الفصل الرابع: يسوع في محيطه الحياتي

الفصل الرابع
يسوع في محيطه الحياتي

حين نتعرّف إلى أعمال يسوع وأقواله، نكتشف التزامه في محيط حياتي اختاره لنفسه. ولهذا سنتوّقف في هذا الفصل عند نقطتين. الأولى: محيط حياة يسوع. الثانية: تصرّف يسوع داخل هذا المحيط. كان منه حقاً فلم يكن شيء خارجي يميّزه عنه. ولكن سيكتشف الناس فيما بعد أن يسوع هو منهم، وأنه في الوقت ذاته بعيد جداً عنهم.

أ- محيط حياة يسوع
عاش يسوع حياته الرسولية يحيط به عددٌ من الناس. منهم من نعرفهم ومنهم من لا نعرفهم. كل هؤلاء سمّاهم الإنجيليون: الشعب او الجمهور أو الجموع أو الجمع.

1- الجموع هي محيط يسوع الحياتي
نرى الجموع التي لا اسم لها في كل صفحات الإنجيل. فهي تتبع يسوع (مت 4: 25). ترافقه في تحرّكاته (مر 5: 24، لو 7: 9). تزحمه من كل جهة (مر 5: 31). الجموع تسمع يسوع وتتعلّم منه (مر 34:6؛ 14:7؛ 34:8...)، تتعجب وتندهش من كل ما يقول ويفعل (مت 33:9: "ما رأينا مثل هذا"!).
وبمختصر الكلام، يدقّ قلب الجموع مع قلب يسوع الذي يحّس بنفسه قريباً منها أين قربه من أقربائه. حين جاء أقرباء يسوع ليلتقوا به، كانت الجموع تحيط به. فأجاب: "من هي أمي ومن هم أخوتي"؟ وجال نظره في الجالسين حوله بشكل حلقة فقال: "هؤلاء هم أمي وإخوتي " (مر 3: 31- 35). حين نتذكر قوة الرباطات العائلية في عالمنا الشرقي، نفهم أن الجموع تحتلّ في قلب يسوع المكان الذي يُحفظ عادة لأفراد العائلة والعشيرة.
ونستشفّ هذه العلاقة الحميمة أيضاً في أخبار تعبرّ عن عواطف يسوع تجاه الجموع: "كانوا بائسين مشتّتين مثل غنم لا راعي لها" (مت 36:9). وحدّثنا مرقس عن يسوع الذي يشفق (يتحنّن) على هذا الجمع. هذه الكلمة تعبرّ في لغة الكتاب المقدس عن حب مجاني فيه ينحني الاب على ابنه كما في مثل الابن الضال (لو 15: 20). وإذا ذكرنا الرحمة، أشرنا إلى علاقة أم بابنها بعد أن حملته في رحمها وغذّته من حليبها.
مّمن تألّفت هذه الجموع؟ بصورة خاصة من الجليليين. هذا ما يتضمنّه الحوار بين سكّان أورشليم والجموع التي تهتف ليسوع حين دخوله الاحتفالي إلى المدينة المقدّسة (مت 21: 10- 11: من هذا؟ هذا هو النبي يسوع من ناصرة الجليل). صعدت من الجليل لتحتفل بالفصح في المدينة المقدسة، فشهدت أمام سكّان أورشليم أن يسوع هو النبي (مت 21: 11). إنتظرت مسيحاً فوجدته في يسوع (يو 7: 21، 41)، فأرادت أن تجعله ملكاً (مر 11: 10). إذا عدنا إلى إطار فلسطين الاجتماعي في القرن الأوّل، عرفنا أن هذه الجموع هي محتقرة واسمها "عامّة الناس الذين يجهلون الشريعة. إنهم ملعونون " (يو 49:7). هذه الجموع المؤلفة من الجليليين، والمحتقرة في نظر الفريسيين، والمتطلّعة إلى الانتظار المسيحاني، هي شعب الأرض الذي تحدّثنا عنه.

2- الجموع هي الموضع المميّز لرسالة يسوع
إختار يسوع أن يتضامن مع هذا الجمع "الملعون ". وهذا التضامن هو علامة تؤكّد أنه مرسل الله. فالذين تشكّكوا من تعاطيه مع هؤلاء "المحتقرين "، أجابهم: "ما جئت لأدعو الصديّقين، بل الخطأة" (مر 17:2). ونستطيع أن نترجم، ما جئت من أجل الشرفاء والوجهاء بل من أجل المحتقرين والمرذولين. وهكذا تميّز يسوع عن عصره، الذي ترجم الاختيار الالهي حياة جماعية فيها يحفظ اليهود نفوسهم أنقياء بانعزالهم عن الشعب (على مثال الفريسيين والاسيانيين).
دلّ هذا التضامن على أنه مرسل. وتحقّق في اختيار تلاميذه. ما اختار يسوع الوجهاء في شعبه، ما اختار اليهود الاتقياء، وهذا أقل ما كان يجب أن يفعل. لا، بل كان تلاميذه صيّادين (مر 1 :6- 20). موظفي جمارك أو جباة ضرائب (مر 13:2- 14: عشّار، يقبض العشر). وكان بعضهم من الغيورين القدماء (سمعان الغيور، يهوذا الاسخريوطي، مر 3: 18- 19). وكانوا كلّهم جليليين (مر 14: 70 : أنت منهم ولهجتك تشبه لهجتهم).
كم نحن بعيدون عن الصفات التي يطلبها الرابّانيون من تلاميذهم. لقد كان تلاميذ يسوع يقاسمون الشعب آماله المسيحانية: تبعوا يسوع، لأنهم ترجّوا أنه هو الذي يقيم مملكة أرضية وسياسيّة. ونكتشف هذه النظرة عند بطرس الذي لم يفهم أن يسوع اختار طريقاً تقوده إلى الموت. "صدم " إلى حد "وبّخ" معلّمه (مر 8: 32). وانتظار مملكة يحكم فيها يسوع، نكتشفه من خلال التماس ابنَي زبدى: يريدان أن يملكا مع يسوع حين يدّشن ملكه (مر 35:10- 45). ونفهم أن موت يسوع تركهم حيارى. فقد قال تلميذا عماوس بحسرة: "كنا ننتظر أنه هو الذي يخلّص إسرائيل " (لو 24: 21). يخلّص إسرائيل من سلطة الرومان.
كان التلاميذ من الشعب فعاشوا آماله. وجهلوا مثله الشريعة ومتطلّباتها: هم لا يصومون (مر 2: 18). يتعدّون السبت (مر 2: 23). يأكلون بأيدٍ غير مغسولة (مر 7: 2). وهذه الاهمالات تجعلهم محتقرين في عيون الفريسيين الذين لا يفهمون تقاعس يسوع عن تعليمهم ليصيروا "ابناء الوصايا".
وهكذا حدّد يسوع موقعه بارادته في شعب الجليل، الشعب الذي تجذّر فيه. هو لم ينكره، بل أحبّه ووجد فيه من الغنى الكثير بحيث اختار فيه رسله، ثم أعادهم إليه: "هو يسبقكم إلى الجليل، وهناك ترونه " (مر 7:16).

ب- تصّرف يسوع داخل هذا المحيط
إن المحيط الأصلي الذي حدّد يسوع موقعه بإرادته، دفعه إلى الإقتراب من حركة المعمدّين، ثم إلى العودة الى الجليل ليعلن الإنجيل للشعب هناك.
هذه الكرازة هي أساسية، وهي ما يدفعه الى العمل. فحين يترك جموع كفرناحوم سيقول لهم: "يجب علي أن أبشّر سائر المدن بملكوت الله، لأني لهذا أرسلت " (لو 43:4). ما يعلنه هو ملكوت الله، وهو يعلنه بالأقوال والأعمال.
إمتزجت هاتان الوجهتان في حياة يسوع امتزاجاً حميماً، وهما لا تُفهمان إلا معاً. ولكننا نُجبر على تمييزهما من أجل الوضوح في العرض.

1- كرازة الملكوت
نجد في كل صفحات الإنجيل أن يسوع يتكلّم، يذكر ملكوت الله او ملكوت السماء. وكرازة الملكوت هذه تجُمل الاتجاه الأساسي في حياة يسوع. هذا ما رآه الإنجيليون الاربعة وبصورة خاصة مرقس الذي يفتتح حياة يسوع العلنية بهذه المقدمة: "بعد أن اعتُقل يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل. وأعلن انجيل (بشرى، الخبر السعيد) الله وقال: تمّ الزمان واقترب ملكوت الله. توبوا وآمنوا بالإنجيل " (مر 1: 14- 15). لن نقدّم تحديداً للملكوت، ولكننا نحاول أن نوضح مضمونه، كما فعل الإنجيليون انفسهم.

أولاً: بشارة محدّدة في الزمان والمكان
قاسم يسوع معاصريه إيمانهم. وانتظر مثلهم ملكوت الله كمملكة آتية. وهذا ما ندركه حين نتوقّف عند مقطع من الصلاة التي علّمها لتلاميذه: صلاة الأبانا أو الصلاة الربيّة. طلب يسوع من الله أبيه: "ليأت ملكوتك " (مت 6: 10). أجل، إنه ملكوت سيأتي. وأعلن أيضاً ليلة موته وبعد أن تناول العشاء مع تلاميذه: "لن أشرب من عصير الكرمة إلى اليوم الذي أشربه فيه من جديد في ملكوت الله" (مر 14: 25). يرمز هذا الخمر الذي هنا إلى العالم المقبل الذي فيه يتحوّل الكون ويتبدّل.
وهناك عدّة أمثال من يسوع تدلّ على هذا الملكوت المقبل والابدي الذي ينتظر الأبرار. وأشهر هذه الأمثال يصوّر الدينونة الأخيرة والفصل بين الأخيار والأشرار، كل واحد حسب تصرفه مع أخوته. وهو ينتهي بهذه الكلمات: "يذهب هؤلاء إلى العذاب الأبدي والصديقون إلى الحياة الأبدية" (مت 25: 46).
إذن، يؤمن يسوع، شأنه شأن معاصريه، أن الملكوت ينتمى إلى العالم المقبل الذي خلقه الله. إلى عالم زال منه الموت وعرف فيه الأبرار المجازاة الحسنة.

ثانياً: بشارة جديدة
إن الأمل بهذا الملكوت الآتي خلق عند معاصري يسوع رذْلاً للعالم الحالي. ففي نظرهم، وفي نظر الفقراء خصوصاً، لن يأتي هذا الملكوت إلا بعد تحوّل جذري يتم بقدرة الله أو بواسطة مسيحه.
وأكّد يسوع وهو يعظ بالعالم الآتي أن هذا الملكوت حاضر حضوراً سرياً في هذا العالم وفاعل فيه. وتصوّر الأمثال سر الملكوت الذي هو مخفي الآن، والذي يخلق المستقبل شيئاً فشيئاً في داخل هذا العالم. إنه يشبه زرعاً دُفن في الأرض فنبت ونما وأعطى ثمراً (مر 26:4- 29). إنه يشبه حبة الخردل التي هي أصغر المزروعات والتي ستصير أكبر النبات (مر 4: 30- 32)، كما يشبه الخمير في العجين (مت 33:13). وهكذا يكون الملكوت قد بدأ مع يسوع في قلب هذا العالم: حلّت ساعة الحصاد (مت 37:9)، وقُدّمت الخميرة الجديدة (مر 2: 22)، وتم الزمان (مر 1: 15).
وهذه الكرازة بحضور الملكوت حضوراً سرياً وفاعلاً لا تظهر في أي مكان من العالم اليهودي في القرن الأوّل. وهكذا يشدّد يسوع على اصالة تعليمه: إنه يحطمّ الازدواجية في مسيحانيّة شعبيّة تعارض هذا العالم بالعالم الآتي وكأنهما عالمان لا يتوافقان. هذا اليقين يفسّر بعض التفسير رفض يسوع أن يكون مسيحاً سياسياً، حسب آمال الشعب، لأن مثل هذا المسيح كان مدعواً ليخلق كوناً جديداً يكون منقطعاً كل الانقطاع عن العالم الحالي. أدرك يسوع هذا الخط تدريجياً، وسوف يتوّضح رفضه للمسيحانية السياسية شيئاً فشيئاً عبر التجارب والمحن. هذا ما نجده في خبر التجارب (مت 4: 1-11؛ لو 4: 1-13).
تكلّم يسوع فدلّ على أن الأزمنة الجديدة تدشّنت. ولكن الآيات التي سيصنعها تبدو انجيلاً وخبراً سعيداً لأناس ينتظرون الخلاص المادي والروحي.

2- آيات الملكوت
هناك نصان يفهماننا أن آيات الملكوت حاضرة في يسوع. الأول، هو جواب يسوع لمرسلي يوحنا المعمدان (مت 11: 4- 6). والثاني هو كرازة يسوع التي دشنت رسالته في الناصرة (لو 18:4- 19). ففي هذين النصين يبدو اعلان انجيل الملكوت للفقراء مسألة اساسية للدلالة على حضور الملكوت.
ما قلناه فيما سبق يساعدنا على إعطاء وجه لهؤلاء الفقراء: هم جموع الجليل البائسة والمشهورة بجهلها. إعتبروها أنها تنجسّ إسرائيل، فرذلوها من شعب الله الحقيقي. ولكن يسوع تجرّأ فقال: إن هؤلاء الفقراء يمتلكون الملكوت. ولنسمع هنا كلمات التطويبات المذهلة: "طوبى لكم ايها المساكين، لأن لكم ملكوت الله! طِوبى لكم أيهّا الجياع الآن، لأنكم ستُشبعون. طوبى لكم ايها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون. طوبى لكم إذا ابغضكم الناس وطردوكم وعيرّوكم" (لو 6: 20- 22).
تتعارض هذه التطويبات في انجيل لوقا مع تويّلات (الويل لكم) تعني الاغنياء والمتخمين والضاحكين وأصحاب "السمعة الحسنة" (لو 6: 24- 26). كما نجد تطويبات في مت 3:5- 11. أعاد متى تفسير الفقر فنقلنا الى فضيلة الفقر والتجرّد من أجل الملكوت، وذلك من أجل فائدة جماعية.
ما زالت هذه الكلمات تحتفظ اليوم بقوّتها وقدرتها على تحويل المجتمع. غير أن يسوع لا يبقى على مستوى الأقوال. فإذ أراد أن يبين أن ملكوت الله يُعطى للمساكين ميّز فئتين من الناس: المرضى والمرذولين. فتحدّث هنا عن المرضى بشكل عام ونعود في فصل لاحق إلى المرذولين بجميع فئاتهم.
كان الطب شبه معدوم في القرن الأول المسيحي، والأمراض مجهولة. وحين نقرأ الأناجيل نكتشف فئتين من المرضى: أصعاب العلّة والذين يسكنهم الشيطان. نجد في الفئة الأولى: العميان، العرج، المقعدين، الصم... كلهم اصيبوا بعلة (أو مرض) تمنعهم من العمل. فزيد على هذه الفئات البرص بمرضهم الذي يطردهم من الجماعة.
والفئة الثانية تتكوّن من المرضى العقليين: داء الصرع، الجنون... تُنسب حالتهم إلى قوة شريرة هي الشيطان. هذه الفئة هي غامضة، وبها يرتبط كل مرض يجهله الناس. فيقول النص مثلاً عن أصمّ- أخرس: إن فيه روحاً أخرس وأصمّ (مر 9: 25). وعن المرأة المنحنية: "أقام فيها روح شّرير" (لو 13: 10- 15). مثل هذا التشخيص يجعلنا نبتسم بعد أن وصل الطب إلى ما وصل. ولكنه يعكس خوفاً من المرض فينسب الناس المرض إلى روح شرير، ويجعلون العليل في حالة بائسة مستمرة (مثل النازفة، لو 43:8 ي). غير أن هذا لا ينفي عمل الشيطان في بعض الحالات، ولكن يبقى التمييز فيها دقيقاً.
على كل حال، يبقى نداء يسوع حاضراً في كل الأذهان: ما جئت من أجل الأصحّاء، بل من أجل المرضى. سينقل يسوع هذا الكلام الى المستوي الروحي فيتحدّث عن الأبرار والخطأة. ولكن المعنى المادي يبقى حاضراً. يشفي يسوع المريض فيعيد إليه كرامته، يعيده إلى المجتمع على مثال ما فعل مع لجيون. كان ذلك الرجل من سكّان القبور، فلما جاء الناس ليروا ما حدث، وجدوه "جالساً، لابساً، سليم العقل". بل صار رسول يسوع المسيح ينادي "بما عمل يسوع له " (مر 5: 1- 20).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM