الكنيسة الأولى تعيش اليوبيل

الكنيسة الأولى تعيش اليوبيل

السنة اليوبيليّة التي تكلّم عنها سفر اللاويين وأوضح تفاصيل الإعلان عنها بالنفخ بالبوق وعدّد الأعمال المطلوبة فيها، صارت في مجمع الناصرة يومًا مفتوحًا دشّنه الربّ يسوع. ومنذ ذلك الافتتاح لا نزال نعيش الكلمة التي قالها السيّد: "اليوم تمّت هذه الكلمات التي تلوتها على مسامعكم". وصار اليوبيل حالةً ونوعيّة نعيش كلَّ شيء من خلالهما. واليوم الذي أُعلِن أنه تحقَّقَ، فتح زمانًا لا ينتهي إلاّ في لقاء الوجه إلى وجه في الملكوت. وأعلن في الوقت نفسه انفتاح المكان الذي تخطّى الناصرة وأورشليم ليبلغ إلى أقاصي الأرض. وطرحَ نوعّيةً في التعاطي خرج من ذهنيّة الشريعة إلى ذهنيّة الملكوت الذي تجلّى في شخص الربّ يسوع وتعليمه.
سفر اللاويين يوضح، في الفصل 25، الأعمال المطلوبة في السنة الخمسين أو السنة اليوبيليّة، يقول: "واحسبوا لكم سبع سنين سبع مرّات، فيكون لكم تسع وأربعون سنة. وفي اليوم العاشر من الشهر السابع، في يوم الكفّارة، تنفخون في البوق في أرضكم كلّها. وتكرّسون لي سنة الخمسين وتنادون بتحرير أهل الأرض كلِّها، فتكون لكم يوبيلاً وترجعوا كلّ واحد منكم إلى ملكه وإلى عشيرته. لا تزرعوا فيها ولا تحصدوا الحصيد النابت من تلقاء ذاته، ولا تقطفوا عنب كرومكم غير المقضوبة. فهي يوبيل، مقدّسة تكون لكم، وفيها تأكلون غلّة الحقول من تلقاء ذاتها" (لاويين 25: 8-13). يضعنا النصّ في جوّ الخلق الجديد الذي يُعطي إمكانيّةَ فرج، على الأقلّ مرّة كلّ سبع سنوات: راحة للأرض وللإنسان وترك الديون والأثقال من أجل بداية جديدة.
أمّا سفر النبّي أشعيا الذي قرأ الربّ منه في مجمع الناصرة فهو يعطي برنامج هذا الآتي فرجًا وخلاصًا يُعلن أنّ الزمان قد تمّ: "روح الربّ عليَّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأنادي للأسرى بالحريّة، وللعميان بعودة البصر إليهم، لأحرِّر المظلومين وأُعلن الوقت الذي فيه يَقبلُ الربُّ شعبَه". وأغلق يسوع الكتاب وأعاده إلى خادم المجمع وجلس. وكانت عيون الحاضرين كلِّهم شاخصةً إليه. فأخذ يقول لهم: "أليوم تمّت هذه الكلمات التي تلوتُها على مسامعكم" (لوقا 4: 16-21). أغلق يسوع الكتاب لأنّ عيون الحاضرين كلِّهم سترى أنه الكلمة المتجسّد الذي سيحقّق كلَّ ما تنبّأ عنه الأنبياء. وفتح صفحة جديدة لعهد جديد. مع الربّ يسوع بدأ زمانٌ جديد بدايتُه اللقاء به وشرعتُه في التقديس هي شخصه وتعليمُه، وطالما أنه ترك نفسَه وراء وجه كلّ إنسان فمسيرة التقديس لن تنتهي إلاّ بانتهاء كلّ الناس وفي كلّ الأمكنة. هذه هي النوعيّة الجديدة التي تعلّمتها الكنيسة في تلمذتها للمعلّم وجسّدتها في المكان والزمان شهادة محبة ورحمة. وفَهِمت أنّ الربّ يطرح منطقًا جديدًا ورؤية جديدة لمفهوم التقديس والزمن المقدّس، وصارت تقرأ الكتاب والأحداث على ضوء وجه السيّد وتعليمه، وعاشت في يوبيلٍ دائم يؤوّنُ أعمال الرحمة والغفران لا في سنة مقدّسة وحسب بل كلّ يومٍ من أيام السنة.
نقاربُ سفرَ الأعمال لنقرأ من خلاله: كيف جسّدت الكنيسة بُعدَ التقديس من خلال تجربتها وبالتالي شرعة اليوبيل المسيحيّ.

مقدمة- شخصيّة الكنيسة ونوعيّة فعلها
وجه الكنيسة الذي يفتتح به القديس لوقا كتاب أعمال الرسل هو بمثابة النَغَم الذي نُعطيه أساسًا للّحن كلّه؛ فيه شخصيّة الكنيسة ونوعيّة فعلها.
شخصيّتها يوضحها من خلال كلامه عن المجتمعين الذين يؤلّفون النواة الأولى للكنيسة، وهم اختصار لوجهها. فيها الإثنا عشر وفيها أمّ يسوع وبعض النسوة وإخوة يسوع (أع 1: 13-14). وجهها يحوي إذًا كلَّ الوجوه: الرسول والأم والمُساعد والأخ. وطالما أنّ من يعمل بكلام السيّد هو أمّه وأخته وأخوه، فكلّ ذوي الإرادة الصالحة هم جوهريًا أبناؤها وجزء من وجهها. "وكان جماعة المؤمنين قلبًا واحدًا وروحًا واحدة، لا يدّعي أحد منهم ملكَ ما يخصّه بل كانوا يتشاركون في كلّ شيء لهم" (أع 4: 32).
أما نوعيّة فعلها فهي أولاً كنيسة الصلاة والانتظار.
صلاتها هي بقلب واحد وصلاة قلب دائمة: "وكانوا يواظبون كلُّهم على الصلاة بقلب واحد، مع بعض النساء ومريم أم يسوع وإخوته" (أع 1: 14). "وكانوا يلتقون كلّ يوم في الهيكل بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب، ويسبّحون الله، وينالون رضى الناس كلّهم" (أع 2: 46-47). القلب الواحد هو القضيّة الواحدة والهدف الواحد لأن العريس واحد. والصلاة الدائمة هي اتجاهٌ للقلب يجعله يرى الأشياء كلّها والناس كلَّهم والأعمال كلَّها على أنها تعبيرٌ طبيعيّ، تلقائيّ ودائم كالتنفّس، يلازم الفكر والقلب والحركة. وهي في تعبير جديد يتخطّى كونها خرجت من المجمع وصارت في كل بيت من بيوت المؤمنين، ليصير على صورة الخمر الجديدة التي تحتاج إلى أوعية جديدة كما علّم المعلّم (مر 2: 22). هذا التعبير الجديد يقول: الكلّ فيها معنيّون والكلّ يتنبّأون، كما أنبأ يوئيل (أع 2: 17؛ يوء 3: 1-5)، ويسكنها فرح عميق واتّصال مع الجميع وفهمٌ من الجميع. وإذ هي تنطلق من الكتاب لأنه شخص الله بالذات، فهي تقرأه بعين اختبارها لشخص الربّ يسوع المسيح وتؤوِّنه على نور قيامته. هي تصلّي الكتاب، وهذه النوعيّة من الصلاة تشرّع القلوب لدخول الروح وفعله وتتفطّر قلوب السامعين بالتوبة ويسألون بطرس: "ماذا يجب علينا أن نفعل؟" (أع 2: 37). هذه الصلاة النقيّة هي فعل حضور كامل وغير مشروط لحضور الربّ الدائم والفاعل فيها ومن خلالها. وهي تُخصب كلامها وبشارتها وتلد للربّ المؤمنين.
هي كنيسة الانتظار تعيش الخلاص الذي تحقّق وفي الوقت نفسه هي تنتظر تحقيقه، على ما يقول بطرس الرسول: "ننتظر ونستعجل" (2 بط 3: 12). تنتظر حلول الروح لتتذكّر ما علّمها معلّمها وتفهمه. تنتظر مبادرة الاستنارة والشجاعة والفهم تأتيها من علُ لتبدأ بكتابة صفحة جديدة في كتاب العهد الجديد، وتستعجل تحقيق رغبة المعلّم. وستفهم يومًا بعد يوم أن مسيرة الاستنارة والفهم هي عمليّة يوميّة ومؤلمة وطويلة. وأنّ تجسيد كلام السيّد في حياة كل يوم هو اليوبيل الدائم الذي يدعوها إلى عيشه.
وكلامه ومَثَله هما القدوة التي تركها لها في مسيرة تحقيق الملكوت، وبتعبير آخر في استجلاء ملامح اليوبيل المسيحيّ الذي افتتحه ودرّبها على استيعابه وتحقيقه.

1- شرعة اليوبيل المسيحيّ
أ- الرحمة
الرحمة التي تشير إليها نبوءة أشعيا والتي ارتضى الربّ يسوع أن يفتتح بها تمام الأزمنة، وليس بكلام الشريعة الوارد في سفر اللاويين. الرحمة المطلوبة منها هي أن تُبشّر المساكين وتشفي منكسري القلوب وتنادي للأسرى بالحريّة وللعميان بعودة البصر إليهم وتُحرّر المظلومين (لو 4: 18). هذه الرحمة هي الموقف المبدئيّ والأساسيّ في مسيرة عيشها للزمن والأحداث من خلال رؤية معلّمها الذي رحمها وبشّرها وشفاها وحرّرها. هذا الموقف هو بمثابة مفتاح النعمة التي أفاضها عليها ربّها ولها أعطى أن تفتح باب الملكوت. وبدأت، على مثاله، تمشي وتشفي (أع 3: 1-10؛ 5: 12-16) وتقيم من الموت (أع 9: 40) وتعلن أنّ انتظار كلّ الأزمنة قد تمّ. وفهمت أنّ منطق الرحمة سيكلّفها اضطهادًا وأنّ فكّ قيود الآخرين سيضع القيود في يديها ويرسلها إلى السجن والموت (أع 5: 17-18). الروح الذي ذكّرها بكلام السيّد وجعلها تفهم، أعطاها القدرة على الاحتمال والنَفَس الطويل. فهمت أنّ الاضطهاد هو الجواب الطبيعيّ لمقاومة العالم للبشارة، وقبلته عربون تشبّهها بالمعلّم وإخصابًا للكلمة التي تبشّر بها (كنيسة أورشليم تعاني اضطهادًا شديدًا، أع 8: 1) واختبرت أنّ الاضطهاد يزيدها نعمة ونموًّا وقداسة (التبشير في السامرة نتيجة الاضطهاد، أع 8: 4؛ انتقلوا إلى فينيقية وقبرص وانطاكية، أع 11: 19).
ب – الخدمة
هذا الوجه يطبع بطابعه الكلام عن الكنيسة في سفر الأعمال. فهي أولاً خادمة الكلمة وثانيًا خادمة اللقمة وثالثًا خادمة النعمة. ولها في كلّ مجالات خدمتها طريقة جديدة في التعبير والتدبير.
أولاً: خدمة الكلمة
انطلاقًا من طلب الربّ إليها أن تذهب إلى العالم وتعلّم وتُتلمذ، وانطلاقًا من بديهيّة الحاجة إلى إعلان فرح الخلاص الذي اختبرته معنىً عميقًا لحياتها، كان أوّل فعلٍ قامت به الكنيسة، أن تُعلنَ البشارة وتعطيها الأولويّة. ولنا في سفر الأعمال أمثلة عديدة على طريقة الكرازة التي اتّبعتها الكنيسة. وتتوضّح أصول هذه الكرازة الجديدة من خلال دراسة النصوص.
خدمة الكلمة تنطلق من الواقع، من الخبرة والمعاناة والسؤال. نذكر طبعًا خطبة بطرس الأولى التي جاءت جوابًا على تساؤل بعض الحاضرين: ما هذا؟ وقول البعض الآخر: أسكرتهم الخمرة! (أع 2: 12-13)، وفيلبّس يلاقي الحبشيّ الذي يتساءل عن المقصود في سفر أشعيا (أع 8: 26-40)، واسطفانوس يجيب أعضاء المجلس (أ 7: 2-53)، وبولس في أثينا بعد أن رأى المدينة مليئة بالأصنام (أع 17: 16-31).
وتقرأ الكتاب من خلال وجه معلّمها لتفهم سرّه وتؤوّنه مرّتين، مرّة لتجد الرباط الخفيّ بين الكتاب وبين يسوع، ومرّة لتجعل اللقاء ممكنًا بين يسوع والإنسان. وجديدها أنّها تضع كلّ اللغات في خدمة كرازتها، ولا تكتفي بالكلمة بل تستعمل لغة التعبير كلّه (لغة الجسد، ولغة القلب، ولغة الفكر) لأنها تتوجّه إلى كلّ الإنسان لا إلى جزء منه فقط. وتنتهي دائمًا بدعوة واضحة ومشوّقة إلى الإيمان والالتزام. إنها أمّ ومعلّمه، تصنع الحَدَث ولا تتكلّم عنه فقط.
خدمتها للكلمة هي وجهها النبويّ الجريء الذي يفعل في العالم ويزرع فيه بذار الملكوت الجديد. وطلَبُ سيّدها أن تكرز به إلى أن يعود، يجعل من كرازتها مطلبًا أساسيًّا ودائمًا تعيشه برهان حبٍّ وأمانة على الوديعة هنا، وفرحًا أنّها شاركت في الخلاص يوم تلتقيه وجهًا إلى وجه.
ثانيًا: خدمة اللقمة
حزرت الكنيسة الرباط الجوهريّ بين الكلمة واللقمة وأنّ اللقمة هي تجسيد للكلمة في تفاصيل الحياة، واستنبطت طرقًا جديدة لتلبي هذه الخدمة. وكان استفانوس أحد السبعة الذين اختارتهم الجماعة (أع 6: 3-5)، وكان الاهتمام بالفقراء طلب الرسل الوحيد إلى بولس وبرنابا (غلا 2: 10)، وكان أن أرسل التلاميذ معوناتهم إلى شيوخ الكنيسة مع برنابا وشاول (أع 11: 29-30).
ثالثًا: خدمة النعمة
قد تكون خدمة النعمة أعمق خدمات الكنيسة لأنها مسؤوليّة القداسة فيها، وهي أيضًا أبعدها عن التحديد الملموس والمرئيّ، وبسبب ذلك هي من أصعب الخدمات. هذه الخدمة هي في جوهر الجوّ اليوبيليّ الجديد الذي افتتحه الربّ. إنّ مسؤولية نموّ النعمة والقداسة لكلّ أخ من إخوة يسوع الصغار هي ماء الريّ الذي تحتاجه الكرمة التي غرستها يمين الربّ. والكنيسة، حافظة الأمانة، مطلوبٌ منها أن تتعهّد النعمة وترويها وتفلح أرضها وتقوّم اعوجاجها وتشجّعها وتُقضّب ما يبس لتزيدَ العافية وتَكثُر الثمار.
لنا في بداية سفر الأعمال موقف مهيب بين بطرس وحنانيّا وسفيرة اللذَين سَخرا من الروح وكذبا عليه واحتفظا بنصف ثمن الحقل (أع 5: 1-11)، ولنا موقف آخر مع سمعان الساحر الذي يريد أن يشتري الروح القدس (أع 8: 9-24) ومواقف أخرى (الساحر اليهوديّ بريشوع أع 13: 6-12؛ في فيلبي الجارية التي بها روحٌ عرّاف أع 16:16-18)، كلّها تقول باختصار وحزم ما قاله سفر التثنية (تث 29: 17) وكرّرته الرسالة إلى العبرانيّين: "لا ينبت فيكم عرق مرارةٍ يسبّب انزعاجًا ويفسد الكثير من الناس" (عب 12: 15).
وإلى جانب هذا الموقف من التقويم الحازم تفيض في السفر مواقف أخرى كثيرة هي في خدمة النعمة والقداسة. فهي تشجّع المؤمنين من خلال رسالة ترسلها جماعة الرسل: "فانصرفوا ونزلوا إلى أنطاكية، فدعوا جماعة المؤمنين وسلّموا إليهم الرسالة. فلما قرأوها فرحوا فرحًا كثيرًا بما جاء فيها من تشجيع" (أع 15: 31-32). أو من خلال تفقّد شخصيّ ومشاركة في العيش: "فاجتاز (بولس) سورية وكيليكية يقوّي إيمان الكنائس" (أع 15: 41). "ولمّا سكن الهياج في أفسس دعا بولس التلاميذ، فودّعهم بكلمة تشجيع وسافر إلى مكدونية، وسار في تلك الأنحاء يشجّع بكلامه الكثير جماعة المؤمنين" (أع 20 :1-2). وهي تسهر على الثبات في الإيمان رغم كلّ الضيقات والإضطهاد وتساهم في التدبير: "وبشّر بولس وبرنابا في دربة وكسبا كثيرًا من التلاميذ. ثمّ رجعا إلى لسترة، ومنها إلى أيقونية وأنطاكية، يشدّدان عزائم التلاميذ ويشجّعانهم على الثبات في إيمانهم، ويقولان لهم: "لا بدّ من أن نجتاز كثيرًا من المصاعب لندخل ملكوت الله". وكانا يعيّنان لهم قسوسًا في كلّ كنيسة، ثمّ يصليان ويصومان ويستودعانهم الربّ الذي آمنوا به" (14 :21-22). "وخرج (بولس) وسار في غلاطية وفريجية يقوّي عزائم التلاميذ" (أع 18: 23). وتعيش مع كلّ الإخوة شركة عميقة تجعل الكلّ معنيًا بالكلّ وبكلّ القضيّة: "وكانوا يُبلغون المؤمنين عند مرورهم في المدن أوامر الرسل والشيوخ في أورشليم، ويوصونهم بأن يعملوا بها. وكانت الكنائس تتقوّى في الإيمان ويزداد عددها يوما بعد يوم" (أع 16: 4-5).
وأصلُ كلّ هذه المواقف هو إصغاء الكنيسة الكامل والدائم لما يقوله لها الروح. إصغاؤها للروح علّمها أن تُصغي إلى الأحداث فتراها بعينه وتميِّز رغبته من خلالها، وتصغي إلى كلّ إنسان لأن الروح يحلّ على الجميع ويتكلّم من خلال الجميع.
يوم اعتقدت أنّ مهمتها تنحصر بالشعب اليهوديّ ذكّرها الروح من خلال لقاء بطرس وكورنيليوس أنّ الأمم هم جزء من وجهها وبشارتها (أع 10). ويوم اعتقدت أنّ الختان طريق ضروريّ لإعلان الإيمان بالربّ يسوع، فاجأها الروح بحلوله على غير المختونين في عنصرة جديدة (أع 10: 44-48) كمثل التي اختبرتها يوم الخمسين (أع 2: 1-13). ويوم سمعت تذمّر اليهود اليونانيّين الزاعمين أنّ أراملهم لا يأخذن نصيبهنّ من المعيشة اليوميّة، دعت جماعة التلاميذ ليختاروا سبعة تكلّفهم بهذا العمل (أع 6: 1-6). وبولس فهم من رؤيا الرجل المكدونيّ أنّ الروح يدعوه إلى الذهاب إلى مكدونية (أع 16: 9). وفهم مرة أخرى، برفقة برنابا، أنّ الروح يمنعهما من التبشير في آسية الآن والذهاب إلى بيثينية (أع 16 :6-7).
ج- أولويّة الشهادة
والشهادة تعني أنّها موحّدة القلب والقضيّة ولا تقوى على السكوت عمّا فعله الله لها (بطرس ويوحنا). فتأتي شهادتها من فيض اختبارها، واختبارها شهادة اقناع يجعل الآخر يتمنّى أن يصير مثلها من أحبّاء السيّد (نذكر مدافعة بولس عن نفسه أمام الملك أغريبا، أع 26: 29).
والشهادة المطلوبة منها تبدأ بالاعتراف أن يسوع هو المسيح، وتمرّ بامتحان الاضطهاد لتصل إلى الاستشهاد.
ولنا في السفر أمثلة عديدة عن مسيرتها هذه. الكهنة ورئيس حرس الهيكل والصدّوقيّون يضطهدون بطرس ويوحنا، أع 4: 1-3؛ ورئيس الكهنة والصدّوقيّون يضطهدون الرسل، أع 5: 17؛ وشاول يضطهد الكنيسة، أع 8: 1-3؛ وهيرودس يضطهد بعض رجال الكنيسة ويقتل يعقوب، أع 12: 1-5؛ والمجلس يرجم إسطفانوس، أع 7: 54-60؛ وبولس وسيلا يتعرّضان للسجن والجلد في فيلبي، أع 16: 19-24)؛ واليهود يهجمون على بولس في الهيكل ويحاولون قتله، أع 22: 30-31.
والعالم يرى ويفهم، ولو ادّعى عكس ذلك أحيانًا، ويدعو الأشياء باسمها. "وفي انطاكية تسمّى التلاميذ أول مرّة بالمسيحيّين" (أع 11: 26)، ويدهش لشهادة المحبة: "أنظروا كم يحبّون بعضهم بعضًا". ولكنه يفضّل مجد الناس على مجد الله (يو 12: 43)، ومنطق السهولة على منطق القداسة، ومُلكيّة السلطة على تجرّد التطويبات الذي يصل إلى الصليب ويعارض ويشتم (ولكنهم كانوا يعارضون بولس ويشتمون، أع 18: 6) أو يؤجّل السماع، (سنسمع كلامك في هذا الشأن مرّة أخرى، أع 17: 32).
شهادتها تقول إنّ الكلّ فيها معنيٌّ والكلّ فيها مسؤول لأنه عضوٌ جسمها.
ولنا في سفر الأعمال كثير من الوجوه المشرقة التي فتحت بيتها للجماعة (مريم أم يوحنا الملقّب بمرقس أع 12:12، ليدية بائعة الأرجوان أع 16: 14-15 و40)، أو ساعدت بأموالها أو كرّست نفسها لخدمة الإخوة القدّيسين (عائلة استفاناس 1 كور 16: 15) أو تعبت في خدمة الربّ (تريفينة وتريفوسة وبرسيس وأم روفس، روم 16: 12، وأبفراس، كو 4: 12-13) أو استقبلت الرسل (برسكلة وأكيلا اللذين أقام بولس يعمل عندهما لأنه كان من أهل صناعتهما. صناعة الخيام، أع 18 :3) أو ساندت وكمّلت الناقص في عمل البشارة (برسكلة وأكيلا مع أبلّوس، أع 18: 25-26).
د- انفتاح في النوعيّة: العلاقات والمكان والزمان
أولاً: الشموليّة
ذكّرها الروح أنها مجال مفتوح وإمكانيّة حبّ محرَّرة ومحرِّرة: الجميع فيها وبنفس القيمة لأنّ الذي مات، مات لأجل الجميع. لا فئويّة فيها ولا مراتب. لا فرق بين وثنّي ويهوديّ، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين عبد وحرّ. فالجميع صاروا أبناء بفضل الابن الحبيب الذي فكّ أسر الجميع وغفر للجميع.
هذه الشموليّة التي دعاها إليها معلّمها هي قيمة أساسيّة في شرعة اليوبيل المسيحيّ. وإذا كان فكّ القيود وإعتاق المظلومين وترك الديون مطلب سفر اللاويين لسنة واحدة يوبيليّة فهو مطلب العمر كلّه مع منطق العهد الجديد. وبدل أن تُريح الأرض وتعتق الإنسان فقد طُلب منها أن تتعب هي وأن تقبل الأسر والموت لأجل إحلال الزمن المقدّس. وعت الكنيسة أنها شعب مفتوح لا يحدّه لا انتماء ولا مكان ولا زمان ولا اختبار، وحملت في قلبها اختبارات عديدة وبقيت واحدة لأنها جسد الربّ ولأن قضيّتها واحدة (جماعة بطرس ويعقوب أع 15، بولس وأبلّوس، 1 كور 3: 5-6).
عاشت المكان والزمان في رؤية منبثقة من الجديد الذي تعلّمته من سيّدها. هو قال لها أن تنطلق من أورشليم إلى السامرة وإلى أقاصي الأرض، وأن تتلمذ كلّ الأمم وتعلّمهم أن يعملوا بكلّ ما أوصاها به. وهو وعدَها أن يكون معها طوال الأيام، إلى انقضاء الدهر (متى 28: 19-20).
تكشف لنا دراسة المكان والزمان في سفر الأعمال المحاور التالية:
ثانيًا: دراسة الزمان
يطرح الرسل، في بداية سفر الأعمال، سؤالاً على الربّ يسوع يقول: "أفي هذا الزمن تُعيد المُلك إلى إسرائيل؟" ويجيب الربّ "ما لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي حدّدها الآب بسلطانه. ولكنَّ الروح القدس يحلّ عليكم ويهبكم القوّة، وتكونون لي شهودًا في أورشليم واليهوديّة كلّها والسامرة، حتى أقاصي الأرض" (أع 1: 6-8). جواب الربّ للرسل غيّر مفهومَين مهمَّين، مفهوم المُلك الذي صار شهادة؛ ومفهوم الزمن الذي صار مجالاً مفتوحًا ولا محدودًا، وارتبط جوهريًّا بمكان (هو أيضًا مفتوح) يصل إلى أقاصي الأرض. وسيوسّع القديس لوقا جواب الربّ هذا في كلّ سفر الأعمال.
وتُظهر الدراسة أنّ الزمان صار كلّ يوم، كلّ الأوقات،...: خرج الرسل من المجلس وكانوا يعلّمون في الهيكل والبيوت كلّ يوم، أع 5: 41-42؛ بولس يناقش اليهود ومَن يصادفهم في ساحة المدينة كلّ يوم، أع 17:17؛ تركهم بولس وانفرد بالتلاميذ يحادثهم كلّ يوم، أع 19: 9؛ أطال بولس الكلام حتى منتصف الليل... وعاد فحدّثهم طويلاً حتى الفجر، أع 20: 7-11؛ أخذ بولس يحدثهم من الصباح إلى المساء، أع 28: 23.
لم يعد هناك زمنٌ معّين ولا سنة معيّنة ولا يوم معّين، بل نوعيّة جديدة تملأ كلّ الأزمنة التي صارت كلّها "اليوم". وصارت نقطة الوصول هي مجيئه الثاني تتوق إليه الكنيسة، عبر كلّ الأزمنة.
ثالثًا: دراسة المكان
أما دراسة المكان فتُظهر حركتَين أساسيّتين: الحركة التوسّعيّة والحركة النوعيّة.
الحركة التوسّعيّة التي تنطلق من أورشليم ومن غرفة في أعلى البيت، إلى الهيكل، إلى رواق سليمان، إلى كلّ البيوت، إلى ضفّة النهر، إلى الشوارع، إلى السجن، إلى البحر، إلى قصر الملك، إلى روما. وتنتهي في بيت استأجره بولس يبشّر بملكوت الله بجرأة. هذه الحركة التوسّعيّة تنطلق من أورشليم لتصل إلى روما، ولئلاّ نعتقد أنّ التوسّع غيّر في القناعات وصار في السلطة أو في الكميّة، تنتهي الحركة في بيت كما بدأت في بيت.
والحركة الثانية هي الحركة النوعيّة من الهيكل إلى البيوت، ومن بيوت اليهود إلى بيوت الوثنيّين، ومن بيوت الرجال إلى بيوت النساء، ومن البيوت إلى السجون والشوارع والساحات، ومن البيوت إلى المهنة.
ويُنهي القديس لوقا كلامه عن الهيكل بهذا الكلام: "فهاجت المدينة كلُّها، وتجمّع الناس على بولس فأمسكوه وجرّوه إلى خارج الهيكل، وأغلقوا الأبواب في الحال" (أع 21: 30). حركة المكان التي خرجت من الهيكل لن تعود إليه، لأنّ أبوابه اُوصدت، والكلمة ستتابع سيرها، من خلال بولس، لتصل إلى روما. وصار المكان كلّ الأمكنة وكلّ أنواع الأمكنة، وصارت كلّ الأمكنة مكانًا للتجسّد. هذه النوعيّة في الرؤية تعطي القيمة للحبّ الذي يتجسّد في الزمان والمكان، لا العكس. ويصير أصغر مكان فعل حبّ في أصغر من العالم نورًا لكلّ الكنيسة ونَفَسًا جديدًا يُعطى من الروح.

2- بعض الإستنتاجات
هذا الوجه الذي نقرأه في كتاب الأعمال يعود بنا إلى صفاء البدايات وجرأتها. ونفرح وندهش لجمال وجه الكنيسة ونفتخر أنّنا أبناؤها. نفرح لأنها حقّقت وتحقّق ما بدأه الربّ يسوع، وتحاول أن تكون كما يريدها. ونقرأ أيضًا المرتجى المطلوب منّا اليوم، نحن امتداد الرسل والتلاميذ القديسين.
وأمام هذا المرتجى نحن نعيش اختبارين وكلاهما يكمّل الآخر، الأول أن تخلق فينا قراءة وجه الكنيسة الأولى انشدادًا صوب الأكمل والأعمق في جرأة التشبّه بالمعلّم على مثالها، والثاني قراءة عميقة لاختبارنا الكنسيّ اليوم لإعادة تقيميه وتقويمه على شرعة اليوبيل التي أعطاها السيّد. ولنا في توازن هذين الاختبارين ولادات جديدة لم نكن لنحلم بها تمامًا كما نرى صورة ثالثة جديدة من خلال انعكاس صورتين على شاشة واحدة.
ونحن معرّضون كذلك لتجربة، نقع فيها يومّيًا بسبب الألم والضعف والرؤية غير المستنيرة، وهي أننا إمّا أن نرى فقط صورتها الكاملة وإمّا أن نرى فقط صورة واقعنا الناقصة وفي كلا الحالين نحن نصل إلى قطع الرجاء إمّا من مثاليّة لا تُعاش أو من نقص لا علاج له. بينما أساس إيماننا هو في القدرة الآتية من الربّ وليس من قدرتنا. فالربّ قادر من خلالنا وينتظر كلّ لحظة ليُنعم علينا بفرح الخلاص الذي ينفي الخوف والقلق وقطع الرجاء ويُعطينا أن نبتكر تعابير جديدة في تجسيدٍ يوميّ لكلامه.
منذ أن افتتح الربّ تمام الأزمنة في مجمع الناصرة وأبواب النعمة مفتوحة في كلّ لحظة وكلّ مكان ولكلّ إنسان ولكلّ الإنسان.
جهاد الأشقر وسوسن حبيب
بيت الرسالة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM