من السبت إلى السنة السبتيّة واليوبيل
 

من السبت إلى السنة السبتيّة واليوبيل

حين نسمع في ميلاد يسوع كلام الملائكة للرعاة، إني أبشّركم بفرح عظيم، وُلد لكم مخلّص وهو المسيح الرب، نفهم معنى اليوبيل الذي هو كل خمسين سنة، وتعيشه الكنيسة منذ سنة 1300، وهي تحتفل به بشكل خاص في سنة الألفين. هو عيد يدعونا الله إليه. وهو نداء لكي نتذكّر المسيرة التي عاشتها الكنيسة منذ ألفي سنة، ودعوة لكي نواصل هذه المسيرة حتى مجيء المسيح الثاني.
وكلامنا يتوقّف عند العهد القديم فنكتشف ثلاث محطات في معنى اليوبيل الأساسيّ: هو يوم راحة بعد التعب والقلق. هو يوم تحرير للأرض والانسان. هو يوم نعفو فيه بعضنا عن بعض، فننسى ديوننا تجاه اخوتنا وننتظر غفرانًا عامًا من الله من أجل مسيرة جديدة لا تتوقّف إلا في يوم راحة الربّ.
كلامنا يسير في ثلاث محطات: يوم السبت، السنة السبتيّة، السنة اليوبيليّة.

1- يوم السبت
عندما نقرأ أسفار موسى الخمسة، نستطيع أن نكتشف التشريع الكهنوتي الذي يبدأ في سفر الخروج (24: 15) وينتهي في سفر اللاويين (ف 27). تبدو هذه المجموعة الواسعة بشكل خطبة يوجّهها الله إلى موسى في بريّة سيناء. ولكنها في الواقع قد دوِّنت بيد الكهنة خلال المنفى (587- 538) إلى بابل وبعده، أي في القرن السادس ق م.
نميّز في هذه المجموعة قسمًا يتفرّع منها، وهو ما سُمِّي شرعة القداسة (لا 17- 26)، لأن هناك خطًا يقود مسيرته ونحن نقرأه في لا 19:2: "كونوا قدّيسين لأني أنا قدوس". ويتوقّف الكاتب بشكل خاص عند اليوم السابع والسبت.
ونبدأ بأهم العناصر في هذا الكلندار (الروزنامة) المؤسَّس على الرقم سبعة:
- اليوم السابع هو يوم السبت.
نقرأ في لا 23:3: "في ستّة أيام تعمل عملاً، واليوم السابع هو سبت، يوم راحة مع اجتماع مقدّس، يوم لا تعملون فيه عملاً: فهو سبت للربّ في جميع دياركم".
- وهناك أعياد تمتدّ سبعة أيام. عيد الفطير في الربيع (لا 23: 6-8) الذي سيرتبط بعيد الفصح، وعيد المظال في الخريف (لا 23: 33-36). "وفي اليوم السابع يكون اجتماع مقدّس. لا تعملون فيه عملاً شاقًا" (آ 6؛ رج آ 36).
- عيد البواكير (لا 23: 15-21) يُعيَّد خمسين يومًا بعد تقديم الحزمة الاولى، أي بعد سبعة أسابيع ويوم واحد، بعد سبع سبعات.
- والسنة السبتيّة (لا 25: 2-7) تختتم دورة من سبع سنين.
- والسنة اليوبيليّة تختتم دورة من سبع سنوات سبتيّة (لا 25: 8، 10، 11).
هذا الايقاع السباعيّ للزمن، قد صاغه التيّار الكهنوتي في زمن المنفى فبدا مهمًا جدًا. إنه يعكس نظامًا دينيًا متماسكًا يتوخّى مساعدة الشعب لكي يعيش وضعه في المنفى والتهجير والتشتّت، لكي يحافظ على هويّته الدينيّة وعلى تماسكه تجاه القوى السياسيّة والجاذبيّة الدينيّة للعالم الوثنيّ. في هذا الإطار الجديد، اتخذ نظام السبت الذي عرفه الشعب قبل المنفى، في عالم القرية والحيّ في المدينة، مدلولاً جديدًا. فاستعاد الكهنة قراءة تاريخ الشعب قراءة لاهوتيّة.
"أذكر يوم السبت وقدّسه لي. في ستّة أيام تعمل وتُنجز جميع أعمالك. واليوم السابع سبت للرب إلهك. لا تقُم فيه بعمل ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وجاريتك وبهيمتك ونزيلك الذي في داخل أبوابك. فالرب في ستّة أيام خلق السماوات والأرض والبحر وجميع ما فيها، وفي اليوم السابع استراح. ولذلك بارك الرب يوم السبت وقدّسه له" (خر 20: 8-11).
يسبت الانسان، أي يرتاح، لأن الله فعل ذلك حين خلق السماء والأرض. أما النصّ التالي، فيتخذ لهجة التهديد.
"تحافظون على سبوتي (أي أيام السبت) لأنها علامة بيني وبينكم من جيل إلى جيل، لتعلموا أني أنا الربّ الذي قدّسكم. تحافظون على (تحفظون) السبت لأنه مقدّس لكم. ومن دنّسه يُقتل قتلاً. وكل من يعمل فيه عملاً يُقطع من أهل قرابته. في ستّة أيام تعمل، واليوم السابع مقدّس (= مكرّس، مخصَّص) للرب. كل من عمل عملاً في يوم السبت يُقتل قتلاً. فعلى بني اسرائيل أن يحفظوا (يحافظ على) السبت، ليجعلوا من السبت عهدًا مؤبّدًا من جيل إلى جيل. وهو بيني وبين بني اسرائيل علامة إلى الأبد. هو علامة بأن الرب في ستّة أيام صنع السماوات والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفّس الصداء" (خر 31: 12-17).
نحن هنا أمام عهد بين الله وشعبه. والسبت هو علامة عن الحفاظ على هذا العهد. فكيف يتجاسر الشعب ويزيل هذه العلامة، وكأن عهده مع الرب لا قيمة له (رج خر 35: 2-3؛ لا 23: 3)؟
ماذا نجد في هذه النصوص الكهنوتيّة حول السبت؟
إن نشاط الله الخالق هو النموذج الأساسيّ: ستة أيام من العمل ويوم للراحة. ويوم الراحة هذا يضع حدًا لهذا الاندفاع من أجل الانتاج والانتاج في عالم البشر. كما أنه يشكّل وسيلة تحرّر للأفراد. فالعمل ليس علة وجود الانسان الوحيدة.
ويوم الراحة هذا يوم مقدّس، يوم مكرّس. لم يعد مُلك الانسان، بل ملك الله. خرج من الاطار الحصريّ للعمل وارتبط بقداسة الله. وممارسة السبت هي علامة مميَّزة. هي صورة تميّز الشعب العبراني عن سائر الشعوب، كما تميّز المؤمنين عن اللامؤمنين. صار السبت شبيهًا بالختان: إحدى علامات العهد بين الله وشعبه.
وتنتهي هذه المجموعة الكبيرة من النصوص التشريعيّة الكهنوتيّة مع لا 26 الذي يتضمّن كلامًا يحضُّ فيه "الواعظ" المؤمنين على المحافظة على السبوت وإكرام المعبد (آ 2). وسلسلة من البركات ترافق من يعمل بوصايا الربّ (آ 3، 13)، وسلسلة من الويلات للذين لا يراعون هذه الفرائض (آ 14- 39) مع عقاب مسبَّع، لأن الشعب رفض تحريضات الربّ (آ 18، 21، 24). ويبقى النصّ مفتوحًا على إمكانيّة التوبة (آ 40- 45).
نلاحظ أن عدم المحافظة على السبوت هو أحد الأسباب الأساسيّة لتشتّت الشعب خارج أرضه. وهذا المنفى يعطيه مهلة لكي يتمّ عقابه، كما يتيح للأرض أن تتمّ سبوتها وأيام راحتها (آ 34، 35، 43).

2- السنة السبتيّة
ونعود إلى لا 25 مع التشريع الكهنوتيّ الذي يبدو سلسلة من الخطب يقدّمها الله لموسى، لكي يقدّمها موسى إلى الشعب، وهكذا يعرف الشعب وصايا الله. ويتبدّل موضع هذه الخطب بين فصل وآخر. أولاً، على جبل سيناء (خر 24: 15- 31: 17). ثانيًا، قرب خيمة اللقاء (خر 40: 14-15)، ثم في داخل خيمة اللقاء (لا 1: 1- 24: 23). وفي النهاية، نعود إلى جبل سيناء (لا 25: 1-26: 46). إذن، نحن مع لا 25 على جبل سيناء. "وكلّم الربّ موسى في جبل سيناء فقال: قل لبني اسراءئيل: إذا دخلتم الأرض التي أعطيها لكم..." (آ 1-2).
أما القسم الأول من ف 25، فيتحدّث عن السنة السبتيّة، أي السنة التي تعود مرّة بعد ست سنين، كما يعود السبت مرّة بعد ستة أيام. ماذا نقرأ في هذا المجال؟
"إذا دخلتم الأرض التي أعطيها لكم، فليكن لها سبت عطلة للرب. ستّ سنين تزرعون حقولكم، وست سنين تقضبون كرومكم وتجمعون غلالها. وفي السنة السابعة يكون للأرض سبت عطلة مكرّس للرب، فلا تزرعوا حقولكم ولا تقضبوا كرومكم. والحصيد النابت من تلقاء ذاته لا تحصدوه وعنب كرومكم غير المقضوبة لا تقطفوه. هي سنة سبتيّة للأرض. تأكلون ممّا تنبته الأرض خلال هذا السبت، أنت وعبدك وأمتك وأجيرك والضيف النازل عندك، وكل من يقيم عندك. وتأكل البهائم والوحوش في أرضك. تأكل من كل ما تنبته الأرض" (لا 25: 2-7).
الأرض تسبت سبوتها للرب. أي ترتاح في سبتها الذي يقع في السنة السابعة، بعد ست سنين من زرع الحقول وقضب الكروم والتقاط الحصيد. أجل، تنال الأرض راحتها. فالأرض صارت شخصًا حيًا. فكما يرتاح الانسان في اليوم السابع، ترتاح الأرض في السنة السابعة. فهي كالانسان تريد أن تعيش في توافق مع وصايا الله.
أن ترتاح الأرض، أن يمارس الفلاح عادة إراحة أرضه في أوقات محدّدة، ممارسة جرت عليها المجتمعات الزراعيّة التي لم تعرف الاسمدة كما هو الحال في أيامنا. وهذا كان يتمّ مرّة في كل ثلاث سنين بالنسبة إلى جزء من الأرض المزروعة. أمّا في لا 25، فيجب أن ترتاح الأرض كلها، في كل البلاد، دفعة واحدة. غير أن هذا النظام يطرح عددًا من المشاكل. ونحن نكتشف بعضها في 1مك 6: 48-54 الذي يروي حالة المحاصرين سنة 164- 163 ق م. الذين نقصهم الطعام بسبب حلول السنة السابعة.
"أما سكّان بيت صور فعقدوا صلحًا مع الملك لاضطرارهم إلى الخروج من المدينة لأن الطعام نفد من عندهم وما عادوا يتحمّلون حالة الحصار، بخاصة أن تلك السنة كانت سنة سبتيّة... ما كان في مخازنهم طعام لأن السنة كانت السنة السابعة التي ترتاح فيها الأرض. فلم تبقَ إلاّ جماعة قليلة في المكان المقدّس لأن الجوع أخذ يفتك بهم. فتفرّقوا كل واحد إلى بيته".
طُرح سؤال: ماذا نفعل؟ ونحن إن قرأنا النصّ الكتابيّ وأردنا أن نطبّقه على حرفيته، فلن يكون ذلك ممكنًا. فالجوع يحلّ بالبلاد كما حلّ بالمحاصرين في بيت صور. لهذا، قُدِّم جواب لاهوتيّ.
"فإن قلتم: "ماذا نأكل في السنة السابعة إذا كنا لا نزرع ولا نجمع غلالنا"؟ أجبتكم: "أبارك لكم الأرض في السنة السادسة، فتغلّ لثلاث سنين. فتزرعون في السنة الثامنة وتأكلون من الغلّة القديمة إلى مجيء غلّتها في السنة التاسعة"" (لا 25: 20-22).
إذن، بركة الله تجعل السنة السادسة تُنتج ما يكفي من الطعام من أجل الشعب حتّى السنة الثامنة. هنا نتذكّر عبور صحراء سيناء وعطيّة المن. ففي اليوم السادس، كان يلتقط الشعب ما يكفيه في اليوم السادس وفي اليوم السابع. وهكذا لا يعملون في يوم السبت، بل يخلدون إلى الراحة على مثال الربّ (خر 16: 22-30). وما قيل بالنسبة إلى اليوم السابع يُقال بالنسبة إلى السنة السابعة. فيبقى على الشعب أن يجعل كل اتّكاله على الرب.
ولكن ما قيل عن اليوم السابع، لا يُقال بسهولة عن السنة السابعة. فإذا أردنا أن لا تسيطر المجاعة في البلاد، يجب أن تكون الغلّة خارقة في السنة السادسة، أن يكون تضامن بين جميع أفراد الشعب، أن يكون المسؤولون قادرين على تدبير المواد الغذائيّة على مثال يوسف في مصر. وبسبب غياب هذه الشروط الثلاثة، نستطيع القول إن السنة السابعة ظلّت حبرًا على ورق ولم تطبّق في واقع حياة الشعب. إلاّ أن الأساس يبقى هو هو: دعوة إلى العمل في السنوات الست، دعوة إلى التضامن داخل الشعب ومع القريب والبعيد، دعوة إلى المسؤولين ليكونوا على قدر المهمّة الملقاة على عاتقهم.
هذا على المستوى العمليّ. وإذا رحنا في الأساس نفهم أن لا 25: 20-22 يحيلنا إلى بركة اليوم السادس في خبر الخلق، وهي بركة تتبع خلق الرجل والمرأة وتشمل عطيّة الطعام للخلائق (تك 1: 26-31). ففي المنظور اللاهوتيّ للكاتب الكهنوتيّ، لا نهتمّ أولاً بموارد الطعام، بل بممارسة وصايا الله. وهذا ما يجعلنا في خطّ عظة الجبل: "لا تهتمّوا فتقولوا: "ماذا نأكل؟ ماذا نشرب؟ وماذا نلبس"؟ فهذا يطلبه الوثنيّون، وأبوكم السماوي يعرف أنكم تحتاجون إلى هذا كله. فاطلبوا أولاً ملكوت الله ومشيئته، والباقي يزاد لكم. لا يهمّكم أمر الغد، فالغدّ يهتمّ بنفسه" (مت 6: 31-34).
حين نقرأ هذه النصوص نكتشف أن الأرض التي نقيم عليها ونفلحها فتعطينا طعامًا، ليست شيئًا نمتلكه ونتصرّف به على هوانا. فكان رباط بين علاقتنا بالأرض وعلاقتنا بالله. ويبقى أمر لم يُشر إليه التشريع الكهنوتي، ألا وهو تحرير العبيد الذي تحدّثت عنه شرعة العهد (خر 20: 22- 23: 19)، والشرعة الاشتراعيّة التي نجدها بشكل خاص في سفر التثنية. كل هذا نتحدّث عنه في معرض حديثنا عن اليوبيل.

3- سنة اليوبيل
يبدأ لا 25 فيقدّم الاعلان العام: "وأحسبوا لكم سبع سبوت من السنين، سبع مرات من السنين. وأيام السبوت السبعة من السنين تكون لكم تسعًا وأربعين سنة. تنفخون في البوق، في اليوم السابع من الشهر العاشر، في يوم الكفّارة، تنفخون في البوق في أرضكم كلها. وتقدّسون (= وتكرّسون) لي سنة الخمسين، وتنادون بتحرير في الأرض من أجل جميع سكّانها. هذه تكون لكم يوبيلاً. فترجعون كل واحد إلى ملكه، ويعود كل واحد إلى عشيرته. فالسنة الخمسون تكون لكم يوبيلاً. لا تزرعوا فيها، ولا تحصدوا الحصيد النابت من تلقاء ذاته، ولا تقطفوا عنب كرومكم غير المقضوبة. لأن هذا اليوبيل مقدّس لكم. تأكلون ممّا يغلّه الحقل. في سنة اليوبيل هذه ترجعون كل واحد إلى ملكه" (آ 8-12).
بعد أن حدّد الكاتب سنة اليوبيل (آ 8) وزمانه (آ 9)، أمر بتقديس، بتكريس السنة الخمسين، بإعلان تحرير عام (آ 10 أ)، قبل أن يقدّم المعطيات الملموسة للاحتفال باليوبيل (آ 10 ب- 13). هذه القطعة تُبنى على كلمة "يوبيل" التي تتكرّر أربع مرات. في البداية (آ 10 ب) وفي النهاية (آ 13) يُطلب من كل واحد أن يعود إلى ملكه. وما بين البداية والنهاية، يُمنع أي نشاط على مستوى الزراعة (آ 11) ويؤكّد أن الموارد ستكون كافية (آ 12).
تنطلق سنة اليوبيل في يوم الغفران العظيم، في يوم التكفير. هذا اليوم هو احتفال سنوي (رج لا 16؛ عد 29: 7-11؛ يُذكر في لا 23: 27-32؛ 25: 9؛ حز 45:18. كل هذه نصوص تعود إلى زمن المنفى)، ينطبع بالصوم والعطلة عن العمل، ويتوخّى التكفير عن خطايا عظيم الكهنة وبيته، عن خطايا الشعب كله، كما يتوخّى تطهير المعبد. وتتمّ هذه الكفّارة والتطهير بسلسلة من الذبائح ورشّ الدم في المعبد وحول المعبد. هكذا يلعب الدمُ دوره كما قيل في لا 17: 11: "الدم يكفّر لأنه الحياة".
في إطار التشريع الكهنوتيّ حول الطهارة الطقسيّة والخلقيّة، اهتمّ الكاتب بتوعية الضمير الخاطئ لدى الأفراد ولدى الشعب، بحيث يؤمّن الحلّ من الخطايا مرّة في كل سنة، وهكذا يبتعد العقاب المرتبط بهذه الخطايا.
إذن، يبدأ اليوبيل مع هذا الحلّ العام من الخطايا وتطهير يصيب الشعب كله والمعبد. هو يعلن سنة تحرير، وسنة عودة الانسان إلى ملك العائلة، وسنة راحة للأرض. وتُعلن بداية اليوبيل بالنفخ بالبوق الذي يُصنع بقرن الكبش. وهذا النفخ في البوق هو قبل كل شيء انذار تجاه حالة من الخطر. وتوعية للمؤمنين بأنهم خطأة، ودعوة لهم بمواقف من التوبة الباطنية تجعلهم يفهمون أنهم نالوا الغفران ونجوا من غضب الله وعقابه.
وحين يوجّهنا اليوبيل في طريق التحرّر، فهو يذهب بنا أبعد من تكفير يوم كيبور، يوم الغفران العظـيم. فقبل التلفّظ بكلمة "يوبيل" يعلن النصّ أن السنة الخمسين تكون مقدّسة (مكرّسة لله وبالتالي للبشر)، مع "تحرير في الأرض لجميع سكّانها". ويتحدّث النصّ مرّتين عن هذه العودة (لا 25: 10، 13).
ولكن عن أي تحرّر يحدّثنا هذا النصّ حول اليوبيل؟ عن أي عودة؟ وإلى أي ملك وأرض؟ ومن هم الذين يعودون؟ أيعود بعض الناس أم يعود جميع الناس بدون استثناء، الغني كالفقير، القويّ كالضعيف، الغريب كالقريب؟ وإلى أيّة قبيلة سيعود كل واحد؟
حسب سفر اللاويين، يصيب هذا التحرّر الجميع من دون استثناء: "ترجعون كل واحد إلى ملكه". لن نجد تحديدًا من هذا النوع: "إن كنتَ عبدًا، إن خسرت أرضك...". بل إن الفريضة تتوجّه إلى الجميع، وهذا يعني أن الجميع ابتعدوا عن ملكهم، عن أرض الأجداد.
تتحدّث التوراة مرارًا عن اقتسام الأرض بين قبائل اسرائيل. فأعطيت كلُّ قبيلة جزءًا من أرض كنعان لتقيم عليها وتقتات من غلّتها. غير أن هذا "العطاء" الالهيّ لا يتضمّن حقّ الامتلاك، بل حقّ الاستعمال فقط. فسفر اللاويين يقول إن الأرض تخصّ الله ولا تخصّ الشعب ولا الأفراد. فالجميع غرباء وضيوف لدى الله، والله يستطيع في كل ساعة أن يطرد الشعب من أرضه، وهذا ما فعل في زمن المنفى. قال: "والأرض لا تباع بيعًا دائمًا. فالأرض لي، يقول الرب، وأنتم غرباء مقيمون عندي" (لا 25: 23).
وما نقوله عن الأرض نقوله عن الأشخاص. لا يُمتلَك الأشخاصُ بحيث يكونون ملك شخص آخر، بل يكونون في الخدمة، يكونون في تصرّف انسان آخر. فالعبراني لا يمكن أن يكون "عبدًا"، ولا ملكًا لشخص آخر. كان العبرانيون عبيدًا في مصر، فحرّرهم الربّ. وها قد صاروا عبيدًا للرب. هم يخصّون الرب. فلا يستطيع أخوتهم أن يمتلكوهم، بل يستفيدون من خدماتهم ولوقت محدود.
في هذا المجال نقرأ لا 25: "إذا افتقر اسرائيليّ عندك وباع نفسه لك، فلا تستخدمه خدمة العبيد، بل كأجير ومقيم يكون معك ويخدمك إلى سنة اليوبيل. ثم يخرج من عندك، هو وبنوه معه، ويرجع إلى عشيرته وملك آبائه. فبنو اسرائيل الذين أخرجتهم من أرض مصر هم عبادي ولا يُباعون بيع العبيد. لا تتسلّط عليه بعنف، بل عامله بمخافة الله" (آ 39- 44؛ رج آ 46، 55).
أترك لكل واحد منا أن يطبّق اليوم هذا الكلام على نفسه، ولا سيّما بالنسبة إلى الخدم الذين يأتوننا من بعيد، فنشتريهم بثمن ونعاملهم كشيء في البيت. ولا سيّما بالنسبة إلى المديونين لنا بمال أو برزق.
إذن، هناك حدود لاستغلال الأرض، لاستغلال الأشخاص. الله يؤمّن للانسان وسائل العيش في إطار احترام العهد. ولكن لا يستطيع أحد أن يستند إلى امتياز يومّنه العهد، لكي يحرم أخاه من وسائل العيش، ليجعله عبدًا إلى نهاية حياته، أو يستعبد أيضًا ذريّته. كانت شرعة العهد قد طلبت تحرير العبيد في السنة السابعة، فقالت: "إذا اقتنيت عبدًا عبرانيًا، فليدخل في خدمتك ست سنين، وفي السابعة يخرج حرًا بلا ثمن" (خر 21: 2). وما يقال في العبيد ومعاملتهم يقال أيضًا في الأغراب: "لا تضايق الغريب، فأنتم تعرفون حقيقة ما يشعر به الغريب، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (خر 23: 9).
وتحدّثت الشرعة الاشتراعيّة عن الإعفاء من الديون وربطتها بتحرير العبيد. فالانسان يُستعبد مرارًا لأنه لا يستطيع أن يدفع دينًا تكفّل به.
"في كل سبع سنين تجرون إعفاء من الديون. وهذه طريقة الاعفاء: كل صاحب دين منكم يعفي قريبه ممّا أقرضه. لا يمارس ضغطًا على قريبه أو أخيه، لأنه أعلن إعفاءٌ للربّ...". والهدف: "لا يكون فيما بينكم محتاج" (تث 15: 1-4). ويتابع النصّ: "إذا كان عندك محتاج، أحد إخوتك، في إحدى مدنك، في الأرض التي أعطاك الربّ إلهك، فلا تقسِّ قلبك، ولا تقبض يدك (تغلقها لئلا تعطي عن بخل) عن أخيك المحتاج فلا تعطيه شيئًا. فيصرخ إلى الرب عليك، فيحسب ذلك عليك خطيئة. بل أعطه بسخاء ولا يتورّع قلبك إذا أعطيته. هكذا يباركك الرب إلهك في جميع أعمالك وفي كل ما في متناول يدك" (تث 15: 1-10). كم نحن قريبون من تعليم الانجيل. قال الرب في عظة السهل: "إن أحسنتم إلى المحسنين إليكم، فأي فضل لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يعملون هذا. وإن أقرضتم من ترجون أن تستردّوا منهم قرضكم، فأي فضل لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يعملون هذا. وإن أقرضتم من ترجون أن تستردّوا منهم قرضكم، فأي فضل لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يُقرضون الخاطئين ليستردّوا قرضهم. ولكن أحبّوا أعداءكم. أحسنوا وأقرضوا غير راجين شيئًا، فيكون أجركم عظيمًا، وتكونوا أبناء العليّ، لأنه يُنعم على ناكري الجميل والأشرار. كونوا رحماء كما أن الله أباكم رحيم" (لو 6: 33-36).
ويتحدّث سفر التثنية أيضًا عن كيفيّة تحرير العبيد: "إذا باعك عبرانيّ (أو عبرانيّة) نفسه، فليخدمك ستّ سنين، وفي السنة السابعة أطلقه من عندك حرًا. وحين تطلقه حرًا من عندك، فلا تطلقه فارغًا لا شيء معه. بل زوّده من نتاج غنمك وبيدرك ومعصرتك ممّا باركك الربّ إلهك فيه. أذكر أنك كنت عبدًا في مصر وفداك الربّ إلهك. ولذلك أنا آمرك اليوم بهذه الوصيّة" (15: 11-15).
نجد هنا العلاقات بين الإخوة من جهة، وبين الشعب وإلهه من جهة ثانية. احتاج أخونا مالاً: نقرضه بدون فائدة. بل نترك له الدين كما فعل السيّد مع عبده في المثل الذي أورده انجيل متّى (18: 27). وإن أخذنا منه رهنًا، نردّه في السنة السابعة. ولا نتورّع، ولا نقُم بألف حساب وحساب، لأن السنة السابعة، سنة الاعفاء، صارت قريبة. بل نعفي، والله هو الذي يبارك. هناك واقع اجتماعيّ نعرفه. ونحن لا نعالجه بالنظريات العامة، بل بالتصرّف العملي. هذا يعني أهميّة التضامن، كما يعني فهمنا لكلام الرب: "كل ما فعلتموه لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه" (مت 25: 40).

خاتمة
تلك هي الأمور التي يدعونا إليها الكتاب المقدّس في سنة الألفين، كما دعا إليها الشعبَ العبرانيّ مع موسى وبعد موسى، كما دعا تلاميذَ يسوع. فسنة اليوبيل هي حريّة الانسان. على مستوى أسبوعه أولاً. يرتاح من العمل الشاقّ ويعيش كالعصفور المنطلق في الجوّ لا يقيّده قيد. لا سلطة بشريّة، ولا ضائقة اقتصاديّة، ولا سيطرة اجتماعيّة. بل الحيوان نفسه يرتاح في اليوم السابع. وعلى مستوى سبع سنوات، يتحرّر الناس من ديونهم، والعبيد من عبوديّتهم. في أي حال، قد صاروا عبيدًا لله وعبادًا له. فبأي حقّ نجعلهم عبيدًا لنا؟ ثم كيف أرضى أن أكون أنا عبدًا؟ كيف أرضى أن أكون مداسًا والرب هو الذي يدعوني إلى التحرّر من كل أنواع العبوديّات وليس آخرها الخوف؟ وعلى مستوى خمسين سنة، على مستوى اليوبيل، ننادي بتحرير الأرض وبالعودة إلى ملكنا، إلى ذاتنا، إلى جماعتنا، في توبة عن خطايانا ولا سيّما تلك التي قسونا فيها على الأخ والقريب، على الغريب والعدوّ. حدّد العهد القديم محطات في اطار أسبوع، في إطار العدد سبعة. في السبعة أيام، نترك يومًا للرب، نقدّسه، نكرّسه له. ولا يحقّ لنا أن نتصرّف فيه فنستعبد نفوسنا للعمل والانتاج. وفي السبع سنوات نترك سنة الرب. وفي السبع سبعات من السنين نعيش سنة اليوبيل فننادي بتحرير الأرض كلها. كم نحن بعيدون عن هذا المثال. وكم تحتاج البشريّة إلى يوبيلات قبل أن يصل الانسان إلى الراحة التي هيّأها له الربّ، وإلى الحريّة التي يريدها له. لهذا سيكون هذا اليوبيل محطّة. وستتبعه يوبيلات إلى اليوبيل العظيم والنهائي الذي فيه تصبح الرعيّة واحدة تحت امرة راع واحد هو يسوع المسيح.
الخوري بولس الفغالي

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM