الفصل الثالث: يسوع رجل عاش في فلسطين

الفصل الثالث
يسوع رجل عاش في فلسطين

عاش يسوع كل حياته في فلسطين. وقضى القسم الأكبر منها في الجليل. بلاد يسوع هي أرض تقع بين البحر والصحراء. كانت مهمّة من الناحية الجغرافية، لأنها شكلت طريقاً بين مصر وسورية للجيوش والقوافل. إذن، كانت فلسطين مهمّة لجيرانها بسبب موقعها الستراتيجي. لهذا سنتعرّف إلى فلسطين في بداية القرن الاول المسيحي. ثم نحدّد موقع يسوع في محيطه الاجتماعي والاقتصادي. وإذ نعرف أن الإنسان يتجذّر في حياة شعب وتقاليده، نعرف أن يسوع ورث حضارة شعبه وتخلّق بتقاليده.

أ- فلسطين في القرن الأول المسيحي.
إذا أردنا أن نتعرّف إلى فلسطين كما بدت في زمن يسوع، نعود إلى وثائق ودراسات تاريخية هي في حوزتنا. ونحن نكتفي بتقديم الخطوط الكبرى لهذا التاريخ، لكي ندرك الوضع الاجتماعي الذي عاشه الشعب في ذلك الزمان.

1- الوضع السياسي والاداري
"في السنة الخامسة عشرة من ملك طيباريوس قيصر، حين كان بونسيوس بيلاطس (أي: بيلاطس البنطي) والياً على اليهودية، وهيرودس تتراخساً (أي رئيس الربع) على الجليل، وفيلبّس أخوه تتراخساً على بلاد أيطورية وبلاد تراخونيتس، وليسانياس تترارخساً على ابيلينة، وحنان وقيافا رئيسي الكهنة، كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البريّة " (لو 3: 1- 2).
بهذا الكلام يجمل لوقا الإطار التاريخي قبل أن يبدأ يسوع حياته العامّة.
تتطرّق هذه اللوحة إلى مناطق فلسطين: اليهودية، السامرة، الجليل. وإلى المناطق المجاورة: إيطورية، تراخونيتس وأبيلينة. يحكم هذه المناطق "ملوك" (هم ملوك صغار، تترارخس أي يحكم كل واحد على ربع مملكة هيرودس الكبير)، فيأخذون جزءاً من محاصيل الأرض، ويجعلون الناس يعملون في السخرة، وهكذا يستطيعون أن يعيشوا في الرخاء، أن يجعلوا حولهم الخدم والحشم، أن يخلدّوا أسماءهم في أبنية يشيدّونها. ففي زمن يسوع، شيّد هيرودس انتيباس، تترارخس الجليل، عاصمة جديدة سمّاها طبرية (قرب بحيرة طبرية)، تيّمناً باسم الامبراطور طيباريوس قيصر.
في التعداد الذي يقدّمه لوقا، هناك مقاطعة ناقصة. هي السامرة. يحكمها بونسيوس بيلاطس كما يحكم اليهودية وهي جزء من فلسطين (المنطقة الوسطى). لماذا أغفل لوقا هذا الاسم؟ قد يكون سبب ذلك الخلافات بين اليهود (أو: مقاطعة يهودا، عاصمتها اورشليم) والسامريين. فالسامريون اضطهدوا كهراطقة على يد عظماء عظماء الكهنة في اورشليم مئة سنة ق. م تقريباً. ومنذ ذلك الوقت سمَّم بغضٌ عنيف العلاقات بين اليهود والسامريين، فاتّهمهم اليهود بأنهم ينجسّون الأرض بحضورهم.
مهما يكن سبب هذا الاغفال، فاجمالة لوقا تبرز النظام السياسي الذي فيه تعيش فلسطين. الأول هو الامبراطور طيباريوس. إنه السيّد المطلق في البلاد. وهو يحكم عبر أشخاص يعيّنهم. تسلّم السلطة في اليهودية (أو: يهودا) والسامرة والٍ روماني عينه الامبراطور. وتسلمّها في سائر المناطق أبناء هيرودس الكبير الذي حكم فلسطين سنة 37- 6 ق. م. غار الامبراطور على سلطته، فانتزع منهم لقب الملك، وأحلّ محلّه لقب تترارخس. ولم يتورّع عن سلبهم سلطتهم. واليهودية هي أفضل مثال على ذلك.
تعب أغوسطس من تشكيّات وجهاء اليهود الذين أكثروا من البعثات إلى رومة وهم يتهمّون ارخيلاوس بالتسلط والاستبداد، فعزل هذا الذي كان ابن هيرودس الكبير، وأحلَّ محلّه والياً امبراطورياً، وكان ذلك في السنة السادسة بعد المسيح.
هذا التبديل في النظام، تمّ بتحريض من الوجهاء اليهود وعظماء الكهنة والشيوخ. فقد كان هيرودس الكبير قد وضع يده على سلطتهم وتوّج ملكاً. وحين عملوا على عزْل ارخيلاوس أحسّوا أنهم صاروا الرؤساء السياسيين في اليهوديّة ومحاوري رومة الوحيدين. لا شكّ في أن رومة تدير البلاد، ولكنها تحتاج إلى رضى رئيس الكهنة والشيوخ لتحكم في سلام. لهذا كانت رومة تسندهم من جهة، وتراقب سلطتهم من جهة أخرى.
وكان لوقا عارفاً بالوضع حين تحدَّث عن كهنوت حنان وقيافا. من الوجهة النظرية، يبقى رئيس الكهنة في وظيفته طوال حياته، وكانت سلطته وراثية. تخوّف الرومان من قوة هذه السلطة. لذلك عزلوا حنان سنة 15 ب. م. وإذ أرادوا ان يظلّوا على وفاق مع الارستوقراطية اليهودية، عينّوا صهره قيافا رئيس كهنة.
إذن، كانت فلسطين خاضعة لسلطات عديدة تعود كلّها إلى الامبراطور. فإن خسروا رضاه كان عقابهم العزل أو المنفى. هذا ما حدث لبونسيوس بيلاطس وهيرودس انتيباس فذهبا إلى المنفى. من أجل هذا، كان اصحاب السلطة يبحثون عن الغنى السريع، وكانوا قساة مع سكان يجب أن يقمعوا فيهم كل حركة تمرّد.

2- الوضع الاقتصادي
تداخلت هذه البنية السياسية مع وضع اجتماعي تعمّقت فيه الهوّة بين الاغنياء والفقراء. وهذا ما ندركه حين ندرس النظام الاقتصادي في فلسطين، متوقّفين بصورة خاصة على ما تقدّمه لنا الأمثال الإنجيلية.

اولاً: النظام الاقتصادي
نجد أولاً الصناع وأصحاب الحرف وهم يتوزّعون في القرى. مثل يسوع النجّار في الناصرة. ولكن نتاج هذه الصنعات لا تُصدَّر إلى خارج القرى، وهو لهذا لا يُؤمّن الربح الوفير.
وتبقى الزراعة والتجارة النشاطين المهمين اللذين يعتمد عليهما العالم القديم. كانت فلسطين تنتج القمح والشعير، واشتهرت بخمرها وزيتها. إلا أن هذا الغنى كانت تصيبه الضرائب في العالم الروماني: يؤخذ الربع من الغلال. تجمعه الارستوقراطية اليهودية والوثنية وترسله إلى مدن الامبراطورية ولا تنسى حصّتها. مثل هذا النظام الاقتصادي لا يُلغي ذلك الذي عرفته دولة إسرائيل التيوقراطية، ولكنه لا يوافقه. وجعل الكهنة الذين يحكمون البلاد، من أورشليم، المدينة المقدّسة، موضعاً تتوجّه اليه الأموال المرتبطة بالضرائب كما بالتقدمات الطوعية.
فعلى المزارع أن ينتزع كل سنة من غلّته العشر (أي: عشر محصول الأرض) وبواكير كل محصول. فإذا زدنا على هذا ما تطلبه رومة، تصبح الحالة في وضع لا يُطاق. لهذا حاول الفلاّحون أن يتهرّبوا من واجباتهم "الدينيّة". وإذ خاف عظماء الكهنة من الخسارة، إستعملوا القوة فأرسلوا رجالهم يحملون غلّة أخفاها الفلاّحون داخل بيوتهم. وهناك ضريبة أخرى تُفرض على كل يهودي هي ضريبة الدرهمين: كان على كل يهودي ذكر أن يدفعها حن يصبح ابن عشرين سنة، وكان يدفعها كل سنة. كانت هذه الضريبة تًُجمع في العالم كله وتوجّه إلى اورشليم بحماية الجيش الروماني. ويسوع نفسه سوف يدفعها مع بطرس (مت 17: 24- 27).
ولا ننسى أن مراسم الحج التي تفرضها الشريعة الالهية في أعياد الفصح والعنصرة والمظال تجلب المال من يهود العالم كله لفائدة الارستوقراطية الكهنوتية التي تهيمن على التجارة في الهيكل.
إذن، خلق هذا النظام الاقتصادي ارستوقراطية غنية مؤلّفة من كهنة ويهود محظوظين، وترك الطبقات الفقيرة تتخبَّط في مشاكلها. غطّت الديون هؤلاء الفلاّحين الصغار، فباعوا أرضهم للملاّكين الكبار وانضمّوا إلى المياومين أو إلى قطّاع الطرق.
في هذه اللوحة الاجمالية تبرز الجليل، كما نراها في الاناجيل، بصورة تلفت النظر.

ثانياً: الجليل
"في تلك الأيّام جاء يسوع من الناصرة في الجليل، وتعمّد على يد يوحنا في نهر الاردن " (مر 1 :9). "وبعد اعتقال يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل " (مر1 :14).
تبرز هاتان الآيتان المأخوذتان من انجيل مرقس أهميّة الجليل في حياة يسوع. فقد قضى هناك الثلاثين السنة الأولى من حياته (= الحياة الخفية)، وإلى هناك عاد بعد عماده ليعيش حياته كنبي.
الجليل هو أغنى منطقة في فلسطين. ترويه ينابيع عديدة، فيحتوي الغنى الأهم في عالم البحر المتوسط وهو الماء.
كان الجليل بأرضه الغنية أهراء قمح فلسطين، كما كان بموقعه ملتقى الطرق التجارية. فمنذ أقدمِ العهود، مرت القوافل من سورية إلى مصر بما سمّي "طريق البحر". وقد استعمل الرومان هذه الطرق وحسّنوها.
في هذه المنطقة الغنية زاد الشرخ بين الاغنياء والفقراء. هذا ما نستشّفه عندما نقرأ الأمثال الإنجيلية.

3- الوضع الاجتماعي في الامثال الإنجيلية
أولاً: ملاّكون كبار وعمّال
كل منّا يعرف أقلّه بعض الأمثال: الزارع (مت 13)، الابن الشاطر أو الابن الضال (لو 15)... هي أخبار تضع أمامنا أشخاصاً من الحياة اليوميّة: الزارع، رجل المغامرات، ربة البيت، القاضي... أراد يسوع أن يتشبّه بوعّاظ عصره، فقدّم تعليماً ملموساً. لهذا، تعطينا الأمثال لمحة سريعة إلى أحداث الحياة اليوميّة مع نوعين من الناس: الملاّك الغني وخادمه أو العامل في بيته.
نجد الملاّكين الكبار الذين يغيبون من أجل سفر طويل أو من أجل التجارة. هذا ما فعله صاحب الكرم (مر 12: 1) قبل أن يسلّم الكرم إلى عمّاله. هذا ما فعله رب البيت قبل أن يوصي البوّاب بالسهر (مر 13: 34). وهذا ما فعله ذلك الذي أعطى خدمه خمس وزنات ووزنتين ووزنة واحدة (مت 25: 14- 18). هؤلاء الملاكون هم أغنياء (لو 16: 19) وغناهم يأتيهم من الأرض. مثلاً، ذاك الرجل الذي أغلّت أرضه غلات وفيرة فلم يعد يعرف ماذا يفعل بها (لو 16:12- 21).
أراضيهم واسعة وهم يسلمونها إلى وكلاء ليستغلوها (مر 12: 1- 2). ونجد درساً لدى الوكيل الخائن (غير الأمين): أراد أن يفلت من الشقاء فزوّر صكوك معلّمه. عتم تكلَّمت هذه الصكوك؟ عن الزيت والقمح (لو 16: 1- 8). ويبدو هؤلاء الملاّكون ظالمين وقاسين في الأعمال. هذا ما يقوله صاحب الوزنة الواحدة. لم يستغلّ وزنته. والسبب قاله لسيّده: "عرفتك رجلاً قاسياً تحصد حيث لم تزرع، وتجمع حيث لم تبذر" (مت 24:25). لا يقول له سيده إنه أخطأ في حكمه، بل يستعيد في جوابه ما قاله هذا العبد الكسلان (مت 26:25): "عرفتني أحصد حيث لا أزرع".
ونجد العبيد والخدم العديدين مع هؤلاء الملاّكين الكبار. هم يعملون في الحقل (مت 27:13- 28) أو يخدمون معلّمهم (لو 7:17- 10). بعضهم عبيد والبعض الآخر عمّال مياومون. نتذكرّ هنا عمال الساعة الحادية عشرة (أي الساعة الخامسة مساءً. اشتغلوا ساعة فقط). إستوحى يسوع مشهداً يومياً تعيشه قرى الجليل. فالعمّال المياومون ينتظرون في ساحة القرية من يتكّرم ويُرسلهم إلى كرمه (مت 20: 1- 16).
كان هؤلاء المياومون فلاّحين قُدماء. تكاثرت الديون عليهم فباعوا أرضهم. هذا ما نفهمه من مثل العبد الذي لا يستطيع أن يوفي دينه: عليه أن يبيع كل ما يملك، وحتى نفسه وامرأته وأولاده (مت 18: 23- 35).
شركاء، خدّام، عبيد، مياومون. هذا هو الوضع الاجتماعي للفلاّحين كما نكتشفه في الأمثال الإنجيلية. هم يخضعون لسيّد قدير، ولهذا هم محتقرون، وقد سمّوا "شعب الأرض"، أي الشعب الملتصق بالأرض.

ثانياً: من الذلّ إلى الثورة
كان للجليل سمعة سيئّة. وكان يهود أورشليم ويهوذا يشكّون بنقاء عرق الجليليين فيقولون: في عروقهم دم وثني.
وزاد احتقار اليهود لهؤلاء الجليليين، لأنهم يخالفون الواجبات الديّنية الأساسية. بُعدهم من أورشليم يمنعهم من القيام بالحج في الأعياد الكبرى الثلاثة. وفقرهم يمنعهم من دفع العشر، وهذا ما يجعل طعامهم نجساً. ثم اعتبر اليهود أن أهل الجليل يجهلون الشريعة وبالتالي لا يمارسونها (يو 49:7). كل هذه الأسباب جعلت شعب الجليل يعيش وضعاً محتقراً. ولهذا نبتت عنده الثورات.
بمناسبة إحصاء قام به الرومان سنة 6 ب. م، ثار الشعب وتبع يهوذا الجليلي. الظاهرة دينية. ولكن الحقيقة هو أن سبب هذه الثورات هو جزية الرأس. يتم الاحصاء ويدفع كل واحد ما يتوجّب عليه. قمع هذا التمرّد بقساوة، ولكن ظل كالنار تحت الرماد يشعلها "الارهابيون " (أصحاب السيوف) والغيورون أو المندفعون الذين كان منهم أحد تلاميذ المسيح: سمعان الغيور أو ربما سمعان الذي من قانا الجليل.
وظل الجليل موضع شكّ من قبل السلطة السياسية التي قمعت بشدّة كل تجمّع جليلي. هذا ما نستشفه من الحدث الذي وصل إلى يسوع: تجمّع بعض الجليليين المتحمّسين، فمزج بيلاطس دماءهم بدماء ذبائحهم (لو 13: 1). وقد تجذرت هذه الثورة الخفيّة في رجاء مسيحاني عميق. لقد هيّأ الأدب الجلياني معاصري يسوع لحروب آخر الأزمنة من أجل إقامة الفردوس السماوي على الأرض.

ثالثاً: وكان يسوع من الجليل
عاش يسوع حوالي 30 سنة في الناصرة. كان نجاراً في هذه القرية الصغيرة من قرى الجليل، التي لم تذكرها التوراة ولا التلمود ولايوسيفوس المؤرخ. ارتفعت 350 م عن سطح البحر وابتعدت اربعة كلم ونصف عن سافوريس، عاصمة الجليل القديمة، التي فيها ثار يهوذا الجليلي.
ونشاط يسوع جعله يتّصل بعالم الفلاّحين. ولما بدأ الناس يتحدّثون عنه، حاول أقرباؤه أن يعيدوه إلى "القبيلة". ولماذا كانت ردة فعلهم على هذا النحو؟ لأنهم خافوا من ملاحقات الدولة. ولأنهم شعروا أيضاً أن يسوع ترك وضعه الاجتماعي. قالوا: "فقد صوابه" (مر 3: 21). "أما هو النجّار، ابن مريم؟ أما أخواته عندنا هنا" (مر 6: 3)؟ كيف تجزرَّأ فخرج من الحالة التي وُلد فيها؟
وبعد أن اعتمد يسوع عاد إلى الجليل. هناك اجتمع الناس حوله، وهناك اختار رسله (مر 1: 16-20). وهناك سيقضي القسم الأكبر من حياته. وفي الجليل موطنه، سيجتمع التلاميذ بعد موته.
وأخيراً، إن جوهر الإنجيل الذي أعلنه يسوع (مجيء الملكوت، حضوره الخفي الذي بدأ يتحقّق) يتجذّر في هذا الرجاء الذي عاشه الجليليون. أجل، يسوع هو جليلي من عصره. وهو يتجذر في عالم الفقراء الذين إليهم يوّجه تطويبته الاولى: إن لهم ملكوت الله، هذا إذا أرادوا.

ب- يسوع وحضارة شعبه
ورث يسوع حضارة شعب هو الشعب اليهودي. وتغلغلت فيه شيئاً فشيئاً تقاليد وامال شعبه، فبحث عن طريقه في هذا المناخ الاجتماعي والروحي الذي عاش فيه.
1- وارث حضارة
تعلّم يسوع ومارس مهنة النجّار التي تتطلّب تدرّباً وحكمة. وعرف يسوع القراءة والكتابة. فنراه يقوم بقراءة جمهورية للتوراة في مجمع الناصرة (لو 16:4). وكانت ثقافته واسعة بحيث إنه عبرّ عن فكره بلغة غنيّة ومتنوّعة.
وعرف يسوع العهد القديم، ذاك الكتاب الذي يعتبره اليهود إرثهم الحضاري، والذي يقضي الكتبة حياتهم كلها في درسه. هؤلاء الكتبة أو الرابانيون جاؤوا إلى يسوع يسألونه بعد أن اعتبروه عارفاً بالكتاب. وسمّاه تلاميذه "رابي" (أي: يا معلم) فأعطوه لقب الاختصاصي في التوراة. وفي مجادلاته مع الكتبة، تجرّأ يسوع وهاجمهم حتى في "ملعبهم ". هاجمهم حول معرفة التوراة وتفسيرها. قالوا: "لماذا يعمل تلاميذك ما لا يحل في السبت " ؟ أجابهم: "أما قرأتم ما عمل داود حين جاع هو ورجاله "؟ وعاد بهم الى العهد القديم ليصل إلى القول إن ابن الإنسان هو سيد السبت (مر 2: 23- 28). سأله أحد معلمي الشريعة عن أولى الوصايا كلها، فعاد إلى سفر التثنية وسفر اللاويين يُجمل الشريعة كلها في وصية المحبّة (مر 28:12 ي). بل هو سيسألهم عن علاقة داود بالمسيح ليقول لهم إن المسيح هو ربّ داود (مر 12: 35- 37).
ويبدو أن يسوع فهم حياته على ضوء الكتاب المقدس. هو عابد الله وخادمه، وقد أدرك أن مصيره هو مصير نبي (لو 13: 33)، أنه الحجر الذي رذله البناؤون (مر 12: 10)... وإذ أراد الإنجيليون أن يفهموا سر يسوع، عادوا هم أيضاً إلى العهد القديم فتابعوا الطريق التي رسمها يسوع.
إمتلأ يسوع من حضارة شعبه وتقاليده. فمن أين جاءه كل هذا؟ أولاً، من محيطه العائلي. فوالداه كانا من اليهود الاتقياء الذين يخضعون للشريعة فيعلّمون أولادهم فرائضها. ثم إن يسوع تعوّد أن يؤم المجمع في الناصرة. كانت شعائر العبادة بسيطة: قراءة من التوراة، تفسير النص، صلوات ومزامير. وهكذا عرف يسوع غيباً، شأنه شأن أقرانه، المزامير المئة والخمسين مع نصوص عديدة تحدثه عن تاريخ شعبه.
وكان المجمع للأولاد أيضاً مدرسة يؤمّها الصغار بين السنة الرابعة والسنة الثامنة ليتعلّموا غيباً أسفار الشريعة الخمسة وهم ينشدونها. وكان يُطلب منهم بين السنة الثامنة والسنة الثانية عشرة أن يدرسوا شروح التوراة المسماة "أقوال الآباء". وفي السنة الثانية عشرة يصل الولد إلى الشريعة فيصبح "ابن الوصايا". وقد تمتدّ هذه التربية بعد السنة الثانية عشرة لليهود الذين يستعدون لأن يكونوا "معلمين". إلى أي حدّ وصل يسوع؟ هذا ما لا نعرفه. غير أن معرفته بالتوراة وشروحها تجعلنا نقول إنه صار "أبن الوصايا"، ولم يتعدَّ هذه المرحلة. لا ننسى أنه فقير، فأنّى له ان "يتابع دروسه "؟! ثم إن القديس لوقا روى لنا ما حدث ليسوع وهو بعمر اثنتي عشرة سنة (لو 2: 41- 52). لا شك في أن لوقا جمّل الخبر وقدّمه على ضوء موت يسوع وقيامته (ثلاثة أيام)، ولكن هذا الحدث يعتبر امتحاناً قدّمه يسوع فنجح فيه وصار "أبن الوصايا". هذا على المستوى اليهودي. أما على مستوى حياته الشخصية فأعلن أنه أبن الله ولا يهتّم إلا بمشيئة أبيه.

2- باحث عن طريقه
عاش يسوع من إرث شعبه، ولكنه، وهو الإنسان الكامل، بحث عن طريقه. كان قريباً من الفريسيين فقاسمهم بعض أفكارهم، ولا سيّما فيما يتعلّق بقيامة الموتى، كما تعرّف الى حركة "المعمدّين".
تبدأ الأناجيل الاربعة فجأة بالحديث عن كرازة يوحنا المعمدان، عن عماد يسوع، وعبوره إلى البرية (مر 1: 1- 13؛ مت 3: 1- 4: 11؛ لو 3: 1- 13:4؛ يو 1 :19- 51). هنا نشير إلى أن أناجيل الطفولة كما أوردها متى ولوقا، قد جاءت فيما بعد فشكلّت مقدّمة لحياة يسوع العامّة.
صار عماد يسوع في نظر الإنجيليين علامة ارسال يسوع كابن الله الحبيب، ودلّ على التزامه في حركة المعمدّين بحيث قضى بعض الوقت يحادث معلّمهم يوحنا. لن نقرأ حرفياً "الاربعين يوماً" التي قضاها يسوع في البرية. الرقم رمزي وهو يذكرّنا بالسنوات الاربعين التي قضاها الشعب العبراني في البرية.
وحين اعتُقل يوحنا، ترك يسوع ضفاف الأردن، وعاد إلى الجليل (مر 1: 14). ولكنّه مع ابتعاده عن الاردن، لم يقطع كل علاقة بيوحنا. فقد اختار اثنين من تلاميذه ليتبعاه (يو 1: 35- 37).
وخلال حياة يسوع العامة، تدخل يوحنا من سجنه بواسطة أناس أرسلهم. فسأل يسوع: "أأنت هو الآتي (أي: المسيح المخلّص) أم يجب أن ننتظر آخر" (مت 11: 2- 3)؟ هناك شك وارتياب لدى يوحنا. ومع ذلك فسؤاله يدلّ على اهتمام يوحنا بما يعمله يسوع. ويستفيد يسوع من الظرف فيعبرّ عن تقديره ليوحنا: إنه أعظم الأنبياء (مت 9:11- 11).
كيف بدا تيار المعمدّين؟ تيقنّ أن الازمنة الأخيرة صارت قريبة، فأوّن بعض النصوص النبوية مثل أش 40: 1ي الذي ظل نموذجاً من نماذج كرازته (مر 1: 2- 3). طلب من الجميع أن يعدّوا "طرق الرب " فيعتمدوا ويجعلوا أقوالهم تطابق حياتهم.
كانت كرازة "المعمّدين " شعلة نار، لا سيّما وأن ساعة "ذاك الآتي" قريبة. وهذه الساعة توافق "عماد النار" الذي ينقّي كل إسرائيل (لو 16:3). وسارعت الجموع لتسمع هذه الكلمة التي تدلّ على تبديل في العالم تنتظره بقلق، والتي تتوجّه إلى الجميع دون حواجز الطهارة أو المعرفة على مثال بعض التيارات اليهودية (لو 3: 10- 14).
لا شك في أن يسوع شارك في هذا التيّار: قراءة مميّزة للتوراة وموّجهة نحو مجيء الملكوت، ومجيء مرسل الله. هذا الخط سيسير فيه يسوع، فيتوجّه بكلامه إلى الشعب كله، وبصورة خاصة إلى الفقراء.
أجل، لم يكن يسوع نجماً نزل من السماء، بل كان إنساناً مثلنا. لهذا اختار طريقه بين التيارات العديدة. ولكنه سيفجرّ هذه الطريق ويعطيها أبعاداً إلهية. إنه ابن الإنسان. ولكنه أيضاً ابن الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM