الفصل الخامس
أونسيمس أخوك
آ 13- 16
بعد أن تضرّع بولس لأجل الذي قدّمه كابنه، واصل برهانه فاستعاد مواضيع سبق وذكرها، فتعمّق فيها: هو لا يريد أن يملي على فيلمون السلوك الواجب اتباعه، لأن الانجيل خلاّق حرّية ومسؤوليّة (آ 13- 14). أونسيمس هو من وجهتين "أخ حبيب" (آ 16) لفيلمون. أولا "في المسيح" الذي يقيم بين أعضاء كنيسته أخوّة حقيقية. ثانيا، "في بولس" الآب الروحي لأونسيمس (آ 8 ي) وفيلمون (آ 13- 14، 17- 18) معًا. بعد ذلك، فالاستقبال الذي يُنتظر من فيلمون أن يحتفظ به لعبده، سيكون كما يريده بولس: لا استقبال قاضٍ يعاقب مجرمًا على شرّ فعله. لا استقبال سيّد رحيم يستعيد إلى خدمته عبدًا تاب عن ماضيه. بل استقبال أخ يستقبل أخاه. وهذه الاخوّة تمتد إلى جميع وجهات الحياة: ليست فقط "روحيّة" أو "دينيّة" (في المسيح آ 16) بل "جسدية" و"ماديّة".
وكان تساؤل حول النوايا الحقيقيّة للرسول: هل أراد حقًا أن يعود إليه أونسيمس (آ 13)؟ هل تمنّى فوق ذلك أن يراه محرّرًا، إما ليعود إلى عمله لدى فيلمون، وإما ليبقى لدى الرسول؟ لا جواب قاطعًا. وهذا ما نستطيع أن نفهمه. ففي الحقيقية، إن بولس يترك لفيلمون أن يختار ويقرّر. فالحرّية التي يمنحها الانجيل ليست حرّية ظاهرة وحسب. بل إن احترام استقلاليّة فيلمون هو الشرط الجوهريّ لإقامة علاقة متجدّدة، أخويّة، بينه وبين أونسيمس. فالحبّ والصداقة والأخوّة ليست أشياء نؤمر بها أمرًا. بل نتمنّاها. نشجّع عليها. نساندها. ولا شيء أكثر من ذلك.
بالإضافة إلى ذلك صار أونسيمس أخًا، صار شخصًا بكل ما للشخص من حقوق وواجبات. لهذا يجب أن لا ننساه. فما هو رأيه هو؟ هل التحرّر، مع أخذ الاعتبار بوضعه العائلي وامكانيّاته المادية، هو الحلّ الافضل لمستقبله؟ قد يكون ذلك. ولكن الأمر ليس كذلك على ما في آ 18 ي (رج تث 15: 16- 17؛ خر 21: 15- 16). وهكذا حين أعاد بولس أونسيمس إلى فيلمون، لم يخضع خضوع العبيد لما يقرّه النظام المعمول به في الامبراطوريّة. بل جعل الرجلين وجهًا لوجه. بعد أن تساويا في الكرامة، وفي امكانيّات التفكير والتبادل. بعد أن صارا أخوين. فعليهما أن يتكلما، أن يتفاهما، أن يتدارسا الوضع ويأخذا موقفًا من الحلّ القانوني والاجتماعيّ الذي يحافظ على الأخوّة. أما بولس فسيجيء بعد ذلك (آ 22). وقد يشترك في النقاش. ولكنه في أي حال يحترم حرّية ومسؤولية كل واحد منهما لأن الأمر يعنيهما.
هناك من حاول أن يَدخل إلى نوايا بولس العميقة من أجل أونسيمس، ليصل إلى فكر الرسول حول العبيد والعبوديّة، فجعل من أونسيمس حلقة في سلسلة نظريّة ورقمًا في مجموعة. ليست القضية في أن نحل مشكلة، بل أن نعيد الاعتبار إلى الانسان ونؤسّس علاقة جديدة (لا مثل القديمة، علاقة السيّد بالعبد). فالأخوّة تستطيع أن تلغي واقع العبوديّة، ولكن الانقلاب لا يستطيع أن يولّد الاخوّة.
1- كنت أود أن احتفظ به (آ 13)
إن سلطة بولس حاضرة بشكل خاص في هذه القضيّة: إنه رسول. شارك في ارتداد فيلمون (آ 19). وهو قد وَلد أونسيمس إلى الايمان. ولهذا كان بامكانه (رغبة وإمكانيّة) أن يحتفظ بأونسيمس لديه ليخدمه. نلاحظ هنا أن الرسول لا يهتمّ كثيرًا بمراعاة الشرائع المدنيّة: ما يوجّه عمله ليس الخوف من الانتقام، ولا الخوف ممّا يقول أولئك الذين يريدون أن يهاجموا الانجيل، ولا مراعاة النظام العام. فهو في السجن، وبالتالي في وضع لا يتوافق وهذا النظام من أجل الانجيل (آ 1، 9). بل نستطيع أن نفترض بحقّ وبدون اللجوء إلى منظار الاستشهاد، أنه يعتبر أن هذا السجن نفسه هو شهادة للانجيل. لهذا لا شيء يجعله يتردّد من تحدّي النظام العام بحيث يتحمّل السجن من جهة ويحترم من جهة أخرى النظام احترامًا عبوديًا. لهذا، من يعتبر أن عمل بولس في إرجاع أونسيمس هو عمل انسان يحافظ على قانون، يفهم النصّ فهما خاطئًا. ما قال بولس: "بما أن الأمور هي هكذا، ما أردت أن احتفظ بقربي بعبد هارب" بل قال: "بعد أن صارت الامور هكذا في المسيح، كنت أودّ أن احتفظ به عندي".
إن فعل "احتفظ" (كاتاخاين) يُستعمل للحفظ والحماية اللذين تقدّمهما الهياكل لعبيد فارّين. قد يكون هذا ما دفع أونسيمس للهرب إلى بولس: حين علم أن سيّده مسيحيّ، لجأ إلى من يمثلّ هذه العبادة. فبولس يريد أن يستفيد من أونسيمس من أجل "خدمة" (دياكونيا) عباديّة، من أجل خدمة الانجيل. أما الخدم التي يمكن أن تقدّم لرجل مسجون، ولكنه مسؤول عن جماعات حيّة تحتاج إليه بألف شكل وشكل، فهي معروفة. نلاحظ هنا رهافة الرسول والتحوّل الجذريّ الذي قام به الانجيل: هو يريد أن يستفيد من أونسيمس لخدمة (دياكونيا) حرّة ونبيلة، لا لخدمة العبيد (دولايا). فلفظة "دياكونيا" التي تستعمل بشكل خاص في 2 كور تميّز العهد الجديد وتعبّر عن "شريعته" و"روحه" (2 كور 2: 6 ي). كما تدلّ على خدمة متبادلة بين أناس أحرار ومصالحين (2 كور 5: 18) وتعارض عبوديّة ملتصقة بتعلّق أعمى بالشريعة.
ويُذكر هذا التبادل في لفظة "عنك" (مكانك، هيبر سو): ففي خدمة الانجيل لا يتميّز السيّد عن العبد (غل 6: 6؛ 1 كور 9: 13- 14؛ 2 تس 3: 8- 9). وهكذا حين يعمل العبد من أجل الانجيل، فهو لا يقوم فقط بمهمّة تفرضها عليه حالته، بل "يخدم" سيّده حين يقوم بـ "واجب" لا يستطيع هذا السيّد أن يقوم به.
2- ولكن ما أردت أن أفعل (آ 14)
رغب بولس. ولكنه ما أراد أن يفعل شيئًا دون موافقة (غنومي) فيلمون. تعني "غنومي" "الرأي" (1 كور 7: 25؛ 40؛ 2 كور 8: 10)، و"القصد" (رؤ 17: 13- 17)، و"القرار" (أع 20: 3: 1 كور 1: 10). ولكن لها معنى قانونيًا محدّدًا: قبول حرّ لاتّفاق. من هنا عبارة: توافق إرادي.
إذن يتمنّى بولس بقرار حرّ، لا بالاكراه، أن يرى فيلمون يتخذ موقفًا ويعمل "من أجل الخير" (رج آ 6). لا من أجل الاحسان. "خيرك" هو الخير الذي ينطبق على وضع فيلمون الحاضر، والذي يصل إليه في تفكير عميق في "ما هو فينا في المسيح" (آ 6). وهذا الخير لا يعني فقط أونسيمس، بل فيلمون أيضًا: حين يفعل السيّد "خيرًا" من أجل عبده، فهو يعمل أيضًا من أجل خيره الخاصّ.
3- ابتعد عنك فاستقبله (آ 15)
لا يُدعى فيلمون فقط إلى أن لا يتّهم عبده لأنه فرّ، بل عليه أن يهنّئ نفسه بهذا الفرار. وهذا نداء فريد في أخبار ذاك العصر: فهذا الفرار هو مناسبة لأن يُمتحن فيلمون ويعيش واقعًا جديدًا كل الجدّة. لا ليس أونسيمس هو الذي ربح بالدرجة الأولى، بل فيلمون. وإن بولس لم "يحتفظ" بأونسيمس، بل أرسله لكي يستقبله فيلمون كما يليق.
إن وصول أونسيمس إلى سيّده، يقدّم لهذا السيّد إمكانيّة عيش خبرة جديدة. فقد يُعطى له أن يكتشف قوّة تمتحن الأخوّة وسط الاهانة. في أي حال، ليس هناك من نسبة بين الاثنين: كانت الاهانة عابرة (لبعض الوقت، لهنيهة، هوران). أما اللقاء والحياة فإلى الأبد (أيونيون). هذا لا يعني أن فيلمون سيجد عبده أمينًا إلى الأبد ومستعدًا أن لا يفرّ أبدًا. ولكن هذه العلاقات قد تأسّست منذ الآن في المسيح، بشكل لا يُنقض، وهي لا تتوقّف عند هذه الحياة، بل تصل إلى الأخرى.
وهذا النموّ وهذا الغنى الممكنان، سببهما الله. في الواقع، لم يفرّ أونسيمس كمجرم، بل "أبعد" في المجهول. هذا ما يسمّى المجهول الالهيّ. هو الله فعل. يد الله هي التي عملت في هذه الأحداث. "لهذا" أبعد "لكي". هذا ما يعبّر عن حركة سرّية وديناميكيّة وعميقة، حركة الانجيل بما فيه من مفارقة: فكما أن من الصلب بزغت الحياة وشعّت القيامة، وكما أنه فاضت النعمة حيث كثُرت الخطيئة (روم 5: 20)، من الاهانة التي أصابت فيلمون والضرر قد تُولد خبرةٌ جديدة وتخصب وتعيد ولادة أونسيمس وسيّده. يستعمل بولس لغة القانون والمحاسبة (أباخو، تسلّم، فل 4: 18). ولكنّه جعلهما على مستوى آخر، على مستوى النعمة والموهبة والتقبّل الحرّ والمجّانيّ.
4- لا كعبد، بل كأخ حبيب (آ 16)
لا يكون هذا الاستقبال لأونسيمس استقبال سيّد حصل له ضرر، استقبالاً يحتفظ به لعبد فار (يعاقبه). يتجاوز بولس مستوى العبد ليصل إلى مستوى الأخوّة والمحبّة. هو أخ (ادلفوس) وحبيب (اغابيتوس). استعملت لفظة "أخ" مرارًا لدى المسيحيّين الأوّلين ليدلّ الواحد على الآخر. وكذا نقول عن صفة "الحبيب" بسبب الحبّ الذي يوحّد بينهم (آ 1، 5، 7، 9). ولكن جمع اللفظتين هو استثنائي عند بولس (رج 1 كور 15: 58؛ فل 4: 1؛ 1 تس 1: 4) ويدلّ على تفضيل يجعل من استقبال فيلمون لأونسيمس جوهر الحياة المسيحيّة كما وُلدت من الانجيل.
وهذه الحياة التي يشدّد عليها بولس منذ بداية الرسالة، تتّخذ ثلاث سمات أساسيّة: هي خلق جديد ينطلق ممّا بدا وكأنه ينكره. هي تقيم الديناميّة والتبادل: إن فيلمون الذي يحبّه بولس (آ 1)، والذي ينعشه الحبّ (آ 5- 7)، لا يستطيع إلاّ أن يحبّ كما أحبّ (آ 16). أن يحبّ أونسيمس كما يحبّه بولس (آ 8). هذه الحياة لا تدمّر "الطبيعة" بل تحوّلها في العمق وتجعلها تتجلّى. وهي لا تعارض واقع وجود عبيد، بل روح العبوديّة بالذات. فالكلام هنا يدور مرّتين عن "العبد" لا عن الحرّ. يدور حول الحرّية والتحرّر. هما لا يُستبعدان. ولكنّهما لا يُفرضان من الخارج، بل نستشفّهما كثمار ممكنة بدأت تنضج وتأخذ على عاتقها واقع العبودية لكي تحوّله وتنقله إلى أبعد من ذاته، تنقله ممّا كان عليه إلى واقع جديد اسمه الأخوّة والمحبّة. وهكذا يبدو روح (ومنطق) العبوديّة وكأنه ألغي قبل أن تُمسَّ أشكالُه الخارجيّة.
هذا لا يعني أننا نفهم هذه العبارات في معنى روحانيّ، فنتوقّف فقط عند النيّة وسلامة القلب. ولكن ننطلق ممّا يعطينا الرب. ننطلق من الحياة والعلاقات التي نعيشها فيه، فتدخل الحياة الماديّة والبشريّة في تجسّد جديد، في خلق جديد.