الفصل الرابع عشر: القيامة في العالم اليهودي

الفصل الرابع عشر
القيامة في العالم اليهودي

يوم العنصرة قال بطرس لليهود: "تكلّم داود على قيامة يسوع كما رآها من قبل فقال: ما تركه الله في عالم الأموات، ولا نال من جسده الفساد. فيسوع هذا أقامه الله. ونحن كلنا شهود على ذلك" (أع 2: 31- 32). وقال لليهود بعد شفاء مخلّع الباب الجميل: "قتلتم ملك الحياة، ولكن الله أقامه من بين الاموات" (أع 3: 15). ماذا فهم اليهود من هذا الكلام؟ وما كانت الخلفيّة اليهودية في فكر التلاميذ، وهم من الشعب اليهودي، حين تحدّثوا عن القيامة، عن قيامة يسوع؟
موضوع القيامة موضوع هام والعالم اليهودي. سنتوسّع في النصوص، ونتوقّف عند المسائل التي تطرحها هذه النصوص، قبل أن نورد نصوص الإنجيل.

1- الإله الواحد والحي
حين نقرأ العهد القديم، لن نجد ما وجدناه في العالم الوثني من سطرة موت وقيامة يكون بطلها إله إسرائيل. فلا وجود للميتولوجا في الكتاب المقدس. نحن لا نتكلّم عن بعض أشكال الديانة الشعبيّة التي عرفها هذا الملك أو ذاك فعبد الإله بعل الآتي من بلاد كنعان. وهذه العبادة الفاسدة لا تمثّل التعليم الأساسيّ الذي حمله موسى والآباء، ومن أجله حارب الأنبياء.
تعمّق الأنبياء في مفهومهم للإله الواحد، فتميّز عن القوى التي تعبّدت لها الشعوب المجاورة. لا شك في أن التوراة استعملت أسلوب السطر (أقوال في صورة) لتتحدّث عن أعمال الله العظيمة. صوّرت عمل الخلق بشكل صراع ضد وحوش الغمر. قال المرتل: "شققت البحر بقدوتك، وكسّرت رؤوس لاويثان (أو: الملتوي. وحش بحري بسبعة رؤوس يعود إلى التمساح) وجعلته مأكلاً لحيتان البحر" (مز 74: 13- 14). وهناك صور حول ظهور الله في العاصفة، والاله الآرامي هو إله العاصفة. "ارتجّت الأرض وارتعشت، وتزعزعت أسس الجبال ومادت من شدة غضبه. تصاعد دخان من أنفه ونار آكلة من فمه، وجمر متقّد ولهيب. أزاح السماوات ونزل منها، والضباب الكثيف تحت قدميه. ركب على كروب وطار، وحلّق على أجنحة الرياح" (مز 18: 8- 11). إلاّ ان هذه السطر تبقى رموزاً تدلّ بشكل ملموس على وجهة من وجهات أعمال الله.
أما موضوع الموت والحياة (الذي عرفته الديانات الشرقية، يموت أدونيس في الشتاء ويقوم في الربيع) فعارض معارضة تامّة فكرة الله الحي. لهذا يجب أن نتحدّث في هذا المجال عن انقطاع كامل وعدم تواصل بين الوحي البيبلي وميثولوجيات كنعان. وهكذا حاول الكتاب أن يزيل الطقوس والعادت المرتطة بهذه الآلهة. ومقابل هذا، أعطى الكتاب للربّ (يهوه، الإله الذي هو) صفات أعطيت للآلهة المختلفة: إنه وحده سيد الموت والحياة، إنه وحده موزّع الخصب والانتاج. ففي خبر الخلق أخرجت الأرض نبتاً بذره فيه (تك 1: 11- 12) وصار الحيوان ولوداً وتكاثر (تك 1: 22)، وتسلّم الانسان مهمة الانجاب: "أنموا وأكثروا واملأوا الارض" (تك 1: 28). ويقال في مكان آخر أن الله يُميت ويُحيي، يُنزل إلى الشيول (مثوى الأموات) ويُصعد (1 صم 2: 6). لا شك في أن هناك عودة الفصول من أجل خصب الحيوان والنبات، ولكن لا نجد لهذه الخصبة نمطاً أول في الدائرة الإلهية. وخبرة البشر حول الموت وعودة اياة لا تتحكّم بها قوة غريبة، بل كلمة الله وحدها: "قال فكان كل شيء، وأمر فثبت كل كائن" (مز 33: 9).

2- الربّ إله الحياة والموت
وهكذا تطرح التوراة مسألة الحياة والموت في إطار جديد. فالحياة كعطيّة وبركة من الله، والموت كعقاب ولعنة من الله، يشكّلان طريقين يسير بينهما مصير بشريّة خلقها الربّ حرّة ومسؤولة. في هذا المجال نقرأ خبراً نموذجياً في سفر التكوين الفصل 3 والخطيئة "الأولى". كما نقرأ تث 30: 15- 20 الذي يتوجّه إلى إسرائيل فيقول: "ها أنا جعلت بين أيديكم الحياة والخير (أو السعادة) والموت والشّر (أو الشقاء).. فاختاروا أنتم".
فالموقف الذي يتخذه الانسان تجاه الله وشريعته، يحدّد مصيره الأخير. هنا نتذكّر أن فكرة التوراة حول الموت لا تنحصر في ملاحظة فيزيولوجية (حسب الوظائف العضوية التي تدل على الحياة)، بل هي تتضمّن كل وجهات خبر الانسان الذي هو إله "محكوم عليه بالموت". هذه خلفيّة القيامة.
فوجود الانسان على الأرض التي أعطاها الله له مجالاً (مز 115: 16: السماء للربّ والأرض منحها للبشر)، هو في الواقع نتيجة قوى تتجاذبه بين الحياة والموت. بما أن الحياة هي عطية من الله، فروح الله الخالق هو الذي يحفظ الانسان في الوجود ويعطيه نسمة الحياة. غير أنه وجود عابر وموقّت. فالانسان أخذ من التراب ويعود إلى التراب. قال الكتاب في تك 2: 7: "وجبل الربّ الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة".
غير أن قوّة "شريرة" تكمن للانسان وتعتبره فريستها: هي قوّة الموت الشخصية التي تسكن في الشيوخ كما تقول رموز اصطلاحية الشرق القديم. فالشيوخ (أو مثوى الأموات) هو ما يقابل السماء حيث يقيم الله. ليس الشيول فقط الموضع السفلّي الذي إليه ينزل الأموات، بل المكان الذي لا يكون الله فيه، والذي يكون الله بعيداً عن حضوره (مز 88: 6: رجل متروك بين الاموات. لا تذكره من بعد، ومعونة يدك انقطعت عنه). الشيول هو نقيض الحياة، وهناك يُجمع الراقدون بيد الموت، ذاك الراعي الذي يقود الموتى إلى المرعى (مز 49: 15).
الويل لمن يقع في قبضة الموت ويصبح سجين قوة الشيول. الله وحده هو الذي يستطيع أن يخلّصه منه. ومقابل هذا، الله وحده هو الذي يسلّم البشر إلى الموت (هو 13: 14). غير ان هذه القوة الشريرة لا تظهر فقط ساعة يسقط جسد الانسان تحت ضربات قاضية. بل هي حاضرة في كل الظروف التي تشكّل خطراً على حياة الانسان. فالمريض هو موضوع غضب الله، وهو بالتالي يشبه "الهابطين إلى الهاوية" (مز 28: 1)، لأنه مسلَّم إلى سلطان الموت. هنا نفهم الطريقة التي بها يتوسّل المرضى إلى الله هي يخلّصهم من الموت، كي يحميهم من الهاوية. أو بها يشكرونه لأنه أصعدهم من الشيول وأعاد إليهم الحياة. قال المرتّل: "الربّ يغفر جميع ذنوبي ويشفي جميع أمراجم، يفتدي من الهوّة حياتي، وبالرحمة والرأفة يكلّلني" (مز 103: 3- 4).

3- الربّ هو وحده الذي يحيي
إن صورة القيامة تتّخذ مكانها في هذا الإطار. فقد تعني بكل بساطة عودة إلى الحياة بالنسبة إلى إنسان جعله المرض في قبضة الموت، أو إلى شعب انحطّ فصار شبيهاً بجثّة مرميّة في ساحة القتال. هنا نتوقّف عند ثلاثة نصوص نبوية. في الأول (هو 6: 1- 6) نقرأ صلاة اسرائيل في ليتورجية توبة. وفي الثاني نتعرّف إلى مشهد رهيب يقدّمه لنا حزقيال (37: 1- 14): واد ممتلىء عظاماً ستعود إليها الحياة. وفي الثالث نرى عودة الشعب إلى الحياة بعد أن برّره الله (أش 26: 14- 19).
* ماذا نقرأ في النص الأول؟ "تعالوا نرجع إلى الربّ لأنه يمزّق ويشفي، يجرح ويضمّد، يحيينا بعد يومين، ويقيمنا في اليوم الثالث فنحيا في حضرته".
يشبّه النبيُّ الله بنمر كاسر أو بمحارب باسل. كما يشبّهه بطبيب يشفي ويعصب الجراح. وها هو الشعب يتوسّل إليه. غير أنه رفض أن يسمع له. فالشعب يعتبر أن النتيجة تأتي بصورة آليّة: قدّم لربه الطقوس الواجبة، فليقم الرب بواجبه! ولكن التوبة الحقيقيّة تفرض عودة الانسان إلى حبّ الله ومعرفته. لهذا، فقيامة الأمّة التي ضربها الله، لا تتمّ خارج الشروط التي وضعتها شريعة العهد. إن هذه القيامة ستكون عطيّة آخر الأزمنة.
هنا نورد تفسير هو 6: 2 في التقليد اللاحق. ترجمت السبعينية اليونانية النصّ بشكل ملتبس بعض الشيء: "يشفينا بعد يومين، وفي اليوم الثالث نقوم ونحيا أمامه". أما الترجوم (ترجمة آرامية) فكان أكثر وضوحاً: "يحيينا في أيام التعزية الآتية. يوم يحيي الموتى يقيمنا فنحيا أمامه". إذاً "اليوم الثالث" في النص العبريّ هو يوم قيامة الموتى. وهنا نصل إلى عتبة العهد الجديد.
ونقرأ في درس (مدراش) حول تك 22: 4 عن اليوم الثالث، فنتعرف إلى الأحداث المرتبطة بهذا اليوم: نجاة بني يعقوب بفضل يوسف (تك 42: 18). إعطاء الشريعة على جبل سيناء (خر 19: 16). نجاة الجواسيس بيد راحاب (يش 2: 16). العودة من المنفى في أيام عزرا (عز 8: 32). خلاص الشعب بواسطة استير (أس 5: 1). نجاة يونان في بطن الحوت (يون 2: 1). وفي النهاية، قيامة الموتى "في اليوم الثالث، يوم إحياء الموتى (كما كتب): بعد يومين يحيينا وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه". أما اليوم الثالث فهو أصلاً يوم لقاء الربّ بعد المحنة.
* وماذا نجد في نص حزقيال (37: 1- 14)؟ الموت هو هبة اسكاتولوجية تعطى في نهاية الأزمنة. حين يحل روح الربّ على الموتى يصعدون من القبور، يقفون على أرجهلم ويعودون إلى الحياة.
غير أن استعمال هذا الرمز له معناه: إنه يطبّق على حياة شعب الله. بدأ يقول: الله يقدر وحده أن يقيم الموتى، ان يجعل الذين نزلوا إلى الشيول أن يخرجوا منه وينهضوا. وهكذا تتحدّد الألفاظ التي تتكلم عن قيامة الموتى. الربّ يحييهم، يعيدهم إلى الحياة. الربّ ينهضهم من الشيول، من عالم الموتى: الرب يصعدهم من القبور... ونزيد على هذه التعابير استعارة "الاستيقاظ" و"الاقامة" التي يطبّقها أشعيا على أورشليم الراقدة في التراب (52: 2)، وفي الظلمة (60: 2)، فيهتف: "استيقظي، استيقظي، قومي، يا أورشليم" (أش 51: 17). فالموت هو "رقاد" يدخل ميه الانسان حين لا ينيره الله بنور وجهه (مز 13: 4).
وإليك كيف فسّر التقليد نهاية حز 37: 1- 14. تحدّث عن قيامة الأبرار في اليوم الأخير: "يا ابن الانسان، بما أعمله لهذه العظام، تعرف ما سأعمله لبني اسرائيل الذين يموتون في المنفى. فبنو اسرائيل قالوا: بما أننا نموت دون أن نشاهد النجاة التي يصنعها الربّ لبني اسرائيل، فقد يبست عظامنا، وانتهى أملنا، وهلك انتظارنا. لهذا تنبّأ هكذا وقل لهم: هذا ما يقول الربّ الإله: ها أنا سأجمع شتاتكم (أنتم المشتتون)، وأفتح قبور موتاكم. أصعدكم من قبوركم وأدخلكم إلى أرض اسرائيل". هنا نتذكّر كلام الانجيل عن الودعاء الذين يرثون الأرض (مت 5: 5)، أي أرض السعادة، أرض الله.
* ونقرأ في رؤيا أشعيا الكبرى مقطعاً اسكاتولوجياً يجمع على هذه العبارات التي تدلّ على عودة الشعب إلى الحياة.
هناك أولاً منظار الموت: "الأموات لا يحيون، والاشباح لا يقومون. لهذا افتقدتهم ودمّرتهم وأبدت كل ذكر لهم" (26: 14). هذا هو توسيع في عبارة "الله يميت". وهناك منظار القيامة: "موتاك سيحيون وتقوم جثثهم. استيقظوا ورنموا يا سكان التراب (يدفن الموتى في التراب). نداك يا ربّ ندى النور وأرض الاشباح تلد" (أي: تخرج الذين في داخلها الى الحياة كما من حشا)" (26: 19).
في هذا الاطار الاسكاتولوجي، نستشفّ انتصار الله على الموت. وهذا ما تعلنه رؤيا أشعيا بوضوح: "ويزيل الربّ في هذا الجبل وجه الحداد الذي يغطّي جميع الشعوب، والحجاب الذي يستر كل الأمم. يبيد الربّ الموت على الدوام، ويمسح السيّد الدموع عن جميع الوجوه" (أش 25: 7- 8).
إن معاصري يسوع تصوّروا القيامة وحياة العالم الآتي وموضوع رجائهم بشكل حياة متجلاّة، وبعيدة عن كل قراءة حرفيّة تجعل الحديث عن الوليمة بطعامها وشرابها على مثال ولائمنا البشرية. حين حدّثوا يسوع عن الزواج أجابهم: "في القيامة لا يزوّجون ولا يتزوّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء" (مت 22: 30). وسيقول القديس بولس في روم 14: 17: "ليس ملكوت الله أكلاً وشراباً، بل عدل وسلام وفرح في الروح القدس".
في هذا الاطار نقرأ ترجوماً لنص أش 26: 19 في السبعينية: "الموتى يقومون، والذين في القبور يستيقظون، والذين هم في التراب يبتهجون، لأن الندى الآتي من عندك هو دواء. ولكن أرض الأشرار ستسقط". ونجد في ترجوم يوناثان، وحو تفسير فلسطيني قديم، ما يلي: "أنت الذي تحيي الأموات، أنت الذي تقيم الأموات، أنت الذي تقيم عظام الاشلاء. والذين طُرحوا في التراب يحيون وينشدون أمامك. فنداك هو ندى نور للذين يعملون شريعتك. أما الأشرار الذين منحتهم القوّة فتعدّوا كلمتك، فأنت تسلمهم إلى الجحيم".

4- القيامة الخاصة أو الفردية
هناك القيامة الخاصّة أي الخاصة بكل إنسان، والقيامة العامّة التي ستشمل جميع البشر. القيامة الخاصّة هي القيامة الفرديّة. وهنا لن نعود أمام الاستعارات والصور، بل نصل إلى الواقع في آخر الأزمنة. ونقرأ في هذا المجال دا 12: 1- 3: "في ذلك الزمان ينجو شعبك، كل من يوجد مكتوباً في الكتاب (أو: سفر الحياة كما يقول سفر الرؤيا). وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون: بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرذل الأبدي. العقلاء (الحكماء بحكمة الله) يضيئون كضياء الجلد، والذين برّروا الكثيرين يكونون كالكواكب إلى الدهر والأبد".
نحن أمام استيقاظ خاص للأبرار بعد رقاد الموت. نحن أمام خروجهم من تحت التراب حيث يضطجعون جثثاً هامدة. أما الباقون فيظلّون في الشيول، في العار الأبديّ. الأسلوب هو هو. ولكن العودة إلى الحياة التي تعني الشخص البشري ككل، التي تعنيه جسداً ونفساً، ليست دخولاً في دورة جديدة من الوجود الأرضي ستنتهي في يوم من الأيام، لتبدأ بعدها دورة أخرى. كلا، بل نحن أمام "حياة أبديّة". هذا يعني أن قوّة الموت قُهرت بصورة نهائيّة. ثم نحن أمام دخول إلى عالم متجلّ ونيّر (كما السماء والكواكب)، إلى عالم لا يعرف الفساد. وهذه الصورة الأخيرة تبدو بشكل استعارة لا علاقة لها بأحلام الخلود في الكواكب كما تصوّرها عالم مصر أو اليونان: لم يعد لنا ان نقاسم الكواكب حياتها. فالكواكب هي خليقة الله. بل يبقى لنا أن نتقبّل من الله الحي حياة تظل بشريّة دون أن يحكم عليها مجدداً بالموت.
إذا أردنا أن نفهم ما يلمّح إليه نصّ دانيال هذا، نتذكّر الطريقة التي بها تصوّر العالم، اليهودي العالمَ الآتي الذي هو إطار لمجازاة الأبرار في نهاية الأزمنة "السالفة والتي لا تخطر على البال" (أش 65: 17). نحن أمام صورة لأورشليم جديدة صارت مثل الفردوس الذي استعاده الناس بعد أن أضاعوه (أش 65: 18- 25).
إن لغة البشر هي أضعف من أن تصوّر هذا الواقع الذي هو خلف الزمان والتاريخ، هذا الواقع الذي تقدّم لنا خبرتُنا عنه صوراً وظلالاً. ولكن هذا يكفي لكي نفهم معنى المشاهد التي فيها اتخذ موضوع القيامة مكانه الأساسيّ. ففكرة دينونة الله هي المحور. إذ في "اليوم الأخير" يتثبّت إلى الأبد المصيران اللذان سيقدّمان إلى البشرية حسب مبدأ سفر التثنية: من جهة البركة والحياة. ومن جهة أخرى اللعنة والموت.
هنا نعود إلى سفر أخنوخ (كتاب منحول أي غير ملهم) الذي يصوّر في قسمه الأخير استيقاظ الأبرار في نهاية الأزمنة ونهوضهم من الشيول: حين يردّ الشيول ما احتفظ به، يجلس المختار (أي: ابن الانسان) على عرش مجيد، ويدخل الابرار إلى أرض متجلاّة حيث يعيشون في النور مثل ملائكة السماء.

5- بُعد النصوص ومرماها
انطلقت التوراة من رموز وصور وتعابير وجدتها في العالم المحيط بها، ولا سيّما في أرض فارس. إلاّ أن تطوّر الأفكار خضع لمنطق داخلي. بدأ موضوع القيامة على مستوى جماعي في حزقيال، ثم على مستوى فردي في دانيال. لماذا؟ لأنه وجد أمامه مسألة لا بد من حلّها، وهي: موت الشهداء خلال اضطهاد انطيوخس أبيفانيوس: هل يمكن لأناس قرّبوا حياتهم من أجل الإيمان أن لا يشاركوا في "العالم الآتي" الذي يرجوه شعب الله؟ فهؤلاء الموتى الذين ينزلون إلى الشيول، لم يعودوا مشمولين ببركة الله، لم يعودوا يشاركون في الحياة مع الله وفي الخيرات التي يعد بها الكتاب المقدس. ولكن هذا مستحيل. لهذا أعطى سفر دانيال ما أعطى من جواب.
هنا نطرح سؤالاً ثانياً عن القيامة: ما هو البعد الدقيق لهذه النصوص، وأسلوبها أسلوب سطري ومليء بالصور؟ سيكون الجواب في عالم وجودي تعيدنا إليه المواضيع الأساسية في الوحي البيبلي. بهذا العالم ترتبط مسألة الموت وما فيها من قلق، ولا سيما مسألة موت الأبرار والشهداء الذين يعطيهم التعليم عن القيامة لا جواباً نظرياً وماورائياً، بل جواب الرجاء.
لا شكّ في أننا نجد في اللغة المستعملة عناصر سطرية: استيقاظ الراقدين الذين يرقدون، النهوض خارج الشيول، فردوس يبدو بشكل أرض قد تحوّلت... ولكن تبقى عبارة أساسيّة وهي تختلف كل الاختلاف عن هذه الصور: الله "يحيي" الذين ماتوا، فيدخلون إلى "الحياة الأبدية" التي هي حياة مع الله.
في هذا المجال تلتقي الاسكاتولوجيا اليهودية، مع عبارات المرتّل الذي لم يتلقّ نوراً خاصاً حول الآخرة، ولكنه عبّر عن ثقته بأن الله "يأخذه" فينجو من براثن الموت (مز 73: 23- 25): "أنا معك في كل حين، تمسكني بيدي اليمنى. بمشورتك تهديني وإلى المجد تأخذني من بعد. من لي في السماء سواك، وفي الأرض لا أريد غيرك". أجل، سيعرف المؤمن الفرح أمام الله (مز 16: 10- 11)، وسيبقى متّحداً معه إلى الأبد في حياة بدأ يختبرها على هذه الأرض.

خاتمة
وهكذا نصل إلى العهد الجديد مع الدينونة التي تقسم الناس فئتين: "كثيرون من الناس سيجيئون من المشرق والمغرب ويجلسون مع ابراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات. وأما من كان لهم الملكوت فيُطرحون خارجاً في الظلمة، وهناك البكاء وصريف الأسنان" (مت 8: 11- 12). وفرحة وليمة الفردوس التي يشارك فيها المختارون تفترض ظهوراً لابن الانسان على السحاب (مت 24: 30- 31). حينئذ يتم الفصل بين المختارين والهالكين (مت 13: 41- 43؛ 25: 31- 32)، وتتّخذ قيامة الموتى مكانها في هذا الاطار المعروف.
تحدّث يسوع عن القيامة وتحدّث عن قيامته بعد آلامه وموته. لن يفهم تلاميذه ما يقول (مر 9: 9- 10). فالتفكير اليهودي لم يكن ليتصوّر قيامة يسوع. فالواقع الجديد الذي جاء مع يسوع يتعدّى كل ما يتصوّره عقل بشري، يتعدّى كل ما وصل إليه العهد القديم والتقليد اليهودي. كانت هناك تهيئة لهذه الخبرة الفريدة. ولكنها تهيئة ناقصة. والإيمان وحده هو الذي سينقل هؤلاء الرسل إلى مستوى قيامة المسيح فيعلنون قائلين: "المسيح مات من أجل خطايانا... ودفن وقام في اليوم الثالث". هذا ما آمن به الرسل وهذا ما نؤمن به نحن، وهذا سيبقى إيمان الكنيسة حتى نهاية العالم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM