الفصل الأول: نظرة عامة إلى رسالة يهوذا

الفصل الأول
نظرة عامة إلى رسالة يهوذا

رسالة يبدو أن كاتبها هو يهوذا، أخو يعقوب، أخو الربّ. رسالة كُتبت إلى كنائس في منطقة من المناطق. رسالة كُتبت لتحذّر المؤمنين من معلّمين كذبة يُحدثون الشقاقات في الجماعات، يجدّفون على الملائكة، ينكرون ربنا يسوع المسيح. رسالة هي أشبه بعظة أرسلت بشكل رسالة في محيط عرف إكرام الملائكة ورفضاً للنجاسة وانفصالاً عن المنافقين. رسالة استفادت منها رسالة بطرس الثانية وتوسّعت في مواضيعها، ولكنها تأخّرت لكي تدخل بين الاسفار القانونيّة للعهد الجديد. إلى هذه الرسالة نلقي نظرة عامة، فنتعرّف إلى كاتبها، إلى مكان وزمان كتابتها، إلى قرّائها والخصوم.

1- كاتب الرسالة
أ- الرأي التقليدي
أولاً: الكاتب هو مسيحيّ متهوّد
إن التقاربات التعليميّة والأدبيّة مع العالم اليهوديّ، تدلّ على أن كاتب يهو هو من أصل يهودي. عاد إلى تك 4؛ 6؛ 19. إلى عد 14؛ 16؛ 22؛ تحدّث عن قايين (آ 11)، عن الملائكة (آ 6)، عن أهل سدوم (آ 7)، عن العبرانيين (آ 5)، عن قورح (آ 11)، عن بلعام (111). غير أن حديثه يدلّ على أنه أخذ ما أخذ من الأسفار المكتومة (أو: المنحولة): من أخنوخ، من صعود موسى، من كتاب اليوبيلات، من وصيّات الآباء الاثني عشر.
هو كاتب يهودي تحضّر بالحضارة الهلينية (اليونانيّة المطعّمة بالشرق) غنى الالفاظ، صحّة الأسلوب، عودة إلى الأسفار المنحولة في نصوصها اليونانيّة. وهو مسيحيّ من الجيل الثاني أو الجيل الثالث. يعرف التعليم البولسيّ ويشير إلى بعض مواضيعه. وإذ نراه لا يشدّد على بعض الأمور، نفهم أنه استقى تعليمه من الفقاهة المنتشرة في الكنيسة الأولى.
ثانياً: هو يهوذا، أخو يعقوب
سمّى الكاتب نفسه في العنوان: "من يهوذا، عبد يسوع المسيح وأخي يعقوب" نشير هنا إلى أن اسم يهوذا كان معروفاً جداً في العالم اليهودي، احتفاء بيهوذا بن يعقوب وأحد الآباء الاثني عشر وجدّ أهم قبيلة في العبرانيين (تك 49: 8- 12). وكان اسم يهوذا متواتراً في العهد الجديد، فدلّ على سبعة أشخاص، بل ثمانية إذا حسبنا يهوذا بن يعقوب (مت 1: 2- 3؛ 2: 6؛ لو 1: 39؛ 3: 33...) الذي هو مؤسّس القبيلة التي ستصير قبيلة يهوذا الملكيّة (رج 2 صم 2: 1- 4 ومَسْح داود في حبرون، كملك على قبيلة يهوذا أولاً).
هناك يهوذا بن يوسف (لو 3: 30 ونسب يسوع) الذي هو غير يهوذا بن يعقوب (لو 3: 33- 34). ويهوذا الجليلّي (أع 5: 37) الذي قاد ثورة على أثر الاحصاء الذي تم سنة 4 أو 6 ق. م. ويهوذا الذي أقام عنده شاول في دمشق (أع 9: 11). ويهوذا المسمّى برسابا الذي رافق سيلا وبولس وبرنابا إلى أنطاكية بعد مجمع أورشليم (أع 15: 22، 27، 32، 34). ويهوذا الاسخريوطي، أحد الاثني عشر (مر 3: 19؛ لو 6: 16؛ مت 10: 4؛ يو 13: 2، 26، الذي سمّي أيضاً يوضاس) الذي أسلم يسوع.
ويبقى أمامنا شخصان حملا اسم يهوذا في العهد الجديد. يهوذا بن يعقوب وهو أحد الاثني العشر (لو 6: 16؛ أع 1: 13) وهو يقابل تداي أو لابى في مت 10: 3. وتداي في مر 3: 18. ويهوذا في يو 14: 22 الذي ليس يهوذا الاسخريوطي كما أوضح إنجيل يوحنا. فيهوذا- تداي هذا لا يمكن أن يكون كاتب رسالة يهو، لأنه لا يُذكر على أنه "أخو الرب" (إلاّ إذا ترجمنا لو 6: 16 وأع 1: 13: يهوذا أخو يعقوب، لا ابن يعقوب).
وهكذا يبقى يهوذا، أخو يسوع، الذي يُذكر في مت 13: 55؛ مر 6: 3. في النصّ الأول نجده مع يعقوب ويوسف (أو: يوسي، تصغير يوسف) وسمعان. في النص الثاني، مع يعقوب ويوسي وسمعان. في النصين، نجد يعقوب ويهوذا اللذين هما من أخوة يسوع، أي من الاعمام والأقارب.
ويُطرح السؤال: أي يعقوب نعني؟ هنا أشخاص عديدون حملوا هذا الاسم تبرّكاً بشخص يعقوب أبي الأسباط الاثني عشر. هناك أولاً يعقوب والد يهوذا كما يرد في لو 6: 16؛ أع 1: 13. ثم يعقوب بن زبدى وشقيق يوحنا وأحد الاثني عشر مع أخيه (مت 4: 21 وز؛ 10: 2 وز؛ 17: 1 وز؛ مر 13: 3؛ أع 12: 2). قتل سنة 42 بيد هيرودس أغريبا. ثم يعقوب بن حلفى، أخو الاثني عشر (مت 10: 3 وز؛ أع 1: 13). ويعقوب أخو يسوع ويهوذا (مت 13: 55؛ مر 6: 3. ويذكر بدون يهوذا في أع 12: 17؛ 15: 13؛ 21: 18؛ 1 كور 15: 7؛ غل 1: 19؛ 2: 9، 12؛ يع 1: 1. هو أحد "عُمد" (غل 2: 9) كنيسة أورشليم مع كيفا (أي: بطرس) ويوحنا. ونستطيع أن نميّز "يعقوب الصغير" (مر 15: 40؛ رج مت 27: 56؛ مر 16: 1؛ لو 24: 10) من يعقوب بن حلفى. وهكذا نكون أمام خمسة أسماء ليعقوب.
إذن، نتوقّف هنا عند يعقوب "أخي الربّ" (غل 1: 19). لعب دوراً هاماً في تاريخ الكنيسة الأولى: هو أخو يسوع (مر 6: 3) وقد نعمَ بظهور القائم من الموت (1 كور 15: 17). وصار مع بطرس ويوحنا أحد القوّاد الرئيسيّين في جماعة أورشليم (غل 2: 9: "المعمّد") ثم ترأّس وحده كنيسة أورشليم بعد ذهاب بطرس (أع 21: 18). وسيأتي تقليد يقول إنه كان أول أسقف على أورشليم. نقرأ في أوسابيوس القيصري (التاريخ الكنسي 2/ 1: 2) بفم اكلمنضوس الاسكندراني: "يعقوب ذاك الذي سمّي أخا الرب... إذن يعقوب هذا الذي لقّبه الشيوخ "البار" بسبب سموّ فضيلته. أقيم كما قيل على الكرسي الأسقفيّ في كنيسة أورشليم" (اختاره بطرس ويوحنا لهذا المنصب). ومهما يكن من أمر هذا التنظيم، فقد تمتّع يعقوب بسلطة كبيرة في الجماعات الأولى، فامتدّ تأثيره إلى أبعد من أورشليم. مثلاً، نقرأ في غل 2: 12: "قبل مجيء قوم من عند يعقوب".
قُتل يعقوب سنة 62 خلال الأزمة التي سبقت الحرب الرومانيّة اليهوديّة سنة 66- 70. في تلك السنة، توفيّ الحاكم فستس فجأة. وقبل وصول ذاك الذي يخلف فستس، حكم عظيم الكهنة حنان الثاني مع مجلسه على يهوذا وأشخاص آخرين بالرجم (لنا شهادتان، واحدة من يوسيفوس في القديميّات، وسيذكره أوسابيوس، وأخرى من هاجاسبس كما يذكره أوسابيوس أيضاً). قال يوسيفوس إن يعقوب ورفاقه اتهموا بأنهم "تجاوزوا الشريعة": ما كنا ننتظر مثل هذا الاتهام يُلصق بشخص مثل يعقوب. وهذا يعني أن العناصر الوطنيّة الغيورة ضغطت على حنان الآتي من عالم الصادوقيين الغنيّ.
كان موت يعقوب ضربة قاسية على كنيسة أورشليم، التي هرب بعض أعضائها إلى شرقيّ الأردن قبل حصار أورشليم. غير أن إشعاع يعقوب ظلّ قوياً حتى وسط اللامسيحيّين (وحده ذُكر في نصّ غير مسيحي، في قديميّات يوسيفوس). وظلّ أخو يسوع "شفيع" مجموعة في قلب المسيحيّة المتهوّدة. وصار بشكل عام مثال الورع، وسمّي "البار". ونورد هذا المقطع الذي له مدلوله أن إنجيل توما (القول 12): "قال التلاميذ ليسوع: نعرف أنك ستذهب عنا. فمن يكون العظيم علينا؟ قال لهم يسوع: "إلى أين تذهبون؟ إلى يعقوب البار الذي لأجله وجدت السماء والأرض".
وارتبط الأدب المنحول (المكتوم) بهذا الشخص المعتبر: إنجيل يعقوب (بعض أجزائه تعود إلى القرن الثاني). رسالة من يعقوب إلى كوادراتوس. رسالة من بطرس إلى يعقوب. رسالة من اكلمنضوس إلى يعقوب (بداية العظات المنسوبة إلى اكلمنضوس). زد على ذلك أن بعض الأوساط الغنوصيّة وضعوا نفوسهم تحت حماية يعقوب، ولا سيما النحشيون (رج حنش أي الحية، وقد قُلب الحرفان الأول والثاني) الذين أرجعوا حكمتهم الخفية إلى امرأة اسمها مريم. كان يعقوب، أخو الرب، قد نقل إليها التعليم. وعلى مستوى العهد الجديد، هناك رسالة وُضعت تحت اسمه وقد تعود في تدوينها النهائي إلى سنة 75- 80.
وهكذا نرى في كل ما قلنا أنه قد ولد في ظلّ يعقوب، أخي الرب، تقليدٌ غنيّ ومتنوّع جداً. فمن استند إليه، سند في الوقت عينه صاحب يهو.
وفي أي حال، نحن لا ننسى السلطة المتعلّقة بيهوذا نفسه: فبين "اخوة الربّ" هو الذي بعد يعقوب قد ترك أكبر الأثر. لا شكّ في أن العهد الجديد لا يتحدّث عنه طويلاً. بل يذكره في مت 13: 55؛ مر 6: 3 (يُذكر أخوة الربّ معاً في مت 12: 46 وز؛ أع 1: 14؛ 1 كور 9: 5. وهذا يعني أهم مارسوا نشاطاً رسولياً بارزاً فذكرهم بولس). غير أن تقليداً قديماً ينسب إلى يهوذا نشاطاً إنجيلياً امتدّ إلى فلسطين وسورية وعرابية وبلاد الرافدين.
واحتفظ أوسابيولس بخبر لهاجاسبس يذكر فيه ابني يهوذا اللذين مثلا أمام دوميسيانس "لأنهما من نسل داود". فهذا الامبراطور كان يخاف مجيء المسيح مثل هيرودس. وبعد أن لاحظ وضعهما كفلاحين وسمع اعتراف إيمانهما، لم يحكم عليهما بل ازدراهما كرجلين بسيطين، وأطلق سراحهما وأوقف قرار الاضطهاد ضد الكنيسة. وبعد نجاتهما، قادا الكنائس كشهيدين وقريبين للربّ، وظلأ على قيد الحياة، بعد هذا السلام، حتى ترايانس (98- 117). نحن هنا أمام خبر مشكوك فيه على مستوى الدقّة التاريخيّة (لا نعرف شيئاً عن قرار دوميسيانس هذا. ثم قد نكون أمام سياسة دوميسيانس اليهوديّة، لا أمام اضطهاد المسيحيين. خاف منهما لأنهما ابنا داود).
ثم نتساءل: أين كانت هذه الكنائس التي وجّهها ابنا يهوذا، وكيف وجّهاها؟ مهما يكن من طابع هذا الخبر، فهو يدل على أن تقليداً متعلّقاً بيهوذا ونسله قد احتل مكامة رفيعة في بعض الأوساط المسيحيّة المتهوّدة في نهاية القرن الأول. ونشير أخيراً إلى تماهٍ قام به تقليد من أصل سوريّ، بين يهوذا وتوما الذي نُسب إليه تبشيرالرها. نقرأ في إنجيل توما (القول الأول): "تلك هي الكلمات الخفيّة التي فالها يسوع الحيّ، ودوّنها ديدمس (التوأم) يهوذا قدماً". وستجعل الأخبار من الرسول توما أخاً توأماً ليسوع (في الارامية: توم. والتوأم. واليونانيّة: توما) وأفضل من فهم فكره. وهناك اختلافات فى سريانيّة كيورتون والسريانية السينائيّة حول يو 14: 12 حيث نقرأ: يهوذا توما في الأولى. وتوما في الثانية. أما النصّ الإنجيلي فهو: "فقال له يهوذا، وهو غير الاسخريوطي".
بمختصر الكلام نستطيع القول إن صاحب يهو قدّم نفسه إلى قرّاءه بسلطة تعود إلى تقليدين: هو أخو الربّ مع ارتباط بالرسول توما. ثم هو أخو يعقوب الذي هو أخو الربّ. وهكذا نستطيع القول إن الرسالة توجّهت إلى جماعات مسيحيّة متهوّدة جعلت نفسها تحت سلطة يهوذا ويعقوب. هذا يعني شمالي شرقي سورية أو آسية الصغرى أي تركيا الحاليّة.
ب- الرأي الحديث
منذ بداية القرن العشرين تقريباً، برز لدى النقّاد رأي يقول إن كاتب يهو يخفي هويّته وراء شخص آخر. فإن كان اسمه يهوذا، فليس يهوذا الذي تذكره بداية الرسالة. فما هي الأسباب التي يقدّمها الشرّاح؟
* السبب الأول: كان يهوذا، أخو يعقوب، من الناصرة (مر 6: 1 ي)، وكان يتكلّم الأراميّة، شأنه شأن أهل الجليل (مت 27: 73). وظلّ أحفاده فلأحين بسطاء. فكيف استطاع أن يكتب رسالة بهذه اللغة الصحيحة؟ ولكن قد يكون عرف الأراميّة واليونانيّة. وقد يكون بقربه سكرتير مثل سلوانس قرب بطرس (1 بط 5: 12).
* السبب الثاني: كيف يمكن أن يكون يهوذا أخو يعقوب صاحب يهو، وآ 17 (نطق بها من قبل رسل ربنا) تقول إن الزمان الرسوليّ قد ولىّ. وهذا الشعور بماضٍ بعيد بالنسبة إلى يسوع، نستشفّه في نصّ موازٍ نقرأه في 2 بط 3: 1 ي. وهذا ما تثبته آ 3 حيث يبدو التعليم المسيحيّ الذي نُقل مرة واحدة وبشكل نهائي، مثبّتاً في خطوطه الرئيسيّة منذ بعض الوقت. ولكن يمكن أن نتساءل: عن أي الرسل نتحدّث آ 17؟ عن الاثني عشر أم عن مرسلين جاؤوا إلى قرّاء يهو. ونلاحظ أيضاً أن بولس تحدّث باكراً عن إيمان نُقل إلى المؤمنين في خطوطه الأساسيّة، كما تحدّث عن واجب الأخذ به في الحياة العمليّة (1 كور 11: 2 ي؛ 15: 1 ي؛ روم 16: 17؛ رج 1 تس 4: 1- 3).
* السبب الثالث: إن الضلالات التي تحاربها الرسالة تعود إلى نهاية القرن الأول المسيحي، أي بعد موت يهوذا أخي يعقوب. نحن هنا أمام ضلالات غنوصيّة تشدّد على ثنائيّة لاهوتيّة وترفض أوامر الشريعة. ولكننا لا نجد في يهو صورة حقيقيّة عن الضلالات التي هاجمها الرسالة. كما أن التيارات الغنوصيّة بدأت منذ القرن الاول المسيحي وإن وُجدت مدوّنة في القرن الثاني. ثم إن الضلالات التي تهاجمها الرسالة، قد كانت نتيجة فلتان أخلاقي. ثم إن أولى الآثار الغنوصية تبدو أكثر وضوحاً في النصوص البولسيّة واليوحناويّة.
إذن، من هو كاتب يهو؟ هناك ثلاثة مواقف. هناك من يعتبر أن يهوذا، أخا يعقوب هو كاتب الرسالة. وهناك من يرى أن الذي كتب الرسالة هو ابن يهوذا أو تلميذ من تلاميذه، وبالتالي ترتبط بأخي الربّ ارتباطاً حميماً. والموقف الثالث يقول إن كاتب يهو هو شخص نجهل اسمه وقد استند إلى سلطة يعقوب ويهوذا لكي يقدّم رسالته.

2- زمان ومكان كتابة الرسالة
أ- زمان كتابتها
قدّمت تواريخ متعدّدة عن زمن كتابة الرسالة. فالذين قالوا إن يهوذا كتبها عادوا إلى سنة 54. والذين رفضوا نسبتها إلى يهوذا، وصل بعضهم إلى نهاية القرن الثاني. أما معظم الشرّاح فيحدّدون زمان كتابتها في نهاية القرن الأول. وإليك العناصر التي تستطيع أن توجّه هذا الموقف دون أن تفرضه:
* إن 2 بط 2 قد استعمل يهو. أما 2 بط فتعود إلى بداية القرن الثاني. وهكذا لا تستطيع يهو أن تتجاوز بداية القرن الثاني.
* في آ 17، ميّز الكاتب بين زمنه وزمن الرسل فقال: "فاذكروا الأقوال التي نطق بها من قبل، رسل ربنا يسوع المسيح". هذا يعني أن يهو دوّنت بعد زمن الرسل، في الجيل الثاني أو الجيك الثالث المسيحي.
* نقرأ في آ 3: "أحرّضكم على الجهاد في سبيل الايمان الذي سلّم بشكل نهائي إلى القدّيسين". وفي آ 20: "فابنوا أنفسكم عَلى إيمانكم الأقدس". وهكذا يتكلّم الكاتب عن إيمان هو موضوع تسلّم وتقليد، عن إيمان تعدّى مرحلة التعابير الأولى. هذا يعني أننا تعدّينا حقبة الرسل. هذا مع العلم أن بولس أيضاً تكلّم عن التقليد (1 كور 11: 2، 23؛ 15: 1 ي).
* استعمل يهوذا الاسفار المنحولة (المكتومة) اليهوديّة. أما 2 بط فلم تستعملها. هذا يعني أن سلطتها غابت في بداية القرن الثاني المسيحي. وعلى كل حال، رُذلت هذه الأسفار أولاً في سورية. وفي القرن الثالث رُذلت من الأسفار القانونيّة في كل الكنيسة. وهكذا تكون يهو دوّنت قبل بداية القرن الثاني.
* هل عرف يهوذا رسائل بولس؟ ربّما مع آ 19 التي تقول: "فهؤلاء هم أولئك المشاقون، الحيوانيون، الذين ليس لهم الروح". الحيوانيون (أي الذي هم على مستوى النفس والتنفس، ولم يصلوا إلى مستوى الروح) هم فئة يحتقرها الغنوصيّون. إنهم لا يستطيعون أن يدركوا أمور الله (1 كور 2: 14؛ يع 3: 15).
* الخصوم الذين يحاربهم يهوذا قريبون جداً من المعلّمين الذين تهاجمهم 2 بط. هذا يعني تقارباً بين يهو و2 بط، مع العلم أننا أمام غنوصية سابقة للغنوصية في الرسالة الأولى إلى كورنتوس.
وهكذا نستطيع القول إن يهو قد دوّنت بين سنة 80 وسنة 100، هذا مع العلم أنه يمكن أن تكون هناك معطيات شفهيّة، قد وُضعت في لغة يونانيّة أنيفة بيد أحد المؤمنين الذين استندوا إلى سلطة يهوذا فقدّموا للكنيسة ما قدّموا.
ب- مكان كتابة الرسالة
من الصعب أن نحدّد الموضع الذي فيه دوّنت يهو. هل الكاتب بعيد أو قريب من قرّائه؟ هناك ولا شك تقارب على مستوى الاهتمامات والتقاليد، يترافق مع تقارب جغرافيّ يتضمّن بعض اتّصال بين الكاتب والقرّاء. إذن، نحاول أن نكتشف المحيط الحضاريّ والدينيّ.
لاحظنا أن الكاتب هو يهودي صار مسيحياً، وتحضّر بالحضارة الهلينية، واستند إلى سلطة يعقوب ويهوذا (من اخوة الربّ). وأن القرّاء هم مسيحيّون متهوّدون تشّربوا أيضاً الحضارة الهلينيّة مع تجذّرهم العميق في التقليد اليهوديّ. وأن خصوم الكاتب عرفوا ميولاً غنوصيّة ترفض الشريعة وتعيش فلتاناً ظهر باكراً في أولى الجماعات المسيحيّة.
لا تتيح لنا هذه الملاحظات أن نحدّد مكاناً دوّنت فيه يهو. قيل رومة. مصر وخصوصاً الاسكندرية. فلسطين وخصوصاً الجليل. سورية وخصوصاً منطقة الرها. آسية الصغرى ولا سيّما الجنوب. فالذين قالوا رومة أشاروا إلى الفلتان الذي عرفته فيها التيارات الغنوصيّة. والذين قالوا مصر استندوا إلى ما وُجد هناك من أسفار منحولة ارتبطت بيعقوب أخي يهوذا. وهكذا يكون كاتب يهو "مسيحياً مصرياً". نشير إلى أن الغنوصيّة التي وُجدت في مصر قريبة من تلك التي حاربها يهوذا، وقد ارتبطت بكربوكراتس الذي اعتبر في ما اعتبر أن الملائكة خلقوا الكون، وإن يسوع هو أبن يوسف...
وانطلقت فرضيّة من الجليل، فقالت إن مكان تدوين يهو هو الجليل امتداداً إلى سورية وأنطاكية. واستندت إلى سلطة يعقوب ويهوذا، وإلى ارتباط هذه الرسالة بالتقاليد اليهوديّة. وقد يكون المكان هو منطقة الرها وفيها ما فيها من تأثير يهودي على المسيحية الأولى، امتدّ حتى القرن الثاني.

3- قرّاء الرسالة وخصومها
أ- قرأء الرسالة
إلى من توجّهت يهو؟ لا يقول النصّ شيئاً عنهم، كما هي الحال في 2 بط. بل هو يكتفي بأمور عامة: "المدعوّين... المحبوبين في الله الآب، الموعوظين ليسوع المسيح" (آ 1). هل تعني هذه التحيّة أن الرسالة كلام عام لا يتوجّه إلى فئة خاصّة من الناس؟ كلا. فهي تشير إلى خطر محدّد يهدّد الجماعة: "اندسّ فيكم أناس" (آ 3). ولكن هل نستطيع أن نقول هي جماعة خاصة؟ كلا. بل نحن أمام مجموعة كنائس تتوزّع في مناطق واسعة.
ماذا قال الشرّاح في قرّاء يهو؟ هم مسيحيّون متهوّدون. أو: مسيحيّون آتون من العالم الوثنيّ. استندت الفئة الأولى إلى التجذّر اليهودي للرسالة، إلى استعمال الاسفار المنحولة، إلى حماية يعقوب ويهوذا اللذين كانت سلطتهما واسعة في المسيحيين الذين من أصل يهوديّ. واستندت الفئة الثانية إلى الطابع الهلّيني للرسالة، وإلى طبيعة الضلالات التي حاربتها لأنها تهدّد بشكل خاص المسيحيّين الامميين. ولماذا لا نكون أمام جماعات مختلفة من مسيحيين متهوّدين ومن مسيحيّين أمميّين؟
ب- الخصوم
يُذكر الخصوم في قسم كبير من الرسالة. ولكننا لا نعرف اسمهم، كما لا نعرف إلاّ الشيء القليل عنهم. يسمّيهم الكاتب خمس مرات "هوتوي"، هؤلاء، هؤلاء الناس (آ 8، 10، 12، 19). ولكن إن قابلنا معطيات يهو مع معطيات 2 بط، وإذا حسبنا حساب الاشارات الخاصة بيهوذا، نستطيع أن نحيط بعض الاحاطة بهؤلاء الخصوم الحاضرين في كل مكان، والذين يهاجمهم يهوذا بعنف.
يتميّز الخصوم عند يهوذا بشكل خاص بوقاحتهم وكفرهم (آ 4، 8، 10، 14، 18)، بلا أخلاقيتهم على المستوى الجنسيّ (آ 4، 8، 12، 16، 18). ببحثهم عن المكسب الرخيص والمنفعة الشخصيّة (آ 11، 16: لا يتعاملون إلاّ مع من يستفيدودن منه)، بتكبرّهم وجنونهم (آ 8، 16) واعتدادهم الروحيّ (آ 10). صورة قاسية عن تصرّف مشين (لسنا هنا أمام تعليم فاسد). هذه الأمور نجدها في 2 بط 1: 16- 20؛ 3: 1 ي، 15 ي. وتجعلنا نفهم أننا أمام ذات الفئة من الخصوم.
ولكن هناك اختلافاً بين يهو و2 بط. فخصوم يهوذا "اندسّوا" (آ 4) في الجماعة وظلّوا يعيشون فيها. نقرأ في آ 12 أنهم ينجّسون المآدب الأخويّة. رج 2 بط 2: 13، فالخصوم في يهو لا يشكّلون جماعة منفصلة عن الكنيسة.
في آ 6 يُذكر الملائكة "الذين لم يحفظوا منصبهم الرفيع، بل تركوا مسكنهم الخاص". نجد في جذور تصرّف الملائكة المستعفين (الذين يرمزون إلى المعلّمين الكذبة) قراراً بأن يخرجوا من النظام، من المرتبة التي أعطيت لهم. أرادوا أن يجعلوا على بساط البحث المسافة الضروريّة بين الله والخليقة. لقد ساءت الأمور، ولم يعد للعالم من معنى ولا قوام بعد أن أرادت الخلائق أن تتحرّر من وضعها، أو تحلم بالخروج منه والصعود إلى الله على مثال بُناة برج بابل. ونرى أيضاً صورة قايين وبلعام وقورح في آ 11 (احتفظت 2 بط 2: 15- 16 ببلعام فقط)، التي تظهر الوجه البشع لخصوم الجماعة كما تبرز الخطر الذي يجلبونه عليها. ونشير إلى "الاحلام الجنونية" في آ 8، التي قد تدلّ على آننا أمام جماعة "الروحيّين" الذين يعتبرون أنهم نالوا إيحاءات خارقة من خلال الرؤى أو الاحلام.
إن هذه الإشارة الأخيرة تتوافق مع نقطة واضحة في الرسالة: ففي آ 19 بعد أن يوبّخ الكاتب خصومه لأنهم أدخلوا الشاتاق (أو بالاحرى، كوّنوا طبقات داخل الجماعة)، يدعوهم "حيوانيين" (بأفكارهم الأرضيّة، وربّما الشهوانيّة)، ويقول "ليس لهم الروح". اتهام ساخر وخطير جداً، وهو يجرّد هؤلاء المعلّمين الكذبة من صفة ينسبونها إلى نفوسهم. فالتراتبيّة بين "الروحيين" و"الحيوانيين" (أو الماديّين) تلعب دوراً هاماً في الانتروبولوجيا (دراسة عن الانسان) والسوتيريولوجيا (الخلاص) الغضوصيّة، ولا سيّما عند ولنطينس. غير أننا نجد التعارض نفسه بين الروحين والحيوانيين في 1 كور 2: 14؛ 15: 44، 46؛ يع 3: 15. إن 1 كور 2: 14 هي أقرب ما يكون إلى نص يهو. ولكن لفظة "بسيخيكوس" ظلّت حياديّة عند بولس. أما عند يهوذا، فدلّت على الكافرين والمنافقين والفاجرين.
وهكذا نكون مع رسالة يهوذا أمام تيار غنوصيّ فريب مما رأينا في كورنتوس. مثل هذا التيّار وُجد في كل حوض البحر المتوسّط. بل هو اليوم حاضر في جماعاتنا. حاول البعض أن يقرّبه من القينيين أو الكربوكراتيّين أو حتى من النيقولاويين (رؤ 2: 6، 15) الذين يفصلون بين الجسد الروح، بين الظاهر والباطن، فيعتبرون مثلاً أننا نستطيع أن نذبح في الخارج للأوثان، ونبقى أمناء للسيد المسيح. كما اعتبروا أن يسوع لم يتجسّد حقاً، بل في الظاهر. ولا ننسى أن الغنوصيّة شدّدت على المعرفة من أجل الخلاص ونسيت دور الصليب.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM