الفصل الثالث عشر: قيامة المسيح وما وراءها في العالم اليوناني القديم
 

الفصل الثالث عشر
قيامة المسيح وما وراءها في العالم اليوناني القديم

أعلن القديس بولس: "المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، ودُفن وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، وظهر لبطرس ثم للرسل الاثني عشر" (1 كور 15: 3- 5). ومع ذلك، برز أناس يقولون: "إن الأموات لا يقومون". فاستخلص القديس بولس: "إذن، المسيح لم يقم أيضاً. وإن كان المسيح لم يقم فتبشيرنا باطل وإيمانكم باطل، بل نكون شهود زور لله" (1 كور 15: 12- 15).

1- في الماضي
هذا ما قاله الوثنيّون في القرن الأول المسيحي، فأنكروا قيامة الموتى وبالتالي قيامة المسيح، وهمّهم أن يصلوا إلى النتيجة العملية: "تعالوا نأكل ونشرب، فإنا غداً نموت". لا حياة في الآخرة وكل شيء ينتهي بالموت. فلماذا تعب الفكر والتعلّق بحياة أخلاقيّة؟ وهكذا يلتقي هؤلاء وعدد كبير من الناس اليوم مع سفر الجامعة: "مصير البشر هو مصير البهيمة: كما يموتون هم تموت هي. فليس الانسان أفضل من البهيمة. لأن كل شيء باطل: فإن كل شيء من التراب، وكل شيء إلى التراب يعود" (جا 3: 19- 20). ولكن سفر الجامعة يتطلّع إلى نظرة أخرى: نفس الإنسان تصعد إلى العلاء ونفس البهيمة تنزل إلى الأسفل، فيبقى على الانسان أن يفرح بأعماله (جا 3: 21- 22). وهو يطلب من الإنسان، في النهاية، أن "يخاف الله ويحفظ وصاياه. فالله يُحضر أمامه كل أعمالنا ويدين حتى الخفيّة منها، خيراً كان أم شراً" (جا 12: 13).

2- في العصور الحديثة
وفي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فام أصحاب النقد "المستقل" بمقابلات دينية بين الديانة المسيحيّة والديانات الوثنيّة، ليفسّروا أصل الإيمان المسيحي بقيامة المسيح. عادوا إلى الميتولوجيا اليونانية والشرقيّة، إلى أتيس وأدونيس وأوزيريس. أما أتيس فهو إله النبات، قاوم حبّ قيباليس، إلاهة الخصب، فحوّلته إلى شجرة صنوبر. أما أدونيس (وفي اللغات الشرقية: أدون أي السيّد) وهو إله فينيقي، تعبّده العالم اليوناني والروماني. وأوزيريس فهو إله في مصر القديمة. هو زوج إيزيس ووالد حورس. إن موته وقيامته جعلا منه إلهاً مخلصاً يؤمّن الحياة في الآخرة. وقد انتشرت عبادته أيضاً في العالم اليوناني والروماني.
إنطلقت مدرسة النقد هذه، فبحثت عن ميتولوجيا خلاص عند يسوع المسيح. وكما كانت أسرار تنشئة في هذه العبادات الوثنية، فيكشف المعلم عن منهج ويتقبّل التلميذ معرفة يمارسها، يتقبّل العناصر الأولى بطريقة الحياة، هكذا كان الأمر بالنسبة إلى الديانة المسيحيّة.
لا شكّ في أننا نجد في هذه الميتولوجا توقاً إلى الحياة في الآخرة. طلباً للخلود عبر شخص الاله الذي عاش في هذا الكون قبل أن يدخل إلى مصاف الآلهة. وما كان حلماً دار في مخيّلة البشريّة هو في الواقع صوت الله في أعماق وجداننا ليهيّئنا لا للحلم، بل للحقيقة التي تمّت في شخص يسوع الذي مات وقام من أجلنا. علّمتنا هذه الميتولوجيّات أن الاله يموت كل سنة في الشتاء ليقوم في الربيع، وهكذا تتتابع الفصول وتموت الأشجار قبل أن تورق وتزهر وتثمر. ولكن المسيح، كما قالت عب 7: 25، فقد مات مرة واحدة، ولكنه حيّ إلى الأبد. "دخل قدس الأقداس مرة واحدة بدمه، فكسب لنا الخلاص الأبدي" (عب 9: 12). إذن، لا إعادة بالنسبة إلى يسوع، بل عملٌ حدث مرة واحدة. وإذ نحتفل بهذا العمل في الليتورجيا، لا نعيده أو نكرّره، بل ندخل فيه، فنصبح معاصرين لموت يسوع وقيامته.

3- معطيات تاريخ الديانات
يتساءل الباحثون: هل وُجد في الشرق القديم ميتولوجيا إله "مات ثم قام"؟ هل عُرفت في جميع الأقطار، وإن بأشكال مختلفة، فاحتفل بها الناس في دراما طقسية في مصر وبلاد الرافدين، مروراً بسوريا وكنعان؟ هناك نموذج نجد آثاره هنا وهناك، ومن آثاره عبارة ملكيّة يلعب فيها الرئيس دور إله "مات وقام". فالديانات التي تتعلّق بالطبيعة بما فيها من زراعة ومطر وحقول ونبات، ألّهت نوعين من الظواهر يتواليان فيعبرّان رمزياً عن الموت والحياة، وبالتالي عن وجهة أساسيّة من وجهات الخبرة البشريّة. من جهة، نجد الكواكب التي تختفي وتظهر في أوقات منتظمة: تغيب الشمس فتغرق في الأماكن السفلى، ومن هناك تقوم من جديد في الصباح. وكوكب المشتري (فينوس، إلاهة الحب والجمال عند الرومان) يمرّ في دورات متقلّبة الأطوار. وكان هناك بصورة خاصة عودة الفصول السنويّة، وفيها تعود الأرض إلى خصبها، وتضع القطعان صغارها: فالقوى الالهيّة التي تشرف على التوالد الطبيعيّ في عالم الحيوان والنبات، تعرف مصيراً سرياً يعطي مثل هذه النتائج. هذا هو النموذج الأول الذي فيه تجد خبرة الحياة والولادة والموت مثالها وقالبها.
نذكر هنا أن السطرة (والميتولوجيا تدرس السطر) خبر له مدلوله، خبر نموذجيّ يرتبط بالبدايات. وهو يحاول أن يفسّر إحدى وجهات الوجود البشري، لا عن طريقة التحليل المجرّد، بل ببناء خبر نموذجي يجد فيه الإنسان معطيات خبرته في شكل رفيع ومتصاعد. إذن، يعبرّ الانسان بصورة ربطها بالبدايات عن اختباره العميق. فنحن لا نستطيع أن نستغني عن الصور لنبرز اختباراتنا. مثلاً، أراد أحدهم أن يحدّثنا عن رتابة الحياة، فتصوّر سطرة سيزيف، ملك كورنتوس الأسطوري الذي عُرف بجرائمه، فحُكم عليه في الجحيم بأن يدحرج إلى قمة الجبل ضخراً ما يعتّم أن يسقط. فيعود، ويعود، ويعود. هذا هو وضع الانسان كما يرتبط بعالم الآخرة. ونقول الشيء عينه عن أتلس (أو: اطلس) الذي حُكم عليه أن يسند قبة السماء بكتفيه لأنه ثار على زوش.
إذن، لا نتعجّب إن حاولت هذه الميتولوجيات المختلفة أن تدخل بطريقتها هذه الملاحظات الرئيسيّة في نظرة الانسان العائش في توالي النهارات والليالي، والذي يرتبط طعامه كله بتعاقب الفصول. ولا نتعجّب إن كانت العبادات الحقوليّة قد سعت إلى الاستيلاء على طاقة الطبيعة لجعلها في خدمة الانسان.
في هذا الإطار الفكري، جعلت مصر من أوزيريس إلهاً مائتاً (وصار فيما بعد إله الموتى) يقوم كل صباح في وجه ابنه حورس. وإذا عدنا إلى نصوص أوغاريت (رأس شمرا) نرى أن بلاد كنعان تنشد الصراع اللحمي بين بعل إله الخصب، وموت ربّ العالم السفلي. ولكن النصوص التي نعرفها اليوم لا تقول شيئاً عن عودته إلى الحياة. وقد احتفل الناس في طقوس فصوليّة (أي فصول السنة) بموت بعل وانحداره إلى العالم السفلي. وفي وقت متأخّر، رأينا أدونيس (أي: بعل) يقضي نصف السنة عند ملكة المنطقة السفلى برسافونيا، والقسم الآخر عند فينوس، إلاهة الخصب على الأرض.
من الواضح أن بلاد كنعان ترتبط ببلاد الرافدين. ففي بابل يتذكّر عيدُ اكيتو (أي: السنة الجديدة) موتَ مردوك تذكراً احتفالياً بالندب والبكاء. ولكن ضاعت النصوص التي تحدّثنا عن عودته من الالم السفلي، ولكننا نفترض هذه الوجهة من الدراما لنفسّر توالي الابتهاجات المرتبطة بموضوع الخصب.
وقد تحدّث بعض الشّراح عن قيامة مردوك، وارث الاله السومري تموز كمبدأ للخصب. فالسطرة السومريّة المرتبطة بدوموزي (تموز) تحدّد بدقّة نزوله إلى العالم السفلي في إطار سطرة أنانة، إلاهة الخصب، التي تنزل هنا أيضاً إلى "الأرض التي لا عودة منها". وحين عادت من هناك، أسلمت زوجها دوموزي إلى الشياطين الذين يأخذونه بدوره إلى هناك. سيحلّ دوموزي محلّ الآلهة التي عادت من "الجحيم". فيقيم نصف السنة في العالم السفلي، وتقيم أخته جشتينانة النصف الثاني. وهكذا نعود إلى تعاقب الفصول في العبادات البابليّة والكنعانيّة. كل هذا يدلّ على النموذج الأول الميتولوجي وقِدمه في حضارة العالم القديم.

4- مضمون الميتولوجيا
إن فكّرنا في العناصر المكوّنة للميتوس الذي يمكن أن نسمّيه سطرة (والجمع سطر، يعني الأقوال المنمقة والمزخرفة) لا الأسطورة (التي تعني الحديث الذي لا أصل له) ولا الخرافة (التي ترتبط بفساد العقل أو بالهزل)، وإن أردنا أن ندرس محتواه، وجدنا أنّا لسنا أمام نقل خبرة بشريّة بالصورة، بل نقل ظاهرة كونيّة يرتبط بها وجود الانسان: سطرة أوزيريس الحقوليّة: إنه يموت كما الحبّة في الأرض. وسطرة تموز الفصوليّة أو مردوك أو بعل: يزول نشاطهم في الصيف. فإن تكلّمنا في هذا الإطار عن "قيامة" إله، فهذا يجعلنا قريبين من "قيامة" أو رجوع الطبيعة في الربيع. إن هذه اللغة الاستعاريّة تشهد على إدراك تقارب بين مصير الانسان الذي يغرق في الموت وتجمّد ظاهر لقوى تشرف على ظاهرة الحياة في العالم النباتي وفي الطبيعة كلها. على هذا الأساس نستطيع أن نتمثّل هذه القوى بشكل شخصي بفضل الأسلوب التشبيهي أو الانتروبومورفي (كل شيء يأخذ صورة الانسان): ما يختبره الانسان حين يموت، يختبره أيضاً آلهة النبات والخصب بطريقتهم المثاليّة، وذلك حين تتراجع طاقتهم المحيية حتى تموت. ومقابل هذا، تكون عودة نشاطهم الدوري إشارة إلى خبرة معاكسة لا يختبرها الانسان. وحين يحاول أن يترجم بصورة ملموسة هذا الواقع الذي يحسّ به في صلاته إحساساً حميماً، يستعمل الرموز عينها حين يتحدّث عن الآلهة، وحين يتحدّث عن البشر. ولكن خبرة الموت التى لا نستطيع أن نتمثّلها، تنتقل بشكل مكانيّ في مخيّلة الأقدمين الصانعة السطر: فالأرض أو بالأحرى ما هو تحت الأرض (الجحيم، العالم السفلي)، يصبح عالم الموت الخاص، مثوى الأموات. يسمى "أرالو" عند البابليّين، "شيول" عند العبرانيين والآراميين، "هادس" عند اليونانيّين. والموت يعني بالنسبة إلى الانسان نزولاً وانحداراً إلى هذا "العالم الذي لا رجوع منه". فكيف نتصوّر موت آلهة الطبيعة إلاّ بشكل "نزول إلى الجحيم". وإذا أردنا أن نتمثّل استعادة نشاطهم الحيوي، نصوّرهم ناهضين إلى النور، وخارجن من الجحيم التي سجنوا فيها.

5- والبشر...
لغة سطريّة نستعملها ولا نستغني عنها لكي نتحدّث عن الموت. ولكن نتحاشى الوقوع في الخطأ. فإن طبّقنا هذا الكلام على البشر وعلى بعض الآلهة في ما يخصّ الموت، فهذا لا يعني أن البشر الذين نزلوا إلى الجحيم والعالم السفلي، يعودون في الطريق عينه من هناك ليشاركوا في قيامة (تتم بصورة دوريّة) الآلهة التي تشرف على الخصب وعالم النبات.
ففي مصر عينها، يصبح أوزيريس ملك "الغرب" (حيث تغيب الشمس)، أي ملك الموتى الراقدين. ولكنه لا يقوم بنفسه، بل ابنه حورس يولد من جديد كل صباح كإله شمسي. فقد أضحت أسطورته عنصراً جوهريّاً من الميتولوجيا الشمسيّة. ثم إن الراقدين العائشين ما وراء القبور، يأملون في مقاسمته خلوداً ملتبساً، وهم يسيرون على خطاه في قاربه: نحن لا نجد هنا وعداً حقيقياً بالقيامة بمشاركة الإله في قيامته.
فإذا كانت سطر الموت والقيامة لدى الآلهة كما نتصوّرها في الطقوس، تتضمّن بعض الفاعليّة في نظر المؤمنين، فهذه الفاعليّة تتمّ في نطاق ضيّق من حياتهم على الأرض، وفيها يحتاج البشر فعلاً لقوى علويّة توزّع الحياة: خصب سنويّ للأرض، خصب القطعان والأسر البشريّة. وهو بعل أو مردوك أو عشتار أو فينوس من يمتلك سلطان الخصب هذا.
وفي النظرة التي عرفها العهد الهلنستي (أي بعد احتلال الاسكندر المقدوني للشرق، سنة 323)، ظلت السطر الشرقيّة حيّة ولكن بأشكال إغريقيّة مع طقوس ترافقها، وحافظت على المعنى العميق لشعائر العبادة التي قابلتها. في هذا الإطار، يصعب علينا كل الصعوبة أن نجد أي تقارب بين هذه السطر والنظرة المسيحيّة إلى قيامة المسيح. كل ما نقدر أن نحتفظ به هو استعمال التمثّلات عينها لنترجم بشكل سريّ فكرة الموت على أنها "نزول إلى الجحيم"، والعودة إلى الحياة على "أنها خروج من الجحيم".
إن هذا التقارب يقع على مستوى اللغة والرموز. وإذا أردنا أن نقدّرها حق قدرها، نجعلها في الإطار الذي استعملت فيه وبالنسبة إلى الأهداف التي سعت إليها.
هنا نقول: إن استعملت النصوص الكتابيّة اللغة والرموز، إلاّ أن الحقيقة أبعد من هذا بكثير. فالقيامة في النظرة المسيحيّة تتعدّى العالم المادي، تتعدّى الصور، وإن استعمل الكتّاب الملهمون الصور، ليصلوا إلى حقيقة تربطنا بالاله الواحد. فالمسيح الذي قام من بين الأموات لم يعد كما كان. بل لم يستعد الجسد الذي كان له قبل أن يموت، بل اتخذ جسداً ممجّداً، جسداً نورانياً، يستطيع أن يدخل إلى العليّة والأبواب مغلقة (يو 20: 19). والنزول إلى الجحيم كما تتصوّره رسالة بطرس الأولى (3: 19)، يدلّ على أن يسوع لم يبشرّ فقط الأحياء الذين عاصروه، بل الأموات الذين سبقوه، وهكذا شملت كرازته الأحياء والأموات. ثم إن كرازته في عالم الموت تدل على انتصاره على قوى العالم الأسفل. "له تخضع الملائكة والقوات وأصحاب السلطان" (1 بط 3: 22). إنه جالس "فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة، لا في هذا الدهر فقط (لا في هذا العالم فقط)، بل في الدهر الآتي".
رفض الانسان الموت من القديم، وتطلع إلى حياة بعد الموت. صوّرها بطريقته واستعمل الميتولوجيا والأطر السطرية. ولكنه لم يصل إلى غايته، فظلّ هذا الشوق كشوكة في خاصرته. ظلّ التمنّي تمنياً والحلم حلماً. فالذين ينزلون إلى عالم الموت لا يصعدون. وقد قال الجهّال في سفر الحكمة: "حين تأتي الآخرة لا يستطيع إنسان أن يتجنّبها، ونحن لا نعلم أن أحداً عاد من عالم الأموات، من الجحيم" (حك 2: 1). بلى، نحن نعلم. فيسوع المسيح قام من بين الأموات وهو باكورة الراقدين (1 كور 15: 20). هو مات وقام. ونحن الذين نموت سنقوم معه. متنا كلنا في آدم وسنحيا في المسيح (1 كور 15: 22). حينئذٍ نستطيع أن نهتف: "قد ابتلع الموت بالغلبة. فيا موت، أين انتصارك؟ يا موت، أين شوكتك" (1 كور 15: 54- 55)؟ إن كانت شوكة الموت هي الخطيئة (1 كور 15: 56)، "فالمسيح مات مرة واحدة من أجل الخطايا، مات، وهو البار، من أجل الأشرار ليقرّبنا إلى الله" (1 بط 3: 18).
هذا كان انتظار الشعوت والأمم منذ القديم. وهذا هو انتظارنا اليوم. فالشكر لله (روم 6: 17).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM