الفصل الثالث: الإنجيل في تسالونيكي

الفصل الثالث
الإنجيل في تسالونيكي
في سنة 50، وخلال الرحلة الرسوليّة الثانية، وصل بولس إلى تسالونيكي، عاصمة مكدونية الرومانيّة. وصل إليها بعد أن مرّ في فيلبي وأسّس جماعة فيها. كانت تسالونيكي في زمن بولس مدينة تجاريّة مزدهرة وقد أقام فيها عدد من الغرباء، وبينهم يهود عديدون. فإليهم جميعاً توجّه بولس. بدأ مع اليهود والمتعبّدين للاله الواحد، ثم تابع مع الوثنيين. وأقام بولس بعض الوقت كما مارس مهنة الحياكة التي تعلّمها وهو شاب (1 تس 2: 9). كما تسلّم أكثر من معونة من كنيسة فيلبّي (فل 4: 13). وكان له أن يضمّ إلى العبادة الجديدة عدداً من المرتدّين اليهود، وعدداً آخر من الوثنيين. ولكن توقّف عمله فجأة. وهكذا ترك الرسول جماعة فتيّة ما زالت تحتاج إلى عنايته. تركها عرضة للاضطهاد. ولهذا كان قلقاً عليها.
كيف تمّت هذه البشارة؟ هذا ما نتوقف عنده، فنقرأ أولاً سفر الأعمال، ثم نتعرّف إلى المرتدّين. وفي الأخير، نرافق المرسلين من تسالونيكي إلى كورنتوس.
1- كنيسة تسالونيكي في أع
أ- ظروف البشارة
إن أع 17: 1- 10 يورد ظروف بشارة تسالونيكي. وتكمّل 1 تس و2 تس المعلومات التي قدّمها لنا لوقا. ماذا يقول سفر الأعمال؟
"بعد أن جازا مفيبوليس وأبلونية، وصلا إلى تسالونيكي حيث كان مجمع لليهود". عّمن يتكلّم النص؟ عن بولس وسلوانس. إنطلاقاً في الطريق الاغناطيّة المعروفة التي كانت تربط المدن الكبرى بعضها ببعض.
"وذهب بولس كعادته إليهم، وخلال ثلاثة سبوت جادلهم منطلقاً من الكتب المقدّسة". وردت كلمة "مجمع" بدون الـ التعريف. هذا يعني أنه كان هناك أكثر من مجمع. ولكن النسخة البيزنطيّة زادت ألـ التعريف، وهذا ما نجده في بعض المخطوطات الاسفينيّة (الاسكندراني من القرن الخامس، رقم 7 من القرن الثامن، راجيوس الباريسي من القرن الثامن، اللنينغرادي من القرن التاسع). إذا توقّفنا عند هذه الاختلافة، استنتجنا أن مجمع تسالونيكي كان معروفاً، وفيه يجتمع يهود أمفيبوليس وأبلونية، بل وفيلبي. ولكن لا ننسى أن ألـ التعريف موجودة أيضاً أمام مجمع بيرية (آ 10).
"كان بولس يشرح ويبيّن أنه كان ينبغي للمسيح أن يتألمّ ويقوم من بين الأموات. قال: الذي هو المسيح هو يسوع الذي أنا أبشّركم به". نلاحظ أولاً العبور من الخطبة غير المباشرة إلى الخطبة المباشرة. ثم نلاحظ البرهان البولسي في أربع محطات: الكتب المقدسة. جواب لاعتراض قد يقدّم، ما يسبق القبول بيسوع الذي مات ثم قام. وأخيراً التأكيد بأن يسوع هو المسيح. هذا هو الاعلان الإيماني. هذا ما اعتاد بولس أن يفعله خلال مروره في المدن التي حمل البشارة إليها.
"فاقتنع بعض منهم، وانضمّوا إلى بولس وسيلا مع جمهور كثير من اليونانيين، ومن المتعبّدين، ومن عدد غير قليل من السيدات الشريفات". هناك نصوص تتحدّث عن "اليونانيين المتعبّدين". ولكن الاسكندراني يميّز بين الفئتين. فحسب بولس، تألّفت كنيسة التسالونيكيين بأكثريّتها من الوثنيّين الذين مالوا عن الأوثان بفضل كرازة الرسل (1 تس 1: 9). فلو كان اليونانيون من خائفي الله (من المتعبّدين) لما كان لوقا ذكر هذه الارتدادات التي تشرّف عمل بولس.
"فثار اليهود، وحشدوا رجالاً أشراراً من أهل السوق، وعصبوا حزباً وبلبلوا المدينة. ثم أتوا بيت ياسون وطلبوهما (أي بولس وسيلا) ليقدموهما إلى مجلس الشعب. وإذ لم يجدوهما جرّوا ياسون وبعض الأخوة إلى حكّام المدينة...".
يستند كل هذا النصّ (أع 17: 1- 10) إلى معلومات شفهيّة أو خطية وصلت إلى لوقا. وقد دوّنها كاتب أع بطريقته ليدلّ كلى نموّ الإنجيل ونجاحه. لهذا، ذكر المتعبّدين (وهم وثنيّون يعبدون الله الواحد) واليونانيين (الوثنيين) وسيّدات شريفات. لم يذكر لوقا تيموتاوس الذي هو في تسالونيكي. ولم يحدّثنا عن ياسون فيقول لنا كيف تعرّف إليه المرسلرت كما تعرّفوا إلى ليدية ثي فيلبي (أع 16: 14).
لماذا ذكرنا تيموتاوس؟ لأننا نعرف أنه كان في فيلبي. وسوف نجده من جديد في بيرية (17: 14). فلوقا لم يذكر كل الأشخاص الذين ألّفوا الفريق الرسوليّ. ثم لا ننسى أن تيموتاوس يبقى في الدرجة الثانية بالنسبة إلى بولس وسيلا. بالإضافة إلى ذلك، ما كان بولس يستطيع أن يكلّم التسالونيكيين في 1 تس 2: 7 في صيغة المتكلّم الجمع (نحن) ويروي لهم كيف بشرهم، ويعدّ تيموتاوس بين مشاركيه في العمل، لو كان تيموتاوس غائباً. وأخيراً، كيف يستطيع بولس أن يرسل تيموتاوس من أثينا إلى تسالونيكي لا مهمّة يعتبرها خطيرة، لو كان تيموتاوس مجهولاً هناك (1 تس 3: 1- 2)؟
ب- أسلوب البشارة
وقدّم لنا لوقا أسلوب التبشير البولسي. بدأ في المجمع، ثم وجّه كلامه إلى الوثنيين. وكان المتعبّدون صلة الوصل بين اليهود والوثنيين.
وعظ بولس ثلاثة سبوت في المجمع. نحن لا نقول ثلاثة أسابيع. ففي السبت تلتئم الجماعة من أجل الصلاة. هكذا فعل يسوع في مجمع الناصرة. قرأ نصّ أشعيا وطبّقه على نفسه (لو 4: 14- 22). وهكذا فعل بولس وبرنابا في مجمع أنطاكية بسيدية (أع 13: 15: كلام موعظة للشعب).
وهكذا قد يكون بولس رافق اليهود أربعة أسابيع. جادلهم، ناقش معهم، حاجّهم. إنطلق من الكتب المقدّسة، من العهد القديم. وقد أعطانا لوقا في خطبة أنطاكية بسيدية نموذجاً عن كلام بولس حيث نجد سلسلة من الاستشهادات الكتابيّة تتوخّى الشرح والبرهان. وأخذ بجدليّة عرفها في عالم الرابانيين، فبرهن على أن المسيح الذي أعلنته الكتب وأنبأت به وانتظرته، يجب عليه أن يتألمّ ويقوم من بين الأموات. وترك لوقا الخطبة غير المباشرة وانتقل إلى الخطبة المباشرة: "فالذي هو المسيح هو يسوع الذي أبشّركم أنا به" (أع 17: 3).
حين ننطلق من الاتهامات التي حملها اليهود أمام حكّام المدينة عن المرسلين، نستطيع أن نكمّل الخطبة التي أوردها لوقا بابجاز. لقد اتهم اليهود بولس ورفيقيه بأنهم أعلنوا أن يسوع هو ملك. هو ملك آخر تجاه الذي هو وحده الملك، قيصر رومة وامبراطورها. لقد تلاعب اليهود على الألفاظ، وتوقّفوا عند المعنى الماديّ والحرفيّ لكلام بولس، ونسوا البعد الاسكاتولوجي. قد يكون بولس تكلّم عن ملكوت الله (1 تس 2: 12: ملكوته ومجده؛ 2 تس 1: 5: ملكوت الله الذي لأجله تتكلّمون)، لا عدت ملكوت روحيّ على الأرض، كما قالت الأناجيل الإزائية، بل عن ملكوت مجيد. فهم اليهود حقاً ما أراد أن يقوله، ولكنّهم أخذوا بالمعنى الذي يثير الخوف لدى حكّام المدينة من هذا الذي "يزاحم" قيصر.
ج- نتائج الرسالة
وقد أشار لوقا بوضوح إلى نتائج كرازة بولس. من جهة اليهود، بعض منهم. من جهة اليونانيين والمتعبّدين لله، جمهور كثير. والنساء الشريافات، عدد غير قليل.
نجد هنا تمييزاً واضحاً بين العدد القليل من اليهود، والعدد الكثير من الوثنيين. هذا ما يتوافق مع ما تقوله الرسالتان إلى أهل تسالونيكي. حين نقرأهما نظنّ وكأن بولس يرى اليهود كميّة قليلة جداً، فلا يكاد يوجّه كلامه إليهم. فالذين يكتب إليهم "رجعوا إلى الله عن الأوثان ليعبدوا الله الحيّ" (1 تس 1: 9). ومضطهدوهم هم أهل بلدهم (1 تس 2: 14). ولن نفهم هجوم بولس العنيف على اليهود لو كان هؤلاء المرتدّون الجدد من اليهود. وهكذا ظلّ اليهود أعداء الجماعة وأعداء الرسل.
قال فيهم بولس: "قتلوا الربّ يسوع، والأنبياء، واضطهدونا نحن أيضاً. الذين لا يرضون الله البتّة، وقد صاروا أعداء لجميع الناس، إذ يمنعونا أن نكلّم الأمم ليخلصوا" (1 تس 2: 15- 16). كان المفروض في اليهود أن يحملوا الإنجيل، فإذا هم يضعون في وجهه العراقيل. هكذا بدأوا فرفضوا تعليم الأنبياء. ثم تعليم يسوع. وها هم يعارضون بولس كما يسيئون معاملته. لا يكتفون بأن يكونوا عمياناً، بل يريدرن أن يمنعوا النور عن الناس. "فسيحلّ غضب الله عليهم" وعلى أعمالهم.
2- كنيسة تسالونيكي
نطرح ثلاثة أسئلة. كيف بدأت الرسالة؟ كم امتدّت الرسالة؟ ما كان عدد المرتدّين في جماعة تسالونيكي؟
أ- ثلاثة سبوت
قال لوقا في أع 17: 2: "حاجّهم ثلاثة سبوت" في المجمع. هل يعني هذا أن بولس انطلق حالاً من المدينة بعد أن فشل لدى اليهود؟ أو، هل يتوجّه إلى الوثنيّين بين هذا الفشل والقلاقل التي أثارها اليهود؟ هنا تتوزع الآراء. هناك من يحتفظ بثلاثة أسابيع، لا أكثر ولا أقلّ. هذا ما نسمّيه القراءة الحرفيّة الأصوليّة. ولكن مجمل الشرّاح يتحدّثون عن أكثر من ثلاثة أسابيع أو أربعة. هنا لا ننسى أن لوقا مؤرّخ من الطراز الأول. وهو قريب من الأحداث، إذ تركه بولس في فيلبيّ. ومعرفته للشعب ومجلس المدينة تدلّ على دقة ملاحظته. ولكنه أراد أن يشدّد على الرقم ثلاثة. فقال: وعظ بولس اليهود مرّة أولى وثانية وثالثة. هذا يعني أنه أطال الاتصال بهم. ولم يكتفِ بأن يكلّمهم بطريقة عابرة.
وإذا قرأنا 1 تس، نجد أين الجماعة قد ازدهرت. وفكرة إيمانها تتجاوز أسوار المدينة، بل تصل إلى مكدونية وأخائية (1 تس 1: 7- 9). هذا يعني أن النجاح كان كبراً. فقد تولّدت بين المرتدّين الجدد والمرسلن علائق من الصداقة والمحبّة لا تكتفي بمثل هذا الوقت القصير لكي تتفتّح وتتوطّد (صرتم أحباء إلينا، 2: 8). واذ عاد الرسول إلى تذكّراتهم، وضع أمام عيونهم المثل الذي أعطاه لهم حين كان يعمل بيديه ليلاً ونهاراً ليقوم بأود حياته فلا يثقّل على أحد (1 تس 2: 9: تذكرون أيها الإخوة تعبنا وكدَّنا؛ 2 تس 3: 8: كنا نشتغل بتعب وكدّ). مثل هذا التذكّر لا قيمة له لو قضى بولس في تسالونيكي فترة قليلة. ولقد علّمهم بولس أشياء عديدة بحيث ذكرهم مراراً بما يعرفون، كما لم يذكّرهم في رسالة أخرى.
إن عبارة "تعلمون" ترد مراراً في 1 تس و2 تس. في 1 تس 1: 5: "إن تبشيرنا بالإنجيل عندكم لم يغش كلاماً فقط، باى قوة... كما تعلمون". وفي 2: 1: :وأنتم تعلمون، أيها الاخوة، أن قدومنا إليكم لم يكن باطلاً". أي كان لاستقبالكم لنا ثمر كبير. وفي 2: 5: "لم نعتمد قط كلام تملّق، كما تعلمون". وفي 2: 11: "وتعلمون أيضاً كيف كنا لكل واحد منكم كالآب لأبنائه". وفي 3: 3: "أنتم تعلمون أنّا كذلك قد جعلنا". أي إن الاضطهاد ينتظرنا على مثال المعلّم. وفي 3: 4 نقرأ: "لما كنا عندكم سبقنا فقلنا لكم، إن المضايق ستنتابنا، وذلك ما قد جرى وما تعلمون". فبعد مجيء المسيح، صوّرت المحنُ الوضع الطبيعيّ للمسيحيّين. وفي 4: 2: "أنتم تعلمون أي وصايا أعطيناكم من قِبل الرب يسوع". فالربّ حو القائم من الموت والحيّ في الكنيسة، كما هو المسيح التاريخي خلال حياشه على الأرض. والتوجيهات التي يقدّمها بولس من قبل المسيح قد تستند إلى أعمال يسوع وأقواله، كما تستوحي مواقف يحرّكها الروح الحيّ في الرسل كما في الجماعة ة وفي 5: 2: "أنتم تعلمون يقيناً أن يوم الربّ يأتي كلصّ في الليل". وفي 2 تس 2: 6 نقرأ: "والآن أنتم تعلمون ما يعوقه لكي لا يظهر إلاّ في أوانه". يتحدّث بولس عن "الجحود" أي ترك الناس لله. وهذا جزء من الظواهر الاسكاتولوجيّة في عالم الجليان اليهوديّ.
ومع "تعلمون"، هناك كلمة "تذكرون". نقرأها في 2 تس 2: 5: "تذكرون أني كنت أقول لكم ذلك".
لقد تنظّمت الجماعة تنظيماً تاماً. هناك المترئسون، "الذين يتعبون في كما بينكم ويرئسونكم بالربّ ويعظونكم" (1 تس 5: 12). ثم حين كان بولس في تسالونيكي، تسلّم معونة ماديّة من فيلبي. قال بولس في فل 4: 16: "بعثتم إليّ في تسالونيكي، مرة بل مرتين، بما أحتاج إليه". هذا يعني أنه أقام مدّة طويلة في مدينة تسالونيكي يعظ باسم المسيح وينظّم الكنيسة.
كيف نحكم على نصّ لوقا في سفر الأعمال؟ نقول: اعتاد لوقا أن يتحدّث عن وصول بولس إلى مدينة وذهابه منها. هذا ما فعل بالنسبة إلى فيلبي (أع 16: 11، 16) وكورنتوس (أع 18: 1، 12، 18. في 19: 8- 10، فصل لوقا بين الكرازة لليهود التي امتدّت على ثلاثة أشهر من إقامة دامت سنتين). ثم إن ما أراد بولس أن يقوله هو أن بولس قدّم في ثلاثة سبوت متعاقبة كل البراهين التي يمكن أن تقود اليهود إلى الإيمان بالمسيح. ولكنيم لم يقتنعوا، بل اضطهدوا المسيحيّين الأولين. وهكذا نكون أمام حكم على اليهود على غرار ما قرأنا في 1 تس 2: 14- 15.
ب- الرسالة في تسالونيكي
ونطرح السؤال: كم دامت الرسالة في تسالونيكي؟ هل نقول أربعة أسابيع؟ إنه وقت قصير. هل نقول ستة أشهر؟ إنه وقت طويل. هذا لا يعني أن بولس لم يُقم طويلاً في المدن الكبيرة. نحن نعرف أنه أقام سنتين في كورنتوس وثلاث سنوات في أفسس (أع 19: 8، 10؛ 20: 31). ولكن يبدو أن كنيسة تسالونيكي كانت بعدُ نبتة طرية العود ومليئة بالاندفاخ ساعة تركها بولس، لهذا نقول إن بولس قضى في تسالونيكي بين شهرين وثلاثة. وهو يتوق إلى أن يعود لئلا يكون المجرّب قد دمّر عمله الرسوليّ (1 تس 3: 5: فيذهب تعبنا سدى). وقد تكون هناك فجوات في التعليم لا بدّ من مَلئها: "نرى وجهكم ونتمّ ما هو ناقصة في إيمانكم" (1 تس 3: 10).
ج- عدد المرتدين ووضعهم
ما هي أهمية هذه الجماعة الجديدة وما هو عددها؟ مذا ما لا نجد عنه إيضاحاً. فبولس لا يعطي أرقاماً رسائله، بل هو يشدّد على نوعيّة المسيحيّين. أما لوقا فيقول: "جمهور كثير" (أع 17: 4). هل يتحدّث لوقا عن تسالونيكي يوم كان فيها بولس، حوالي سنة 49، أو يوم دوّن أعمال الرسل سنة 85؟ فالنصّ يذكر ياسون وبعض الاخوة الذين مثلوا أمام حكام المدينة. ولكن تبقى بداية كنيسة تسالونيكي نتيجة ما زرعه بولس في قلب ياسون، كما سبق له وزرع الإنجيل في فيلبي مع ليدية بائعة الأرجوان.
ولكن مهما يكن من أمر، فجماعة تسالونيكي تبقى كبيرة لأن بولس يتحدّث عن طبقات وانقسامات. يدعوهم إلى تأنيب المتكاسلين، وتشجيع صغيري النفوس، وإسناد الضعفاء (1 تس 5: 14). أتكون هذه النصائح موجّهة إلى أشخاص قليلين؟ ويدعوهم بولس إلى أن يعزّوا بعضهم بعضاً ويبنوا بعضهم بعضاً (1 تس 4: 11). وهكذا يعيشون في ما بينهم بسلام (2 تس 3: 16).
وما هو وضمع المرتدّين الجدد من الناحية الاجتماعيّة؟ هناك أفراد انتموا إلى طبقة رفيعة. فياسون معروف جداً بحيث لا يحتاج لوقا إلى أن يعرّفنا إليه: فهو يمتلك بيتاً (أع 18: 5) تجتمع فيه الكنيسة. إذن، هو بيت واسع. ونعرف من أهل تسالونيكي ارسترخس اليهوديّ الأصل (أع 20: 4) وسكندس وديماس (كو 4: 4؛ فلم 24: 2 تم 4: 210: ديماس تركني وانطلق إلى تسالونيكي). نشير هنا إلى أن ارسترخس انضمّ إلى بولس حين أوقف في قيصريّة ورافقه في رحلة القيود إلى رومة (أع 27: 2). حين يتحدّث عنه صاحب أع، فهو يشير إلى أنه من مكدونية (أع 19: 29: مع غايوس) أو من تسالونيكي (أع 20: 4؛ 27: 2).
ويذكر لوقا أيضاً النساء الشريفات اللواتي ارتددن إلى الإيمان. لم يكنّ يهوديّات، بل من اللواتي اجتذبتهن عبادة الله الواحد، فصرن يشاركن في صلاة المجمع. وسيجعلهنّ لوقا في المكان الأول خلال التبشير في مكدونية: ليدية في فيلبي (أع 16: 14). وفي بيرية، سيذكر لوقا أولاً هؤلاء النساء فيقول: "وآمن كذلك من اليونانيين سيّدات شريفات ورجال غير قليلين" (أع 17: 12). فكما أشار لوقا في إنجيله إلى جماكة النسوة اللواتي رافقن يسوع، ها هو يتحدّث هنا عن نساء مكدونية.
ولكن إذا وضعنا هذه الحالات جانباً، يبدو أن جماعة تسالونيكي انتمت إلى طبقة العمّال والعبيد، شأنها شأن سائر المجموعات في كورنتس وغيرها. فقد كتب بولس في 1 كور 1: 26: "ليس فيكم كثيرون حكماء بحسب الجسد، ولا كثيرون أقوياء، ولا كثيرون شرفاء". وقال بولس بوضوح في الثانية إلى كورنتوس إن كنائس مكدونية كانت فقيرة جداً (8: 2). هذا لا يعني أن كنيسة تسالونيكي تألفت من البائيسن والمعوزين، بل من الطبقة المتوسّطة التي تؤمّن حياتها بعرق جبينها.
د- وجه كنيسة تسالونيكي
حين وصل الرسول إلى هذه المدينة العظيمة، كان يحمل في جسده وروحه آثار المعاملات السيّئة التي قاساها في فيلبي (1 تس 2: 2: تألمّنا وتحمّلنا التعيير في فيلبي). ولكن المرسل لا ييأس. فهو يستقي في الله قوّة جديدة ويعلن الإنجيل. وان الكلمة والمعجزات (1 تس 1: 5: الكلام، القوة) انضمت إلى عمل الروح القدس، فكان النجاح الكبير. وجد المرسلون في تسالونيكي استقبالاً طيباً وعطشاً إلى الحق وطلباً للخلاص، ففتحوا كنوز غناهم. ويتذكّر بولس بتأثّر بالغ أيام السعادة هذه حيث جاءت إليه الجماعات كما جاء إليه الأفراد، فأعطى ذاته لهم بسخاء ومحبّة وحنان. أعطى ذاته كما الأم تعطي ذاتها لأولادها (1 تس 2: 7) والأب لأولاده (1 تس 2: 11). ولكنه لم يطلب شيئاً من أحد. بل كان يعمل بيديه، فلم يحسب أن كرامته تتأثّر بعمل يديه (1 تس 2: 9). في هذا المجال لم يكن ذا عقليّة يونانيّة، لأن هذه العقلية كانت تعتبر عمل اليدين مشيناً. وهكذا جعل من نفسه مثالاً يقتدي به أهل تسالونيكي (2 تس 3: 9).
وسمع بيت ياسون والمرتدّون الجدد كلاماً لم يكن كلامَ بشر، لم يكن كلام تملّق، لم يكن كلاماً يعود على حامله بالجاه أو بالمال (1 تس 2: 4). كان هذا الكلام كلام الله، وقد أدخلهم إلى سرّ الله وفكر الله. كانوا بالأمس وثنيّين، فتركوا أوثانهم. كانوا بدون رجاء، فآمنوا أن ابن الله الذي مات وقام سيعود في مجيئه لكي ينجيّهم من الغضب (1 تس 1: 9؛ 10) ويدخلهم إلى ملكوته ومجده (1 تس 1: 12). وقد حوّلهم الروح القدس فأعطاهم شجاعة وفرحاً لم يعرفوهما من قبل (1 تس 1: 5- 6). فاضطلعوا بمهمّة تقديس تمنع عنهم النجاسة وتدعوهم إلى أن يحبّ بعضهم بعضاً (1 تس 4: 3- 10). هكذا يستطيعون أن يرضوا الله (1 تس 4: 1). إيمانهم نشيط، ومحبّتهم تنتصر على العوائق، ورجاؤهم لا تصدّع فيه. إنهم في الله وفي المسيح، وكلمة الله حملت ثمارها فيهم. كلّمهم الربّ نفسه فاقتدوا بالربّ وبرسوله.
هذه الجماعة عرفت المحن كما عرفت الاضطهادات. أما العدوّ البشري فهو اليهود ومواطنوهم الذين يثيرهم اليهود. كل هذا أمر طبيعيّ. فطريق المسيحيّ تمرّ في الألم. ولكن المؤمن يجد قوّته في الروح. لقد رافق الفرحُ العذاب. هذا ما اختبره بولس.
مثل هذه الجماعة الحارّة لا يمكن أن تبقى مخفيّة كالنور تحت المكيال. سيتعلّم مؤمنو مكدونية وآخائية الإنجيل من تسالونبكي. فلم تعد المدينة العظيمة بالنسبة إليهم مركز حياة تجاريّة وسياسيّة فحسب، بل مثال إيمان أيضاً، وهكذا تكون "نعمة ربنا يسوع المسيح" (1 تس 5: 28) مع الجميع. لقد أعلن بولس أن أهل تسالونيكي هم مجده وفرحه وإكليل فخر له. فما من جماعة نالت منه مثل هذا المديح الذي تفتخر به اليوم أيضا مدينة تسالونيكي.
هـ- من تسالونيكي إلى كورنتوس
قدّم بولس خبراً دقيقاً عن الظروف التي دفعت المرسلين إلى الرحيل المفاجئ عن تسالونيكي. أظهر اليهود حسدهم وغيرتهم وعداوتهم، فجمعوا بعض الرعاع الذين هاجموا بيت ياسون حيث يلجأ المرسلون، وحيث كانت الكنيسة تجتمع. أثيرت القلاقل فأجبرت السلطة على التدخّل. وجاء الاتهام مدروساً. ظلوا خارج اللعبة، ولكنهم في الواقع وحدهم يستطيعون أن يحدّدوا أن المسيح سيكون ملكاً، وأن يتّهموا الرسل بإعلان يسوع ملكاً "آخر". تأثّر الحكام: بهذا الاتهام. فإنهم وإن كانوا من اليونانيّين، إلاّ أنهم كانوا أمناء لرومة وللأمبراطور، لا سيّما وأن الولاء للسلطة كان مراقباً كل المراقبة.
إذن، اتهم بولس وسيلا بالجريمة التي بها اتهم يسوع (لو 23: 2؛ يو 19: 12، 15). يمارسون السياسة. يهدّدون أمن الدولة. هذا ما أعلنه الحكّام واعتبروا أنهم قضوا بالحقّ. لم يحقد عليهم بولس ولم يلمهم، فلا نجد أي توبيخ لهم في رسالتيه. هناك قلاقل، فليدفع ياسون والاخوة مبلغاً من المال متعهّدين أنهم يوقفون كل تحرّك، ويطلبون من الرسل أن يغادروا المدينة في الحال. وفي الليلة نفسها ترك بولس وسيلا المدينة. وسيلحق بهما تيموتاوس الذي كان برفقتهما. سوف نلتقي به من جديد في بيرية (أع 18: 19- 20).
طُرد المرسلون من تسالونيكي، ولكنهم لم يتخلّوا عن قصدهم بتبشير اليونان. فتوجّهوا إلى الجنوب، إلى بيرية التي استقبلتهم استقبالاً طيّباً. ونجح الرسول مع اليهود ومع الوثنيّين. فعرف يهود تسالونيكي بذلك، فلاحقوا المرسلين ببغضهم. جاؤوا إلى بيرية وأثاروا الشعب فأجبروا بولس على الهرب. فسار في الطريق إلى أثينا يرافقه إخوة من بيرية. ترك هناك سيلا وتيموتاوس، وأبلغ إليهما بواسطة الاخوة واجب الانضمام إليه في أقرب فرصة ممكنة (أع 17: 11- 15).
لا نعرف الشيء الكثير عن رواح ومجيء سيلا وتيموتاوس منذ وصول بولس إلى أثينا، إلى اجتماع المرسلين الثلاثة في بيت أكيلا وبرسكلة في كورنتوس (أع 18: 1- 4). فحين نقرأ سفر الأعمال، نحسّ كأن المرسلين إنضما إلى بولس فقط في كورنترس. نقرأ في أع 18: 15: "ولما قدم سيلا وتيموتاوس من مكدونية، تفرع بولس للكلمة". غير أن بولس يكتب إلى أهل تسالونيكي محتفظاً بصيغة المتكلّم الجمع: "أرسلنا (نحن) إليكم تيموتاوس أخانا وخادم الله في إنجيل المسيح، ليثبّتكم ويعظكم في إيمانكم" (1 تس 3: 2).
هنا تتوزعّ الآراء حول الأحداث. فالمسألة مهمّة لأنها تلامس زمن كتابة الرسالتين إلى تسالونيكي. إستند بعضهم إلى نص لوقا فاعبر أن سيلا وتيموتاوس لم يرجعا إلى أثينا. وأن إرسال تيموتاوس من مكدونية إلى أثينا (الذي يذكره بولس) يرتبط بإقامة بولس مرّة ثانية في عاصمة اليونان... كلا، فإن تيموتاوس أرسل حين وصول الثلاثة إلى أثينا.
وماذا نقول عن سلوانس؟ هو لم يعد إلى تسالونيكي. ولو عاد، لحصان بولس قاله. هل تبع بولس إلى كورنتوس أم سافر إلى مكدونية؟ قالت 1 تس 3: 1: "آثرنا أن نبقى وحدنا". ولكن سيحلّ المفرد محلّ الجمع في آ 5 (لم أعد أستطيع أن احتمل فأرسلت أستخبر عن إيمانكم).
هنا نعود إلى نصّ لوقا في أع لنفهم دور المرسلين الثلاثة في تأسيس الرسالة في كورنتوس. لم نرهم معاً إلاّ في هذه المدينة التي سيقضي فيها بولس سنتين كاملتين. وماذا بين تسالونيكي وكورنتوس؟ ان بولس خلال إقامته في أثينا أمر بولس بالعودة إلى تسالونيكي. ولكن هذا الارسال ليس مهماً أهميّة الرسالة في أثينا. غير أننا لا نعرف الشيء الكثير عن تحرّكات سلوانس. ويبقى أنه بعد انطلاق المرسلين من تسالونيكي إلى عودة تيموتاوس إلى كورنتوس، ظلّ المناخ الروحي لدى بولس مركّزاً على تسالونيكي. لم تكن بيرية سوى وقفة سريعة. وبدت الرسالة في أثينا فشلاً. ولم يبدأ بعدُ العمل العظيم في كورنتوس. فالنجاح في مكدونية يعوّض عن "الفشل" (الظاهر) في أثينا. هذا شرط أن يحمل تيموتاوس الأخبار الطيّبة. وغياب حقول جديدة للرسالة، والمضايقات والاضطهادات، والإقامة الهادئة في بيت برسكلة وأكيلا، كل هذا جعل عواطف بولس تظهر في 1 تس: تبقى تسالونيكي مركز اهتمامه. ففيها وفي فيلبي مستقبل الرسالة في أوروبا. لهذا حاول آن يعود، ولكنه لم يستطع. قال: "أعاقنا الشيطان" (1 تس 2: 18) مرّة بل مرّتين.
خاتمة
بدأ بولس الرسالة في تسالونيكي، ولكنه لم يستطع أن يكمل. أراد أن يعود ولكن الظروف منعته من ذلك. لهذا أرسل تيموتاوس الذي انضمّ إليه في أثينا. ولكنه أرسله من جديد إلى تسالونيكي، فعاد ساعة كان بولس في كورنتوس وحمل إليه الأخبار الطيّبة (1 تس 3: 6- 10). غير أن بولس عرف بافتراء اليهود عليه وباضطهادهم للاخوة (1 تس 2: 14- 15)، فأخذ القلم وكتب. وهكذا كان لنا أول وثيقة في العهد الجديد: الرسالة الأولى إلى تسالونيكي.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM