الفصل الثالث: المعلمون الكذبة

الفصل الثالث
المعلمون الكذبة
1- 7

رسالة كُتبت لتحريض المؤمنين. ولكنها في الواقع حرب على أناس اندسّوا في الجماعات محاولين أن يدمّروا النظام الخلقيّ والدينيّ فيها. هكذا تبدو يهو التي قد تكون عظة وُضع في بدايتها عنوان فجُعلت بين الرسائل الجامعة.
ثلاثة أقسام في هذه المقطوعة: العنوان والتحيّة (آ 1- 2)، مناسبة الرسالة وهدفها (آ 3- 4)، عقاب المعلّمين الكذبة (آ 5- 7).

1- العنوان والتحيّة (آ 1- 2)
عاد الكاتب إلى ما يفعله كتّاب الرسائل في أيامه، فقدّم نفسه، وذكر الأشخاص الذين أرسل إليهم رسالته، وحيّاهم: "لتكثر الرحمة والسلام والمحبّة".
أ- من يهوذا (آ 1)
هناك أولاً ملاحظات نصوصيّة. بدل "المدعوّين"، تقرأ بعض المخطوطات الجرّارة: "إلى الأمم المدعوّة". وبدل "المحبوبين في الله" (بردية 72 والسينائي والاسكندراني والفاتيكاني وعدد من المخطوطات الجرارة واللاتينية العتيقة والشعبية...)، قرأت بعض المخطوطات مثل موسكو القرن التاسع والرقم 24. من القرن السادس والرقم 49. من القرن التاسع، 56. من القرن العاشر، 142. من القرن العاشر وبعض المخطوطات الجرارة: "مقدّسين في الله". قد نكون هنا في خط 1 كور 1: 2. وقال هيلاريوس: "المختارين".
إن التحيّة التي تفتتح هذه الرسالة تتضمّن ثلاثة عناصر: المرسل، المرسل إليه (آ 1)، وتمنيات إلى المراسلين (آ 2).
أما المرسل فهو "يهوذا عبد (عابد، خادم) (دولوس) يسوع المسيح وأخو يعقوب". قد نجد عبارة "عبد المسيح" في معنى عام جداً لتدلّ على جميع تلاميذ المسيح (مت 10: 24- 25؛ يو 13: 16؛ 1 بط 2: 16)، على الذين حرّرهم المسيح من عبوديّة الخطيئة والموت (روم 6: 16 ي)، على الذين يخصّون بكليتهم يسوع (1 كور 7: 22- 23؛ غل 3: 28- 29). غير أنها تستعمل بشكل دقيق ومحدّد فتدلّ على ذلك الذي تسلّم مهمّة لخدمة الجماعة (روم 1: 1؛ فل 1: 1؛ غل 1: 10؛ كو 4: 12؛ تي 1: 1؛ 2 بط 1: 21. في رؤ 1: 1؛ 10: 7؛ 11: 18؛ 22: 6 يسمّى الانبياء "عبيد الله"). نحن هنا في خطّ العهد القديم مع "عبد يهوه" الذي هو لقب افتخار أعطي ليشوع (يش 24: 29؛ قض 2: 8) وابراهيم (مز 105: 42 حسب السبعينية).
بعد ذلك، قدّم يهوذا نفسه كـ "أخي يعقوب". عاد الكاتب إلى يعقوب الذي هو شخص مشهور في الجماعة الأولى، فأراد أن يَنعم بسلطة ذاك الذي سمّاه أخاه. ونلاحظ أيضاً أن الكاتب لا يستند إلى صفته كـ "أخ الربّ " (مر 6: 3؛ 1 كور 9: 5). قد نكون في خطّ التقليد الأول الذي يعتبر أن ليس ليسوع اخوة في المعنى الحصري للكلمة (من أمّه وأبيه). أو قد يكون الكاتب تجنّب قلّة حماس عائلة يسوع للربّ خلال حياته على الأرض (مر 3: 20- 21؛ 3: 31- 35).
بعد المرسل، نصل إلى المراسلين، إلى الذين أرسلت إليهم الرسالة، إلى القرّاء. يسمّون "كليتوي": المختارين، المدعوّين. أي: المؤمنين (روم 1: 6- 7؛ 8: 28؛ 1 كور 1: 21- 24). بهذا يضمّ الكاتب إلى هذه اللفظة التي صارت معروفة عبارتين: "المحبوبين في الله الآب". ثم: "المحفوظين ليسوع المسيح".
"محبوبين في (أو: من) الله الآب". نجد ذات العلاقة بين الاختيار والمحبّة في روم 1: 7؛ 8: 28؛ كو 3: 12؛ 1 تس 1: 4؛ 2 تس 2: 13. فالمحبة هي العلامة والسبب لاختيار الله للبشر. غير أن العبارة هنا تتضمّن صعوبة صغيرة. ما معنى: "محبوب في الله". قد نفهم حرف الجر "إن" (في) كما لو قابل العبرية "ب" (الذي يعني: في وحرف الجر ب). إن الجماعة المسيحيّة التي هي إسرائيل الحقيقيّ هي محبوبة من الله الآب (لو 11: 1- 4؛ روم 8: 15؛ غل 4: 6) على مثال الشعب الأول (تث 32: 15 حسب السبعينية؛ 33: 5 حسب السبعينية؛ أش 5: 1...).
وهكذا تتميّز الحياة المسيحيّة بالمحبّة التي هي موضوعها والتي إليها دُعيت. لله كل مبادرة. ومحبّته هي في الوقت عينه الأداة والهدف للنداء الذي يوجّهه إلى البشر. ولكن الحياة المسيحيّة هي أيضاً حياة أناس "محفوظين ليسوع المسيح". هم يخصّون يسوع، أو يُحفظون بيسوع، أو يُحفظون ليسوع. وهكذا نتذكّر البُعد الاسكاتولوجيّ للحياة المسيحية مع فعل "تيراين": حمى الآن وحفظ من أجل اليوم الأخير، يوم الدينونة (يو 17: 11، 15؛ 1 تس 5: 23؛ 2 تم 4: 7- 8؛ 1 بط 1: 4؛ 2 بط 2: 4- 9، 17؛ رؤ 3: 10).
"أن نُحفظ ليسوع المسيح" يعني أن نتلقّى الوعد بالحياة الأبدية الذي سيتمّ في يوم الربّ، وأن نُحفظ لله في محبّة الله بسبب يسوع المسيح (رج آ 21 مع المعنيين). وهكذا ذكرت الرسالة منذ البدء هذا الحفظ (أو: الحماية) الحاضر (الآن) والاسكاتولوجي (في نهاية الزمن) في وجه المخاطر التي تهدّد المؤمنين.
ب- لتكثر الرحمة (آ 2)
وتتضمّن التحيّة بحصر المعنى ثلاثة عناصر: الرحمة (الايوس)، السلام (ايريني)، المحبّة (أغابي). ونجد أيضاً هذه التحيّة في ثلاثة عناصر في 1 تم 1: 2 (نعمة ورحمة وسلام)، في 2 تم 1: 2 (نعمة ورحمة وسلام) و2 يو 3. ولكن التحيّة تكون عادة في عنصرين. رج روم 1: 7 (نعمة وسلام)؛ 1 كور 1: 3... لقد حاول الكاتب أن يرسم هنا صورة موجزة عن الحياة المسيحيّة كلها. تأسّست هذه الحياة على المغفرة أي على علاقة نستعيدها مع الله، في اتحاد مع الله (سلام)، وتجذّرت في المحبّة. فالمغفرة والسلام والمحبّة التي هي دوماً ضروريّة، يجب أن تنمو، تكثر، تتوافر للمسيحيّين. والله هو صاحب هذا النموّ وأصل هذه الخيرات الجوهريّة الثلاثة. نشير إلى أننا نجد ذات العبارة في بداية استشهاد بوليكربوس: "ليُعط لكم ملء رحمة الله الآب وربنا يسوع المسيح والسلام والمحبّة".

2- مناسبة الرسالة وهدفها (آ 3- 4)
بعد أن أنهى يهوذا العنوان والتحيّة (آ 1- 2) دلّ على الظروف التي كانت سبب تدوين الرسالة (آ 3- 4). أحسّ بنفسه مضطراً للكتابة ليعالج موضوعاً محدداً، لأنه تسلّم معلومات عن نشاط الكافرين الذين يبلبلون المؤمفين.
في آ 3 تقرأ بعض المخطوطات (ارارة، اللاتينية العتيقة، الشعبية...) في صيغة المخاطب الجمع (خلاصكم) بدل المتكلّم الجمع (خلاصنا) الذي نجده في أعظم المخطوطات وأكثرها. وجاءت مخطوطات أخرى فألغت المخاطب والمتكلم فقالت: الخلاص. نحن نختار صيغة المتكلّم لثلاثة أسباب. الأول: أهمية التقليد المخطوطي في هذا المجال. الثاني: التقابل بين الخلاص الذي يخصّ جميع المؤمنين والحرب الخاصة التي إليها يدعو الكاتب قرّاءه. الثالث: تماسك المعنى. هذا الخلاص هو مشترك بين الكاتب والقرّاء.
أ- أيها الأحباء (آ 3)
نقرأ "أغبيتوي". رج آ 1- 2. يسمّي المراسلين "محبوبين" (ضمنياً: من الله. أي الله يحبّهم). وحبّ الله هذا الذي يشارك فيه كل المؤمنين في الجماعة، يخلق في الوقت عينه حبّ المؤمنين بعضهم لبعض. نجد هنا المصدر في صيغة الحاضر (غرافاين) وفي صيغة الماضي (غربساي)، وهكذا يظهر التعارض بين اهتمامه بالكتابة عن الخلاص (مهمة متواصلة وذات نفس طويل) وبين عمل محدّد (حين دوّن الوسالة). فهذه الرسالة قد دوّنت حين أجبر الكاتب على أن يقدّم تحريضاً محدّداً. وهكذا تكون الجملة المبنيّة باسم الفاعل بشكل تعارض: إذ كنت أرغب. كنت أرغب بشدة (2 بط 1: 5؛ سي المقدّمة آ 22).
"بشأن خلاصنا العام". هذا ما يدلّ على عمل الله في يسوع المسيح بواسطة لفظة "سوتيريا". رج روم 1: 16؛ 10: 1؛ 11: 11؛ 13: 11؛ 2 كور 6: 2؛ 7: 10؛ أع 4: 12؛ 13: 26. والخلاص ليس فقط بأن نخرج "معافين" (بلا جراح) من الدينونة الاسكاتولوجيّة، بل ميزة الوضع الحاضر الذي يعرفه المؤمنون، بل حياة يشاركون فيها الآن كلهم إن ارتبطوا بالايمان. في آ 23، يستعمل الكاتب الصور الجليانيّة (كما في سفر الرؤيا) عن الخلاص الاسكاتولوجيّ (انتزعهم من النار)، ولكنه توخّى أن يدعو قرّاءه إلى أن يعملوا الآن في وضع متأزّم ليخلّصوا أولئك الذين يتردّدون بين البدعة والايمان الرسولّي. الخلاص هو أن ننتزع الضعفاء من تسلّط الكافرين (آ 18) وندخلهم من جديد في شركة الكنيسة المؤمنة والأمينة. إذن الخلاص هو ما ينتج منذ الآن من تعلّقنا بالايمان الرسوليّ.
وهذا الخلاص يشارك فيه الجميع. إذن، يجب أن نميّز الخلاص المسيحيّ المقدَّم لجميع البشر من الخلاص الذي تحتفظ به الديانات السرانيّة لبعض المتدرّجين.
"رأيتني مضطراً أن أكتب إليكم". هناك حدث اضطرَّ الكاتب. وسيقوله في الآية التالية. وتوقّف الكاتب عند نقطة محدّدة. هو لا يتوخّى أن يتكلّم بشكل عام عن خلاص الجميع، بل أن يحرّض (باراكالاين) المؤمنين على الحرب من أجل الإيمان.
"إباغونيزستاي": قاتل، جاهد. فعل لا يرد إلاّ مرّة واحدة في العهد الجديد الذي يعرف "اغونيزستاي" (بدون الاداة "ابي") في معنى أخلاقيّ (لو 13: 24) أو حربيّ (يو 18: 36)، أو رياضيّ (1 كور 9: 25). إن بولس يذكر "الجهاد" المسيحيّ بواسطة صور رياضيّة (1 كور 9: 24- 27؛ فل 3: 12- 14). كما يستعمل الصور الحربيّة في روم 13: 12؛ 1 تس 5: 8؛ أف 6: 10- 17. وسوف يتكلّم في الرسائل الرعائية عن "جهاد الايمان" (1 تم 6: 12؛ 2 تم 4: 7). وتتقوّى صورة الجنديّ المسيحيّ بصورة المصارع في 2 تم 2: 3- 5. أما هنا في يهو، فالمؤمن لا يحارب ضدّ آخر، بل من أجل آخر هو يسوع المسيح. هو يجاهد "في سبيل الإيمان الذي سُلّم دفعة واحدة للقديسين".
ما هو معنى لفظة "الايمان" هنا؟ هناك معنى موضوعيّ كما في العهد الجديد عامّة وعند القديس بولس خاصّة. ليس الايمان في نظر بولس فقط عملاً شخصياً أو جماعياً يدلّ على ثقة تامة بكلام الله، في القيمة الفريدة لعمل المسيح الخلاصيّ. بل هو أيضاً وفي معنى أكثر موضوعيّة كلمة وحياة يتقاسمها جميع المسيحيين الأمناء للربّ. نقرأ في غل 1: 23 أننا نستطيع أن ندمّر الايمان أي أن نضطهد المسيحيين. وفي 3: 23 أن الايمان هو ميزة زمن خاص، بين إلغاء حكم الشريعة والمجيء. وفي روم 10: 8 هناك كلمة إيمان نعلنها. وفي 3: 27، شريعة إيمان. وفي 12: 6، قاعدة إيمان. ونقرأ في أف 4: 5: "رب واحد، إيمان واحد، معموديّة واحدة". وفي تي 1: 4: "إيمان مشترك" (خلاص مشترك في يهو). في 1 تم 3: 9: "سر الايمان". في 1: 19؛ 4: 1؛ 6: 21، نستطيع أن نترك الايمان أو نجاهد من أجل الايمان.
هذا هو المعنى الذي نجده في يهو 3، كما في آ 20. الإيمان هو مجموعة الحقائق التي تكوّن أساس ومضمون العقيدة المسيحيّة وحياة الكنيسة. فإن كان هذا التعلّق التزاماً شخصياً، إلاّ أن موضوعه ليس فقط المسيح الحيّ الذي نؤسّس حياتنا على كلمته، بل الطريقة التي بها تشهد الكنيسة لهذا الايمان وتحيا منه. فبين المسيح والمؤمن، نجد في شكل من الأشكار "الايمان" الذي نفهمه كواقع موضوفي "ينتقل دفعة واحدة للقديسين". هذا ما يشدّد على الوجهة الجماعيّة والكنسيّة. آمن يعني شارك في الايمان المشترك، الإيمان الذي يحدّد الكنيسة في أمانتها لأصولها.
لهذا يستطيع الكاتب أن يتكلّم عن إيمان "ينتقل بشكل نهائي" (دفعة واحدة)، إن للفظة "هاباكس" معنى لاهوتياً محدّداً: مرّة واحدة ولا تُعاد. كما في عب 9: 26 ي؛ 1 بط 3: 18؛ ونجد "إفاباكس" في روم 6: 10؛ عب 9؛ 12؛ 10: 10. هذا ما يدلّ على القيمة الفريدة والكافية كل الكفاية لعمل يسوع. و"القديسون"، أي الكنيسة، قد نالوا الايمان مرة واحدة ولا رجعة، لأن موضوع الايمان هو عمل المسيح النهائيّ والكامل. إذن، لا نستطيع أن نزيد عليه شيئاً، ولا أن نبدّل فيه شيئاً. وهكذا ذكّرنا الكاتب بالمبدأ اللاهوتيّ الأساسيّ، مبدأ ارتباط الكنيسة بالايمان الأول، دون أن يعالج مسألة تفسير هذا "الايمان".
وهناك فعل "باراديدوناي" (سلّم). رج 1 كور 11: 2، 23؛ 15: 1- 3؛ 2 تس 3: 6؛ 2 بط 2: 21. فالايمان الذي نتسلّمه يأتي من الربّ (1 كور 11: 23) بواسطة الرسل (يهو 17).
ب- لأنه قد اندسّ أناس (آ 4)
وتأتي الاداة "غار" لأن، فتفسّر ما فرض على الكاتب أن يبدّل مشاريعه الأولى. قد اندسّ أناس في الجماعة، فحمل عملُهم وتعليمُهم الخطر للمؤمنين. إندسّ بعض الناس. عبارة زريّة. "بعض" (تينس). رج 2 كور 10: 12؛ غل 1: 7؛ 2: 12. لا تحسبوا لهم حساباً (ما بيحرزوا). زاحهم الكاتب من الجماعة المسيحيّة. ليسوا بإخوة، ليسوا من جماعة "القديسين" (آ 3). ومع ذلك فهم ناشطون في قلب الجماعة كما يقول يهوذا نفسه (آ 12). نظن أنهم أعلنوا أنهم مسيحيّون. ولكن من أين جاء هؤلاء الناس الذين اندسّوا في الكنيسة؟ قد يكونون وعّاظاً متجوّلين يشبهون أولئك الذين واجههم بولس (2 كور 10: 12 ي؛ غل 2: 4- 5)، وتحدّث عنهم أغناطيوس الانطاكي في الرسالة إلى أفسس (7: 1؛ 9: 1؛ رج 1 يو 2: 19). ويحدّد يهوذا وجه هؤلاء الناس بسمتين اثنتين. أولاً: هم مجرمون عُرفوا منذ زمن بعيد وكُشفوا. ثانياً: هم منافقون يحوّلون نعمة الله إلى عهارة..
نجد هنا عبارة يصعب علينا تفسيرها: "كُتب عليهم القضاء من قديم". هناك ثلاثة تفاسير ممكنة.
* الأول: القضاء أو الحكم (كريما) ضد هؤلاء الناس قد كُتب منذ البدء في الأسفار السماويّة حيث يدوّن الله مصير كل واحد (أش 65: 6؛ مز 56: 9؛ 69: 29؛ 139: 16؛ دا 7: 10؛ 12: 1؛ رؤ 3: 5؛ 20: 12؛ أخنوخ 89: 62 ي؛ 108: 7؛ وصيّات الآباء الاثني عشر، أشير 7: 5؛ رؤيا باروك 24: 1). هكذا فهم اكلمنضوس الاسكندراني هذا النصّ. في معنى خلاص مهيّأ سلفاً. ولكن هذا التفسير اعتبر أن "بالاي" تعني منذ البدء. نجيب: ليس ذاك معناها في العهد الجديد. فإن "بالاي" تدلّ دوماً على الزمن التاريخيّ (الماضي)، لا على الأبديّة التي هي خارج الزمن. ما يسند هذا التفسير هو قربى يهوذا من الأدب الجلياني المكتوم (المنحول) حيث نجد موضوع الكتاب السماويّ.
** الثاني: قد أعلن الكتاب المقدس الحكم ضد الكافرين منذ زمن بعيد. والكتاب المقدس هو التوراة وسائر الكتب التي يؤمن يهوذا بسلطانها. وإذ عاش هؤلاء الناس كما يعيشون، دلّوا على أنهم كافرون. ولكن الكافرين قد حكمت عليهم الأسفار المقدسة منذ زمن بعيد. هذا هو معنى الاستشهادات المأخوذة من العهد القديم (يهو 5- 9). إذن، ليس مصير هؤلاء الناس هو الذي ترتّب مسبقاً، منذ البداية، بواسطة الله، بل بالحريّ مصير الذين يتصرّفون كالكافرين والمجدّفين.
*** الثالث: نلاحظ أن ألفاظ هذه الجملة مأخوذة من العالم القانونيّ. "بروغرافاين". يحمل معنى جزائياً محدّداً. يدل على اتهام عام يوجَّه إلى المجرمين. أما "كريما" فيعني الجنحة والجريمة والحكم. عند ذاك يصبح معنى الجملة: أشخاص اتهموا منذ زمان طويل بهذه الجنحة. أو: طُردوا بسبب هذه الجريمة. في هذه الحال، يشدّد النصّ على الطابع العلنيّ المشهور لجريمة كفر اقترفها هؤلاء الناس. هذه الجريمة تقوم في أنهم "منافقون" (اسابايس).
نظنّ أن الفهم الصحيح للنصّ يكمن في دمج التفسيرين الثاني والثالث. فالذي يتّهم هؤلاء المسيحيين الكاذبين بالكفر، هو الكتاب المقدس الذي يعلن مسبقاً المصير الذي ينتظرهم.
ويقال أيضاً عن هؤلاء الأشخاص إنهم "منافقون" (اسابايس). فالكفر يدلّ على خصوم الايمان (2 تم 2: 16؛ تي 2: 12؛ 2 بط 2: 5؛ 3: 7). نجد في يهو 15 الصفة والفعل وفي آ 15 و18 الموصوف. أما هنا فتحدّد المفردة بطريقتين. الأولى: الكافر هو من يحوّل نعمة إلهنا إلى عهارة. والثانية: الكافر هو من ينكر سيدنا وربنا يسوع المسيح.
* الطريقة الأولى: منذ البداية، مزج المسيحيّون بين التحرّر من الخطيئة والسماح بعمل كل الأعمال. وقد قاتل بولس ضدّ سوء التفاهم هذا (روم 6: 1- 6؛ 1 كور 6: 12- 20؛ غل 5: 13؛ رج 1 بط 2: 16). وقد حاربت 2 بط 2: 16 هؤلاء "الروحيين" الذين نادوا بالحرية ومزجوها بالانفلات الخلقيّ. وأشار يهوذا إلى مسيحيّين اعتبروا نفوسهم روحيّين (آ 19)، فتذرّعوا بهذا الوضع لكي يعيشوا في العهارة والزنى. وتقوم خطيئتهم بأن يحوّلوا الخلاص الذي يربطنا بالله إلى خلاص (وتخلّص) يسمح لنا بأن نعمل ما نشاء.
** الطريقة الثانية: هنا يطرح سؤال صعب في نهاية آ 4. هل نفهم "دسبوتس" (سيّد) مثل "كيريوس" (ربّ) ونعتبر أنهما صفتان ليسوع؟ أو هل ندخل بشكل ضمنيّ لفظة "تيوس" (الله) (وكأنها اختلافة نصوصيّة نجدها في السريانيّة، في مخطوط 24. الذي يعود إلى القرن السادس، وفي مخطوط 44. الذي يعود إلى القرن الثامن أو التاسع ويأتي من جيل أتوس في اليونان) بعد "دسبوتس" فنفصل هكذا السيّد (الله) عن الربّ يسوع المسيح؟
بالنسبة إلى الفرضيّة الأولى نقول إن لا وجود لأل التعريف أمام "كيريوس)، وهذا ما يدل على أن أل التعريف أمام "دسبوتس" تحكم أيضاً (كيريوس). رج 2 بط 2: 1 حيث يدل "دسبوتس" على المسيح.
وبالنسبة إلى الفرضيّة الثانية، نلاحظ أن لفظة دسبوتس في العهد الجديد (ما عدا 2 بط 2: 1) تُحفظ دوماً لله في معناها الدينيّ (لو 2: 29؛ أع 4: 24؛ 2 تم 2: 21؛ رؤ 6: 10). ثم إن الصفة "مونوس" (الوحيد) تدلّ هي أيضاً على الله، على الاله "الواحد" الحقيقيّ تجاه الآلهة الكاذبة في العالم الوثنيّ. رج مت 4: 10 وز؛ لو 5: 21؛ يو 5: 44؛ 17: 3؛ روم 16: 27؛ 1 تم 1: 17؛ 6: 16؛ رؤ 15: 4. ونظنّ أيضاً أنه كان من الأهميّة بمكان تجاه خصوم ينكرون متطلّبات الواقع لأنهم يعتبرون نفوسهم "روحيّين"، أن تُذكر وحدة عمل خلاص المسيح وعمل الله الخالق وسيّد كل شيء.
أي الفرضيّتين نختار؟ لا بأس بالفرضيّة الأولى. ولكن الثانية تبدو معقولة بدرجة أعلى. لأن يهو تميّز دوماً بين الله ويسوع المسيح (آ 1، 21، 25). أما "مونوس" فتدلّ على الله. وهكذا تصبح الترجمة. "ينكرون السيّد الوحيد (أي الله) وربنا يسوع المسيح.
وهكذا ينكر هؤلاء الناس الله ويسوع المسيح بأعمالهم التي تدلّ بشكل ملموس على إنكار لإيمان نُقل إليهم مرة واحدة وبشكل نهائي، على تخلٍّ روحيّ ولاهوتيّ عن هذا الايمان.

3- عقاب المعلّمين الكذبة (آ 5- 7)
وقدّم الكاتب ثلاثة أمثلة مشهورة تدلّ على أن الله سيعاقب الكافرين. كيف يبدو هذا التحريض؟ بعد أن قرأنا ما قاله الكاتب حول ظروف الرسالة وهدفها، وحول الضلال الذي يجب محاربته، انتظرنا أن يقول لنا بشكل إيجابيّ كيف نحارب لكي نحافظ على هذا الايمان المهدّد. ولكن قبل أن يصل إلى هذه الخطورة (آ 20- 23)، بدأ يفهمنا بالأمثلة، أن الكافرين الذين لا يتوبون، لا يفلتون من عقاب الله (آ 5- 7). ثم شدّد على الفساد الذي يقودهم إلى هذه العقوبات (آ 8- 13). وانتهى بنبوءة تؤكّد على هذه العقوبات (آ 14- 16). ولكن الكاتب اتخذ طريقة أصيلة: بدأ فأعلن الشقاء للذين يتخلّون عن التعليم الذي سلّمه الرسل، لكي يدعو القرّاء إلى الأمانة والعمل بموجب إيمانهم.
لا شكّ في أن الكافرين الذين أفسدوا الايمان الذي سلّم للقديسين (آ 3- 4) سيكونون في يوم من الأيام موضوع عقاب الله، على مثال ما حدث في الماضي لخطأة رفضوا التوبة فنالوا أقسى عقاب (آ 5- 7). ستنطلق 2 بط 3 ب- 4 من هذا القول وتتوسّع فيه. أما يهوذا فعاد إلى ثلاثة أمثلة قديمة: هلاك العبرانيين الذين لم يؤمنوا في برّية سيناء (آ 5). سجن الملائكة الساقطين (61). زوال سدوم وعمورة (آ 7).
أ- هلاك العبرانيين (آ 5)
أولاً: التقليد النصوصي
ونبدأ بالتقليد النصوصي الذي هو متشعّب جداً في آ 5 ب. قال الاسكندراني والفاتيكاني: يعرفون كل هذا جيداً أن يسوع. وقال افرام: أن الرب. وقال اكلمنضوس الاسكندراني: أن الله. وقالت البردية 72: أن الله المسيح. وقال مخطوط موسكو (القرن التاسع): يعرفون هذا جيداً (حذفت لفظة كل). وقالت اللاتينية العتيقة والقبطية: أن يسوع وحده. والسينائي وجبل أتوس: أن الربّ وحده. واللاتينية العتيقة والأرمنيّة: أن الله وحده. وهذا ما يطرح ثلاثة أسئلة. الأول: هل نجعل "هاباكس" (مرة واحدة، بشكل نهائي) قبل أو بعد "أن يسوع"؟ الثاني: هل نقرأ "هاباكس بنتا" أو "هاباكس توتو"؟ والسؤال الثالث: هل نقرأ: يسوع، أو الربّ أو الله (المسيح)؟ وها نحن نستعيد هذه الأسئلة الثلاثة.
* الأول: ما الذي يريد أن يشدّد عليه الكاتب؟ هل يريد أن يقول إن المؤمنين يعرفون كل شيء بشكل نهائيّ، أو هل يريد أن يبرز التعارض بين الخلاص الذي تمّ مرة أولى (أو: في الماضي) والحكم الذي يأتي مرّة ثانية؟ نختار الفرضيّة الأولى لسببين. الأول: إن "هاباكس" لا تعني "المرة الأولى"، تجاه "المرة الثاني". الثاني: إن "هاباكس" في آ 5 تعيدنا إلى آ 3: فالايمان الذي تقبّلناه مرة يقابله التعليم الذي لا يمكن أن يتبدّل هو أيضاً.
** الثاني: ان "بنتا" تحمل صعوبة. أما "توتو" فهي أكثر رشاقة وتبدأ الجملة الخاضعة للجملة الرئيسية بشكل أوضح. ولكن قد يكون هناك تصحيح قام به أحد النسّاخ. ثم إن الجملة تصبح أقوى مع "بنتا": المؤمنون يعرفون (ما هو ضروريّ لهم). وهكذا نعتبر "تعرفون كل شيء بشكل نهائي" كمعترضة تصف "هيماس" (أنتم). أما "هوتي" (أن) فترتبط بفعل "أذكركم". وهكذا تصبح الجملة: "فأريد أن أذكركم، مع أنكم تعرفون كل شيء بشكل نهائي، أن الربّ...".
*** الثالث: نترك جانباً "تيوس" (الربّ) أو "تيوس خرستوس" (الربّ يسوع) لأن الشواهد ضعيفة. أما اللفظة "يسوع" فقد تكون مفيدة. لأنها تلعب على التقارب بين يشوع ويسوع. وتتيح لنا تفسيراً نمطياً (تيبولوجياً). هو يشوع/ يسوع الذي خلّص شعب إسرائيل من أرض مصر. نجد هذا التفسير عند يوستينوس في الحوارات 120. وعند اكلمنضوس الاسكندراني في المربيّ 1/ 7: 60. وعند أوريجانس في عظات على الخروج 11: 3، وفي كتاب يشوع بن نون. رج أيضاً يو 12: 41؛ 1 كور 10: 4، 9 (هناك اختلافة)؛ 1 بط 1: 11؛ عب 11: 26. هذه الفرضيّة توافق النظرة التيبولوجيّة التي تلهم يهو 5- 16: الماضي يعلن الحاضر الذي تتضمّنه الأحداث السابقة. ولكن ما يعارض هذا الموقف هو أنه ليس يشوع هو الذي خلّص شعب مصر، ولا هو الذي عاقب الكافرين. كل ما فعله، هو أنه حصل مع كالب على نعمة الدخول إلى أرض الموعد ساعة هلك كل العبرانيين بمن فيهم موسى ولم يروا أرض الميعاد. ثم إنه من الصعب أن يجعل الكاتب من عقاب الملائكة المتمردين عملاً من أعمال المسيح.
وهكذا نأخذ "كيريوس" (الربّ). فالله يسمّى الرب في آ 9، 14. وهكذا تصبح العبارة: "كل هذا بشكل نهائي، أن الربّ".
ثانياً: تفسير الآية
إذ أراد الكاتب أن يقدّم الأمثلة الثلاثة المأخوذة من العهد القديم، شدّد على أهميّة "التذكّر" (هيبومنيساي) بالنسبة إلى الجماعة المسيحيّة. وسنجد هذا الفعل في آ 17. والتذكر هو مهمّة تخصّ أولاً أولئك الذين كلّفوا بالخدمة في الكنبسة (2 تم 2: 14؛ تي 3: 10؛ 2 بط 1: 12- 13) وهو يقوم بأن يؤوّنوا من أجل المؤمنين في وضعهم الحاضر معنى ما تمّ بشكل نهائي أو قيل (لو 24: 6؛ يو 2: 17؛ 12: 16). في هذا المنظار لم يعد الماضي ماضياً، بل هو مستودع من المعاني للذين يتذكّرون. الماضي هو حاضر حين يعطي معنى أخلاقياً، فيحذّر من الأخطار التي تهدّد الجماعة. وهو يعطينا مفتاحاً لنفهم الحاضر. فالتفسير النمطيّ (تيبولوجي) يفترض أن الحاضر يتضمّن الماضي في حرفه بشكل نمط ونموذج ومثال.
قد نكون أمام مفارقة حين نرى الكاتب يذكر هذه الأشياء لأناس يعرفون كل شيء بشكل نهائيّ. في الواقع، لقد أراد الكاتب أن يربط الإيمان الحاضر الذي سلّم إلى القديسين بنمطيّة ماضية تكشف كل معناه.
بعذ ذلك، تطرّق الكاتب إلى المثل الأول: إن الربّ الذي خلّص شعبه (خر 12: 51) لم يتردّد في معاقبة الكافرين. غير أن النصّ يحمل صعوبة: ما هو معنى "تو دوتارون"، وبمَ نربط هذه العبارة؟ هل نربطها بـ "خلّص". عند ذلك نترجم: الرب بعد أن خلّص شعبه من مصر مرة ثانية (تو دوتارون) أهلك...". ولكن ما معنى هذا الخلاص الثاني؟ قد نستطيع أن نفهم أن الخروج من مصر هو التجلّي الثاني لخلاص الله تجاه شعبه، بحيث يكون الأول حدثاً سابقاً (مثلاً، الطوفان مع خلاص نوح، أو الضربات التي أصابت شعب فرعون). أو نفهم الخلاص الثاني من مصر بشكل رمزيّ كصورة عن خروج المسيحيّين من أورشليم ساعة الحرب اليهوديّة سنة 70 ب. م. في هذه الحالة يكون "الكافرون" الذين أهلكهم الربّ هم اليهود.
ونستطيع أن نربط "تو دوتارون" مع فعل "أهلك". عند ذاك نترجم: "الربّ الذي خلّص شعبه من مصر، أهلك بعد ذلك أولئك الذين لم يؤمنوا" ظلّوا كافرين. هذه الفرضيّة هي التي أخذ بها معظم الشرّاح لأخها تربط هذا النصّ بأحداث يوردها عد 14: 11- 25. غير أن "تو دوتارون" لا تعني "بعد ذلك" بل "المرة الثانية". فلا تصبح الفرضيّة ممكنة إلاّ إذا افترضنا "بروتون" أمام "خلّص" فيصبح النصّ: "عمل مرة أولى حين خلّص شعبه، ومرّة ثانية حين دمّر الكافرين".
وأخيراً نستطيع أن نربط "تو دوتارون" بـ "الذين لم يؤمنوا". حينئذٍ نترجم: "بعد أن خلّص الربّ شعبه من مصر، أهلك الذين كفروا مرّة ثانية". وهذه الحالة يفترض الكاتب كفراً أول (مثلاً، خر 4: 1؛ 5: 21؛ 6: 9) استمرّ فيه الشعب رغم عمل الخلاص الذي قام به الله حين أخرجهم من مصر. هذا الشرح يقرّب النص الذي ندرس من الفكرة التي تدافع عنها عب 6: 4- 6؛ 10: 26- 27 حول تنظيم التوبة في الكنيسة: لا مغفرة ثانية للذين وقعوا مرّة ثانية في الخطيئة بعد أن عرفوا الحقّ.
يبدو أنه يجب أن نأخذ بالفرضيّة الثانية من أجل تماسك المعنى. فهي تبرز نيّة الكاتب الذي أراد أن يبيّن أنه حتى الله المخلّص لا يترك الكفر بدون عقاب. وإن كانت مسافة بين عمل الخلاص وعمل الدينونة، فلا يجب أن تكون الدينونة وهماً وسراباً.
ب- سجن الملائكة الساقطين (آ 6)
ويشير المثل الثاني إلى مصير الملائكة الساقطين. وهدف المثل واضح: وهو يبيّن أن الله لا يعفو حتى عن الملائكة إن هم سلكوا سلوكاً رديئاً، إن هم رفضوا أمر الله. استعمل الكاتب التقاليد اليهوديّة حول سقوط الملائكة فشدّد لا على خطيئتهم بل على العقاب الذي نالوه. ولعب الكاتب على فعل "تيراين" (رج آ 1، 6، 13، 21) فقال: لم "يحفظوا منصبهم" فحُفظوا في الظلمة بيد الله من أجل الدينونة.
"أرخي" هي الوظيفة والمجال الذي فيه يمارس سلطان. في هذا المعنى تكلّم العهد الجديد عن "السلطات" ليدلّ على القوات الملائكية التي تشرف على مصائر البشر (روم 8: 38؛ كو 2: 15؛ 1 كور 15: 24؛ تث 32: 8 حسب السبعينية). هذه القوى هي ملتبسة: خلقها الله (كو 1: 16) فكانت معادية للانسان (أف 6: 12).
لم يحفظ الملائكة وظيفتهم، لم يقوموا بمهمّتهم. لماذا؟ هذا ما يذكره يهوذا بشكل غير مباشر: تركوا مسكنهم الخاص، أي سماء الله (2 كور 5: 2) لكي يتنجّسوا مع النساء كما يقول أخنوخ (12: 3). إلى هذه الحادثة المنطلقة من تك 6: 1- 4 (زواج الملائكة مع البشر) يلمّح يهوذا.
وجاء العقاب عقابين. هناك عقاب موقت: سجن الله الملائكة الخاطيّين في الظلمة بانتظار "اليوم العظيم" (صف 1: 7، 14- 18؛ 2: 3؛ عو 15؛ يوء 1: 15؛ 2: 11؛ ملا 3: 23؛ رؤ 6: 17؛ 16: 4)، أي يوم الدينونة. قيّد الملائكة بـ "قيود أبديّة". نأخذ لفظة "أبديّ" في معنى نسبيّ: مدة طويلة تمتدّ طول الزمان. والعقاب الثاني هو أن الملائكة يُحلّون في يوم الدينونة لكي يُدانوا ويُحكم عليهم بشكل نهائيّ. لا يقول لنا يهوذا شيئاً عن هذا الحكم الذي يفترضه. بل هو يشارك سفر أخنوخ في أفكاره (10: 4- 6): "قال الربّ أيضاً لرفائيل: قيّد عزازيل بيديه ورجليه وارمه والظلمة... وليبقَ هناك إلى الأبد. وليرمَ في النار في اليوم العظيم، يوم الدينونة".
إذن، الله عادل، وهو يعاقب الذين يرفضون أمره، حتى لو كانوا كائنات سماويّة. استعمل يهوذا هذا المثل فلمّح إلى الفوضى الجنسيّة التي تجعل هذه الكائنات قريبة من المعلّمين الكذبة "الذين يحوّلون نعمة إلهنا إلى عهارة" (آ 4). قد نرى هنا أيضاً تلميحاً إلى ثورة المعلّمين الكذبة على المسؤولين في الجماعة كما في رسالة اكلمنضوس الأولى (47: 5- 6). وسيأتي المثل الثالث فيذكر بشكل مباشر هذا الاتهام.
ج- زوال سدوم وعمورة (آ 7)
ويرتبط المثل الثالث بالمثل الثاني بواسطة "هوس" (كما): إذن، هناك علاقة بين خطيئة الملائكة (وصية نفتالي 3: 4- 5) وخطيئة سدوم وعمورة والمدن المحيطة (رج تث 29: 23؛ هو 11: 8: تُذكر ادومه وصبوئيم).
"وعلى مثال هؤلاء". من يعني "هؤلاء"؟ هناك ثلاثة أجوبة.
الأول: سدوم وعمورة. حينئذٍ نفهم: المدن المحيطة التي زنت مثل سدوم وعمورة. ولكن سدوم وعمورة هما في صيغة المؤنّث. فلماذا لم يكن اسم الاشارة في صيغة المؤنث؟
الثاني: المعلّمون الكذبة. حينئذ نقرأ: سدوم وعمورة والمدن المحيطة زنت كما زنا هؤلاء الناس (الذين نتكلّم عنهم). هذه الفرضيّة صحيحة من الناحية الغراماطيقيّة. ولكن يصعب علينا أن نفهم لماذا يكرّر الكاتب هذا التوبيخ في آ 8.
الثالث: إن "هؤلاء" تعود إلى الملائكة الذين تحدّث عنهم في آ 6، وهذا هو المنطق. فهناك رباط وثيق بين المثلين (مع "هوس"): فالملائكة، شأنهم شأن أهل سدوم، اقترفوا ذات الخطيئة. تركوا حدودهم ووظيفتهم واستسلموا للزنى. لقد أغوى الملائكة بنات البشر (تك 6: 1- 4)، وحاول أهل سدوم أن يتعاملوا بالزنى مع كائنات سماويّة (تك 19: 4- 25). هذا ما تشدد عليه العبارة: "ذهبت وراء جسد غريب". وهكذا نفهم الخطيئة المزدوجة التي اتُّهم بها الملائكة وسكان سدوم الملعونة: ظنّوا من جهة أنهم يستطيعون أن يحطّموا النظام الذي أراده الله، أن يتجاوزوا الحدود التي تفصل عالم السماء عن عالم الأرض. ومن جهة ثانية أن يعملوا من أجل الفوضى الجنسيّة. وهكذا أشار الكاتب بوضوح إلى المعلّمين الكذبة.
وزاد يهوذا: هذه المدن "نالها عقاب نار أبديّة". إن مثل عقاب سدوم وعمورة صار تقليدياً في الأدب اليهوديّ والمسيحيّ. رج أش 1: 9؛ 13: 19؛ إر 23: 14؛ حز 16: 48- 50؛ عا 4: 11؛ صف 2: 9. وجُعل فعل "بروكايستاي" (نال) في الحاضر، فدلّ الكاتب على أننا نستطيع اليوم أن نرى آثار الكارثة التي حلّت بالمدن الملعونة. رج حك 10: 7: "وإلى الآن يشهد بشرّهم قفرٌ يسطع منه الدخان، ونبات يثمر ثمراًَ لا ينضج، وعمود من ملح قائم تذكاراً لنفس لم تؤمن". وقال فيلون في "كتاب موسى" (2: 56): "واليوم أيضاً يروننا في سورية بقيّة هذه الكارثة الهائلة: دمار ورماد وكبريت ودخان، ونار مظلمة ترتفع أيضاً كما من حطب يحترق في نار خفيفة".

خاتمة
بعد عنوان الرسالة والهدف من كتابتها، توقّف الكاتب عند ثلاثة أمثلة فدلّ بها على العقاب الذي ينتظر المعلّمين الكذبة: موت العبرانيّين الذين لم يؤمنوا. عقاب الملائكة الساقطين بقيود أبدية بانتظار محاكمتهم. وأخيراً، زوال المدن الخاطئة مثل سدوم وعمورة. هذا ما ذكّر به يهوذا قرّاءه. وهذا ما يذكّرنا به نحن أيضاً إن سرنا في طريق الضلال وما عدنا إلى الرب بالتوبة. فلا يبقى لنا في ذلك الوقت إلاّ رحمة من الله تنتزعنا من شرّنا كما من النار. لا يبقى لنا إلاّ التمسّك بمخافة الله الذي له المجد والعزة إلى جميع الدهور. أمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM