اليوبيل وتحرير الإنسان في المسيح

اليوبيل وتحرير الإنسان في المسيح

1- التوق إلى التحرّر في عالم اليوم
يجتاز عالمنا، الذي اختبر ولا يزال، في أجزاء متعددة منه، ظروف حياة مستعبدة ولا إنسانية، توقٌ لا يقاوَم إلى السلام والعدالة والحب والحرية. إنها رغبة في التحرّر من أشكال عبودية ظالمة وقاهرة، عبودية ثقافية، سياسية، عرقية، دينية، إجتماعية واقتصادية. وتترجَم هذه الرغبةُ بطرق متعددة ومتنوعة، منها سلمي ومنها عنفوي. لكنها تبدو أحيانًا وكأنها تنطفئ في استسلام قدري أو في يأس بدون مستقبل. ليست هذه الرغبة وليدة الظرف التاريخي الحالي، بل هي التوق إلى الحرية، المكتوب في قلب الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، أي المدعو ليعيش كابن لإله الحرية.
"التحرير" هو شعار عصري، لكنه أيضًا كلمة إنجيلية، وبسبب إزدواجية المعنى هذه أصبح محمول العبارة غامضًا. في ثقافة معاصرة معيّنة، تتهم الحقيقة المسيحية بكونها إيديولوجية مستعبدة، ومن جهة أخرى، يعاد تفسير هذه الحقيقة نفسها كمقولة أناسية- إجتماعية، تعبّر عن رغبة وكفاح البشرية نحو "الانعتاق" و"التحرير الذاتي": "إن الحركة التحررية الحديثة، العميقة، لا يزال يكتنفها الالتباس، نظرًا لما يعتريها من أخطاء مميتة تنال من معاني الانسان وحريته. والحركة مثقلة، في آن واحد، بالوعود المبشّرة بالحرية الصحيحة، وبالتهديدات المنذرة بالعبوديات القاتلة" (مجمع العقيدة والإيمان، مذكرة حول "الحرية المسيحية والتحرّر"، عدد 19). كما أن هناك خطرًا أن يطابق المسيحيون بين "التحرير المسيحي" و"التحرير الاجتماعي والسياسي".
أمام غموض المعنى هذا، لا بدّ لنا من التساؤل عمّن يحرّرنا، ومما نتحرّر، ولأي شيء نتحرّر؟

2- تحرير الإنسان في الكتاب المقدس
يمثل مفهوم "التحرير" أحد مواضيع الكتاب المقدس الأساسية. والفكر اللاهوتي يعالج هذا الموضوع، ليس تحت تأثير الظرف التاريخي الحاضر- الذي لا يترك المسيحي غير مبالٍ من حيث إنه أخو البشر المستغَلين والضعفاء والمقهورين- بل لأنه الوحي الإلهي، وبالتالي الإيمان، الذي يفرضه عليه: إن الكنيسة مصمّمة على مواجهة مشاعر قلق الإنسان المعاصر، الرازح تحت ضغوط قاسية في معاناته التعسف، والطامح إلى الحرية.. (لأن الرب يسوع) أودعها كلمة الحقيقة، إنارة للضمائر، والمحبة الإلهية حياتها، تحثّها على التضامن الحقيقي مع كل إنسان متألم" (حول "الحرية المسيحية والتحرّر"، عدد 61).
لا تبحث الكنيسة إذًا عن الحقيقة في الظروف التاريخية الملموسة أو في الممارسة، بل في الوحي الإلهي. فهي من الوحي تستقي الإيمان، وبالتالي الحقيقة الكاملة حول تحرير الإنسان، الذي يحققه الله. في الكتاب المقدس، هناك تطابق في المعنى بين "التحرير" و"الخلاص" و"الفداء"، التي تتحقق بفضل عمل قوي وحرّ من قبل الله. هناك قناعة أساسية وهي أنه لو "كان الله تخلى عن خليقته، لأفضى بنا التاريخ البشري، المطبوع بتجربة الخطيئة، إلى اليأس. لكن الوعود الالهية بالتحرير والوفاء بها المظفّر، في موت المسيح وقيامته، كانت أساس "الرجاء المفرح" الذي منه استمدت الجماعة المسيحية قوة العمل الجاد والفاعل في خدمة المحبة والعدل والسلام. الانجيل رسالة حرية وقوة تحرير يحقق رجاء شعب الله، بناء على كلام الأنبياء. يستند هذا الرجاء إلى عمل الله... محررًا وفاديًّا ومخلّصًا لشعبه..." (حول "الحرية المسيحية والتحرر"، عدد 43).

أ- التحرير هو من عمل الله
التحرير هو، أولاً وأخيرًا، عمل متمّم من قبل الله. هناك قناعة أساسية في الكتاب المقدس، وهي أن الإنسان عاجز عن تخليص نفسه. إنه الله الذي يقدّم نفسه المخلص الوحيد. في سفر الخروج، يرى الله بؤس الشعب ويقرّر تحريره: "إني رأيت مذلة شعبي الذي بمصر، وسمعت صراخه بسبب مسخّريه، وعلمت بآلامه، فنزلت لأنقذه من أيدي المصريين وأصعده من هذه الأرض إلى أرض طيبة واسعة، إلى أرض تدرّ لبنًا حليبًا وعسلاً" (خر 3: 7-8).
في بؤسه، يصرخ الشعب نحو إلهه. في الكتاب المقدس، "الصراخ" هو لغة الألم، وهو أيضًا الاعتراض على الاستسلام الصامت. لا يتحمّل الله أن يترك شعبه في العبودية، فيتدخل ليحرّره. عمل الله الخلاصي هذا يدفعه فقط حبه لشعبه. إنه الله الذي يمنح الحرية للشعب كلّه، وهو الذي يعطي أيضًا المعايير ليحفظها، والتي هي الوصايا الواجب اتباعها كشرط ليسكن الرب بين شعبه.في حفظه للوصايا، يحافظ إسرائيل على الحرية المعطاة له، ما يمكّنه من تأوين وتفعيل التحرير الإلهي.
في قانون إيمان، يتلوه المؤمن في عيد الشكران (تث 26: 5-9)، يتذكر المؤمن، إنطلاقًا من الحالة الحاضرة المعاشة في الأرض التي أعطاها الرب لشعبه، عملَ الله المحرّر، ويصفه بخمس عبارات: "بيد قوية وذراع مبسوطة وخوف عظيم وآيات وخوارق" (تث 26: 8). قوة الله هي قوة محرّرة، بينما قوة الإنسان هي قوة مستعبدة. وقوة الله هي الحب: "بل لمحبة الرب لكم ومحافظته على القسم الذي أقسم به لآبائكم أخرجكم الرب بيد قوية وفداك من دار العبودية، من يد فرعون ملك مصر" (تث 7: 8).
غاية الخروج إذًا هي تشكيل شعب الله. في تحرير الشعب واجتماعه حول إلهه، ينكشف ويتحقق تصميم الله الخلاصي، المبتدىء أصلاً مع خلق العالم. الله، وليس الإنسان، هو القادر على تغيير حالات البؤس والقلق والخوف. من الله فقط يمكن انتظار التحرير الحقيقي، لأنه وحده قادر على تغيير قلب الإنسان.
في اختبار السبي إلى بابل، يواجه الشعب أزمة اليأس والشك بقدرة الله الخلاصية. يحاول النبي إقناع سامعيه بأن يهوه يقدر ويريد حقيقة أن يخلصهم. فالله الذي حرّر الشعب من عبودية مصر وخلقه كأمة، هو قادر على أن يعيد تخليصه من عبودية بابل، وأن يكرّر معه حدث الخروج في "خروج جديد" (أش 42-53).
أخيرًا تبرز قوة الله المخلِّصة والمحرِّرة في ما يسمّى بـ "مزامير التوسل"، التي فيها يصرخ المصلي إلى الرب "لينجّيه من أعدائه". لا يوصف أبدًا هؤلاء "الأعداء" كأرواح شريرة أو كشياطين أو كبشر معروفين. "الأعداء" هم تصوير للخوف والقلق اللذين يستعبدان الإنسان، وللعدو الأخير، الذي هو العدم والموت. يعرف صاحب المزامير بأن الله هو وحده القادر على تخليصه من هذا الخطر المميت، لذلك فهو يعلي قوة يهوه المخلِّصة: "أحبك يا رب، يا قوتي، يا مخلصي، من العنف خلصتني. الرب صخرتي وحصني ومنقذي، إلهي صخر به أعتصم، ترسي وقوة خلاصي وملجأي. أدعو الرب سبحانه فأنجو من أعدائي" (مز 18: 2-4).
صرخة التوسل هي استسلام مسبق بين يدي الله الذي يعترف به صاحب المزامير "أقوى من أية قوة عدوة". أحيانًا يعترف المصلّي بذنبه، وينسب بؤسه إلى خطاياه. لكن الحالة ليست هكذا دائمًا. فالذي يتألم ليس بالضرورة خاطئًا. مع ذلك فهو يعلم بأنه يعيش في عالم خطيئة وعنف وموت. وحده الله يستطيع أن يحرّر الإنسان من هذا العالم: "الرب ينقذ المسكين المستغيث والبائس الذي لا ناصر له. يرثي للكسير والمسكين ويخلص نفوس المساكين" (مز 71: 12-13). بهذا الرجاء يعيش "فقراء يهوه"، في ارتباط تام وواثق بعناية الله المحبة. يعلم "فقراء يهوه" أن الاتحاد بالله هو الخير الذي لا يقدّر بثمن وبه يجد الانسان حريته الصحيحة (مز 16؛ 62؛ 84). وان الشر الأوجع، في نظرهم، هو في فقد هذا الاتحاد. لذلك تتخذ مناهضتهم للظلم معناها الأعمق وفعاليتها، من خلال تصميمهم على التحرّر من عبودية الخطيئة.
كان حدث التحرر من مصر يتكرر كل سبع سنوات، وبخاصة كل خمسين سنة. في تلك المناسبة، كان يجب أن تعاد الأرض إلى أصحابها، وهكذا يعاد تشكيل حالة المساواة والحرية المثالية: كأن يترك العبيد أحرارًا، ويعفى المدينون. خلافًا لقوانين الشرق القديم، كان القانون الإسرائيلي، ليس فقط أكثر إنسانية، بل كان ينحو الى خلق مجتمع أناس أحرار، وإن لم يتوصل تمامًا إلى إلغاء حالة العبودية. في الحقيقة، لقد حرّر جميع الشعب من عبودية مصر، وليس لهم سيد سوى الرب الإله. فليس لأحد بالتالي الحق في التسلط على أحد، لأنهم جميعهم إخوة. والتصرف نحو العبيد يجب أن يستوحى من الحدث الأساسي في التحرر من مصر: "واذكر أنك كنت عبدًا في أرض مصر، وفداك الرب إلهك، ولذلك أنا آمرك اليوم بهذا" (تث 15: 15). في هذا المعنى، تذكّر السنة اليوبيلية مرة أخرى بأن مجتمع البشر الحر والعادل ليس من صنعهم بقدر ما هو عطية من الله (البابا يوحنا بولس الثاني، إطلالة الألف الثالث، عدد 12).

ب- أبعاد رسالة المسيح التحريرية
في بداية رسالته التبشيرية، أعلن يسوع التحرير برنامجه: "روح الرب عليّ ولهذا مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين وأجبر منكسري القلوب وأنادي بعتق للمسبيّين وبتخلية للمأسورين وأنادي بسنة الرب المقبولة" (لو 4، 16-21). شرح يسوع لسامعيه قول النبي اشعيا، وطبّق هذه النبوءة على نفسه، ليفهمهم بأنه هو المسيح المبشّر به وأن به بدأ الزمن المنتظر وأتى يوم الخلاص، ملء الزمن: "كل يوبيل يرتبط بهذا الزمن ويتّصل برسالة المسيح الآتي كمكرّس بمسحة الروح القدس وكمرسل من الآب. هو الذي يعلن البشارة السارة للمساكين. هو الذي يأتي بالحرية للمحرومين منها، ويحرّر المظلومين، ويردّ البصر للعميان. وهكذا يُحقق سنة مقبولة للرب يعلنها لا بالأقوال فقط بل أيضًا بالاعمال. فاليوبيل، أي سنة الرب المقبولة، ليس مجرد ذكرى تستعاد في الزمن بل إنه هو ما يميّز عمل يسوع" (إطلالة الألف الثالث، عدد 11).
عدا برنامج رسالته، ذي النفحة التحريرية، لا يظهر من الأناجيل أن يسوع قد التزم في السياسة أو سعى إلى تأسيس جماعة مقاومة أو ثورة. فهو لم يشارك أبدًا في آراء "الغيورين"، الذين كانوا ينادون باستعمال القوة للتحرر من الاحتلال الروماني ولاستعادة الاستقلال اليهودي؛ ورفض أخذ موقف بشأن الضريبة الواجب دفعها للأمبراطور، مميزًا بوضوح بين "ما هو لقيصر" وبين "ما هو لله"، بين السياسة والدين (مر 12: 7 وما يقابله). لم يرد يسوع أن يدخل في خضم الصراعات السياسية السائدة آنذاك، وذلك لأن الملكوت الذي يبشر به ليس ملكوتًا سياسيًا. في التجارب، رفض يسوع إيحاء إبليس له بسلطة سياسية شاملة (متى 4: 8؛ لو 4: 5). كما أنه خيّب حتى النهاية أحلام تلاميذه المسيحانية القومية (أع 1: 6). أمام بيلاطوس، أعلن يسوع أن مملكته ليست من هذا العالم، وعبّر عن ذلك بتخلّيه عن كل صراع أو مقاومة (يو 18: 36). الكتابة التي وضعها الحاكم الروماني على صليب يسوع لم تكن سوى طريقة لإذلال رؤساء اليهود. أما الدافع الحقيقي لموت يسوع فهو دافع ديني: جوابه أمام رئيس الأحبار بأنه المسيح ابن الله العلي (متى 26: 63-65؛ يو 19: 7). لقد وضع يسوع رسالته في خط صورة عبد يهوه المتألم، الذي يعطي حياته فداء عن الكثيرين (مر 10: 45؛ متى 20: 18). في تطبيقه على نفسه هذه الصورة النبوية، يعلن يسوع هدف ونوعية التحرير الذي تحمله رسالته: إنه تحرير من الخطيئة التي تستعبد الإنسان: "الحق الحق أقول لكم: كل من يرتكب الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة" (يو 8: 34). حالة الخطيئة هي حالة العبودية المطلقة، التي تطال الإنسان في حميمية ذاته. وحده الابن، بفضل الحرية السامية التي يمتلك، يضع حدًا لهذه العبودية: "فإذا حرّركم الابن كنتم أحرارًا حقًا" (يو 8: 36). أبعد من ذلك، بتحريره الإنسان من الخطيئة، يصيب يسوع جذور النظام غير العادل. لأن البؤس والظلم الإجتماعي يكشفان "حالة خطيئة"، حالة قطيعة عن الأخوة والشراكة. لا يدعو يسوع إلى تغيير التركيبات الإجتماعية، بل يوحي بأن أصل الشر، وأيضًا في التركيبات الشريرة والفاسدة، هو في الخطيئة.
هذا التحرير الذي يحمله يسوع يتمّ بطريقة الحب، المعارضة لكل عنف. فيسوع لام يعقوب ويوحنا اللذين أرادا استدعاء النار من السماء على قرية في السامرة (لو 9: 55-54)؛ ودعا بطرس إلى ردّ سيفه إلى غمده (متّى 26: 52). وحادثة طرد الباعة من الهيكل ليست سوى عمل رمزي، أراد يسوع من خلالها إظهار استيائه من استغلال الهيكل لغايات شخصية (متى 21: 12-13). أما عن قول يسوع: "ملكوت السماوات يؤخذ بالجهاد، والمجاهدون يختطفونه" (متى 11: 12)، فيجب فهمه في إطار النص العام الذي يتحدث عن العنف وعن قوى الشر التي تواجه الأنبياء في رسالتهم، وعن الذين يقاومون مجيء الملكوت بحسب تصور يسوع له. في سبيل مجيء الملكوت، يستعمل يسوع الوسيلة التي تتلاءم مع هويته ورسالته: تقديم ذاته ذبيحة. وفي طلبه المغفرة للمسؤولين عن موته، يُظهر يسوع أنه لا يعتمد ابدًا على تدخل من القوة الإلهية في سبيل انتصار عمله.
طريق اللاعنف هذه تتناغم مع غاية التحرير: ما يريد الله تحريره في الإنسان هو قوى الحب. هدف يسوع هو المصالحة الشاملة. في اكتسابه مصالحة البشرية مع الله في ذبيحته، أنشأ يسوع مبدأ مصالحة البشر بين بعضهم. هذا ما عبّر عنه بولس الرسول حين أكّد بأن المسيح قد "هدم بجسده الحاجز... أي العداوة"؛ وفي ذبيحته صالح الأعداء خالقًا "إنسانًا جديدًا واحدًا، صائرًا بذلك "سلامنا" (أف 2: 14-16). خلال رسالته العلنية، توجه يسوع الى الجميع معلنًا نيته بإزالة كل الحواجز التي تقسم البشر في ما بينهم. وهو لم يتردّد في إعلان قربه من الخطأة والعشارين والزناة. كما أنه في لقائه مع السامرية أظهر صراحة أنه يريد تخطي كل الاختلافات على مستوى العبادة والهيكل؛ وأعلن، من جهة أخرى، دخول الوثنيين في الملكوت (متى 8: 11-12؛ لو 13: 28-30). ليس هناك من حدود موضوعة أمام المصالحة التي ستكون شاملة.
لامحدودية الحب هذه تعبّر عنها الوصية الجديدة، التي يهدف المسيح من خلالها إلى بناء مجتمع أخوي. عارض يسوع التقليد السابق بتوصيته بحب الأعداء، وبرّر هذه الشريعة الجديدة معطيًا مثالاً حب الآب (متى 5: 45). يجب أن يكون حب الآب اللامحدود، في قلب الإنسان، مصدر محبة بلا حدود. هذا ما يعنيه يسوع ايضًا عندما يقدّم حبّه مثالاً ومقياسًا للحب المتبادل الذي يجب أن يميّز حياة التلاميذ (يو 13: 34؛ 15: 12).
للتحرير بالحب هذا نتائجه على التصرف الإجتماعي: في توبة زكا نجد يسوع يقوده الى تغيير مسلكه، إلى مقاسمة أمواله مع الفقراء، وإلى تعويضه عن الأضرار التي سببها للأخرين (لو 19: 8)؛ في مثل الغني ولعازر، يشدد يسوع على ضرورة المشاركة مع الفقراء، وعلى عثار تواجد البؤس مع الغنى الفاحش (لو 16: 19-31)؛ وفي مشهد الدينونة العامة، يكشف المسيح عن قيمة كل عمل محبة تجاه بائس، مؤكدًا أن هذا العمل يمسّه شخصيًا (متى 25: 40). من جهة أخرى، نرى، خلف تعداد هؤلاء البؤساء، مشاكل اجتماعية ملحة: الجوع في العالم، مصير الغرباء وقبول المهاجرين، كل اشكال الفقر، العناية بالمرضى والموقف تجاه المجرمين والمسجونين.
أخيرًا، نلاحظ أن الحب الذي يوصي به يسوع يتخطى متطلبات العدالة. لا يتركز التبشير الإنجيلي على فضح الظلم. هذا ما تظهره بوضوح المقابلة بين تبشير المعمدان، المرتكز على العدالة (لو 3: 11-14)، وبين تبشير يسوع الذي يطلب إعطاء الرداء والثوب معًا (متى 5: 40). جـُعل هذا التخطي ممكنًا بالمسيح الذي يحرّر البشرية ليس بدافع عدالة إلهية فقط، بل وخاصة بدافع الحب الإلهي الذي، بمغفرته للخطايا، ينتصر على الظلم. على هذا الحب المحرّر أن يتجلى في حياة التلاميذ، التي يجب أن تكون استعادة وتجسيدًا لتصرفات ولخيارات يسوع. فإله يسوع هو الإله الذي لا يحتمل الظلم الذي عليه تؤسس المجتمعات البشرية، حيث تسود شريعة الأقوى. تفضيلات الله، في يسوع، هي للفقراء والمهمّشين والضعفاء والمعدومين.
إننا نجد هذا التفضيل في نشيد التعظيم (لو 1: 46-55)، حيث يُنشد الإيمان بإله لا يعبر غير مكترث بالواقع الإجتماعي والسياسي، بل بإله يرفض تركيبات الشر في مختلف أشكاله، ويعلنها متعارضة مع تصميمه الخلاصي. لقد اختبرت مريم، في حياتها، وجه الله الحقيقي القوي، القدوس، الرحيم والأمين (لو 1: 49-50، 54-55)، الذي يبرز صفاته عندما ينظر بحب إلى أمته، ويخلصها، ويجعل منها أمًا لابنه. لذا تقدم مريم الشكر لله المخلص، الذي يلتفت بحب نحو كل ما هو صغير، مسحوق ومهمّش في هذا العالم. في مريم نتأمل، من بعد المسيح، الأيقونة الأكثر كمالاً ونقاء للحرية ولتحرير البشرية والكون.
في مقارنتها بين عمل الله فيها وبين عمله في التاريخ، تكتشف مريم الناحية الأخرى في وجه الله: رفضه لأولئك الذين، في اتباعهم لآلهة غريبة وخاطئة، يقهرون الشعب. لغة نشيد التعظيم لا تقبل أي تلطيف او تنازلات: فالله، الذي تنشده مريم، هو الذي "حطّ الأقوياء عن العروش ورفع الوضعاء. أشبع الجياع من الخيرات والأغنياء صرفهم فارغين" (لو 1: 52-53). ليس الله لامباليًا امام الخير والشر، بل، على العكس، إنه يعمل على إبادة قوى الشر، التي تعارض تصميمه الخلاصي. الإيمان بالمسيح يوجب تغيير العلاقات بين البشر: لا استغلال، لا ظلم، لا ثراء فاحشًا، بل خدمة وتواضعًا ورحمة وفقرًا يعاش كانفتاح جذري على إرادة الله.

ج- تحرير الإنسان الكامل بالمسيح
يُختصر تفكير بولس حول الخلاص في تأكيده في غل 5: 1: "إن المسيح قد حرّرنا تحريرًا". يبرز هنا، في المكان الأول، البُعد الكرستولوجي للتحرير: الله خلّصنا بواسطة موت وقيامة يسوع (روم 5: 10). والتحرير في المسيح يتأون بواسطة عطية روحه الذي هو روح المسيح: "فليس بعد من حكم على الذين هم في يسوع المسيح، لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حرّرتني من شريعة الخطيئة والموت" (روم 8: 1-2). إذًا "حيث يكون روح الرب، تكون الحرية" (2 كور 3: 17). الحرية هي حالة تتبع عمل تحرير إلهي: "لأن (الخليقة) هي أيضًا ستتحرر من عبودية الفساد" (روم 5: 13). "فإنكم، ايها الإخوة، قد دعيتم إلى الحرية" (غل 5: 13). الحرية هي عطية من الله الذي يحررنا من الخطيئة، من الموت ومن الشريعة (روم 6: 18-23). كما أن للحرية هذه بعدًا كونيًا (روم 8: 21).
للتحرير المحقق في المسيح أبعاد مثلثة: تحرير من الخطيئة، من الموت ومن الشريعة، أبعاد تختصر الإنسان في كليته، في كماله وفي انتمائه إلى جماعة.
التحرير من الخطيئة هو تحرر من الخطيئة الأصلية والخطيئة الشخصية والخطيئة التاريخية أو الاجتماعية. كل واحدة من هذه الخطايا تنبع من الشخص كله وتخصّه في شموليته. يبدأ التحرر من الخطيئة الأصلية مع التجذر بالمسيح بواسطة العماد، لكنه يبلغ ذروته عندما يعيش الإنسان حياة المسيح نفسها ومعها الموت والدفن والقيامة (روم 6: 1-23). أما التحرر من الخطيئة الشخصية ومن نتائجها على الشخص وعلى التاريخ، فهو، قبل كل شيء من عمل الله المخلص، لكنه يلزم، في الوقت نفسه، الإنسان الخاطئ على أنه كائن فاعل في التاريخ. أما الخطيئة الإجتماعية فهي ما يسمّيه بولس "دنيا الشر" (غل 1: 4)، مجموعة الأفراد الذين يصنعون الشر، والتركيبات التي تحمل خطايا البشر الأفراد.
في العماد يُحرَّر المسيحي من هذا العالم الشرير ويوضع في محيط حياة جديد. لذا يحرّض بولس مؤمنيه: "لا تتشبهوا بهذه الدنيا، بل تحولوا بتجدد عقولكم" (روم 12: 2). لقد حررنا المسيح من كل "سلطان" ومن كل "تركيبة تسلط"، وادخلنا في ملكوت الحرية، الذي يأتي من روحه. هكذا يصف الرسول عبودية الإنسان الخاطئ: "وانتم، وقد كنتم أمواتًا بزلاتكم وخطاياكم التي كنتم تسيرون فيها بالأمس، متبعين سيرة هذا العالم، سيرة سيد مملكة الجو، ذلك الروح الذي يعمل في أبناء المعصية، وكنا نحن أيضًا جميعًا في جملة هؤلاء نحيا بالأمس..." (أف 2: 1-3). لقد حرّرنا المسيح من عبودية عالم الشر هذا، وفتح لنا، في الكنيسة، مساحة حرية ومصالحة اجتماعية وأخوية. الكنيسة هي المكان الذي يريد الله أن يخلق فيه مجتمعًا مصالحًا (2 قور 5: 17-21)، علامة فعالة على مصالحة وتحرير العالم بأسره.
هناك أيضًا التحرير من الشريعة، مسبّب الخطيئة الأكبر (روم 7:7؛ 1 كور 16؛ 56). والشريعة هنا ليست فقط الشريعة اليهودية، بل كل شريعة موضوعة من البشر. لا يقصد بولس التبشير بالفوضى أو التقليل من ضرورة الشريعة، بل التحرر من الشريعة عندما تصبح عائقًا أمام الإنسان فتمنعه أن يعيش ملء حياته. أي عندما تستعمل القوانين سبيلاً للظلم والقهر والاستعباد، عندئذ تضحي القوانين مرادفًا للخطيئة الاجتماعية والمؤسساتية، والتي تحمل في طياتها قوة الموت.
أخيرًا، يرتبط التحرير من الخطيئة ومن الشريعة ارتباطًا جذريًا بالتحرير من الموت. بطريقة ما، الموت هو نتيجة الخطيئة (روم 5: 12؛ 6: 23) والشريعة مسببها. الموت الذي يتحدّث عنه بولس هو، في الوقت نفسه، الموت الروحي والموت الجسدي. يدعو الله الانسان إلى الحياة، وقبل كل شيء إلى الحياة الإلهية، التي تبقى غير ممكنة بدون كمال الحياة الشخصية لكل واحد. لذا ينبغي أن تكون القيامة تحريرًا كاملاً من الخطيئة، من الشريعة ومن الموت، بقوة الروح المحيي. لقد حمل تكاثر الخطيئة في العالم، وتحت أشكال مختلفة، إلى تكاثر الموت، في تاريخ يشهد صراعًا دائمًا بين الموت والحياة في كامل أبعادهما. لذا أفضل الطرق لمقاومة الخطيئة هي مقاومة الموت بأشكاله المتعددة. بسبب البؤس والجوع والحاجة إلى ضروريات الحياة، بسبب المرض والظلم والاستعباد، يموت معظم الناس قبل أوانهم. هذا يعني أن الحياة انتُزعت منهم، ومعها إمكانية أن يعيشوا حياتهم بكامل معناها، وأن يكونوا بالتالي مجد الله ("مجد الله هو الإنسان الحي"). أولئك الذين يحدث لهم ذلك بسبب الخطيئة الإجتماعية، يسمَّون "فُقراء بإمتياز"، ونحوهم يتوجه حبّ الله التفضيلي. ينتج عن هذا أن التحرير من الموت في كل أشكاله هو جزء أساسي من الإيمان المسيحي، الذي يعلن إللّه إله الحياة والأحياء (مر 12: 27).
لكن يجب ألاّ يغيب عن بالنا أن التحرير الكامل والنهائي من الموت سيتم فقط بواسطة العبور بالموت إلى الحياة الأبدية، أي في القيامة (1 كور 15: 54-57)، حيث تبرز من جديد الحياة، حيث لن يكون هناك ظلم وبكاء وألم وانقسام (رؤ 7: 16-17)، بل كمال شركة مع الله الذي هو حياة ومحبة. مع هذا، يجب إستباق هذا التحرير النهائي، وذلك من خلال التغلّب على خطيئة العالم وعلى أسبابها. في هذا المعنى، يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: "إن تنظّر الأرض الجديدة يجب ألا يضعف فينا الاهتمام بمعالجة شؤون هذه الأرض، بل يجب بالأحرى أن يوقظه لأن جسم البشرية ينمو فيها، وهو يستطيع أن يقدّم منذ الآن تصورًا أوليًا للدهر الآتي" (دستور راعوي "الكنيسة في عالم اليوم"، عدد 39، 2). في مواجهة أي قصر نظر أو حصر للرجاء المسيحي في هذه الأرض، وفي مواجهة أي هروب من الالتزام باستباق ملكوت الله على هذه الأرض، لا يلغي الرجاء النهيوي القيمَ الانسانية، ومنها قيم العدالة والحرية، بل ينقّيها، يكمّلها ويفتحها على اكتمال نهيوي: "فهذه القيم من كرامة إنسانية، وشركة أخوية وحرية... التي نكون قد نشرناها على وجه الأرض في روح الرب وبحسب وصيّته، سنجدها فيما بعد مطهّرة من كل دنس، ناصعة، مشرقة، عندما يعيد المسيح إلى الآب ملكوتًا أبديًا وشاملاً: ملكوت حقيقة وحياة، وملكوت قداسة ونعمة، ملكوت برّ ومحبة وسلام" (المرجع نفسه، عدد 39، 3). إنتظار مجيء الملكوت هو انتظار ساهر وفاعل، إنتظار عدالة كاملة وشاملة للأحياء وللأموات ولكل الأزمنة والأمكنة، عدالة تحمل الجواب على مجموعة الآلام التي عانتها الأجيال، عدالة يقيمها الديان العادل. مع ذلك، تدعو الكنيسة، المستنيرة بالروح القدس، الإنسان والمجتمع إلى التغلب، منذ الآن، على الأوضاع القائمة على الإثم والظلم، وإلى العمل على إيجاد الظروف الملائمة للحرية الصحيحة (حول "الحرية المسيحية والتحرّر"، عدد 60).
التحرير من الخطيئة ومن الموت ومن الشريعة هو إذًا جزء أساسي من التحرير الكامل، كذلك كما يراه الإيمان المسيحي. ليس الإيمان المسيحي في كماله تكريسًا لله وقبولاً لإعطائه لذاته فقط. بل وايضًا طريقة حياة جديدة، تتضمّن بالضرورة عملاً في سبيل العدالة. هذا العمل هو بدوره طريقة لمعرفة الله والثقة به. هناك ترابط وتكامل كلي بين الإيمان والسعي إلى العدالة والمحبة. يخلق روح الله أناسًا جددًا وأحرارًا، سيعرفون بدورهم كيف يختلقون مجتمعًا حرًا ومحررًا.

3- لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية: مثال لتحرير الإنسان الكامل في المسيح

أ- مكان وموضوع لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية.
نقطة إنطلاق هذا التيار اللاهوتي كان اجتماع سينودس أساقفة اميركا اللاتينية الثاني في ميديلين (كولومبيا) سنة 1968، تحت عنوان: "الكنيسة في التحول الحالي في أميركا اللاتينية على ضوء المجمع". كان الهدف من وراء هذا الاجتماع توضيح موقف الكنيسة في حالة ملموسة تعاني منها الأكثرية الساحقة من سكان هذه البقعة من العالم: إستعمار سياسي واقتصادي، تخلّف وعدم مساواة اجتماعية عميقة، فقر وظروف حياة لا إنسانية للشعب، أنظمة سياسية مستعبدة، الخ... أمام هذه الأوضاع، لا يمكن للكنيسة أن تقف صامتة أو لامبالية أو محايدة، بل عليها أن تطبق على نفسها دعوة المجمع الفاتيكاني الثاني الكنيسة الى الانفتاح على العالم وعلى مشاكل البشرية. على ضوء ذلك، دعا هذا السينودوس إلى التغيير الاجتماعي والإصلاح السياسي، أدان الإستعمار الجديد، والتزم، بخيار تفضيلي، جانب الفقراء، محددًا أسس التوجه الرعوي الجديد.
في هذا الإطار العام، حدّد لاهوت التحرير ذاته كطريقة جديدة في التفكير اللاهوتي، لا تبعًا لعملية أكاديمية علمية، بل إنطلاقًا من معاناة الجماهير المسحوقة والمستعبدة، كتفكير نقدي إنطلاقًا من ممارسة تحريرية، على ضوء الإيمان. بحسب هذا اللاهوت لا يقوم هذا الالتزام بالفقراء على مساعدتهم "ماديًا" فقط، بل وخاصة على مساعدتهم على تحرير أنفسهم، من خلال عملية تحرير كاملة. وحده هذا النهج التحريري قادر على تغيير الأوضاع الاجتماعية، للوصول إلى تغييرات جذرية في التركيبات، تساعد الفقراء على الخروج من أوضاعهم الصعبة.
لاهوت التحرير هو إذًا "لاهوت موضوع في إطار"، أي إنه ينطلق من واقع تاريخي معيّن، ويحاول إنارته على ضوء الوحي. هذا الإطار هو الإطار الملموس الذي تعيش فيه كنيسة الفقراء إيمانها، والذي يحاول تفسيره على ضوء الإنجيل. إنها قراءة جديدة لحدث يسوع المسيح وربط له بالوجود المسيحي الحالي في أميركا اللاتينية. تتمحور هذه القراءة على أوقات ثلاثة: يبحث اللاهوتي عن أسباب حالة القهر والظلم التي يعيشها الفقراء، ويحللها على ضوء العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ ثمّ، يقرأ كلمة الله ليكتشف تصميم الله على الفقراء؛ وأخيرًا، يقدّم ما يجب عمله للتغلّب على القهر والظلم، بالتوافق مع التصميم الإلهي. هذا اللاهوت هو ترجمة لخيار الكنيسة التفضيلي للفقراء ولممارستها التحريرية.

ب- قراءة جديدة لمضامين الإيمان المسيحي
لقد أدّت هذه الطريقة الجديدة في التفكير اللاهوتي إلى قراءة جديدة لمضامين الإيمان ولممارسة المسيحيين.
في ما يخص الإيمان بالله، ليس الخيار المطروح أمام المؤمن في أميركا اللاتينية خيارًا أمام الإيمان أو الإلحاد، بل خيارًا بين إله يحرر الفقراء وإله يعكس مجتمعًا تسيطر عليه قوى مستعبدة. بحسب لاهوت التحرير، الإله المسيحي الحقيقي هو إله سفر الخروج والأنبياء، الإله الذي يسمع صراخ المسحوقين والمظلومين، ويقرّر تحريرهم. إنه الإله الذي يختار جانب الفقراء، الإله المحرّر، الذي يقود شعبه نحو اختبار تحرير كامل. إنه إله التاريخ، وليس إله المقولات الميتافيزيقية، إله يكشف عن نفسه ويؤسس ملكوته النهيوي في التاريخ، وفي التاريخ نلتقي به ونشترك في عمله التحريري.
بحسب هذا التوجه، يرى لاهوت التحرير في ثالوثية الإله المسيحي رمز ومثال مجتمع بشري وجماعة كنسية مبنيين على الشراكة والمشاركة والمساواة. ليس الإله المسيحي الإله الوحيد، الذي يمكن أن يُستعمل كتبرير لأنظمة إستبدادية "توحيدية" و"لكنيسة هرمية"، بل هو إله شراكة أشخاص، وهو الذي يضمن مجتمعًا متساويًا وكنيسة أخوية.
في ما يتعلق بالإيمان بيسوع المسيح، يتميّز لاهوت التحرير بتوجّه لا يشدّد كثيرًا على المسائل الكرستولوجية العقائدية التقليدية، بقدر ما يحاول إتباع يسوع الناصري في تبشيره، في أعماله، في مواقفه وفي خياراته، وأخيرًا في "البعد الإجتماعي والسياسي" التحريري لموته ولقيامته. في هذا الإطار، يركز هذا اللاهوت على الموضوع الأبرز في تبشير يسوع: "ملكوت الله". إنه الإله الذي يؤسّس هذا الملكوت في التاريخ، بواسطة حياة يسوع وعمله التحريري، وبواسطة موته وقيامته. يتوجه هذا الملكوت أولاً إلى فقراء؛ وهو يعمل في معجزات وشفاءات يسوع، في خياراته وفي مواقفه تجاه السلطة القائمة، سواء أكانت سياسية أم دينية.
في هذا التوجه، بعيدًا من أن تكون كرستولوجيا عقائدية جافة، تبرز كرستولوجيةُ لاهوت التحرير كرستولوجيا "من أسفل"، أي إنها تحاول أن تكتشف، في حياة إبن الله البشرية، التصميمَ الذي يحقق فيه الله تحريرًا كاملاً للبشرية. ليس هناك من فصل بين يسوع التاريخ ومسيح الإيمان، وإن كانت "إستقامة الممارسة" (Orthopraxie) تسبق "إستقامة الإيمان" (Orthodoxie). إنه قراءة عملانية لمضمون الإيمان المسيحي حول يسوع المسيح.
إن يسوع، خاصة في الموت على الصليب وفي القيامة، يكشف عن هويته الحقيقية. يجب إعطاء سر الصليب كل ثقله، في حقيقته التاريخية، من خلال تفسيره على ضوء حياة يسوع. يظهر يسوع في حالة صراع، بالنسبة إلى صورة الله. فالصورة التي ينقلها عن الله هي صورة إله يحرر وينبذ كل قوة مستعبدة. لذلك حكم عليه بالموت كمجدّف وكمهدد للنظام الديني والاجتماعي والسياسي القائم. في القيامة، ظهرت قوة حب الله التي كانت تسكن يسوع، ووضعت ختمًا على عمله التحريري.

ج- الكنيسة، علامة وأداة تحرير إنساني كامل
في ما يتعلّق بالكنيسة، يشدّد لاهوت التحرير على صورة الكنيسة كـ "شعب الله" (صورة يأخذها من الفصل الثاني من دستور "في الكنيسة" في المجمع الفاتيكاني الثاني). تشير هذه الفكرة أساسًا إلى مبدأ الشراكة، الذي يجب أن يجمع الكنيسة، ويعطي معنى جديدًا لممارسة الخدم والأدوار فيها. في المقابل، يجب النظر إلى رسالة الكنيسة الأساسية في شموليتها: يتضمن التبشير العمل في سبيل العدالة والتحرير الكامل للإنسان، كجزء أساسي منه. إنه "تبشير محرّر". هذا يعني أن الفقراء هم أنفسهم الكنيسة؛ على الكنيسة أن تصبح بكليتها فقيرة، أن تصبح "كنيسة الفقراء".
هكذا تضحي الكنيسة شعب الله السائر، جماعة تعمل في سبيل التحرير الكامل. لكي تكون الكنيسة أمينة ليسوع المسيح أساسها، عليها أن تعي ذاتها إنطلاقًا من الفقراء والمقهورين، وأن تصبح فقيرة معهم ومثلهم، لتشارك في تحريرهم. إنها طريقة جديدة في تصور الكنيسة، لكي تكون هذه الأخيرة في الحقيقة واليوم "سر تحرير تاريخي"، غير متمحورة حول ذاتها، لكي تتمحور حول ربها وحول ملكوت الله الذي يؤسَّس بين البشر.

د- لاهوت التحرير وتعليم الكنيسة الرسمي
لقد خصّص مجمع تعليم الإيمان مذكرتين حديثتين حول لاهوت التحرير. كان عنوان المذكرة الأولى: "حول بعض نواحي لاهوت التحرير" (1984)؛ أما الثانية فحملت عنوان "الحرية المسيحية والتحرر" (1986). هدفت المذكرة الأولى إلى التنبيه من بعض الأخطار والمواقف غير المقبولة في لاهوت التحرير؛ وأرادت المذكرة الثانية تقديم التصور المسيحي للحرية وللاهوت الخلاص والتحرير. تتركز مخاوف تعليم الكنيسة الرسمي حول ارتباط مفاهيم لاهوت التحرير بالتحليل الماركسي، مع ما يحمله من إيديولوجية خطرة؛ حول الفصل بين "استقامة الممارسة" و"استقامة الإيمان"؛ وحول ضرورة الحفاظ على البعد المتسامي للسر المسيحي، في مواجهة أي إنقاص وحصر للخلاص في بعده الأفقي، كتحرير إنساني، وبالتالي جعل رسالة الكنيسة مجرد مشروع تاريخي واجتماعي وسياسي. في هذا المعنى، تقول مذكرة "الحرية المسيحية والتحرير": "إن حقيقة سرّ الخلاص الذي يعمل في التاريخ اليومي، حاملاً معه البشرية المفتداة نحو كمال الملكوت، هي التي تستمدّ منها الجهود التحرّرية دلالتها الحقيقية اللازمة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتحول دون إنزلاقها إلى عبوديات جديدة" (عدد 99).

خلاصة: اليوبيل زمن تحرير وحرية
التحرير الحقيقي هو من عمل الله وحده، وليس من هذا العالم. مع ذلك، فهو يتحقق في هذا العالم ولأجل هذا العالم. إنه تحرير كامل، يهدف إلى خلق الإنسان الحر. يعني التحرير الكامل تحرير الإنسان في جميع أبعاد وجوده. في علاقته مع الله، إنه تحرير من الخطيئة، من خلال جواب الإيمان الكامل، كاعتراف بعجز الإنسان عن تخليص نفسه، وكاستسلام واثق لغفران الله في المسيح. في علاقته مع الآخرين، إنه تخطٍّ للأنانية، من خلال حب القريب الحقيقي، المتمّم في الاحترام الكامل لكرامة كل إنسان، كابن لله وأخ للمسيح، وفي الالتزام بتحريره من كل ظلم وقهر، ومن كيانه، لأنها تحرّره في البعد الأساسي للحرية، الذي هو الحب: حب الله وحب القريب، اللذين يرتبط أحدهما بالآخر بدون انفصال. والأهمية التي تعطيها المسيحية لحب القريب، كإتمام حقيقي وحيد لحب الله، تجعل من الأنانية خطيئة الإنسان الكبرى، تلك الخطيئة التي تجعل القاهرين والمقهورين عبيدًا على السواء، وإن بطريقة مختلفة.
على مثال يسوع المسيح، تختار الكنيسة تفضيل الفقراء والضعفاء والمقهورين، وتلتزم بمساعدتهم على أن يجدوا، في كلمة الله، معنى لحياتهم، فيساهموا هم بدورهم في خلاصهم وتحريرهم. لا يمكن للمسيحيين أن يعيشوا في رخاء، وأن يكونوا لامبالين أمام مشاكل البؤس والظلم في العالم. على الكنيسة، التي تهتدي بإنجيل محبة ورحمة الانسان، أن تسمع صراخ الذين يطلبون عدالة، وأن تريد الجواب عليه بكل قواها، من خلال التزامها بخدمتهم. هذا لا يعني أن تصبح الكنيسة "حزب فقراء"، ضد الآخرين، بل أن تذكر دائمًا تفضيل أولئك الذين يرفضهم مجتمع البشر، ويضعهم على الهامش. في يسوع المسيح، اختار الله بقوة جانب الفقراء والمستضعفين، ورسم بالتالي الطريق لكنيسته. ليس الهدف انتصار الفقراء على الأقوياء، بل إقامة مجتمع أخوي ومتساو، مجتمع أبناء الله، وتكوين "عائلة الله" على الأرض. بدون أن تأخذ مكان الدولة، وبدون أن تعتمد شريعة القوة والسلطة، تقدّم الكنيسة على أنها "المجتمع الصالح"، نور العالم وملح الأرض، مجتمع مثال للعالم بأسره.
هذه هو معنى إحتفالنا باليوبيل المقدس. فإذا كانت كلمة يوبيل تعني، كما يقول قداسة البابا، "الفرح لا الفرح الداخلي فقط، بل الفرح الذي يظهر في الخارج أيضًا، لأن مجيء ابن الله تمّ أيضًا في الظاهر... فيجدر إذن أن تظهر في الخارج كل علامة فرح ينشئها هذا المجيء" (إطلالة الألف الثالث، عدد 16). فلكي تفرح الكنيسة بالخلاص وتدعو الجميع إلى الفرح، عليها أن تسعى جهدها لاستنباط الظروف المؤاتية لكي يتمكن كل أحد من المشاركة في قوة الخلاص (المرجع نفسه). لذا يبدو الالتزام بالعدالة والسلام، في عالم موصوم بنزاعات وبفوارق اجتماعية واقتصادية لا تطاق، مظهرًا مميزًا لتهيئة اليوبيل والاحتفال به، بالتالي، على المسيحيين أن يكونوا "صوت جميع فقراء العالم" (المرجع نفسه، عدد 51).
في ذلك كله، تنظر الكنيسة بثقة إلى مريم "أيقونة التحرير" وتسعى لتتطابق معها، إذا رغبت في العمل على تحويل المجتمع، ليصير انعكاسًا وتهيئة لملكوت الله. لأن "عذراء نشيد التعظيم، التي، بسموّ روحها، تشمل بصلاتها الكنيسة والإنسانية، وهي دعامة الأمل الراسخة. من خلالها نرجو انتصار المحبة الإلهية التي لا تحول دونها عقبة، ونكتشف إلى أية درجة من الحرية يحبّ الله الودعاء. وعلى الطريق التي رسمتها يحق للإيمان العامل بالمحبة أن يتقدّم باندفاع كبير" (حول "الحرية المسيحية والتحرر"، عدد 100).

المراجع
(1)- Bonora A., "Liberazione/Libertà" dans Nuovo Dizionario di teologia biblica, San Paolo, Milano 1988, p. 823-835.
(2)- Congrégation pour la doctrine de la Foi, "Instruction sur quelques aspects de la théologie de la liberation", (1984).
(3)- Dupuis J., "Théologie de la liberation", dans Dictionnaire de théologie fondamentale, Cerf, Paris 1992, p. 1386-1393.
(4)- Ellecuria I., "Liberazione" dans Collectif, Concetti fondamentali del cristianesimo, Borla, Roma 1998, p. 618-621.
(5)- Galot J., Le problème christologique actuel, C.L.D., 1979
(6)- البابا يوحنا بولس الثاني، إطلالة الألف الثالث، 1994.
(7)- مجمع العقيدة والإيمان، مذكرة حول "الحرية المسيحية والتحرر"، 1986.
(8)- معجم اللاهوت الكتابي، "تحرير/حرية"، دار المشرق، بيروت 1986، ص. 188-192.
(9)- سيدهم وليم، لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، دار المشرق، بيروت 1993.
الخوري أنطوان مخائيل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM