفاعل بجانب الرسول. كما تعكس الطابع الجماعي والكنسي الذي به يطبع بولس كلامه. ونتذكّر هنا أن الرب طلب من حاملي الانجيل أن يمضوا اثنين اثنين (مرّ 6: 7؛ لو 10: 1، يحملون السلام؛ رج مت 10: 12- 13= لو 10: 5، رج فلم 3) لأسباب ماديّة واضحة. ولأن العالم اليهودي يفرض وجود شاهدين (عد 35: 30؛ تث 17: 6؛ 19: 15) لتصحّ الشهادة.

2- إلى فيلمون حبيبنا (آ 1 ج- 2)
أُرسلت الرسالة إلى ثلاثة أشخاص. ويضاف إليهم "كنسية بيتك": هناك رجلان يوصفان بذات الصفة. واحد هو "عامل معنا" (آ 2 أ) والآخر "جنديّ معنا". وامرأة هي "أخت".
فيلمون أي المحبوب، اسم دارج في ذلك الوقت. هو الشخص الرئيسي الذي وُجّهت إليه الرسالة، وسيّد العبد أونسيمس الذي سوف نتحدّث عنه. هو "أغابيتوس" أي الحبيب (روم 16: 5، 8، 9، 12، كل مسيحي حبيب الله) وسيحدّثه بولس عن "المحبّة" (أغابي)، محبته هو (رج آ 5، 7، 9، 16). أما لفظة "معاون، شريك" فتدلّ دومًا عند بولس (روم 16: 3، 21؛ 1 كور 3: 3، 2 كور 1: 24؛ 8: 23؛ غل 2: 25؛ 4: 3؛ كو 4: 11؛ فلم 24) على أشخاص شاركوه في عمله الرسوليّ. قد لا يكون هذا وضع فيلمون، أقلّه بشكل مباشر. غير أن آ 19 ي تدلّ على أنه كان لبولس دور قريب أو بعيد في ارتداده، بحيث اعتبر الرسول تأسيس "كنيسة في بيته" متابعة عمل مشترك. وقد تستبق هذه الصفة التي أعطاها الرسول لفيلمون، ما سوف نقرأ في آ 13 ي: ليشارك فيلمون في عمل التبشير البولسي فيعيد إلى بولس اونسيمس الذي صار مفيدًا جدًا. ولكن ما يجب أن نحتفظ به هو التلميح إلى الانجيل الذي هو "تعب" تتكوّن فيه الصداقة والأخوّة. وينكشف هذا الانجيل أيضًا على أنه "قاعدة" تميّز تصرّف هذا وذاك.
أبفية هي زوجة فيلمون. أو قريبة له. وقد تكون إحدى المسؤولات في كنيسة كولسي. هذا الاسم لم يكن نادرًا حتى في كولسي حيث وُجدت مدوّنة على أحد القبور: "هرماس إلى أبفية امرأته ". سُمّيت "الأخت" مثل فيبة الشماسة في روم 16: 1. هي أيضًا مسيحيّة. وكسيدة بيت سيكون لها دور هام في قبول أونسيمس أو رفضه. نلاحظ هنا بطريقة عابرة الدور الذي لعبته النساء في حمل الانجيل، ولاسيّما في الرسالة البولسيّة (فل 4: 2؛ 1 كور 16: 19؛ كو 4: 15). تيموتاوس هو "الأخ" (ادلفوس). وأبفية هي "الأخت" (أدلفي).
لا يمكن مع التقليد أن نعتبر أرخبس ابن فيلمون وأبفية. وإلاّ لقال بولس: "بيتكم" لا "بيتك". سيظهر هذا الاسم في كو 4: 17، ويطلب منه "السهر على الخدمة (دياكونيا) التي تسلّمها في الرب لكي يتّمها". هو "رفيق السلاح" (سستراتيوتيس)، وهذا ما يقابل "معاون" (قيل في فيلمون). نلاحظ القرابة بين اللفظتين أيضًا في فل 2: 25، وهما تدلاّن على ابفروديتس. لا ترد لفظة "رفيق السلاح" إلاّ في هاتين المرتين عند بولس. أما موضوع "جهاد الانجيل" فعزيز على قلبه (1 كور 9: 24، 27؛ فل 2: 16؛ 3: 12 ي؛ غل 2: 2؛ 1 تس 5: 8).
وأخيرًا، يوجّه بولس كلامه إلى "كنيسة بيتك". لا نجد هذه العبارة في العهد الجديد إلاّ عند بولس: في الحديث عن أكيلا وبرسكلة (مرة في كورنتوس، 1 كور 16: 19. ومرّة في رومة، أو أفسس، روم 16: 5)، وهنا في الحديث عن فيلمون وفي كو 4: 15 مع تحية لنمفا (أو: نمفاس) وهي مسيحيّة من لاودكية (رج روم 16: 14- 15، 23؛ 1 كور 16: 15). إن وجود مثل هذه الجماعات التي تلتئم في بيت هو في الواقع كنيسة، أمر معروف في العهد الجديد: في المنظار الذي رسمه يسوع حين أرسل تلاميذه (لو 10: 1- 11 وز)؛ أورشليم (لو 24: 36؛ يو 20: 19، 26؛ أع 2: 46؛ 5: 42؛ 8: 3؛ 12: 12)؛ فيلبي (أع 16: 15، 32)؛ ترواس (أع 20: 8)؛ كورنتوس وأفسس (أع 18: 7؛ 20: 20).
نحن نفهم هذه اللفظة حيث "البيت" (الذي هو في الوقت عينه بناء وأقرباء في المعنى الواسع) يشكل الخلية الأساسية في المجتمع، ويؤمن إمكانية اجتماع لجماعة تتكوّن، وما كانت تستطيع أن تلتئم لولا ذلك البيت. مثل هذا "البيت" يتضمّن العبيد. هل يعني أن جميع العبيد الذين في بيت سيّد تعمّد، كانوا معمّدين؟ هذا ليس بأكيد، وأونسيمس هو غير معمّد، إلاّ إذا كان أونسيمس أتى إلى بيت فيلمون بعد أن تعمّد كل "بيت" فيلمون.
إن وجود مثل هذه الكنائس البيتيّة قد أثّر على بعض وجهات الخلقيّات البولسيّة، كما أثّر على التنظيم الكنسيّ حيث ارتبطت حياة البيت وحياة الكنيسة ارتباطًا وثيقًا. هذا لا يعني أن هذه "البيوت"، كوّنت جوهر الاكليزيولوجيا البولسيّة في خطّ ما يُسمّى اليوم "الجماعات الأساسيّة" التي تتألف من بضعة أشخاص فقط. فالكنيسة عند بولس تتضمّن بُعدًا مسكونيًا، شاملاً. هي "كنيسة الله" (1 كور 1: 2؛ 2 كور 1: 1؛ 1 كور 10: 32؛ 11: 22؛ 15: 9). وهي ترتبط بكنيسة أورشليم التي هي نقطة انطلاق الانجيل. هذا ما تدلّ عليه اللمّة التي نظّمت في الكنائس البولسيّة من أجل "فقراء أورشليم". ولكن مع ذلك، يبقى أن كنائس البيت لعبت دورًا أساسيًا في نشر المسيحيّة الأولى وتجذّرها الاجتماعيّ، فشكّلت محطات متقدّمة من أجل نموّ الانجيل.
إن التطوّر التاريخيّ الذي نجده بشكل خاص في الرسائل الرعائيّة، يدلّ على بعض الخطر عندما تعيش هذه الكنائس البيوت في "إناء مغلق" (كالمياه الآسنة). ولكن التجذّر المحليّ يتيح للانجيل أن يدخل عميقًا في نسيج اجتماعيّ فيحوّله تحويلاً جذريًا، وفلم هي أفضل شهادة على ذلك: ففي قلب كنيسة البيت، يحوّل الانجيلُ العلاقات الاجتماعيّة والتراتبيّة في "هذا العالم" (رج غل 3: 27- 28؛ 1 كور 1: 26 ي؛ 12: 12- 13). لم يعد السيّد وحده وجهًا لوجه مع عبد مخطئ. فالعلاقات تحملها جماعة الإخوة والأخوات، المؤسّسة على النعمة والسلام من "الله أبينا والربّ يسوع المسيح".

3- نعمة لكم وسلام (31)
إن المباركة التي تختتم عنوان الرسالة، نجدها في كل رسائل بولس. طابعها طابع ليتورجيّ. وهذا ما يدلّ على أن الرسالة كانت تُقرأ في "الكنيسة"، خلال الليتورجيا.
"النعمة" (خاريس) و"السلام" (ايريني) هما مزيج بين تحيّتين معروفتين في ذلك الزمان. التحيّة اليونانية: أفرح، فرح لك (خايري). والتحيّة العبرية: سلام (ش ل و م). في النظام المسيحيّ، النعمة هي الأولى دائمًا وهي تؤسّس كلَّ عمل بشريّ. وهي تجرّ وراءها الملء والهدوء والسلام. ملء هذا السلام الذي يحمله إعلان الانجيل إلى البيوت التي فيها يُكرز به (1 يو 10: 5- 6؛ يو 20: 19 ي). لهذا، بما أن فيلمون نال مجّانًا، فهو مدعوّ لأن يعطي مجّانًا. ومن هذه العطايا تلد حياة من السلام والملء والبرّ (رج روم 5: 1 ي).
ليست النعمة والسلام كلمتين فارغتين. بل بُنيتا بالنظر إلى. من هو ينبوعهما: الله الآب والرب يسوع المسيح. وهكذا يُصاغ في الاعتراف الليتورجي سرّ الثالوث الأقدس، الذي يعلمنا بأحداث تمّت في يسوع المسيح وفي كنيسته، وارتبطت بالله. فهذا الاله هو، في يسوع المسيح، أب. هو أبونا. هو عطاء يسند كل كائن بشريّ وكل عمل. لهذا، فالعلاقات داخل الجماعة التي تعترف بهذه الأبوّة، لا يمكن إلاّ أن تكون أخويّة، تستمدّ قوّتها من أبوّة الله ونعمته. وهي تسجَّل أيضًا في ظلّ الرب. يسوع المسيح الذي صُلب وقام وهو يملك منذ الآن لا في كنيسته وحسب، بل في العالم، ويدعونا لأن نعيش في النعمة والسلام، في الحرّية والبرّ (روم 6: 15- 23). فهو سلامنا، وهو برنّا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM