الفصل الثاني عشر: الصليب أو الأمانة التي تحرر

الفصل الثاني عشر
الصليب أو الأمانة التي تحرر

مقدمة
لا يستعمل العهد الجديد لفظة الأمانة حين يتحدّث عن وجود يسوع التاريخي. ولكنّه يُعلن مراراً أنّ يسوع كان "طائعاً".
الطاعة، طائع... لفظتان ملتبستان في إطارنا الحضاريّ. ففي عصر يهتمّ فيه الانسان بإثبات وجوده وتفتّح شخصيّته، تبدو الطاعة شيئاً يعارض القيمَ الحقّة لأنّها ترتبط بجوّ من التسلّط والاستعباد ونكران الذات.
ولكنَّ هذا لا يبدِّل الواقع. فحين أراد المسيحيّون الأوّلون أن يتحدّثوا عن ديناميَّة عهد يسوع الاجماليّة، لجأوا إلى مفردة "الطاعة". وقبل أن يوردوا- أقلّه خطيّاً- تعليم يسوع وأمثاله وعجائبه ونشاطه وطريقة عيشه، قالوا: كان طائعاً، فأبرزوا المعنى العميق لما عاشه. لماذا استعملوا هذه اللفظة وفي أيّ معنى استعملوها؟
بالاضافة إلى ذلك، لم يعلنوا فقط أنّ يسوع كان طائعاً، بل أنّ البشريّة خلصت بفضل هذه الطاعة. إنّ أمانة يسوع (أو طاعته) كانت أمانة محرِّرة. كيف ذلك؟
ستدفعنا هذه الأسئلة إلى تفحّص الشهادات المتعلّقة بطاعة يسوع.

1- "طائع حتى الموت" (فل 2: 6- 11)
هناك أوَّلاً النشيد الذي أورده بولس الرسول في فل 2: 6- 11. لن نحلّله بالتفصيل، ولكنَّنا نتوقّف عند العناصر التي تلقي الضوء على طاعة يسوع.
أ- أثر من الايمان الأوَّلاني
لم يؤلّف بولس هذا النشيد، بل أخذه من صلاة الجماعة المسيحيّة وكيّفه ليدخل في رسالته. بدأه بالضمير: "هو الذي" (آ 6) كما فعل في كو 1: 15- 20؛ 1 تم 3: 46؛ رج عب 1: 3.
جاء النشيد بشكل شعريّ، وتضمّن كلمات لا نجدها عند بولس في أماكن أخرى. مثلاً: كلمة "طائع" التي لا نجدها أيضاً إلاّ في 2 كور 2: 9. وهناك أفكار تبتعد عن الرؤية البولسية. مثلاً: لا يسمّي بولس أبداً المسيح: "خادم، عَبْد" (آ 7)، كما أنّه لا يتحدّث عن ارتفاعه. ثمّ إنّ النظرة العميقة المتعلّقة بسرّ المسيح تتعدّى الإطار المباشر وبالأخصّ التحريض الأخلاقي الذي نجده في آ 1- 5.
كلّ هذا يدلُّ على أنّ الجماعات المسيحيّة الأولى استعملت كلمة الطاعة لتبرز معنى حياة يسوع.
ب- الأمانة في الانفتاح على الله
ولكن، كيف نفهم آ 6: "هو القائم في صورة الله؛ لم يعتبر مساواته لله غنيمة"؟ بعضهم يقول: نحن أمام وجود يسوع الأزليّ. وآخرون: أمام وجود يسوع التاريخي: هو الذي كان في البشرية صورة الله الكاملة (= في صورة الله) لم يطلب، مثل آدم أن يجعل نفسه مساوياً لله. في هذه الحالة، نكون منذ آ 6، أمام طاعة يسوع التي تعارض عصيان آدم.
ولكن دون هذا التفسير صعوبات. مثلاً في آ 7 نحن أمام سرّ التجسّد: "بل لاشى (أفرغ، تجرّد عن) ذاته أخذاً صورة عبد، صار شبيهاً بالبشر فوُجِد كإنسان في الهيئة".
إنّ هذه الآية تقدّم فكرة جديدة بالنسبة إلى آ 6. ثمّ إنّه من الصعب أن نفهم "صورة عبد" (آ 7) التي تتجاوب مع "صورة الله" بمعنى "صورة الله الكاملة". وأخيراً إن آ 11 التي تتحدّث عن وضع الربّ التابع للارتفاع، تتجاوبُ مع حال الذلّ في آ 6. وهكذا نعود إلى الحديث عن الوجود السابق، الوجود الأزلّي ليسوع.
انحدار وارتفاع. تصوّر آ 6- 7 الانحدار وما فعله المسيح، آ 9- 11 الارتفاع وما فعله الله من أجل مسيحه. فالمسيح انحدر حتى النهاية، حتَّى الموت على الصليب. وإذ أقامه الله، رفعه إلى آخر حدود الرفعة فأعطاه اسم "الرب" (كيريوس) ومكانة الربّ، فجعل الكون كلّه يسجد له. وهكذا يستعيد المسيح وضع "المساواة لله" الذي كان له قبل التلاشي. فإذا رأينا في آ 6 تأكيداً للوجود الأزلي، فلا بدّ أن نلاحظ مرحلتين في انحدار المسيح وتنازله. أوّلاً: تلاشى، لاشى نفسه، أفرغ نفسه، آخذاً الوضع البشري (آ 7). ثانياً: أطاع حتَّى الموت (آ 8). إذن. ترجم النشيدُ الانحدارَ الأوّل على مستوى الكيان، والانحدارَ الثاني على مستوى العيش والوجود الملموس. إنّ عبارة "صار طائعاً حتَّى الموت" (آ 8)، تفهمنا مجمل ديناميَّة وجود يسوع التاريخي. هو وجود بشريّ عاشه كلّه في الطاعة.
وبمَ قامت هذه الطاعة؟ أساساً، هي علاقة انفتاح على الله وأمانة له. بما أنّ آ 9- 11 (الارتفاع) تتحدّث عمّا فعله الله ليسوع، فإنّ آ 6- 8 (الانحدار) تتحدّث عن علاقة يسوع بالله. وهكذا يجعل الله وجوداً بشريّاً موافقاً لإرادته، يصبّ في الملء والكمال. فصارت أمانة يسوع لله تجاوباً لأمانة الله ليسوع. وإلى "نَعَم" الطاعة جاء "نعم" التمجيد والارتفاع. وهذا الوضع لا يتبع فقط الموت على الصليب، بل الطاعة التي جعلته يصل إلى هذا الحدّ. "صار طائعاً... لذلك رفعه الله".
ج- الأمانة في خدمة الآخرين
إنّ الأمانة (أو الطاعة) كما نقرأها في فل 3: 6- 8، تكمن في علاقة مع الله. فهل تتضمّن أيضاً علاقة مع البشرية؟ هذا ما لا شكّ فيه. والنشيد يعلن تضامناً في الحالة البشرية: "صار شبيهاً بالبشر، فوُجدَ كإنسان في الهيئة" (آ 7). ولكن، هل نرى في عبارة "آخذاً صورة عبد" عودة لا إلى الكيان والوضع وحسب، بل إلى العيش والحياة؟ هل نقول إنّ المسيح صار عبداً للآخرين؟ هل تتضمّن طاعة يسوع الانفتاح على الآخرين مع الانفتاح على الله؟ قد يكون هذا البعدُ حاضراً لو عاد بنا النشيد إلى أناشيد عبد الله في أشعيا. ولكن هذه العودة ليست واضحة. إنّ فل 2: 10 ("لكي تجثو كلّ ركبة ويعترف كلّ لسان") تورد بوضوح أش 45: 23، ولكن هذا المقطع لا ينتمي إلى أناشيد عبد الله التي هي في أش 42: 1- 9؛ 49: 1- 6؛ 50: 4- 9؛ 52: 13- 53: 12. ولكن يبقى أنّ فكرة الطاعة والأمانة تضمّنت عند يسوع، فكرة خدمة الآخرين، إن لم يكن في هذا النصّ ففي نصوص أخرى.

2- "تعلّم ممّا تألّمه، أن يكون طائعاً" (عب 5: 7- 10)
ونجد أيضاً ذكراً لطاعة يسوع في عب 5: 8: "ومع كونه ابناً، تعلّم ممّا تألّمه، أن يكون طائعاً". يدخل هذا التأكيد في أوّل توسّع للرسالة إلى العبرانيّين عن المسيح عظيم الكهنة: لقد صار المسيح عظيم الكهنة بموته وقيامته. وانّ ف 5 يعرض أوّلاً مدلول الكهنوت ثمّ يبيّن كيف ينطبق على المسيح.
أ- علاقتان في الكهنوت
تتحدّد الخدمة الكهنوتية في آ 1 بعلاقتين. من جهة، علاقة مع البشر: عظيم الكهنة هو مثلهم وهو لهم ومن أجلهم. من جهة ثانية، علاقة بالله تترجم في تقدمة الذبائح: "كلّ حَبرْ يؤخذ من الناس (= من أجلهم) في ما هو لله (= علاقة بالله)" (آ 1). ثمّ يوضح الكاتب في آ 2 العلاقة مع البشر بكلمات تدلّ على التضامن في الضعف: "وهو قادر أن يتفهّم (يترفّق) الجهّال والضالّين لكونه هو أيضاً متلبّساً بالضعف" (آ 2). وتوضح آ 3 العلاقة مع الله، وهي تقوم بتقدمة الذبائح. وتُدخل آ 4 وجهة جديدة في هذه العلاقة متطلّعة في أصل الكهنوت: الحَبر هو مدعوٌّ من الله.
وبعد أنّ فسَّرَ الكاتب نظرته إلى الكهنوت، أخذ يطبّقها على المسيح.
ب- التطبيق على المسيح
نتوقّف أوّلاً عند المضمون العام في آ 5- 10 قبل أن نتركّز على آ 7- 8 اللتين تتحدّثان عن طاعة يسوع.
قالت آ 4 إنّ الانسان يصبح حَبراً حين يدعوه الله. وتؤكّد آ 5- 6 أنّ هذا هو وضع يسوع. فقد جعله الله حَبراً بالقيامة: "كذلك المسيح أيضاً لم يمجّد نفسه ليصير حَبراً، بل مجّده ذلك الذي قال له: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك (مز 2: 7). كما يقول في موضع آخر: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق" (مز 110: 4).
ويورد الكاتب استشهادين من المزامير. طبّق الأوّل على المسيح في 1: 5 والثاني في 1: 3. إذن، أقيم المسيح حَبراً بيد الله في قيامته.
وتعود آ 7- 8 إلى الوجهة الأولى من العلاقة مع البشر (مثلهم). تستعيدان الفكرة التي عبرّت عنها آ 2 لتبيّنا أنها تتحقّق في المسيح. فالمسيح قد تضامن مع البشر في الضعف. كان الكاتب قد قال شيئاً مماثلاً في 4: 15: "فإن الحَبر الذي لنا، ليس عاجزاً عن الرثاء لأسقامنا، بل هو مجرّب في كلّ شيء على مثالنا ما عدا الخطيئة". وهنا في 5: 7 يقدّم صورة ملموسة عن هذا التضامن في الضعف فيشير إلى خبرة الجسمانيّة. أخيراً، تعالج آ 9- 10 الوجهة الثانية من العلاقة مع البشر (لأجلهم)، وكان قد جرى الحديث عنها بالنسبة إلى الكهنة عامّة في آ 1 (يقام لأجل الناس).
فكما أنّ الحَبر يتدخّل من أجل البشر فيقدّم الذبائح، كذلك صار المسيح الحَبر (آ 10) من أجل الذين يطيعونه، مبدأ (علّة) خلاص أبدي" (آ 9).
وبعد أن جعلنا آ 7- 8 في مجمل التوسّع عن كهنوت المسيح، نستطيع الآن أن نتفحّص مضمونهما. تشدّد آ 7 على تضامن يسوع مع البشر فتدلّ على أنّه هو أيضاً عرف الضعف. مرّ يسوع في وضع صعب من المحنة فلجأ إلى الله: "إنّه هو الذي في أيّام بشريّته قرّب تضُّرعات وابتهالات في صراخ شديد ودموع إلى القادر أن يخلّصه من الموت، فاستجيب له بسبب ورعه (خضوعه)".
يبدو أنّ الكاتب يشير إلى حدث الجسمانية. هي خبرة خاصّة في حياة يسوع، يوم كان عائشاً في الجسد، خلال حياته على الأرض. وإذ يذكر الكاتب الصراخ الشديد والدموع، فهو يدخلنا في مناخ خبرة الجسمانيّة كما صوّرها الإزائيون متحدِّثين عن القلق والخوف والحزن. ثمّ إنّ الصلوات والابتهالات تصوّر ما فعله يسوع في تلك الليلة الرهيبة.
تحدّث 4: 15 عن تفهّم يسوع ورثائه لضعفنا فقال: "امتُحِنَ"، فدلّ على خبرة عاشها يسوع في الجسمانيّة. أمّا الخضوج (أو الورع) الذي تتحدّث عنه فيدلّ على عواطف يسوع في نزاعه الأخير. يقول 5: 7 إنّ صلاة يسوع استجيبت. أمّا في الجسمانيّة، فلم يقدر يسوع أن يتخلّص من الموت. هنا نعود إلى مز 116: "حبائل الموت أحاطت بي وشباك الجحيم أدركتني. لقيتُ الضيق والهمَّ فدعوت باسم الربّ... الربّ يحفظ البسطاء. كنت ضعيفاً فخلّصني... أنقذ نفسي من الموت، وعينيَّ من الدموع، وقدميَّ من الزلل".
لقد رأى الكاتب في خبرة يسوع في الجسمانية ما يقابل وضع البارّ المتألّم في بعض المزامير. وهكذا نفهم أنّه استجيب بالنسبة إلى القيامة: لقد أخرج الله يسوع من عالم الموت وأعاده إلى الحياة. هذا ما حدث للحجر الذي رذله البنّاؤون. لقد صار رأس الزاوية بالقيامة. استجيب لا لكونه أبعِد مؤقّتاً عن الموت، بل لكونه انتُزع من سلطان الموت بصورة نهائية. هذا ما يفهمنا أيضاً آ 8- 9 أ. إنّ الكاتب يكرّر ما قاله عن المسيح في آ 7. ففكرة الطاعة (آ 8 ب) تستعيد فكرة الخضوع (آ 7). وتقابل "استجيب" "بلغ الكمال" وتدلان على القيامة. حين يتكرّس الكاهن، يبلغ إلى الكمال. وانّ يسوع صار كاهناً بقيامته.
وهكذا تتجاوب آ 7 مع آ 8- 9: خضع يسوع لله الذي استجابه فأقامه (آ 7). أطاع المسيح حتّى الموت فتكرّس حَبراً في قيامته وفيه تحقّقت العلاقتان اللتان تكوِّنان الكهنوت: علاقة بالبشر في المحنة والضعف. وعلاقة بالله في الطاعة وتقدمة الصلوات والتضرّعات.
ج- "علّة خلاص للذين يطيعونه"
إن إحدى متطلّبات الوظيفة الكهنوتية هي التدخّل (التشفّع) من أجل البشر. صار بطاعته حَبراً، فاستطاع أن يُعين الآخرين. إنّ فل 2: 9- 11 عبرّت عن طاعة يسوع حين قالت: رفعه الله. وقالت عب 5: 7- 9: استجيب، بلغ الكمال. إنّ النصّ يعبّر عمّا تشكّله القيامة لا بالنسبة إلى يسوع نفسه، بل بالنسبة إلى الآخرين. علاقة مع البشر (مثلهم، لأجلهم) وعلاقة مع الله. هذا ما يحدّد الكهوت في نظر الرسالة إلى العبرانيين (5: 1). فالمسيح دلّ، عبر آلامه وموته، أنّه متضامن مع البشر (مثلهم) في الضعف والمحنة. لقد توصّل عبر آلامه، إلى أن يحافظ على علاقته مع الله: في الطاعة له قدّم الصلوات والتوسّلات. حينئذ كُرِّس حَبراً في قيامته. وإذ صار حَبراً، منحَ الخلاصَ للذين يطيعونه، للذين يرتبطون به بالايمان. في هذه الرؤية، تتّخذ أمانة (طاعة) يسوع المركز الأوّل. فبواسطتها صار يسوع حَبراً ورئيس كهنة، وبفضلها صار مخلّص الآخرين. إنّ أمانة يسوع تحمل التحرير له وللآخرين.

3- صليب الهوان وصليب المجد
هذا هو معنى الصليب. إنّه رمز الأمانة بالرغم من خيانة البشر، إنّه رمز الطاعة والخضوع بوجه التكبرّ الذي مارسته البشريه منذ البدء. إنّه يدلّ على علاقة المسيح بنا وعلاقته بالله. فهو من أجلنا ومن أجل خلاصنا تألّم ومات وقبر... بل قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء.
صليبنا لا يحصرنا في عالم الألم، بل يدلّنا على المجد. لهذا بعد أن نعيّد الجمعة العظيمة، يوم صُلب يسوع بين لصّين، نعيِّد ارتفاع الصليب، لأنّ يسوع لم يبقَ فقط ذلك العبد الطائع حتى الموت على الصليب، بل إنّ الله رفعه فأعطاه اسماً يفوق كلّ الأسماء، ورفعنا معه نحن الذين نعترف به ونسير على خطاه. أجل، لقد صار يسوع علّة خلاص هنا نحن الذين نطيعه، نحن الذين نؤمن به.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM