الفصل الرابع: مضمون الرسالتين إلي تسالونيكي

الفصل الرابع
مضمون الرسالتين إلي تسالونيكي
نجد في اللائحة القانونيّة لأسفار العهد الجديد رسالتين وُجّهتا إلى كنيسة تسالونيكي. وقد دخلتا باكراً في مجموعة الرسائل البولسيّة. أما التردّد حول صحّة نسبتهما إلى بولس فقد وُجد فقط في العصر الحديث. وسنعود إلى هذا الموضوع في ما بعد. المهمّ أن نعرف الان أن العنوان يتشابه في بداية الرسالتين. ونعتبر أن بولس كتب هاتين الرسالتين إلى كنيسة واحدة هي كنيسة تسالونيكي، وهكذا نستطيع أن ندرس مضمونهما، كما ندرس اللاهوت الذي نستخرجه منهما. هذا لا يعني أننا ننسى النظرية الحديثة التي تعتبر أن 2 تس دوّنت حوالي سنة 80 على يد تلميذ من تلاميذ بولس، الذي استاقى أفكار 1 تس وحاول أن يؤوّنها لجماعته بعد موت الرسل وتأخّر مجيء المسيح.
1- 1 تس
ونبدأ بتحليل الرسالة الأولى. نجد بعد العنوان والتحيّة، قسمين كبيرين: العلاقات بين المرسلين وأهل تسالونيكي. ثم نقرأ التوجيهات والتحريضات. وتنتهي الرسالة بطلب الصلاة، بالتحيّة، بالتوصية أن تُتلى هذه الرسالة على جميع الاخوة. وفي الختام يعلن بولس: "نعمة ربنا يسوع المسيح معكم".
أ- القسم الأول: بين المرسلين وأهل تسالونيكي (ف 1- 3)
عاد تيموتاوس من مهمّته في تسالونيكي، وقد حمل الأخبار الطيّبه عن هذه الجماعة المؤسسّة حديثاً. فقرّر بولس بعد أن عرف هذه الأخبار وغيرها، بأن يكتب رسالة إلى آهل تسالونيكي.
يبدو أن بولس هر الذي يملي الرسالة. وينضمّ إليه إسمان: سيلا أو سلوانس وتيموتاوس. ولم ترسل الرسالة إلى أهل تسالونيكي بوجه العموم، بل إلى كنيسة التسالونيكيين، إلى جماعة المؤمنين. أما سبب وجود هذا التجمّع والعلاقة بين الأعضاء، فيستندان إلى القبول بإله واحد هو الآب، وبيسوع الذي هو المسيح والربّ. هي رسالة تتوجّه إلى جماعة من المرتدّين الجدد.
نجد في هذا القسم لوحتين: قبول الإنجيل. ثم موقف المرسلين. بعد هذا، يرد الحديث عن المشاريع والمبادرات.
أولاً: قبول الإنجيل (1: 1- 10)
تبدأ الرسالة بفعل الشكر. لسنا هنا فقط أمام عادة أدبيّة، بلى أمام تعبير عن عاطفة يمتدّ فيها فعل الشكر هذا حين يروىِ النصّ ارتداد التسالونيكيين (2: 13) وثباتهم في الإيمان (3: 9).
كيف يبدو هذا الارتداد؟ في إيمان حقيقيّ يتجلىّ في كل نشاطهم. في محبة عميقة تتحمّل التعب والمضايق. في رجاء حيّ يولّد الصبر. مثلّث مقدس أصله وموضوعه وهدفه هو يسوع المسيح، وهو يتيح للإنسان أن يقترب من الله الآب. أجل، الله هو الذي اختارهم حقاً (1: 4) وتد دلّت علامات ظاهرة على هذا الاختيار الإلهي. فكلمة الرسول لم تكن باطلة. كما ظهرت قدرة الله العظيمة. وفعلَ الروح القدس فعله في الجماعة وفي الأفراد. وهكذا تمّ الانتظار، ملء الانتظار (1: 5).
رأى أهل تسالونيكي ما فعله الرسل. ورأوا أيضاً أي تلاميذ كان لهم أن يلتقوا بهم. فاقتدوا بشجاعة معلّميهم وقبلرا التعليم رغم الاضطهاد الذي قاسموه. وساندهم الروح القدس فنفحهم بالفرح. فصاروا بدورهم مثالاً لمكدونية وأخائية. نحن هنا أمام أجمل مديح يصل إلى جماعة من الجماعات: بعد أن أخذت بدأت تعطي. وامتدّت شهرة إيمانهم. وكلمة الله التي هي أيضاً كلمة الربّ يسوع، وصلت إلى مقاطعات اليونان، بل إلى كل مكان (1: 6- 8). استقبل أهل تسالونيكي الرسل حين وصولهم أحسن استقبال، وتركوا أصنامهم ليعبدوا الله افي الحقيقيّ، وهم ينتظرون الآن يسوع الذي قام من الأموات، ابن الآب ومخلّص البشر من الغضب الآتي (1: 9- 10).
ثانياً: موقف المرسلين (2: 1- 16)
منذ اللوحة الأولى (1: 1- 10) استضاء فكر الرسول بضوء لن يخبو على مدّ الرسالة: ماضٍ قريب ومستقبل لا يظنونه بعيداً. قبول الإنجيل، قدرة الخلاص، مجيء يسوع المخلّص، نشاط رسوليّ يدعمه الله والربّ والروح، شجاعة ونقاء من قبل المؤمنين، وجواب يتعدّى في عمقه وسطوعه كل ما يستطيع الانسان أن يتصوّره.
وتأتي اللوحة الثانية (2: 1- 16) بشكل مباشر فتستعيد الأفكار عينها. هل نحن أمام أبولوجيا ودفاع؟ لا يبدو الأمر كذلك كما نجد في غل أو في 2 كور. غير أن بولس يعتبر أن إيمان هؤلاء المعمّدين الجدد يرتبط باحترام لشخصه وعمله. لا نستطيع في شكل من الأشكال أن نقابل بين الفريق الرسوليّ وهؤلاء البلغاء المتجوّلين الذين يجوبون الامبراطورية طلباً للمجد والمال والملذّات. كانوا يمرّون فلا يتركون وراءهم أثراً. كان وصولهم لا معنى له وإقامتهم لا فائدة منها. أما بولس، فرغم الجهاد القاسي الذي قام به، فقد ظلّ يكرز بالإنجيل. والعذابات التي تحمّلها في فيلبي لم توقفه (2: 1- 2).
إذن، قدّم كرازته بلا عيب ولا ضلال. هو لم يختر نفسه، بل تسلّم مهمّة من الله الذي اعتبره مع رفيقيه جديرين بأن يتسلّموا هذا الإنجيل الذي يكرزون به لا ليرضوا الناس، بل ليرضوا ذلك الذي يفحص القلوب. لهذا، فهمَ المؤمنون أن المرسلين لم يقدّموا لهم كلام تملّق، أنهم لم يتحرّكوا طمعاً بالمال، أنهم لم يطلبوا في عملهم المجد العالميّ الباطل "لا من أهل تسالونيكي ولا من غيرهم" (2: 6).
كان باستطاعتهم، وهم مرسلون، أن يتكلوا على الجماعة في أمور المعيشة. ولكن بولس أراد أن يكون "صغيراً" من أجل هؤلاء المرتدَين، فما طلب شيئاً منهم. اعتبر نفسه كالمرضع التي تحتضن أولادها. ورغب في أن يبذل نفسه للذين صاروا أحبّاء له (2: 7- 8). لقد كان يشتغل ليلاً ونهاراً لئلاّ يثقّل على أحد، ودْلك خلال قيامه بعمل البشارة (2: 9). أجل عاملهم مثل أب يهمّه خير أبنائه (2: 10- 11).
تلك كانت الدرفة الأولى في هذه اللوحة، وهي قد تكلّمت عن عواطف الرسول ورفاقه في هذا العمل الكنسي. أما الدرفة الثانية في هذه اللوحة (2: 13- 16) فتحدّثنا عن سلوك المؤمنين. تلقّرا الكرازة على أنها كلام الله. وكان لهذا الكلام فاعليّة ظهرت بشكل خاصّ خلال الاضطهادات. وهكذا تساوت كنيسة تسالونيكي مع كنائس اليهوديّة التي بدت مثالاً لكل الجماعات المسيحيّة (2: 12- 14). وراح بولس يتحدّث عن الذين اضطهدوا يسوع والرسل، عن أولئك الذين صاروا أعداء لجميع الناس (2: 15)، بل أعداء لله نفسه. بعد أن اضطهدوا الأنبياء ويسوع والرسل، ها هم يمصنعون تقدّم الإنجيل فيصبحون موضوع غضب الله حتى النهاية (2: 16).
ثالثاً: مشاريع ومبادرات (2: 17- 3: 13)
بعد هاتين اللوحتين المتوازيتين اللتين ترسمان سلوك الرسل وسلوك التسالونيكيين خلال الارتداد وتكوين الكنيسة، قدّم الرسول صورة عن زمن الانفصال بينه وبين أبنائه، مع ما في هذا الزمن من عواطف ومبادرات ومشاريع (2: 17- 3؛ 13). ما إن ذهب بولس حتى قام بكل المحاولات لكي يعيد الاتصال بأهل تسالونيكي. لقد حاول مراراً أن يعود إليهم. ولكن الشيطان عاقه. فلا شيء له يوم مجيء الربّ سوى هؤلاء المؤمنين الذين هم عنوان فخره (2: 17- 20). وقد فضّل هو وسيلا أن يبقيا في أثينا ويرسلا تيموتاوس إلى تسالونيكي (3: 1- 2).
الرسول قلق لأنه يحبّ أهل تسالونيكي. وهو قلق أيضاً بسبب الاضطهادات التي تُعرّض للخطر إيمان هؤلاء المسيحيّين. لا شك في أن الاضطهاد هو قسمة المؤمنين، وبولس سبق له وأنبأ بها. ولكن من يدري ما سوف يحدث من جحود؟ فالشيطان هو هنا، وهو يستطيع أن يعطّل عمل المرسلين. لهذا، لم يعد الرسول يستطيع أن يحتمل، فأرسل تيموتاوس (3: 3- 5).
وعاد تيموتاوس وهو يحمل أطيب الأخبار: إيمان ومحبة كاملان. تعلّق تامّ ببولس. فماذا ينتظر الرسول بعد ذلك؟ وهكذا جاء الفرح بعد المخاوف. بل أعطيت له حياة جديدة. ويتواصل فعل الشكر: "أي شكر نستطيع أن نؤدّيه لله من أجلكم عن كل ما نالنا من الفرح بسببكم أمام إلهنا" (3: 9)؟ ويتوسّل الرسول إلى الله لكي يستطيع هو بنفسه أن يزور هؤلاء المؤمنين ويكمّل "ما حو ناقص في إيمانهم" (3: 10).
وينتهي كل هذا القسم الأول بصلاة ترفع قلب الرسول إلى الله. وجّه بولس نظره إلى الله أبينا، إلى الربّ يسوع، وطلب منهما أن يسهّلا فى يقه إلى المؤمنين (3: 11). كما توسّل إليهما لكي يزيدا في قلب كل من المؤمنين هذه المحبّة التي هي وصيّة المسيح، ويعطياهم هذه القداسة التي تجعلهم بلا عيب عند مجيء الربّ يسوع (3: 12- 13).
ب- القسم الثاني: توجيهات وتحريضات (ف 4- 5)
يتضمّن القسم الثاني سلسلة من التوصيات الأخلاقيّة: المحبّة وقداسة الحياة (4: 1- 12). تعليمات حول مصير الأحياء والأموات في مجيء ربنا (4: 13- 18). سهر وانتظار (5: 1- 11). توجيهات من أجل حياة الجماعة (5: 12- 21). صلاة أخيرة وكلمة الوداع (5: 23- 28): "سلّموا على جميع الاخوة بقبلة مقدّسة".
أولاً: المحبّة وقداسة الحياة (4: 1- 12)
كيف يجب أن نسلك لنرضي الله (4: 1)؟ المبدأ العملي: لم يدعُنا الله إلى النجاسة، بل إلى القداسة (4: 7). وبعد الدعوة إلى القداسة، هناك الدعوة إلى المحبّة الأخويّة: "تعلّمتم من الله أن يحبّ بعضكم بعضاً" (4: 9).
أجل، لا تجاوزات يحذّر منها بولس، لا مسائل خطيرة يفتي فيها. ليس له أن يهدّد، بل أن يشير إلى الظلال في الحياة المسيحيّة. لسنا أمام خطأ أو ضلال، بل أمام تقدّم المؤمنين: مشيئة الله أن تتقدّسوا (4: 3). لا يعطي بولس تعليمات جديدة، بل يذكّر المؤمنين بما سبق وقال لهم (4: 1- 2).
فباسم الله وسلطته، أكّد بولس أن على المؤمن أن يتقدّس، أي أن يبتعد عن كل نجاسة، عن الزنى، أن يحافظ على جسده في الكرامة، ولا يتعدّى على امرأة أخيه. وصيّة خطيرة والربّ هو كافلها. "الربّ هو المنتقم". فمن احتقر هذه الوصيّة مسّ كرامة الله، لأن الانسان مصنوع على صورة الله (4: 3- 8). وبعد هذا، يدعو الرسول المؤمنين لكي ينموا في المحبّة. "يمضون في ازدياد". ويحدّد الرسول بعض الأمور العمليّة: نترك القريب وأعماله. نعمل ونكدّ بأيدينا. هكذا نكون مثالاً للوثنيّين ولا تكون بنا حاجة إلى أحد (4: 9- 12).
ثانباً: مصير الأحياء والأموات (4: 13- 18)
وجاءت تعليمات حول مصير الأحياء والأموات في يوم مجيء ربّنا، فتوخّت أن تخفّف من حزن التسالونيكيّين. ليس لهم أن يحزنوا كأناس لا رجاء لهم. وإلاّ فكيف يتميّز المسيحيون عن الوثنيّين؟ إن المسيحييّن يعرفون أن المسيح مات ثم قام. ويقبلون بالتالي بالقول إن الموتى يقومون. وحين ينزل يسوع من السماء، يقود الله الموتى مع الربّ إلى السماء. هذا لا يعني أن الذين يظلّون على قيد الحياة في تلك الساعة هم مميّزون (4: 14- 15). وأن الدراما الأخيرة تبدأ بظواعر سماويّة. ثم يقوم الأموات. والأحياء المتحدون بالموتى ينضمّون إلى الربّ ليكونوا معه على الدوام (4: 16- 17). إذن، يجب أن لا نبكي (4: 18). بل نجد في الإيمان العزاء الذي يجعلنا نتغلّب على الشعور بالفراق.
أجل، هذا هو السؤال الذي يُقلق بال التسالونيكيّين: حل المسيحيّون الذين يموتون الآن، وهم جزء من "الجيل الأخير"، حل سيغيبون عن مجيء الربّ؟ ما الذي دفعهم إلى مثل هذا القول؟ مات بعض الناس في الكنيسة الأولى، فتبلبل المؤمنون بسؤال مشابه طُرح على المؤمنين ساعة مات حنانيا وسفّيرة قبل أن يعود الربّ. لماذا ماتا؟ لأنهما كذبا على الروح القدس. هذا هو المعنى الإلهي. ولكن هناك المعنى البشري الذي يتوقّف عنده الكاتب الملهم.
ثالثاً: سهر وانتظار (5: 1- 11)
ارتبط هذا المقطع بالتعليمات السابقة، فقدّم لنا توصية جاءت في وقتها. قالها يسوع فصارت كرازة معروفة: إنه يأتي كاللّص في الليل. لهذا، يجب أن نسهر. أن نبقى واعين (5: 1- 2). والدينونة سوف تقسم الناس فئتين: من جهة دمار مفاجئ ولا رجوع عنه (5: 3). ومن جهة ثانية سلام أكيد للإخوة، لا بالنظر إلى إيمانهم، لكن بالنظر إلى حياة تتجلبب بالنور. فيجب على يوم الربّ أن يجد أبناء النور والنهار، واعين مستيقظين، ساهرين وصاحين (5: 4- 7).
بما أن الله دعانا إلى النور والنهار، فيجب علينا أن نعمل أعمال النور، أعمال الإيمان والمحبّة والرجاء. يجب أن نلبس هذه الفضائل كما يلبس المحارب سلاحه فينزل إلى الحرب. فالمؤمن هو جنديّ في خدمة الله (5: 8). وهو يمتلك الخلاص بالربّ يسوع المسيح، يتوق إلى الحياة معه على الدوام (5: 9- 10). هنا أيضاً يعود الرسول إلى التعزية والبناء. وينهي كلامه: "كما تفعلون". أجل، هذا ما يعيشه أبناؤه في تسالونيكي، فليكن عملهم على ازدياد.
ثالثاً: توجيهات من أجل حياة الجماعة (5: 13- 28)
وينهي بولس كلامه بتحريضات إلى الجماعة (5: 12- 23). فعلى رأس الكنيسة أناس يتعبون، ويحملون كلام الموعظة والتوبيخ. هم يقرمون بعملهم خير قيام، فلهذا يستحقّون الإكرام: "أحبّوهم غاية المحبّة" (5: 12- 13). لا شكّ في أننا نجد داخل الجماعة عدداً من الضعفاء والمقصّرين. هؤلاء يجب أن نسندهم، وهكذا يملك السلام (5: 14). وعلى الجميع أن يؤدوا على الشرّ بالخير، أن يجعلوا الفرح يملك في القلوب، أن يؤدّوا شكراً دائماً للربّ. في الاجتماعات، لا يحُتقر الأنبياء. بل "نمتحن كل شيء ونتمسك بما هو حسن" (5: 21).
بدأت 1 تس بالصلاة وهي تنتهي بالصلاة. فليقدّس الله هؤلاء المرتدّين. وليوجدا بغير لوم في مجيء الربّ يسوع المسيح. وهذا التمنّي هو في الوقت عينه يقين لأنه يرتكز على أمانة ذلك الذي دعاهم والذي يستطيع أن يحقّق فيهم مشيئته (5: 23- 24). ويختم بولس رسالته بثلاثة أقوال: صلّوا لأجلنا. سلّموا على الاخوة. إقرأوا هذه الرسالة. ويتوّج كل ذلك بالبركة الأخيرة الآتية من الربّ يسوع (5: 28).
2- 2 تس
بعد العنوان والتحيّة (1؛ 21- 2) نجد ثلاثة أقسام في الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي. الأول: تحريض وتشجيع (1: 3- 12). الثاني: عودة الربّ وعلامة هذه العودة (2: 1- 3: 5). الثالث: تحذير من الاخوة الذين يعيشون بلا قاعدة وفي الفوضى (3: 6- 16). وتنتهي الرسالة بالسلام والتوقيع والبركة: "نعمة ربّنا يسوع المسيح معكم أجمعين" (3: 18).
أ- القسم الأول: تحريض وتشجيع (1: 3- 12)
لا يختلف العنوان والتحيّة في 2 تس عمّا في 1 تس إلاّ بتحديد منابع النعمة والسلام: مثل هذه الخيرات الثمينة لا تنبع إلاّ من الله الآب والربّ يسوع المسيح. ثم إن وضع القرّاء هو واضح جداً: رسل يتوجّهون إلى الكنيسة. وهذه الكنيسة هي في الله الآب وفي الربّ يسوع المسيح، وهي تنتظر الخيرات الأساسيّة التي تؤسّس سعادتها. خيرات تأتي من الله وتقودنا إلى الله. يتألّف القسم الأول جوهريًا من جملة طويلة تعتبر مقدّمة لما سيلي، أو تحريضاً (وتشجيعاً) في حدّ ذاته. وكما في 1 تس، يتمّ الانتقال من التحيّة إلى جسم الرسالة بفعل شكر يُذكر فيه الإيمان والمحبّة. ويسطع أيضاً الفرح عينه والافتخار عينه أمام كنائس الله. ويحل محلّ الرجاء الصبر الذي هو ثمرته في سلّم المزايا وتجاه الاضطهادات.
ويشدّد 1: 3- 4 على الطابع الاسكاتولوجي للاضطهادات. فالمنظار العام هو دينونة الله في اليوم الأخير. فالمضطهِدون والمضطهَدون ينالون العقاب أو المكافأة. فلا شكّ في أن الله سوف يمارس عدالته، فيعطي الملكوت للذين يتألمّون، والضيق للمضطهدين. الراحة للمؤمنين، والانتقام والهلاك الأبديّ للذين لا يريدون أن يعرفوا الله ويطيعوا إنجيله (1: 5- 7).
وانخرط فكر بولس في الاستشهادات الكتابيّة ونظرات العهد الاقديم حول التيوفانيات والظهورات. في ذلك اليوم يظهر الربّ يحيط به القديسون، وهو ملتحف بمجد قدرته، بقدرته المجيدة: يسبّحه بعضهم، ويُرذل الاخرون بعيداً عن وجهه (1: 8- 10). إذن، يصليّ المرسلون لكي يكون المؤمنون "في الجانب الأيمن"، لكي يكونوا جديرين بدعوتهم، ومملوءين بالأعمال التي تجتذب رضى الله، وبالإيمان الذي هو عمل قدرة الله: سيكون مجدهم مجد الرب يسوع، ويسوع سيجد مجده فيهم، وكل هذا بفضل محبّة الله والربّ يسوع المسيح (1: 11- 12).
ب- القسم الثاني: المجيء وعلاماته (2: 1- 3: 5)
وتتبدّل اللهجة في الاقسم الثاني. نحن قبل كل شيء أمام تعليم يكمّل الذي سبقه. يبدو أن الجماعة تبلبلت بسبب المجيء واجتماع المؤمنين إلى الربّ يسوع المسيح. فلا حاجة للجوء إلى إتصال بالروح، ولا إلى كلمات، ولا إلى رسالة مزعومة من الرسول: يوم الربّ لم يأتِ بعد (2: 1- 2). والبرهان واضح. هنا نتذكّر ما قاله بولس: قبل المجيء تحصل علامتان: الجحود وظهور رجل الاثم. هو لا يسميه ولكنه الانتيكرست أي المناوئ للمسيح (2: 3- 5). إنه المناوئ لله. وهو لا يكتفي بأن يكون ضدّ الله، بل يريد أن يجعل نفسه إلهاً (2: 3).
ويزيد بولس ملحقاً على هذه المعطيات التي يجب أن تكون حاضرة في ذهن التلاميذ. أجل، الاثم يعمل منذ الان، ولكنه يعمل في الخفاء. وهو سيسطع يوماً عندما ينكشف الانتيكرست. ولكن هناك شيئاً يعوقه الآن. وحين يزاح هذا "العائق" جانباً، فهذا المناوئ لله يصبح المناوئ للمسيح. إنه يكشف عن ثورة الشيطان. هو يطغي البشر مثل سيّده الذي أعطاه سلطات شيطانيّة. فالذين رفضوا الخلاص وما أحبّوا الحقيقة يسلّمون إليه. وأخيراً، يدمّره الربّ يسوع المسيح "بنفخة فمه" (2: 6- 10). إنه لأمر خطير جداً أن يختار الانسان الشّر ويرفض الحقّ. هذا يعني أنه يقدّم نفسه لقوّة الضلال التي تجعل الانسان يصدّق الكذب (2: 11- 12).
غير أن هذا الشقاء الكبير لا يصيب الجماعة. فهي مؤلّفة من أخوة يحبّهم الربّ. أخوة اختاروا الخلاص في القداسة والحق. هم يؤمنون والروح يعمل فيهم، فيتوجّهون إلى امتلاك مجد ربنا يسوع المسيح (2: 13- 14)، ولكن لا يكفي أن نؤمن. بل يجب أن نكون أمناء لما علّمه الرسل (2: 15). والربّ يسوع المسيح، والله أبونا وصاحب كل خير والذيَ دلّ على أبوته بحبّه تجاه المرسلين والمؤمنين والذي يعزّينا عزاء سخياً بهذا الرجاء الأبدي، أجل الربّ يسوع والله أبونا يكمّلان أعمال المؤمنين وأقوالهم (2: 16- 17).
ويطلب بولس أن تكون كلمة الله خصبة وأن ينجو المرسلون من الاضطهاد. كما يلاحظ بمرارة أن الإيمان لم يُعطَ للجميع، أو أنهم لم يتجاوبوا معه ومع متطلّباته (3: 1- 2). ولكن بولس لا يخاف في ما يخصّ جماعة تسالونيكي. فالربّ يسهر، ولا شكّ في أن المؤمنين سيطيعون. فليعطهم الربّ حبّه وليعلمهم المسيح صبره (3: 3- 5).
ج- القسم الثالث: تحذير من بعض الاخوة (3: 6- 16)
ويعود القسم الثالث في 2 تس إلى موضوع خاص: هناك إخوة لا يعيشون بحسب القاعدة المسيحية، لا يعيشون بحسب وصيّة الرسول. فلا يحق لأحد أن يعيش على حساب الآخرين. كان باستطاعة المرسلين أن يطلبوا من المؤمنين الطعام والمأوى، ولكنهم أرادوا أن يعطوهم مثلاً يُقتدى به: "نجعل لكم من أنفسنا مثالاً تقتدون به". كانوا يتعبون ليلاً ونهاراً لئلاّ يثقّلوا على أحد (3: 6- 9).
فالقاعدة في الحياة المسيحيّة يجب أن تكون: من لا يريد أن يشتغل لا يحقّ له أن يأكل (3: 10). فالذي لا يعمل شيئاً، يعيش في "الفوضى الأخلاقية"، ويتدخّل في أمور الآخرين (3: 11- 12). لا نعامل هؤلاء الاخوة كأعداء. ولكن على الاخوة أن لا يعاشروهم، وأن يلاحظوا الذين لا يريدون أن يعيشوا بسلام ويأكلوا من خبزهم الخاص (يعيشون على حساب الآخرين) (3: 13- 15).
وتنتهي الرسالة بسلام دوّن بيد بولس. هذا ما يدلّ على صدق الرسالة وابتعادها عن كل تزوير. وفي الختام: "نعمة ربنا يسوع المسيح معكم أجمعين" (3: 16- 18).
خاتمة
هكذا بدا مضمون الرسالتين إلى تسالونيكي: تحريضات يرسلها الرسول إلى أولاده الذين تركهم وهم يتخبّطون في الصعوبات والاضطهادات: كيف يعيشون حياة الجماعة في السهر بانتظار يوم الربّ؟ إنهم أبناء النور والنهار، فليتصرّفوا هكذا. وكان في 2 تس تحريضان حول يوم الربّ وكيف ننتظره، وحول أهميّة المثابرة في الحياة المسيحيّة. فالربّ الأمين يعرف كيف يرسل إلينا العون والمساعدة.
هكذا بدت 1 تس بقسمها التايخي والدفاعيّ، ثم بقسمها العقائديّ والأخلاقيّ. قبل انفصال المرسلين عن أهل تسالونيكي، تحلّوا بسلوك أبوي صادق. وبعد الانفصال، كان الهم والقلق. فأرسل تيموتاوس فحمل إلى بولس ما حمل من أخبار طيّبة. وكان في القسم الثاني سلسلة أولى من التحريضات وسلسلة ثانية يفصل بينهما حديث عن الأموات ومجيء الربَ.
وهكذا بدت 2 تس بقسمها العقائدي وقسمها الأخلاقيّ. في الأول كان حديث عن مجيء الربّ يسوع الذي لا يبدو قريباً، كما قالت 1 تس. فهناك علاقات سابقة ومنها ظهور الكافر وإزالته. أما في القسم الأخلاقيّ فنحن أمام تحريضات تتوخّى أهمها أن تصلح التجاوزات التي تولّدها حمّى المجيء القريب.
رسالتان جاءتا الواحدة بعد الأخرى، أو فصلت بينهما مسافة زمنيّة. كان موضوعهما مجيء الربّ القريب أو البعيد. كتب الأولى بولس وربّما الثانية، وإن لم يكن هو فهي ترد في مناخ بولسي سنتعرّف إليه في الفصول التالية.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM