الفصل الثاني: بنية الرسالة وتعليمها

الفصل الثاني
بنية الرسالة وتعليمها

تكوّنت رسالة يهوذا من فصل واحد يتألّف من 25 آية. فكانت مع رسالة بولس إلى فيلمون (25 آية) ورسالتي يوحنا الثانية (13 آية) والثالثة (15 آية)، أقصر أسفار العهد الجديد. تبدو وكأن يهوذا، أخا يعقوب، قد كتبها. ولكنها لا تقول لنا بشكل محدّد إلى من أرسلت. رسالة هجوميّة تندّد بخصوم يصفهم الكاتب بأقسى الصفات لكي يحذّر الجماعة منهم. وهي أيضاً رسالة يحثّ فيها يهوذا قرّاءه على الثبات في الايمان الذي سلّمه الرسل إليهم، لا التعليم الذي يحمله إليهم غنوصيون "نعموا" بوحي هو أقرب إلى رؤى خاصة وأحلام منه إلى التعليم الصحيح.
نتوقّف في هذا الفصل عند بنية الرسالة وتعليمها.

1- بنية رسالة يهوذا
تبدو رسالة يهوذا مرتّبة ترتيباً منطقياً. فعناصرها المختلفة تنمو لكي تبرز الفكرة الأساسيّة. لقد دوّن الكاتب رسالته لكي يطلب من قرّائه أن يظلّوا ثابتين في الايمان (والتعليم الايماني) الذي تقبّلوه مرّة واحدة وبصورة نهائيّة. وأن يقاوموا أولئك الذين يريدون أن يجتذبوهم إلى خارج هذا الايمان.
منذ العنوان والتحيّة (آ 1- 2)، تهيّأت الأفكار، حين ذكّرها الكاتب بدعوتها وبالمصير الذي ينتظرها (آ 21- 24). وتأتي التوضيحات حول ظرف الرسالة وهدفها: ضرورة الجهاد من أجل الإيمان الذي تسلّمناه (آ 3، 20- 23). العقاب المحفوظ للكافرين الذين يقاومون هذا الايمان (آ 4 أ، 5- 7، 11، 14- 15). شرّ هؤلاء الأشرار وفسادهم (آ 24- 25). كل هذا يدعو القرّاء لكي لا يخضعوا للكافرين، وهكذا ينالون السعادة الأخيرة. ويفهمهم أن عليهم أن يوجّهوا قلوبهم نحو الله. ابنوا أنفسكم. صلّوا في الروح القدس. احفظوا أنفسكم في محبّة الله. انتظروا رحمة ربنا.
وقبل أن يعيد الكاتب الطمأنينة إلى قلوب قرّائه رغم وجود الكافرين بينهم (آ 17- 19)، وقبل أن يدلّهم على السلوك الواجب اتّخاذه تجاه هذا الخطر (آ 20- 23)، أفهمهم أن العقاب الإلهي يصيب دوماً الخطأة (آ 5- 7)، وأن شرّ الأشرار الذين يتحدّث عنهم هو عظيم جداً (آ 8- 10)، وهو يشبه شرّ الضالّين في القديم (آ 11- 13، قايين، بلعام، قورح)، وأن الله قد أنبأ بعقاب ينتظرهم (آ 14- 16). وهكذا هيّأ يهوذا القارىء لسماع القسم الإيجابي من الرسالة (آ 20- 25).
نستشفّ المنطق في هذا التصميم حتى في العبارات المستعملة. ففكرة الخلاص المذكورة في البداية (آ 1: المحفوظين...)، سنجدها في شكل إيجابي مع سعادة نحصل عليها (آ 3، 21، 24)، وفي شكل سلبيّ مع عقاب نتجنّبه (آ 4 ب، 5- 7، 11، 14- 15، 23). والاشارة الواضحة في آ 4 ب إلى الكافرين، ستصبح ضمنيّة بواسطة استعمال "هوتوي" (هؤلاء، هؤلاء الناس) في آ 8، 10، 12، 16، 19، واستعمال "من جهة... من جهة أخرى" في آ 22- 23: من جهة، فالذين يتردّدون أقنعوهم... ومن جهة ثانية ارحموهم. ونجد تعارضاً بين "هؤلاء" (هوتوي آ 16- 19) و"أنتم" (هيميايس، آ 17- 20). وهكذا نحسّ أننا أمام نصّ قد صاغه الكاتب ولم يرتجله.

2- التعليم في رسالة يهوذا
هناك قسمان واضحان في يهو. قسم تحريضيّ يتوجّه فيه الكاتب إلى القرّاء بشكل مباشر (آ 1- 4، 20- 25). وقسم هجوميّ يئحدّث فيه عن الكافرين الذين يهدّدون الايمان التقليديّ (آ 4- 19).
أ- تحريض للقرّاء
في القسم الذي يحتفظ به الكاتب للقرّاء، هناك تعارض واضح بين قصر النصّ وغنى التعليم الذي يقدّمه. لسنا هنا أمام تعليم منهجيّ، بل إن ما يقوله الكاتب هو جزء من الحياة اليوميّة لدى قرّائه. هذا يعني العمق الذي وصلت إليه الفقاهة المسيحيّة لدى الجماعة. ما هي عناصر هذه الفقاهة؟
يؤمن يهوذا بوحدانيّة الله كما في التوراة (خر 20: 3؛ تث 4: 35) وبولس الرسول (1 كور 8: 4؛ روم 16: 27) والانجيل (يو 5: 44؛ مت 19: 17). قال: "الله الواحد، الله الأوحد" (آ 25). وهذا الاله هو أزلي. وصفاته أزليّة كالمجد والعزّة والسلطان التي هي "قبل جميع الأزمنة، والآن، وإلى جميع الدهور" (آ 25 ب). وبجانب الله الآب، مبدأ اللاهوت الوحيد (آ 1، 21)، هناك الربّ يسوع المسيح (آ 21) والروح القدس (آ 20). فهذه العبارة الثالوثيّة التي لا يتوسّع فيها يهوذا، تذكّرنا بما قاله بولس (2 كور 13: 13) ومتّى الإنجيلي (28: 19). هو لا يتطرّق إلى الأقانيم، إلى الأشخاص، على مستوى الطبيعة المجرّدة، بل على مستوى وظائفهم الملموسة فى عمل الخلاص. إذا كان المسيحيون قد دُعوا (آ 1) إلى الخلاص (آ 3)، إلى النعمة (آ 4 ب)، إلى الحياة الأبديّة (آ 12 ب؛ رج روم 8: 28؛ أف 1: 3 ي)، إلى المجد (آ 24)، فكل هذا يعود إلى الله الآب وإلى حبّه. فالله الآب هو "المخلّص" (آ 25 أ) الذي له المجد والسلطان (آ 25 ب)، والذي يطلب من البشر محبّتهم (آ 21) لقاء حبّه لهم.
ذُكر اسم يسوع خمس مرات (آ 1 ب، 4 ب، 17 ب، 21 ب، 25 ب، رج آ 5 ب). إنه "سيدنا الوحيد" و"ربنا" (آ 4- 17، 21، 25). فلقب "كيريوس" (الرب) يُعطى أيضاً لله الآب (آ 5، 9- 14)، وهذا يعني أن يسوع يشاركه في المجد والعظمة. أما لقب السيّد فيدل (رج 2 بط 2: 1) على نداء البشريّة إلى المسيح. ففي آ 25، يعلن يهوذا أن الله هو مخلّصنا بواسطة يسوع ربنا. ويسوع الفادي الممجّد يمارس دوره كديّان للكون، شأنه شأن الله الذي يعاقب الكافرين عقاباً لا رجوع عنه، ولكنه يرحم المسيحيّين على عتبة الحياة الأبديّة. وهكذا يعلن يهوذا عن طريقة التلميح الحقائق المسيحيّة الكبرى حول افتداء يسوع لنا وقيامته المجيدة (رج أع 2: 33- 36)، ورجوعه والدينونة العامّة (أع 1: 1؛ 3: 20- 21).
ويتحدّث يهوذا عن الروح القدس الذي يكفل ثباتنا في الايمان التتمليدي. فبدونه، تبقى صلواتنا بدون جدوى (آ 20)، ويبقى البشر أرضيين، حيوانيين، على مثال الكافرين (آ 19).
حين أعلن يهوذا أن الايمان سلّم إلينا بشكل نهائي (آ 3)، أفهمنا أنه يريد التكلّم عن التعليم الذي تقبّلناه، عن وديعة الايمان كما يقول بولس الرسول (1 تم 6: 20؛ 2 تم 1: 12)، عن قانون الإيمان الذي نتلوه في جماعاتنا. فعلى المسيحبّين أن يحفظوا هذا الإيمان كما تعلّموه، وكما عرضَه عليهم الرسل (آ 17). وعلى هذا الايمان يجب أن يبنوا حياتهم (آ 20). غير أن الخطر يتربّص بهم فيدفعهم إلى أن يتركوا هذا الايمان إن خضعوا لضغط المؤمنين الذين كفروا (آ 14- 16، 18- 19). فالجهاد للحفاظ على الايمان يفرض نفسه (آ 3). فلا يكفي أن نتذكّر (ونعيش على أمجادنا)، بل يجب أيضاً أن نصلّي بواسطة الروح، ونشهد لله بالمحبّة الواجبة علينا (آ 20- 21)، ونهرب من رفقة الكافرين المتعنّتين (آ 23). كما يجب أن لا نتكّل على قوانا الخاصة، ونتيقّن أن الله وحده يستطيع أن يحفظنا من السقوط (آ 24)، أن يبقينا بلا لوم إلى يوم نحضر أمام مجده.
ويجب على المسيحيّين الطيّبين أن يعرفوا أنهم ما زالوا معرّضين للضعف. لهذا، فهم يحتاجون إلى رحمة الله لكي ينالوا الحياة الأبدية (آ 21 ب؛ يع 3: 1- 2؛ 1 يو 1: 18. فرجاؤهم يتأسس على واقع يقول إن الله يحفظهم من أجل يسوع (آ 1 ب)، ويريد أن يخلّصهم بواسطة يسوع (آ 25).
ب- هجوم على الكافرين
في القسم الثاني من الرسالة الذي فيه يندّد الكاتب بالكافرين الذين يهدّدون الايمان التقليدي، لا نجد النصّ واضحاً كما في القسم الأول. فالعبارة ملتبسة. ونحن لا نعرف إن كان يوبّخ الكافرين بسبب ضلالهم في التعليم، أم أنه يتوقّف فقط عند حياتهم اللاأخلاقيّة وفجورهم. وإن كان هناك من ضلال، فيصعب علينا أن نصفه الوصف الوافي.
لا شكّ في أن الكاتب يوبّخ الخصوم على سلوكهم اللاأخلاقي. هو يتحدّث عن فجور الكافرين (آ 4؛ رج غل 5: 19؛ 2 كور 12: 21)، وهو فجور "ينجّس الجسد" (آ 8)، ويشبه خطيئة أهل سدوم (آ 7). ويشير النصّ أيضاً إلى روح التمرّد (آ 5، 11)، والمشاكسة الوقحة (آ 8، 15، 16)، إلى روح التشيّع لدى هؤلاء الناس الذين يبحثون عن مصالحهم (آ 11، 12 ب، 16) لا عن مصلحة الرب، وإلى روح الممالقة والمحاباة التي في النهاية تقسم الجماعة إلى طبقات (آ 16 ب). إن النص الموازي في 2 بط يبرز الفجور (آ 18- 22) والجشع (آ 14- 18). وستبرهن نصوص أخرى في العهد الجديد أن مثل هذا السلوك اللاأخلاقي قد عرفته الكنيسة الأولى عامة، والكنائس البولسيّة خاصة، وهي الآتية من العالم الوثني. فكم مرّة تدخّل بولس ليوبّخ هؤلاء المسيحيين الفاجرين، المتشيّعين، المتكبرّين، الوقحين، الذين يتصرّفون بأنانيّة في الجماعة (1 كور 11: 21 ي) أو في الحياة العاديّة (1 تس 4: 11؛ 2 تس 3: 6 ي). وتبيّن لنا رسالة يعقوب أيضاً روح التشيّع عند بعض المؤمنين (2: 1- 9) واستغلال الأغنياء للفقراء (5: 1- 6).
هل تتأسّس هذه اللاأخلاقية على ضلال في التعليم؟ قال يهوذا عن هؤلاء الكافرين إنهم "يحوّلون نعمة الله إلى عهارة" (آ 4 أ). هم يعتبرون نفوسهم "روحيين". يتعبرون أنهم وحدهم يمتلكون الروح (آ 19). يعتبرون أنهم نالوا وحباً خاصاً بهم، وكأنهم الكمّال تجاه المسيحيّين البسطاء (آ 8 أ). إنطلقوا من فكرة خاطئة عن الحريّة المسيحية ونعمة الفداء، فسمحوا لنفوسهم بالعيش في فوضى أخلاقيّة. ظنّوا أن لا شيء يستطيع أن ينجّسهم بعدما نالوا الخلاص بشكل نهائيّ، وحصلوا على النعمة، وتحرّروا من عبوديّة الشريعة. إنهم صورة مسبقة عن الغنوصيّين.
ويعلمنا يهوذا أن هؤلاء الكافرين "ينكرون" سيّدنا وربّنا يسوع المسيح (آ 4 ب). هل هو نكران نظري أم نكران عمليّ؟ والسؤال نفسه يُطرح مع آ 8 واحتقار السيادة، احتقار سيادة المسيح أو الله. هل نحن كما في كو 1: 15 ي؛ 2: 1 ي أمام موقف جعل شخص يسوع أدنى من الملائكة، من القوى السماويّة؟ أم كما في 1 يو 2: 22- 23 أمام رفض لمسيحانيّة يسوع الحقيقيّة كما قال قرنتيس؟ أم نحن أمام غنوصيّة ثنائيّة تقابل بين الله السامي فوق الدهور، مع إبراز رفض لكل شريعة؟
لا نستطيع أن نؤكّد أي شيء، لأن العبارات غير واضحة. ولكن إن أخذنا بعين الاعتبار سياق النصّ، يبدو أن هؤلاء الكافرين ينكرون الربّ أو يحتقرونه في حياتهم العمليّة. فالرسالة تقرّب بين الفجور وإنكار الربّ في آ 4، وبين نجاسة الجسد واحتقار الربّ في آ 8. والنصّ يشدّد كله على اللاأخلاقية. على رفض للخضوع لشريعة المسيح، رفض لسلطته واحتقار لفرائضه. فالمعلّمون الكذبة في كريت، هم أيضاً أنكروا الربّ في حياتهم العمليّة: "يعلنون أنهم يعرفون الله، ولكنهم ينكرونه بأعمالهم". ولكن لا نستطيع أن ننكر أن الكفّار في يهو يهاجمون الله بشكل نظريّ، فيتلفّظون ضدّه بالكلام القاسي (آ 15)، ويشتكون ويتذمّرون كما فعل الشعب العبراني في البرّية فناله العقاب. وبما أن الكاتب ذكر أخنوخ، فهذا يعني أن كلام هؤلاء الكافرين بدا بشكل تهجّم عل تدبير الله وعنايته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM