الفصل الثاني: العالم اليهودي

الفصل الثاني
العالم اليهودي

يشكل العالم اليهودي وسط الإمبراطورية الرومانية عالماً له خاصيته. غير أنه يختلف كثيراً حسب المناطق والأوضاع. فكيف نفهم هذه الخصائص وهذا التوسّع داخل العالم الشرقي والغربي على السواء؟

1- وحدة واختلاف
قُسم العالم اليهودي في القرن الأول قسمين: هناك اليهود الذين يقيمون في فلسطين، واليهود الذين يسكنون مناطق وثنية (يسمّون: الشتات). وهذه الهجرة التي تعود إلى زمن بعيد قد قويت في بداية المسيحية: فالحروب الأهلية والفقر والضرائب، كل هذا دفع اليهود إلى التشتّت في بلدان يسمّونها بلاد منفاهم.
يبدو أن اليهود كانوا حوالي أربعة ملايين، فشكّلوا سبعة بالمئة من سكان الامبراطورية. عاش ثلاثة أرباعهم خارج فلسطين وذلك جيلاً بعد جيل منذ القرن الثامن ق. م. أقام هؤلاء اليهود خصوصاً في المدن الكبرى، مثل الاسكندرية، رومة، انطاكية، طرسوس، أفسس... كما أقاموا في بابلونية وهي تقابل اليوم بلاد العراق وبعضاً من ايران. مثل هذا التشتّت الكبير والطويل، خلق عادات وكوّن عقليات نُجمل ميزاتها فيما يلي.
منذ ثورة المكابيين، حاول سكان فلسطين أن يعيشوا في "دولة يهوديّة"، وعملوا جهدهم لكي يحموها من الهجمات الخارجية. ولمّا احتلّ الرومان فلسطين، إشتعلت الروح الوطنية وخلقت حركات وثورات شعبيّة، سنتحدّث عنها فيما بعد.
واندمج يهود الشتات في الامبراطورية، وسعوا للحصول على مواطنية مدينتهم والمواطنية الرومانية لما فيها من امتيازات. لا ننسى مثلاً أن بولس كان مواطناً رومانياً وباسم هذه المواطنية سيرفع دعواه إلى قيصر.
كانت لغة اليهود في فلسطين وبابلونية الأرامية، أما يهود المدن الهلنستية والمتحضرة بالحضارة اليونانية التي حملها الاسكندر، فكانت لغتهم اليونانية. تلك كانت لغة بولس وابلّوس، ولغة فيلون المفكر اليهودي الاسكندراني.
كان يهود فلسطين بمعظمهم من الفلاحين، وعاشوا حالة وضيعة. أما يهود الشتات، وإن لم يكونوا جميعهم أغنياء، إلا أنهم كلهم ينعمون بتفوّق ابن المدينة على ابن الريف.
ويرى المؤرخون أن أوساط فلسطين الارستوقراطية قد تحضّرت بالحضارة الهلينية. والاختلاف بين منطقة ومنطقة أبرز الفرق بين أغنياء وفقراء.
وبمختصر الكلام، تضمّن هذا العالم اليهودي أناساً مختلفين: هم لا يحاربون من أجل الحقوق عينها. لا يتكلّمون اللغة الواحدة. ويعيشون في ظروف اجتماعيّة ودينيّة مختلفة.
ومع ذلك، فهم يقرّون بأنهم شعب واحد، ويفتخرون بأن يكونوا يهوداً. قال بولس في فل 3: 5: "أنا الذي اختتن في اليوم الثامن، والذي هو من آل إسرائيل، من سبط بنيامين، الذي هو عبراني ابن عبراني ومن جهة الناموس فريسي ". منذ المنفى (587 ق. م.) حافظ اليهود على عادات تميّزهم عن الوثنيين كالختان وحفظ السبت. وساند المجمع (أو الكنيس، موضع الصلاة) هذا المجهود. فهو بناء ومؤسسة يجمع اليهود في كل موضع تشتتوا فيه. إنه مكان الصلاة يوم السبت، وهو مدرسة في أيام الاسبوع، وفيه تُعقد المحكمة اذا لزم الأمر. ونجح يهود الشتات بأن يجعلوا الرومان يقرّون بخصائصهم. فمنحهم يوليوس قيصر ثم اغوسطس امتيازات تتيح لهم بأن يعيشوا حسب شريعتهم، وبأن يدفعوا الجزية للهيكل. تماسك داخلي واعتراف خارجي، هذا ما أتاح لليهود في الشتات أن يحافظوا على هويتهم.
نشير هنا إلى أن الشعب اليهودي لا يعود إلى أصل واحد. فعلى مرّ العصور، إنضمت إليه قبائل عاشت في فلسطين أو في جوارها. وفي القرن الأول ق. م.، ارتدّ عدد من الوثنيّين إلى الديانة اليهودية وأخذوا بكل فرائضها، بما فيها الختان. فسمّوا "المرتدّين " واعتبروا يهوداً. وتعاطف آخرون مع إيمان شعب إسرائيل، فلم يقبلوا بالختان، فسمّوا "المتّقين " و"خائفي الله " (أع 10: 2. كذا كان كورنيليوس؛ 16: 14: ليدية). لم يُعتبر المتقون من اليهود، بل من الوثنيين. لهذا، خاصم مسيحيو اورشليم بطرس لأنه أكل مع كورنيليوس الذي لم يزل في عرفهم وثنياً لا يهودياً (أع 11: 2).
وتأتي وحدة الشعب اليهودي أولا من الموضع المركزي الذي تحتلّه في حياتهم الشريعة والانبياء (هذه المجموعة ستسمّى "بيبليا" عند يهود الشتات). إعتقد اليهود أن الله يتكلّم بواسطة هذه الكتب، فاجتمعوا كل سبت في المجمع ليقرأوها ويفسّروها. وهذه الممارسة ستساعد على تنظيم الجماعات اليهودية بعد دمار هيكل أورشليم سنة 70 ق. م. صار المجمع موضع لقاء ومشاركة. وكانت أسفار الشريعة والانبياء وسائر الكتب مكتبة تجمّعت في القرن الأول المسيحي في لائحة هي اللائحة القانونية أو الأسفار القانونية.

2- قراءات مختلفة، بل متعارضة
إختلف اليهود في القرن الأول المسيحي، فاختلفت قراءاتهم للتوراة: هم من الشتات أو من فلسطين، هم فقراء أو أغنياء، هم من هذا الميل الديني أو السياسي أو من ذاك. ويختلف الواحد عن الآخر بإحساسه، بطريقة فهمه، بالمنفعة التي يبحث عنها. وهذا ما أعطانا فيضاً من الكتب المتنوّعة لم يبقَ لنا إلا قسم منها.
وتعطينا مكتبة قمران التي اكتشفت في برية يهوذا فكرة عن هذه المكتبة. كان "الاسيانيون" (وهم جماعة قمران) يهوداً خاصموا رؤساء الكهنة فانعزلوا في البرية مئة سنة قبل المسيح، وأسّسوا شيعة زالت مع دمار أورشليم (70 ب. م.) وأخفوا، خلال هذه الأحداث الدراماتيكية، أثمن مخطوطاتهم التي اكتشفت بالصدفة سنة 1947. نجد فيها أسفار التوراة، التفاسير، المدائح والمزامير، الرؤى، قواعد الجماعة.
دُوِّنت التوراة في العبرية. ولكن لم يعد يفهمها اليهود الذين يتكلّمون اليونانية أو الآرامية. وكانت ترجمة فرضت نفسها في شعائر العبادة وفي المجمع. هي السبعينية، وهي ترجمة يونانية تمّت في القرن الثالث ق. م. في مدينة الاسكندرية، وهو الترجوم الذي هو ترجمة آرامية. هاتان الترجمتان ليستا حرفيتين. بل هما تفكران النص العبري ليصبح مفهوماً في لغة وحضارة مختلفة. هاتان الترجمتان تؤوّلان النص وتشرحانه وتخلقان نصاً جديداً.
يعتبر اليهود أن في شريعة موسى جواباً على كل شيء. والحال أن المجتمع يتطوّر، فلا تعود الشريعة تتجاوب والأوضاع الجديدة. إذن، لا بدّ من سدّ هذا الفراغ. فتخصص يهود في هذه الدراسة وسمّوا الكتبة (جمع كاتب) أو السفرة (جمع سافر، من سفر الكتاب أي كتبه). تنظّموا في مدارس متعارضة، وبحثوا عن تفاصيل عديدة قد لا تكون مهمة، فقدموا أدباً بدأ شفهياً ثم دُوّن خطياً هو: المشناة. إنها إنضمامة مجموعات تُذكر فيها الحالات الجديدة والاجوبة الممكنة والمتضاربة.
وسبّبت خصائص العالم اليهودي في الشتات احتقاراً وارتياباً من قبل الوثنيين. وإذ أراد اليهود أن يدافعوا عن أنفسهم، دوّنوا كتباً يقنعون بها الآخرين بقيمة الشرائع التي تميّزهم. إستعادوا مقولات معاصريهم ووضعوا فيها توراتهم. وهكذا صار موسى أعظم الفلاسفة، كما يقول سفر المكابيين الرابع (كتاب منحول). وقدّمت الشريعة اليهودية على أنها حكمة تليق باليونانيين. وتجرّأ بعضهم فقدّم كاهنة وثنية هي السيبيلة، فأعلنت أقوالاً ملهمة تعظِّم الشريعة اليهودية (أقوال سيبيلة). وقام بعمل الدفاع هذا رجل ترك لنا اسمه هو: فلافيوس يوسيفوس. بعد أن شارك في الثورة اليهودية (66-70) أراد أن يعيد اعتبار شعبه في عين الرومان، فكتب تاريخاً هو "الحرب اليهودية". إستعمل نبوءات قديمة ففصل اليهود الصريحين عن الثوَّار الذين يستحقُّون عقاباً من رومة. وإذ أراد أن يعرّف العالم بشعبه، دوّن كتاباً آخر استعاد فيه التاريخ الذي تتضمّنه التوراة وسمّاه: القديميات اليهودية.
دلَّ هذا الأدب على أن بعض الأوساط اليهودية الهلينية (مطبوعة بالحضارة اليونانية) قد ترجمت إيمانها في فكر يوناني. وسيجد هذا المجهود ذروته في أبحاث فيلون الاسكندراني. عاصر القديس بولس، وكان يهودياً حقيقياً، فشرع يفسّر التوراة منطلقاً من الفسلفة الافلاطونية ومن الرواقية. أخذ بعين الاعتبار النظرة اليهودية التي تقول: إن الله يعمل في التاريخ. وأدخل هذه النظرة في نهج فكري يعتبر أن لا إحساس للألوهة، أن الإله لا يتّصل بهذه الأرض. وتوصّل إلى هذا القول معلناً أن الله يعمل بصورة غير مباشرة في العالم؛ يعمل بكلمته، يعمل بروحه. فكان كلامُه صدىً للنظريات الفلسفية اليونانية. وحوّل في هذا العالم العقلي تفاصيل الأخبار البيبلية إلى تعاليم روحيّة كفيلة بأن توجّه حياة الحكماء (أليغوريا، مجاز). نحسّ بعض المرّات أن هذا المجهود مصطنع. ولكنه يشدّد على ضرورة تأوين التوراة، وإعادة كتابتها في حضارة أخرى.
ودفع الوضع السياسي المؤمنين إلى صياغة أدب آخر هو الأدب الجلياني أو الرؤيوي. إحتفظت لنا البيبليا بسفرين شاهدين عن هذا الأدب: سفر دانيال، رؤيا القديس يوحنا. عندما نذكر كلمة رؤيا نتخيّل رؤى غريبة ومخيفة. لا شكّ في أن هذا الأدب يضع أمامنا وحوشاً وكائنات رهيبة، فيصوّرها مستلهماً اساطير تعود إلى العالم الوثني (مثلاً، بلاد فارس). لجأت كتب الرؤى إلى هذه الصور لتفسّر مواعيد تضمّنتها التوراة وكذّبها التاريخ. فالله وعد شعبه بأن يكون أميناً لعهده معه. والحال، إن اليهود المقيمين في فلسطين يعرفون الاضطهاد والاحتقار والتسلّط من قبل الغرباء... فما الذي بقي من هذه المواعيد؟
لهذا تكوّن أدب خاص ليفسّر سرّ هذا التاريخ. فتوزعّ بين تفسير للشر المنتشر في العالم (كتاب أخنوخ، عزرا الرابع) وبين تصوير يوم الرب الذي فيه يتمجّد إسرائيل (سفر باروك الثاني، قاعدة الحرب في قمران). إنطبع الانتقال إلى هذا العالم الجديد، الذي حاول الكتاب أن يحسبوا ساعة مجيئه بتنظيم روزنامات، إنطبع بعلامات غريبة، بحروب ضد روح الشر (الشيطان) المتجسّد في الممالك المعادية. وظهر شخص بأوجهه المتعدّدة ليفرض ملكوت الله على العالم: إنه المسيح (إختاره الله ومسحه بالزيت المقدس وأرسله) أو داود الجديد كما تقول مزامير سليمان. إنه كاهن بحسب وثيقة دمشق التي اكتُشفت في قمران. إنه ابن الإنسان كما يقول سفر عزرا الرابع. نحن هنا أمام أدب متعدّد ومتضارب، وهو يرتبط بتيارات متنوّعة، بل متناقضة.

خاتمة
هذه الكتب تجعلنا أمام مجموعة من القراءات الممكنة للتوراة. ومع أنها متضاربة فقد أخذ بها العالم اليهودي، وهو العائش في أوضاع مختلفة. ووُلدت المسيحية في هذا العالم. إنطلقت من فلسطين وانتشرت مستعملة المجامع تعلّم فيها. وفسّرت هي أيضاً الكتاب المقدس مستفيدة من بعض القراءات اليهودية، المعروفة في العالم الجلياني أو عند الرابانيين (أو: المعلّمين). وإذ فعلت هذا، أخذت بالممارسة المعروفة في أيّامها.
ولكن ما عتمّت المسيحية أن صارت موضوع شك وارتياب. فاضطُهدت، وفي النهاية رُذلت. وكان هذا الرذل نتيجة عنصر جديد دخل في تفسير الكتاب المقدّس، وهذا العنصر الجديد يعطي الاسفار المقدسة معناها الحقيقي والأخير. هذا العنصر هو إنسان اسمه يسوع. في هذه النظرة، فقدت شريعة موسى سلطتها السامية، وحلّ محلّها الايمان بيسوع المسيح. وهذا التبديل سيقود بعض الرسل إلى الحدث. آمنوا بهذا الرجل الذي اسمه يسوع، فتجرّأوا أن يحيوا هذه الحياة الجديدة، أن يسيروا في هذا الطريق أو النهج الذي حملوه إلى أقاصي الأرض.
وهكذا بعد أن تعرّفنا إلى المحيط الذي وُلدت فيه اسفار العهد الجديد، نودّ أن نتعرّف إلى ملهم هذه الأسفار، إلى يسوع المسيح.
ليست هو بخيال لا جذور له. إنه إنسان من عصره. وهذا يعني بالنسبة إلينا أن موقعه محدّد في جماعة خاصة وفي شعب معروف. وقد قبل يسوع بوضعه، فقام بأعمال دلّت على خياراته ويقيناته. وهكذا حدّد موقفه بالنسبة إلى مواقف أخرى، وأظهر طريقة تتعارض وطرائق أخرى.
وهكذا سنتعرّف إلى يسوع الذي هو إنسان من عصره، في ثلاثة فصول: يسوع رجل عاش في فلسطين، يسوع في محيطه الحياتي، موقف يسوع قاده إلى الموت.
لن نروي سيرة يسوع، بل نحدّد موقعها في عالمه، ونشير إلى بعض الأحداث التي لها معناها في حياته. ونفسّر هذه الأحداث فنتجاوز محاولة بناء تاريخ قد مضى. ونحاول أن لا نخون المراجع التي تساعدنا على اكتشاف يسوع الذي هو إنسان مثلنا، نحاول أن لا نخون الأناجيل. سوف نعود إلى الأناجيل وسنعرف أنها ليست ريبورتاجاً ولا تاريخاً. دُوّنت بعد الأحداث، فتوجّهت إلى الجماعات المسيحية في القسم الثاني من القرن الأول. لم يحتفظ كتّابها إلاّ ببعض أحداث حياة يسوع، تلك التي بدت لهم مهمّة لتجاوب على تساؤلات كنائسهم.
فعبر هذه المراجع "الناقصة" (أي لا تحتوي كل ما قاله يسوع وعمله) التي دوّنت بعد الأحداث بيد كتّاب محدّدين في الزمان والمكان، نكتشف يسوع. نحن لا نروي كل خبر يسوع، فهذا مستحيل. ولكننا نتعرف إلى يسوع كإنسان من عصره، كإنسان من لحم ودم عاش في فلسطين ومات من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM