الفصل الثاني: مدينة تسالونيكي

الفصل الثاني
مدينة تسالونيكي
بين المدن التي زارها بولس ورفيقاه في أوروبا، احتفظت تسالونيكي وحدها بدور هام في أيامنا بين مدن مكدونية واليونان. وهي مدينة بذلك لموقعها الجغرافي. بُنيت على منحدرات جبل خورتياتيس فاحتمت من ريح الشمال وعرشت برودة بحر إيجه، فامتدت في قعر خليج ترميك وأمّنت مرفأ أميناً للسفن.
سوف نتوقّف عند تاريخ المدينة، ثم العبادات التي انتشرت فيها.
1- تاريخ المدينة
أسَّس كاسندرس، أحد قواد الاسكندر الكبير، مدينة تسالونيكي سنة 297 ف. م. وأعطاها اسم زوجته التي كانت أخت الاسكندر من أبيه. وسبق له أن أسّس في شبه جزيرة فالينس كساندرية التي لم تشتهر يوماً كما اشتهرت تسالونيكي.
هنا نشير إلى أن بداية تكوين تسالونيكي تعود إلى نهاية سنة 315 ق. م. تألّفت من ست وعشرين قرية حملت إليها أول السكان فيها. وعرفت المدينة ازدهارها منذ الحقبة المكدونية. فأبتنت لنفسها قلعة وأسواراً، ووسّعت مرفأها. وقد زارها فيلبس الخامس مرتين، سنة 185 وسنة 179. وقد قاومت مقاومة عنيدة ضد التسلّط الروماني على مكدونية. منذ سنة 169 ق. م.، هاجم كونتوس مرسيوس فيلبس المدينة براً وبحراً، ولكن محاولته فشلت، كما روى ذلك تيتوس ليفيوس. ولكن في سنة 168، سقطت المدينة في يد قنصل رومة إميليوس باولوس.
قسم الرومان مكدونية إلى أربع مناطق مستقلّة، وجعلوا من تسالونيكي عاصمة المنطقة الثانية، فصارت المدينة الأكثر شهرة. إلاّ أن نير رومة بدا قاسياً جدّاً. فاندلعت ثورة سنة 149 امتدت إلى مكدونية كلها، بقيادة اندرسكوس. بدأت المحاولة ناجحة. ولكن كونتوس ساسيليوس ماتلوس أخمد نار الثورة سنة 146. وبعد ذلك الوقت، صارت مكدونية مقاطعة رومانيّة وتسالونيكي عاصمتها، لأنها أكثر المدن سكاناً.
احتفظت المدينة بتنظيمها البلديّ القديم. فصكّت ناقداً خاصاً بها، ونالت امتيازات. وبعد معركة فيلبي سنة 42 ق. م.، صارت مدينة حرّة وارتبطت بالإدارة الامبراطورية وصارت مركز القنصل.
لعبت دوراً بارزاً في التاريخ الروماني، فوسّعها المحتلّ وبنى المستودعات الواسعة في مرفأها. وخلال الحرب الأهلية بين قيصر وبومبيوس، استقبلت بومبيوس داخل أسوارها. ولكنها توصّلت في ما بعد إلى أن تجعل نفسها خارج النزاع. وخلال الحرب وفي أوكتافيوس (الذي سيصبح أوغسطس) وأنطونيوس (الذي تزوّج كليوباترة)، أخذت تسالونيكي جانب أوكتافيوس.
في سنة 58 ق. م، استقبلت تسالونيكي ضيفاً كبيراً هو شيشرون الخطيب الروماني المعروف. هرب من رومة فلجأ إلى تسالونيكي، ولكنه لم يُقم فيها مدة طويلة منتظراً المناسبة لكي يعود إلى رومة. وقد عرف الخطيب أهمية هذه المدينة من الناحية الاقتصادية والعسكريّة والمدنيّة، وحدّد موقعها "في حضن الامبراطورية".
عرفت المدينة خلال الحكم الروماني أياماً صعبة. فقد هدّد أصحاب السلب والنهب الطريق الاغناطيّة واجتاحوا المدينة وأجبروا السكان على مغادرتها والاحتماء في القلعة. ولكن في الحالات العادية، أمّن السلامُ الروماني الكبير النظام والهدوء والازدهار. فاستفادت تسالونيكي من هذا الظرف المؤاتي، وسبقت فيلبي مزاحمتها، فاستحقّت اسم المدينة الأولى في مكدونية. وقد أنشدها شاعرها انتيباتر فسمّاها مادحاً إياها "أم مكدونية كلها". وقد عرف بولس أن يدقّ عام الوتر الحسّاس حين تحدّث عن شهرتها فقال: "من عندكم ذاعت كلمة الربّ، لا في مكدونية وأخائية وحسب، بل في كل مكان" (1 تس 1: 8).
2- الديانة والعبادات في تسالونيكي
حين نلقي نظرة عامة نفهم أن الديانة في تسالونيكي لم تختلف عن ديانة سائر مدن مكدونية التي انطبعت بالحضارة الرومانيّة. ففيها يُعبد زوش (جوبيتر) ونبتون، و مينرفا، وأبولون، وديانا، وفينوس، ومركور، وباخوس، والشمس، وبان، ونماسيس، وآلهة الموتى... عبادات كثيرة. نتوقّف عند أربع: رومة، ديونيوسوس (أو: باخوس)، كابير، والآلهه الغريبة.
دخلت عبادة رومة سريعاً في المدينة المحتلّة. فهناك مدوّنة تعود إلى سنة 148 ق. م. وهي تتحدّث عن كاهن زوش ورومة. ومدوّنة أخرى تعود إلى سنة 42 فتذكر كاهن رومة والرومان المحسنين. ومدوّنة ثالثة تذكر كاهن أوغسطس والقاضي باسمه. والنقود تدلّ بما فيه الكفاية على انتشار عبادة رومة في تسالونيكي منذ بداية الاحتلال. بانتظار أن يُعبد الامبراطور وهو حيّ، كما في سائر مدن الامبراطوريّة.
نشير هنا إلى أنه كان لرومة تمثال (بشكل امرأة) في ساحة المدينة، وهيكل خاص يؤمّه المؤمنون فيدلّون بعملهم "الديني" على ولائهم السياسيّ. وهكذا نفهم بعض ما نجد في سفر الرؤيا حيث تجلس رومة كالسيدة على تلالها السبع.
وتعبّدت تسالونيكي، شأنها شأن فيلبي، لديونيسوس، إله الخمر. فهناك مدفن يتحدّث عن كاهن كان رئيسَ جماعة ديونيسوس. وسمّيت إحدى القبائل التي تألّفت منها المدينة: صديقة ديونيسوس. وظهرت منذ الحقبة الهلنستية (أي بعد الاسكندر الكبير) نقود تحمل امس الإله ديونيسوس. وظلّت هذه العبادة مزدهرة في الحقبة الرومانية كما في عهد الأباطرة. وأخيراً يشهد لعبادة ديونيسوس "وصية كاهنة تسالونيكي"، أوفروسينس. فهي تتحدّث عن "أخويتين" مرتبطتين بالإله ديونيسوس.
لماذا تحدّثنا عن عبادة ديونيسوس؟ أولاً، كانت هذه العبادة المرتبطة بالشرق قد ارتبطت بالعالم السرّاني، لا بعالم الحقول كما في رومة. ثانياً، ارتبطت عبادة ديونيسوس ارتباطاً وثيقاً بالاعتقاد بالحياة الأخرى. وقد تحدّثت "أخويات" ديونيسوس عن ارتباطها بالطقوس الجنائزيّة. وقد اعتاد المشاركون فيها أن يقدّموا الذبائح على القبور.
عبادة الإله كابير والأسرار التي كانت تمارس هناك قد عُرفت في مدوّنة وفي اهداء، فدلّت على اهتمام المسؤولين بهذه العبادة. وفي الحقبة الرومانية توسّعت هذه العبادة كما تقول النقود. كابير هو الإله الخاص بالمدينة، وقد امتزجت صورته مع صورة ابني زوش (كاستور، بوليكس). كما ارتبطت عبادته بطقوس دموية إنطلاقاً من أسطورة تقول: قتل شقيقان أخاهما. ثم نظّما له عبادة علىَ سفح جبل الأولمب.
وتعبّد أهل تسالونيكي للآلهة الغريبة. هناك الأخوية "الآسيوية". وعُبد سيرابيس، الإله المصري الاقريب من أوزيريس (يؤمّن اخياة للموتى في الآخرة). ووُجد نشيد للالاهة إيزيس (زوجة أوزيريس وأم حورس). هذا يعني أن العبادات المصرية انتقلت إلى بلاد اليونان بشكل عام، وإلى تسالونيكي وغيرها من المدن.
وحين نقرأ أع، 1 تس و2 تس، نفهم أن اليهود كوّنوا جماعة مهمّة في تسالونيكي. في فيلبي، كانوا يصلّون خارج المدينة، وبجانب النهر (أع 16: 12). وفي أمفيبوليس وفي أبولونية لم يتوقّف بولس لأنه لم يجد هناك مجمعاً. أما في تسالونيكي، فقد كثر عدد اليهود ونما غناهم، فابتنوا لنفوسهم مجمعاً. وبانت قوّتهم حين استطاعوا أن يطردوا بولس ورفيقيه. لم يدخلوا في "المعمعة" بشكل مباشر، بل جمعوا بعض الرعاع ودعوهم إلى افتعال القلاقل (أع 17: 5). تلك هي الوجهة السلبية. ولكن هناك الوجهة الإيجابيّة. فالرسل ردواً عدداً كبيراً من الناس. نقرأ في أع 17: 4: "فاقتنع بعض من اليهود وانضموا إلى بولس وسيلا، مع جمهور كثير من اليونانيين المتعبّدين، وعدد غير قليل من السيّدات الشريفات". يبدو أن المرتدّين جاؤوا من عالم المجمع. لهذا غضب اليهود لأن بولس "أخذ" منهم مرتدين جدداً وكوّن جماعة مستقلّة عن جماعتهم. وسوف يلاحقونه إلى بيرية (أع 17: 13). وبما أن تأثيرهم هناك كان كبيراً كما في تسالونيكي، هيّجوا الشعب وأثاروه، فأُجبر بولس على الهرب. وسوف يصل إلى أثينا.
خاتمة
هكذا بدت تسالونيكي. مدينة عريقة من مدن مكدونية. حين جاء إليها بولس، كان لها مركزها داخل العالم الروماني. وقد عرفت عبادة رومة وأباطرتها، شأنها شأن سائر المدن الرومانيّة. ولكن يبدو أنّها لم تكن تشبه أفسس بتعبّدها الجامح لأرطاميس، بل ظلّت تلك المدينة التجاريّة التي احتقت فيها أمور الديانة مركزاً عادياً. إليها وصل بولس. وكعادته ذهب إلى المجمع قبل أن يتوجّه إلى العالم الوثني. هذا ما سوف ندرسه في فصل لاحق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM