الفصل السادس: عمل المرسلين في تسالونيكي

الفصل السادس
عمل المرسلين في تسالونيكي
2: 1- 12

لم يكن من السهل أن يعيد بولس الكرّة ويعلن الإنجيل في تسالونيكي بعد الذي حصل له في فيلبّي. تلك هي الخبرة التي يقدّمها الآن في هذا المقطع من 1 تس: كيف وصل المرسلون إلى تسالونيكي. وكيف وُلدت الكنيسة.
ترتبط هذه القطعة (2: 1- 12) بما يسبق بواسطة كلمات شابكة: "دخولنا"، "عندكم". وقد بني كل هذا حسب الرَّسمة أب/ ب ب أأ. أ: آ 1- 2: أيها الاحوة، دخولنا إليكم... ب: آ 3- 4: الانجيل الذي سلّم إلينا. ب ب: آ 5- 8: إنجيل الله. أأ: آ 9- 12: تذكّروا أيها الاخوة. هذا يعني أننا نستطيع أن نجد تقابلاً بين آ 1- 2 من جهة وآ 9 من جهة ثانية. من جهة أيها الاخوة تعرفون. ومن جهة ثانية: تذكّروا. من جهة، الآلام والاهانات، ومن جهة ثانية، التعب والكدّ. إنجيل الله في آ 2 والتبشير بإنجيل الله في آ 9.
ثم إن القسم المركزيّ (آ 3- 8) ينقسم إلى جزئين متشابهين. من جهة آ 3- 4. ومن جهة ثانية آ 5- 8. هناك مثلّث سلبيّ مع: لا... لا... لا. ثم عبارة إيجابيّة بشكل مقابلة (كما... هكذا). ونجد في آ 10- 12 شميلة عن مجمل المقطع.
بعد هذا نتوقّف عند التفاصيل.

1- رضى الله (2: 1- 4)
أ- أنتم تعلمون (آ 1- 2)
تعلن آ 1 الموضوع الجديد: كانت نهاية ف 1 قد أشارت إلى الاستقبال الذي لقيه المرسلون في تسالونيكي. والآن، يتواصل الحديث عن إقامة المرسلين في هذه المدينة، لكي يذكّرنا بنواياهم وتصرّفاتهم.
وفي آ 2: لم تبدأ الصعوبات بالنسبة إلى الرسل في تسالونيكي: فمنذ تأسيس الجماعة المسيحيّة في مكدونية، في جماعة فيلبيّ، تألم بولس ورفيقاه وأهينوا (أع 17: 16- 40). يبدو بولس خفراً بينما يتحدّث لوقا في أع عن سجن بولس وسلوانس. ولكن ذلك لم يمنع المرسلين من متابعة عملهم. غير أنهم لم يجدوا في نفوسهم الجرأة والهدوء والثقة من أجل متابعة العمل، بل في الله نفسه لأنه هو الذي أرسلهم.
فمن كانت له مثل هذه الثقة لكي يبشّر بالانجيل "في جهاد عظيم"، قد يكون وعى حقاً أنه قد أرسل، وآمن بالمهمّة التي أوكل بها. فأصحاب الدعايات الذين تدفع لهم أجرتهم ليسوا مستعدين لهذا العمل ولا قِبَل لهم به. مثل هذه الرسالة تحتاج إلى "مجانين"، إلى أشخاص مغرمين بالمسيح.
ب- ليس وعظنا عن ضلال (آ 3- 4)
يستطيع بولس الآن أن يحدّد مجمل المهمة الرسوليّة مع لفظة "باراكليسيس" (تحريضه، وعظ) التي ستفسّر بشكل أدقّ في القسم الثاني من الرسالة (4: 1). نحن مع هذه اللفظة أمام إعلان الإنجيل والمتطلّبات الخلقيّة التي تتبع هذا الاعلان. ويصف النصّ هذا التحريض الرسولي في ثلاث لاءات: لا عن ضلال، لا عن نجاسة، لا عن مكر. أجل، ليست نجاسة ولا ضلالاً ولا مكراً. هذه الثلاثة لم تلهم وعظنا.
أولاً: آ 3: ضلال، نجاسة، مكر
* الضلال أو السحر. نسحر الناس بالكلام المنمّق وهكذا لا يرى الناس الخطأ الذي يقعون فيه. فالمرسلون لم يُبرزوا منافع تعليم جديد لم يؤمنوا هم به بكل كيانهم.
* النجاسة (اكاترسيا) قد تكون طقسيّة كما في التوراة (غياب الشروط اللازمة للاقتراب من الإله وإتمام شعائر العبادة). نحن لا نرى كيف نكون هنا أمام نجاسة طقسيّة. أما في 4: 7 ي فنحن بلا شكّ أمام نشاط جنسيّ لا مشروع ولا يتوافق مع الانجيل. إستعمال هذه اللفظة على هذا الشكل في ف 4 يمنعنا من الحديث فقط عن نجاسة روحيّة أي عن نوايا غير مستقيمة وغير شفّافة. لهذا تبقى إمكانيتان.
الأولى: لم يأتِ الرسل ليحثّوا التسالونيكيين على مواصلة ممارساتهم النجسة (الأصنام). فإن فعلوا ذلك، لم يكونوا في وضع يوافق استقبال تعليمهم (لكان ذلك أضر بتعليمهم). يعني أن يقولوا لهم ممالقة: لا حاجة في أن تبدّلوا ممارساتكم السابقة (رج 1: 9 والرجوع عن الأوثان).
الثانية: لم يأتِ الرسل مع أمل خفيّ بأن يجدوا مغامرات سهلة على مثال الواعظين المتجوّلين في العالم اليونانيّ. لقد سبق لهم واختبروا ما حدث لهم في فيلبي.
أو، أو. ماذا نختار بين هاتين الامكانيتين؟ إن تحريضات ف 4 توجّهنا بالأحرى إلى الامكانيّة الأولى. ولكن عناصر هذا المثلّث (لا، لا، لا) وعناصر آ 6- 7 المرتبطة بالمواقف الرسوليّة، تجعلنا نميل إلى الامكانيّة الثانية.
* المكر أو الخداع (دولوس). المعنى الأولى هو "الفخ". وهكذا نكون قريبين من "السحر". يستعمل الصيّاد الفخّ، يدلّ على الحذق ليمسك طريدته. أما إعلان الإنجيل فترك الناس أحراراً بأن يرتبطوا به أو بأن لا يرتبطوا.
ثانياً: آ 4: بل نتكلّم
تبدأ الجملة في آ 4 مع "بل" (ألا)، فتفسّر بشكل إيجابيّ ما هي دوافع العمل الرسوليّ قبل كل شيء. الدافع هو الوعي بأن الله اختارهم وأرسلهم.
تبدو هذه الجملة بشكل مقابلة مع عنصرين: كما... هكذا... ولكن هذه المقابلة تبدو صعبة. لأن بولس اندفع بغنى موضوعه، فما اكتفى بالمقابلة بين واقعين متشابهين، بل حمّل عبارته حملاً آخر وأدخل في الواقع مقابلات أخرى.
"كما أننا اصطفينا بيد الله
لكي يسلّم إلينا الانجيل
هكذا نتكلّم:
لا كمن يرضي الناس
بل الله الذي يختبر قلوبنا".
نقابل هنا بين أمور كثيرة.
* الأفعال في الشقّ الأول (مع كما)، هي في الماضي. وفي الشق الثاني (هكذا) هي في الحاضر. إذن، نحن أمام مقابلة بين الماضي والحاضر، وتأكيد على موافقة هذا الحاضر مع حدث من الماضي.
* نجد فكرة "الانجيل" في الشقين. في الأول: "سلّم إلينا الإنجيل". في الشق الثاني وكما في آ 2: "نتكلّم" أي نعلن الانجيل. ما نقوله ونعلنه يتوافق مع ما اؤتمنا عليه.
* نجد فعل "اختبر، ميّز" في الشقّ الأول وفي الشقّ الثاني (دوكيمازو). في الأول هو في صيغة الماضي، في الثاني هو في صيغة الحاضر. لقد اختبر الله الرسل في الماضي وما زال يختبرهم الآن.
ثالثاً: رسل اختبرهم الله
هنا نفسّر لفظة "دوكيمازو": ميّز، اختبر. في اللغة اليونانيّة، تدلّ الصفة على نقود تقابل المعيار الحقيقيّ. لا غشّ فيها ولا خلط. وتطبّقت اللفظة سريعاً على البشر الذين هم أهل للثقة لأنهم امتحنوا، اختبروا. لهذا عنى الفعل مراراً: أخضع لمحنة واختبار ليميّز بين ما هو صحيح وما ليس بصحيح. لهذا، كانت هناك معايير للحكم؟ وفي أثينة أخذ الفعل المعنى القانوني فدلّ على التدقيق في مؤهّلات المتقدّمين للوظائف العامّة. من هنا: امتحن، فرض عليه امتحاناً. هذا في المعنى الدنيوي، فما يكون في المعنى الدينيّ؟
لا نجد اللفظة في النصوص اليونانيّة الدينيّة. ولكن مترجمي السبعينيّة قد تبنّوها ليترجموا: امتحن، اختبر، أخضع لامتحان. نتحقق من صحة النقود ونقاوة معدن ثمين. وفي المعنى الاستعاري: يعرف الله الأشخاص وهو الذي يختبر الكلى والقلوب، يختبر عواطف الانسان وفهمه وإرادته. ودلّ الفعل على وضع شيء في البوتقة والنار لكي نستخرج منه كل الأوساخ فيصبح نقياً.
وما هو جدير بالملاحظة هو أن عمل "الاختبار والتنقية" في يونانيّة العهد القديم، يُنسب إلى الله وحده. الله هو كالعامل في المعادن يجعلها في البوتقة وينقّيها في النار: فالانسان الذي يعامله الله بهذا الشكل يخرج في الوقت عينه نقيّاً ومقدّساً حين تصل المحنة إلى هدفها. وهذا الأمر هو مهتم، لأن المحنة حين تأتي من الله، لا تكتفي بإظهار قيمة (فضيلة، مزيّة) طبيعية أو مقتناة. بل هي تعمل شيئاً. هي تخلق هذه القيمة بالتنقية التي تجعل الانسان جديراً بمهمّة أو رسالة.
إذن، نخطىء حين نقول إن الله ميّز لدى الرسل صفات بشريّة، طبيعيّة، لا بدّ منها لإعلان الإنجيل. فبولس يقول فيما بعد إنه لا يجد في نفسه "كفاءة" ليكون خادم العهد الجديد (2 كور 3: 5 ي). فالله خلق فيه هذه الكفاءة. ونستطيع أن نقرأ أيضاً 1 كور 15: 8- 10، وغل 1: 1 ي (خبر دعوة بولس) وتلميحات أخرى حول ماضيه ورسالته: لا نجد حديثاً عن إقرار الله بصفات طبيعيّة لدى الرسول، أو بكفاءات وُلدت معه من أجل المهمّة الإنجيليّة.
فما الذي به قام عمل الله؟ إذا عدنا إلى خبر بولس هنا حول وصوله إلى تسالونيكي في مناخ من الاضطهادات، يكون الموضوع مشاركة الرسول في آلام يسوع، في حاشه. وسيعود بولس بشكل واضح إلى هذا الموضوع في رسائله اللاحقة. ولكننا نستطيع أن نرى هنا تلميحاً إلى المسيح في فعلي "تألّم وأهين" (آ 2) اللذين نجدهما أيضاً في أخبار حاش (آلام) المسيح وفي الانباءات بالآلام في الأناجيل الإزائية. وفي آ 9، سوف يتحدّث بولس عن "التعب والكدّ" عند الرسل. وفي 1: 6 و3: 7 يُذكر "الضيق"، وهو اللفظة المكرّسة التي تدل على وضع المسيحيّ المنتظر مجيء الربّ. وفي 2: 16 ذكر بولس الاضطهادات التي احتملها مع رفاقه في خطّ ما حصل ليسوع في حياته.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية إن موضوع الآلام النقيّة والتي هي ثمينة من أجل تثبيت الإيمان والرجاء، موضوع معروف في الفقاهة الرسوليّة القديمة. فالنصوص تشدّد عليه وهي موزّعة في يع 1: 2- 3؛ 1 بط 1: 6- 7؛ روم 5: 2- 4.
والظروف الصعبة للحياة الرسوليّة والآلام والاضطهادات، تدلّ على صدق الرسل على أنهم خدّام حقيقيّون للانجيل. وما زال الله يختبر رسله على هذا الشكل. بل هو لا زال يخلق فيهم هذه الكفاءة لإعلان المسيح المائت والقائم فيجعلهم شركاء في آلامه (حاشه) وقيامته.
لهذا، لا يمكن أن يكون همّ الرسل "أن يرضوا الناس"، أي أن تكون لهم شعبيّة مثل أناس يرغبون في أن يبنوا لهم اسماً. فما يهمّ بولس هو نظر الله فقط. نرضي الله الذي يختبر وينقّي قلوبنا. إن فكرة رضى الله معروفة في العالم اليهوديّ كما في العالم الوثنيّ: فهي تتضمّن أن نقدّم بعض الخدم الصالحة والصادقة، فلا نكتفي فقط بأن نتمّ بدقة المهام الموكلة إلينا، بل نتوافق مع نوايا ذاك الذي يطلبها منا. وهكذا نستطيع أن نرضي الوطن، الشعب، المدينة. وفي هذا السياق من الخدمة الرسوليّة، لم نعد فقط كما في تحريض 4: 1 ي، أمام حياة مسيحيّة موافقة للإنجيل، بل أن يطابق تصرّفنا تصرّف الله نفسه تجاه هؤلاء الناس الذين يطلبونه وينتظرون كلمته. هذا ما يتوسّع فيه بولس في الآيات التالية. فعبارة "رضى الله" تربط بين المثلث "لا ضلال، لا نجاسة، لا مكر" وآ 5- 8.

2- تجرّد المرسلين (2: 5- 8)
أ- لم نعتمد كلام تملّق (آ 5- 6)
ونصل إلى مثلّث جديد مثلّث سلبيّ: لا كلام تملّق. لا طمع. لا طلب مجد بشريّ.
* لا تملّق. فالتملّق تلهمه المصلحة. والمتملّق يلجأ إلى أساليب تمتّ مراراً إلى الكذب ليؤثّر الانسان على شخص أو ينال منه منافع. وأهل تسالونيكي يعرفون عن خبرة أن الرسل لم يجاملوا، لم يتملّقوا: بل ندّدوا بضعفهم وما فيهم من رذائل.
* لا طمع. لا رغبة في أن يكون لنا أكثر. لا البحث عن الربح. والسبب الذي دفع المرسلين إلى هذا الموقف ليس همّ الغنى. سيعود بولس إلى هذه النقطة في آ 9 وسيكون واضحاً (كنا نعمل ليلاً ونهاراً لئلاّ نثقّل على أحد). وسيكون عنيفاً جداً في 1 كور 9: 13- 18 (خير لي أن أموت... من أن يعطّل أحد فخرج... أنا أبشّر بالانجيل مجّاناً): هو يفتخر لأنه بشّر بالانجيل مجاناً. والمسألة في نظره ليست مسألة بسيطة لا تستحقّ الذكر، بل هي مهمّة. ولهذا يقول: "يشهد الله". ولكنه قبلَ مساعدةً مادية فقط من الفيلبيّين وقبلها بشروط.
* لا التماس مجد. هو لا يطلب نجاحاً شخصياً يجتذب إليه اعتبار البشر وإعجابهم، مهما كان هؤلاء البشر. هكذا كان في خطّ لو 6: 26: "ويل لكم إذا الناس جميعاً قالوا فيكم حسناً. إذ هكذا كان الناس يفعلون بالأنبياء الكذبة".
ب- كان بوسعنا أن نثقّل عليكم (آ 7 أ)
قال بولس: "كان بوسعنا أن نثقّل عليكم بوصفنا رسل المسيح". وإذ تصرّف المرسلون على هذا الشكل، تخلّوا عن حقوقهم. هذا هو الموضوع الرئيسيّ في 1 كور 9. فالمرسل هو ممثّل فوّضه المسيح الرب، هو سفير (1 كور 5: 20). من هذا القبيل له حقوق (كان بوسعنا) يستطيع أن يجعل الناس يشعرون بثقلها.
نلاحظ هنا أن بولس ينسب لقب "رسول" إلى نفسه، إلى سلوانس، إلى تيموتاوس. نحن هنا أمام شهادة توافق المعنى الذي أعطي لهذه اللفظة (رسول) في سنة 50 وما بعد: لم تُحفظ بعد للاثني عشر الذين رافقوا يسوع من الجليل إلى أورشليم. فـ "الاثنا عشر" و"الرسل" ليسا بعد تسميتين تدلاّن على ذات المجموعة (رج اللائحة القديمة للذين نعموا بظهورات المخلّص القائم من الموت، 1 كور 15: 4- 7: كيفا، الاثنا عسر، يعقوب، الرسل). فاسم "رسول" يعطى لغير الاثني عشر: لبولس الذي يطالب به لنفسه مع أنه لم يكن يوماً من مصاف الاثني عشر. ويطالب به لجميع الذين أرسلوا لكي يعلنوا الانجيل.
ج- كنا مترفّقين (آ 7 ب)
تجاه ثقل السلطة الرسوليّة التي يمكن أن تُمارس على أساس حقوق الرسول، جعل بولس الرفق والوداعة. "جعلنا نفوسنا ودعاء في ما بينكم".
في هذا الموضع لا تتّفق مخطوطات 1 تس. قال البعض: "جعلنا نفوسنا صغاراً: (نيبيوي). وآخرون: "كنا مترفّقين". وظنّ النقّاد أن النسّاخ لم يحتفظوا بالصفة "وديع" (لطيف) (ايبيوس)، وهي نادرة في الكتاب المقدّس، ففضّلوا لفظة "نابيوي" (نزيد فقط النون). ولكن يصعب علينا أن نتخيّل بولس يصف الرسل ويصف نفسه بأنهم "أطفال". فهو سيوبّخ مسيحيّي كورنتوس لأنهم لم يزالوا صغاراً، لأنهم لا يستطيعون بعد أن يغتذوا بطعام التعليم الرسولي (1 كور 3: 1- 2).
إن لفظة "ايبيوس" غير موجودة في العهد القديم، ولكنها تتواتر في الأدب اليونانيّ. أما في العهد الجديد فهي ترد في 2 تم 2: 24 في توصية بولس لتيموتاوس، لإنسان يمارس مسؤوليّة في الكنيسة (يكون ذا رفق نحو الجميع، قادراً على التعليم).
وفي النصوص اليونانية، تشير هذه الصفة إلى أناس يتحمّلون مسؤولية، أو مسلّطين (ملك، حاكم، إله). إذن، لسنا أمام أي نوع من الوداعة، كتلك التي يُلهمها الحنان أو الضعف. في نسخة من نسخات سفر أستير، يعارض هذا النمط من الرفق كبرياء السلطة (في فم ارتحششتا). وعند فلافيوس يوسيفوس، المؤرّخ اليهوديّ، يربط الملك بطليموس هذه الصفة بمحبّة للبشر (فيلنتروبيا) كصفة إنسانيّة. في هذه القرائن، "الرفيق" هو من يمارس سلطته حاسباً حساب الخاضعين لها، دون أن يتسلّط عليهم ويضيّق عليهم، وهو متيقّن أن السلطة تفرض على من يمارسها واجبات كما تفرض له حقوقاً.
وقد يكون بعض أباء الكنيسة على حقّ حين قاربوا عبارة بولس (مترفّقاً في وسطكم) من عبارة يسوع (أنا في وسطكم كالذي يخدم، لو 22: 27) التي وقعت في سياق الحديث عن الطريقة التي بها يجعل الملوك والرؤساء سلطانهم ثقيلاً على الآخرين: بما أن يسوع هو "وديع ومتواضع القلب"، وأصغر الجميع وخادمهم، فالسلطة الرسوليّة لا يمكن أن تكون ثقلاً يسحق الآخرين. وهكذا يكون هذا الرفق فاعلاً في ممارسة السلطة. لهذا نقول: "كنا مترفقين" أو بدت سلطتنا في وسطكم ذات رفق.
د- كما تحتضن المرضع أولادها (آ 7 ج- 8)
كيف يصبح هذا الرفق في ممارسة السلطة الرسوليّة أمراً ملموساً؟ هنا عاد بولس إلى صورة المرضع التي تهتمّ بطفلها حتى تفطمه. في الواقع، يدلّ التشبيه على تلك التي "تدلّل" أطفالاً لأنها أيضاً أمّ. ولكن بولس لا يورد المفردة (أمّ)، لأنه لا يفكّر بتلك التي تلد، بل بتلك التي تطعم أطفالاً وتسهر عليهم إلى أن يصيروا قادرين بنفسهم على مواجهة صعوبات الحياة.
نحن نعلم أن اليونان (والتوراة أيضاً) قابلوا التعليم والتربية بطعام أو شراب. قيل: خبز الكلمة. ماء الحكمة وطعامها... وإن 1 كور 3: 2 قابلت بعض درجات التعليم البولسي بالطعام (ما يقابله هو الحليب أو اللبن). ولكن النصّ لا يشدّد هنا فقط على الطعام، بل على الحنان الذي به يُعطى هذا الطعام. ففي القسم الثاني من الجملة نجد ألفاظاً تدلّ على هذا المناخ: الحنين، أحبّاء، نفضّل (نرتضي)، نبذل أنفسنا.
هناك من اعتبر "نبذل أنفسنا" نسخة منقّحة عن كلام يسوع في الانجيل: وضع حياته، خسر حياته. إذن، نستطيع أن نفهم، على ضوء المقابلة مع المرضع، على أن الرسل أرادوا أن يعطوا قلبهم وحياتهم الداخليّة وكل ما ينعش رسالتهم، وهذا ما نقرأه في آ 11 ب (كنا كالأب لأولاده). هذا يعني أن الله "يدعوكم إلى ملكوته ومجده"، وهذا ما يفرض علينا تبدّلاً جذرياً في طريقة حياتنا (آ 11 أ). ولكن حين نعطي هذا، فهل نعطي أكثر من "إنجيل الله"؟ لهذا نستطيع أن نرى العلاقة عينها بين "الحياة" و"المحبّة" كما في فم يسوع: الحبّ الحقيقيّ يسير بنا حتى بذل الذات، حتى المخاطرة بالحياة. ومناخ الاضطهاد الذي فيه تتحرّك رسالة بولس تفرض علينا أن لا نستبعد وجه المحبّة: كان بالامكان أن يعرّض الرسل حياتهم للموت في تسالونيكي كما في فيلبي وبيرية. وكانوا مستعدّين للقبول بهذا الوضع، لأن موتهم سيكون الختم الذي يدلّ على صحة محبّتهم للجماعات المسيحيّة التي أسّسوها منذ زمن قليل.

3- اهتمام الرسول اهتمام أبويّ (2: 9- 12)
نجد هنا توسّعين. الأول: محبّة الرسل الملموسة للجماعة المسيحيّة (آ 9- 10). المقابلة مع الأب الذي يعظ ويشجّع (آ 11- 12).
أ- تذكرون تعبنا وكدّنا (آ 9- 10)
ترد الجملة مع "غار" (فإن) فتبدأ شرحاً لعبارة: "صرتم أحبّاء لنا. صرتم محبوبين منا". لقد لاحظنا في 1: 3 (تعب محبّتكم) أن المحبّة في العهد القديم هي حبّ يتجلّى في الواقع ولا يبقى على مستوى العواطف، ولا على القول والكلام. لقد دلّ الرسل على محبّتهم بأتعابهم وكدّهم، بقساوة الحياة التي عاشوها والجهود الذي قبلوا به خلال إقامتهم في تسالونيكي. وما يلفت النظر بشكل خاص هو أنهم عملوا بأيديهم، وهكذا لم يثقّلوا على أحد. لم يكتفوا بأن يعلنوا الانجيل، بل أعلنوه ولم يطلبوا شيئاً مقابل ذلك حتى طعامهم. هنا نتذكّر 2 تس 3: 8: "لم نأكل خبز أحد مجاناً، بل كنا نشتغل بتعب وكدّ، ليلاً ونهاراً، لكي لا نثقّل على أحد منكم، لا لأنه ليس لنا سلطان، بل لنجعل لكم من أنفسنا مثالاً تقتدون به" (رج 1 كور 9). وسيعود بولس إلى موضوع العمل في 1 تس 4: 9- 12 (تشتغلون بأيديكم).
وتوسّع آ 10- 12 النظرة فتصبح خاتمة واسعة لهذه المجموعة الأولى، 1: 1- 2: 12. لم يكتفِ الرسل بأن يعملوا: فتصرّفهم كله وافق كرازتهم. فهذا ما يشهد له الله. ويشهد له التسالونيكيون. كانت نظرة اليهود والوثنيين مختلفة إلى المرسلين، أما المؤمنون فهم يعرفون أن سلوك المرسلين كان كله "مقدّساً، عادلاً، بغير لوم". هذا المثلّث الجديد يقابل ما في آ 3 وآ 5- 6 وهو يتركّز على العدل والصحيح. والمقدّس هو ما جعله الآلهة والناس قاعدة في السلوك البشريّ. ويكون السلوك بلا عيب ولا لوم، يكون سلوك النقاء والشفافيّة. هذا ما سيطلبه بولس من الله في صلاتين من أجل التسالونيكيين: "ليثبّت هكذا قلوبكم بغير لوم في القداسة، لدى إلهنا وأبينا، عند مجيء ربنا يسوع مع جميع قدّيسيه" (3: 13). "ليقدّسكم إله السلام تقديساً كاملاً. وليحفظ... بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (5: 23).
ب- كنا لكل واحد كالأب (آ 11- 12)
يعرف أهل تسالونيكي بشكل خاص أن موقف الرسل تجاههم كان موقف الأب تجاه أولاده. لا يتوقّف النصّ عند الأب الذي ينجب (كما لم يتوقّف عند الأم التي تلد). بل عند الذي يربيّ. فالأب يستعمل بعض الوسائل لكي يصل بأولاده إلى الهدف الأخير ويكرّسوا له كل قواهم.
وهذه الوسائل التربويّة تشكّل المثلّث الأخير (دون أن تستنفد الموضوع):
* حرّض، وعظ، حضّ (باراكاليو). التحريض هو إحدى المهمّات الرئيسية لمؤسّسي الكنائس. وهي تتميّز عن وضع قواعد أخلاقيّة أو وصايا "مؤسّسة" على يسوع المسيح. حرّض يعني: أعاد القوى الفاترة. شجّع. وقد يقابل طلب فيعني: عزّى. فإذا عدنا إلى الأصل (باراكاليو) فهو يرتبط بفعل "دعا" (كاليو) ويعني: النداء الملحّ من أجل يقين يفرض نفسه على الذي يحرّض كما على الذي يسمع. التحريض عند بولس هو إعلان للإنجيل في وجهته الملموسة من نتائج عمليّة ومتطلّبات مرتبطة بالإيمان.
* شجّع، عزّى (باراميتيوماي). في 1 كور 14: 3 (بنيان، موعظة، تعزية). يتحدّث بولس عن التشجيع والتعزية مات أجل بنيان الجماعة. واستعمال هذه الأفعال يدلّ على أن مهمّة مؤسّسي الكنائس لا تنتهي حين يبدأ المسيحيون يجتمعون في الايمان والرجاء والمحبّة: فبعد أن وضعوا الأساس (1 كور 3: 210)، يجب عليهم أن يؤمّنوا متانة البناء وصلابته.
الفرق بسيط بين "حرّض" و"عزّى". ففي قلب الصعوبات التي تحدّثنا عنها، توخّت التعزية أن تحافظ على الرجاء والهدوء في الخوف والقلق.
* "ناشد" (مرتيروماي): نحن في خطّ التحريض بشكل احتفاليّ وملحّ: نجعل كل وزننا وشخصنا وسلطتنا لكي نقنع الآخر لكي يأخذ قراراً أو يحافظ عليه.
كانت هذه التربية الرسوليّة الأبويّة في خدمة المؤمنين لكي يتقوّوا في حياتهم الجديدة. وهي ستكون موضوع تحريضات ف 4- 5 التي أعلن عنها منذ الآن فعل "سلك" (باريباتاين) (رج 4: 1).
ولا يتبرّر هذا السلوك الجديد باعتبارات أخلاقيّة فلسفيّة، إنسانيّة، بيبليّة. بل بنداء الله. وهذا النداء (كلاسيس) يرتبط بالكنيسة (اكلاسيا). لهذا، سيكون التجمّع في الكنيسة تجاوباً مع نداء الله، محرّك الخلقيّة المسيحيّة: الدخول في عالم الإيمان والمحبّة والرجاء يفترض تحوّلاً عميقاً. وهذا النداء (في كنيسة. الله يستدعينا) لا يدرك هدفه الأخير مع تأسيس الكنيسة. بل حين تصبح الكنيسة ملكوت الله. وليس لهذا الملكوت عند بولس (كما في الأناجيل مراراً) بُعد حاضر مميّز: بل هو في نهاية نموّ الكنيسة وصيرورتها التاريخيّة (رج 1 كور 15: 22- 23، 50 حيث يأتي ملكوت الله بعد قيامة الموتى).
ليس مجدُ الله واقعاً مختلفاً عن ملكوته: سيكون ملكوت مجده، لأن فيه ينكشف بشكل شامل ونهائيّ حضورُ الله وما فيه من سعادة. يبقى على المؤمنين أن يسلكوا سلوكاً يليق بهذه الدعوة، "يسلكوا سلوكاً يليق بالله الذي يدعوهم إلى ملكوته ومجده".

خاتمة
فتح بولس قلبه لأهل تسالونيكي كما سيفعل مع أهل فيلبي. وتحدّث عن موقفين: الموقف الذي كان له حين اختبره الله قبل أن يسلّمه الانجيل. وموقفه الآن وهو مأخوذ بمهمّته الرسوليّة. هذان الموقفان متماثلان كل المماثلة. فبولس لم يتغير منذ البداية حتى الآن. هو لم يطلب يوماً رضى الناس، بل رضى الله. فقلب الرسول "معرّى" (بدون قناع) أمام الله الذي يفحص الكلى والقلوب. وها هو يستعدّ أن يعطي ذاته الآن كما فعل في الماضي، بل يعامل المؤمنين كالأم التي ترضع والأب الذي يربيّ. همُه أن يكون حاضراً بين المؤمنين يعظهم ويشجّعهم ويناشدهم ليسيروا سيرة جديرة بالله الذي دعاهم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM