الفصل الأول: بولس الرسول قبل وصوله إلى تسالونيكي

الفصل الأول
بولس الرسول قبل وصوله إلى تسالونيكي
مرّت خمسة عشرة سنة على ظهور الربّ لشاول الطرسوسي في طريق دمشق. داك الذي كان فريسياً قد صار مسيحياً. دْاك الذي سيقول: حياتي هي المسيح، كان قد ظن: حياتي هي الشريعة. أجل، ذاك الذيَ ارتدّ إلى المسيح صار شاهداً لموته وقيامته.
فقبل أن نتحدّث عن إقامة بولس ورفاقه في تسالونيكي حوالي سنة 50 ب. م. نحارل أن ندرك المراحل البارزة في حياة الرسول ونشاطه. وهكذا نكون قد أعطينا لتبشير تسالونيكي الإطار التاريخي والتعليمي.
ونتوقّف عند أربع محطات: أنطاكية. المرحلة الأولى. مجمع أورشليم. المرحلة الثانية.
1- أنطاكية
نستطيع أن نحدّد تاريخ ارتداد بولس حوالي سنة 35 مسيحية. وبعد إقامة في عرابية ودمشق دامت ثلاث سنوات، وبعد توقّف قصير في أورشليم، عاد بولس إلى موطنه. أتراه ظلّ يبحث عدت الخطّ الذي يوجّهه الله فيه؟ حاول في دمشق ففشل في إفناع أبناء جنسه، أراد أن يبرهن لهم آن يسرع هو المسيح، فإذا باليهود يتآمرون على قتله (أع 9: 22- 23). وحاول أن يتصل بالتلاميذ في أورشليم، فخافوا منه... وخاطب اليونانيين فأرادوا فتله طم أيضاً. حينئذ عاد إلى بلده. هل بشّر هناك؟ هذا ما لا تقوله النصوص؟ وقد يكون عاد إلى عمل الحياكة.
المهمّ أن برنابا الذي قدّمه إلى التلاميذ في أورشليم (أع 9: 27)، والذي فهم أهميّة الرسالة في أنطاكية (اع 11: 23: رأى نعمة الله)، ذهب إلى طرسوس في طلب شاول الذي سيصير بولس. كان ذلك سنة 44 تقريباً.
وجّه الرسولان كلامهما إلى اليهود وإلى الوثنيين، فنجحا نجاحاً باهراً خلال تلك السنة التي كرّساها لمدينة أنطاكية. بل صار برنابا وشاول شخصيّتين مهمّتين في الكنيسة. حين أرادت الجماعة المسيحية أن ترسل عوناً إلى كنائس فلسطين التي عرفت المجاعة، أوكلت إليهما أن يحملا ثمرة التبرّع إلى أورشليم (أع 11: 30).
خلال السنوات التي تفصل ارتداد بولس عن الرحلة الرسولّية الأولى، بدأ الرسول ينسى ماضيه المناوئ للمسيحيّة. فبعد أن اتصل بجماعات دمشق وصرسوس وأنطاكية، وعرف الأحداث التي حصلت في أورشليم، تعرّف إلى المسؤولين في كنيسة أورشليم، الكنيسة الأم، كما تعرّف إلى هذه الحركة الجديدة التي هي المسيحيّة الناشئة. واكتنز الخطوط الكبرى والتعابير الرئيسيّة في هذا التعليم الجديد.
يسوع الناصري هو المسيح. مات لأجلنا وقام، فصار الربّ الجالس عن يمين الآب. وهو سيعود في مجد ساطع. وأضيفت إلى هذه الفقاهة الأولى توصيات وتحريضات. وما اكتفى بولس بالحفاظ على وديعة الإيمان. بل أحسّ نفسه مسؤولاً عن نقاوته، وعمن فاعليته في حياة الكنيسة. ففي خلاف مشهور سنعود إليه، لام بطرس لأنه انحرف عن الطريق (غل 2: 11- 21). نم نعد فقط أمام خلافات حول التعليم، بل أمام أمر خطير جداً قد يعيق مسيرة الإنجيل: الإنجيل هو خبر طيّب للبشريّة كلّها لا لفئة واحدة. فلا يمكن أت تكون هناك حدود للكرازة. "الويل لي إن لم أبشّر" (1 كور 9: 16).
2- الرحلة الرسوليّة الأولى
إنطلقت الرحلة الرسولية الأولى من أنطاكية، فوصلت إلى قبرص ثم إلى آسية الصغرى أي تركيا الحاليّة، قبل أن تعود إلى أنطاكية.
أحسّت كنيسة أنطاكية برغبة حارة في الانتشار. فأرسلت برنابا وشاول إلى مناطق لم يدخل إليها الإنجيل بعد. وانضمّ إليهما يوحنا مرقس. وبدأ الثلاثة في سفر متواصل لن يتوقّف عند بولس حتى ساعة موته. فإذ جعل نفسه مواطناً للسماء، اعتبر نفسه في كل مكان وكأنه في بيته. اعتبر نفسه أخاً للذين وُلدوا ولادة جديدة واعترفوا بيسوع كالربّ الحيّ والقائم عن يمين الله، والذي سيعود ليدين الأحياء والأموات. وإذ كان الرسول يحسّ بواجبه في حمل البشارة، كان يكتشف أن الله اختاره من حشا أمه ليكشف ابنه لأمم (غل 1: 16)، وليحمل هذا الايمان إلى أقاحي الأرض (أع 1: 8) على ما قاله يسوع لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء.
دامت الرحلة الرسوليّة الأولى سنتين أو ثلاث سنوات. قد تكون دامت من سنة 45 إلى سنة 49. وصل الرفاق الثلاثة أولاً إلى قبرص، موطن برنابا الذي ظهر في البداية على أنه رئيس الرسالة. ومما إن انتقل الفريق إلى آسية الصغرى، حتى اتخذ بولس المبادرة. وهكذا برزت شخصيته شيئاً فشيئاً كالقائد والموجّه.
في برجة بمفيليا فارقهما يوحنا مرقس (أخ 13: 13) وعاد إلى أورشليم. فَتابع بولس وبرنابا عملهما في جنوبي مقاطعة غلاطية الرومانية. مرّا في أنطاكية وفي إيقونية من أعمال بسيدية. في دربة ولسترة من أعمال ليكاونية. في دْلك الوقت توضح الأسلوب البولسيّ: حيث يجد بولس مجمعاً، يذهب إليد ويحدّث اليهود واليونان الذين ارتدوا إلى عبادة الله الواحد. وهكذا تصبح الطريق سالكة له في عالم الأمم الوثنيّة.
وتنوّعت النتائج في تلك المناطق. لم يقبل شعبُ إسرائيل كلمة الله. فمنذ إيقونية، لعب الحسد والعداوة دورهما (أع 13: 44- 52). في لسترة رُجم بولس. وانتهى عمله هناك بفتنة، ولكن الفجاح كان كبيراً جداً لدى الأمم. وهكذا استطاع الرسولان في طريق العودة أن ينظّما اجماعات ويجعلا على رأسها شيوخاً (أو قسوساً وكهنة).
3- مجمع أورشليم وخلاف أنطاكية
بين الرحلة الأولى والرحلة الثانية حصل حادثان مهمّان كرّسا حريّة الرسول وسلطته في العالم الوثني. فعبور الإنجيل إلى الأمم طرح مسآلة ضميريّة على المرتدّين من العالم اليهوديّ. فقد تشرّب فكرهم تشرّباً كبيراً من امتيازات إسرائيل، شعب الله، الذي هو موضوع الاختيار والوعد، والمحامي عن الشريعة وحافظها، فما عادوا يتركون سكاناً لغيرهم. أو قد يكون عام الوثنيين أن ينالوا بركة الله بعد مرورهم في العالم اليهوديّ.
لقد تحوّل قصد الله مع البشر. وهكذا أحسّ المؤمنون الجدد بصعوبة لكي يستخرجوا النتائج التي تدلّ على شموليّة إيمانهم. فالله ليس فقط إله اليهود. بل هو إله الجميع. وامتياز اسرائيل الذي تشارك فيه سائر الشعوب، لا يمرّ حتماً في الختان والممارسات الموسويّة. فلو كان الأمر كذلك لصارت المسيحيّة شيعة داخل العالم اليهوديّ.
رفض بولس وبرنابا موقف هؤلاء المتهوّدين، هؤلاء المسيحيين الذين ما زالوا متعلّقين بممارسات العالم اليهودي. وبدا الخطر كبيراً بأن تنشقّ الكنيسة في مجموعتين منفصلتين: كنيسة مسيحيّة متهوّدة، كنيسة مسيحيّة أمميّة (أي آتية من الأمم الوثنية). لهذا، أرسلت جماعة أنطاكية رسوليها لكي يجدا حلاً لهذه الصعوبة. وكان اجتماع الرسل في أورشليم حوالي سنة 49. عاد منه بولس وهو متيقّن أنه لم يُفرض عليه شيء يتعارض مع تفكيره وعمله: فالوثنيّون يخلصون بقوّة الإيمان بيسوع الذي مات وقام، لا بأعمال الشريعة وهو تدبير عبر وزال. في ذلك الوقت كان اتفاق تسلّم بولس وبرنابا بموجبه الاهتمام بالوثنيين على أن يتركا لسائر الرسل الاهتمام باليهود.
هذا ما سميّ مجمع أورشليم. أما الحادث الثاني الذي بدا هو أيضاً حاسماً، فما حصل في أنطاكية ساعة جاء إليها بطرس. حضر وليمة شارك فيها المسيحيون المتهوّدون والمسيحيون الأمميّون. ولكن جاء أناس من أورشليم، فما عاد بطرس يجرؤ أن يأكل مع المسيحيين الأمميّين. فانسحب من الاجتماع. وتبعه برنابا نفسه. وظهر من جديد خطرُ الانقسام الذي بدا وكأنه أبعد إلى غير رجعة. ما قيمة الاتفاق الذي عُقد في أورشليم؟ فرأى بولس أن واجبه يحتّم عليه أن يقاوم بطرس وجهاً لوجه. "قلت لكيفا (أي: بطرس) أمام الجميع: إن كنت أنت اليهوديّ تعيش كالأمم لا كاليهود، فلِمَ تلزم الأمم أن يعيشوا عيش اليهود" (غل 2: 14)؟
إن هذا الانشقاق الأول والأحداث التي تبعته، طبعت في بولس بعض المواقف الأساسيّة. أولها: لا عودة عن حمل البشارة إلى الوثنيين. أحسّ أنه مسؤول يوماً بعد يوم عن هذا الجزء من العالم. وسيأتي وقت يتخلىّ عنه برنابا كرامة لمرقس الذي سبق له وتركهما خلال الرسالة الأولى. ثانيها، أحسّ بولس في داخله أنه قد تحرّر من العالم اليهوديّ. فإسرائيل بمجمله قد أدار ظهره للإنجيل. وبعد أن اضطهد الأنبياء قتل الربّ يسوع. والذين يأتون إلى الخلاص يخضعون لإنجيل بولس. لا شكّ في أن بولس وُلد تحت الشريعة وكان فريسياً ابن فريسي. ولهذا كان يقدّم الإنجيل أولاً إلى اليهود. وبعد ذلك يتوجّه إلى الوثنيين. ثالثها، تابع الرسول طريقه داخل الديانة الجديدة وهو متأكّد من تعليمه وواع لسلطته. لقد صار الانجيل وديعة بين يديه، وعلّة وجوده ورسالته. وها هو يستعد للرحلة الرسوليّة الثانية التي ستقوده إلى أوروبا.
4- الرحلة الرسولية الثانية
في نهاية سنة 49 أو بداية سنة 50، ضمّ بولس إليه سيلا، فزارا معاً حقل الرسالة الذي عرفه الرسول في الرحلة الرسوليّة الأولى. في لسترة اكتملت المجموعة الرسوليّة مع تيموتاوس الذي انضمّ إليهما. من هما هذان الرفيقان؟
كان سيلا أو سلوانس رجلاً يهودياً ومواطناً رومانياً. سيلا هو الاسم العبري. وسلوانس الاسم الروماني. كان سيلا رجلاً مرموقاً في كنيسة أورشليم، ومسيحياً من الجيل الأول في الكنيسة الأولى. في لائحة السبعين رسولاً التي نجدها عند دوروتاوس المزعوم، جعل لسيلا وظيفة أسقف كورنتوس. بعد مجمع سنة 49، اختير مع يهوذا الملقب ببرنابا ليعودا إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا ويبرهنا بحضورهما وكلامهما على اتحاد بولس التام مع الكنيسة الأمّ. بالإضافة إلى ذلك كان يهوذا وسيلا معروفين كنبيّين. ومارسا خدمتهما في أنطاكية بعض الوقت. ولكن إذ رجع يهوذا إلى أورشليم، ظلّ سلوانس في أنطاكية. وسيكون رفيق بولس الأمين ومشاركه في العمل وسيسمّيه بولس في 1 تس 2: 7: الرسول. احتفظ بولس باسم سلوانس. أما سفر الأعمال فأخذ اسم سيلا. ترك بولس اسم شاول ليكون له اسم يوناني. وهكذا فعل مع سلوانس. كان له بقربه شخص من التقليد لا غبار على عقيدته أو خيانته للكنيسة الأمّ في أورشليم. وسيكون سلوانس نشيطاً جداً في هذه الرحلة الرسوليّة الثانية. كسف تيموتاوس الذي كان أصغر منه. وسيلعب دوراً هاماً في كورنتوس ثم يختفي من الفريق البولسي. سنجده في ما بعد مع بطرس حيث سيلعب دور السكرتيرة تدوين رسالة بطرس الأولى (1 بط 5: 12).
وكان تيموتاوس شاباً حين التحق ببولس. كان أبوه وثنياً وأمّه مسيحية من أصل يهوديّ. اسمها أونيكي. وكانت جدّته مسيحية أيضاً واسمها لوئيس (2 تم 1: 5). كان معروفاً في بلدته كما كان معروفاً في إيقونية. كانت الزواجات المشتركة (بين وثني ويهودية) أمراً مسموحاً به. ولكن وجب على الأولاد أن يتبعوا ديانة أمهم. ولكن تيموتاوس لم يتبع الشريعة اليهوديّة، لهذا وجب على بولس أن يختنه ليستطيع أن يدخل معه إلى المجامع (أع 16: 1- 3). كان تيموتاوس في الدرجة الثالثة بعد بولس وسلوانس، لهذا لم يذكره لوقا مثلاً في الرسالة إلى فيلبي وتسالونيكي. ولكن ستتوثّق عرى الصداقة بين بولس وتيموتاوس، فيكلّفه الرسول بمهمّات صعبة في كورنتوس أو فيلبي.
إن السفر عبر آسية جعل الرفاق الثلاثة يجوبون كيليكية وفريجية وغلاطية، فيصلون إلى حدود ميسية التي عبروها بسرعة. وأخيراً وصلوا إلى ترواس، آخر مدن آسية والمواجهة لأوروبا. في ذلك الوقت انضم إلى الجماعة الرسولية لوقا صاحب سفر الأعمال، الذي روى الخبر في صيغة المتكلّم الجمع (نحن).
جاء مكدونيّ سرّي في الحلم، ودعا الرسل لكي يعبروا المضيق. وهكذا وصلوا إلى فيلبي في مكدونية، عبر نيابوليس. كانت فيلبي مدينة فيها بعض اليهود، ولكنها لم تمتلك مجمعاً. توقف فيها بولس وأسّس جماعة ناشطة. ولكن رسالته توقفت بسبب القلافل التي أدّت به إلى السجن. وعومل بولس وسلوانس معاملة قاسية لسنجد صداها في 1 تس 2: 2 وفي سفر الأعمال (أع 16: 11- 15).
ترك المرسلون فيلبي وأخذوا الطريق الاغناطيّة (سمّيت كذلك لأنها تصل إلى غناطية أو اغناطية في إيطاليا) التي تصل إلى نيابوليس فتربط الشرق بالغرب، ورومة بممتلكاتها الأسيويّة.
خاتمة
هكذا احتلّ بولس مكانة هامة داخل المسيحيّة الصاعدة. فقد جعله نشاطه الرسولي في مقدّمة الرسالة وسط الوثنيين. فبعد أن اجتاز آسية الصغرى، بدأ يجتاح أوروبا. جاء إلى مكدونية واليونان برفاقة سلوانس وتيموتاوس. وهكذا زرع الإيمان بيسوع المسيح وابن الله في فيلبي وتسالونيكي وأثينة وكورنتوس. ولن يتأخر الوقت الذي فيه سيصل إنجيل يسوع المسيح إلى أقاصي الأرض. كان ذلك الفصل مقدّمة، وها نحن نستعد للدخول إلى مدينة تساولنيكي قبل أن نتحدّث عن وصول البشارة إليها.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM