الفصل الخامس: عمل الله في تسالونيكي

الفصل الخامس
عمل الله في تسالونيكي
ف 2

كيف بدت بشارة الانجيل في تسالونيكي؟ قد يكون بولس سمع بعض الانتقاد، وقد يكون بعض التسالونيكييّن "انزعجوا" ممّا كتب. لهذا ذكّرهم أنه هو ورفيقاه كانوا صادقين حين كرزوا في المدينة. ما طلبوا يوماً رضى البشر وموافقتهم، بل أن يخدموا الله الخدمة الصالحة. ويعود بولس فيذكّر بعلاقاته مع التسالونيكيين، بحنينه إليهم، وبافتخاره بهم في يوم ربّنا.
هنا نقدّم دراسة عن ف 2 كله من الناحية الأدبيّة والنصوصيّة، تاركين لفصلين لاحقين معالجة المقاطع الكتابية والتأمّل فيها. نتحدّث عن دوافع الرسول (2: 6)، حياة الرسول (آ 7- 9)، تصرّف الرسول (آ 10- 12)، تعليم الرسول (آ 13- 16). وننهي برغبة الرسول في أن يعود إلى تسالونيكي ليدلّ على افتخاره وفرحه بأهل تسالونيكي (2: 17- 20)

1- دوافع الرسول (2: 1- 6)
ذكّر بولس أهل تسالونيكي ما الذي دفعه مع رفيقيه إلى حمل الرسالة. المهمّ هو رضى الله. بعد أن أشار بشكل مقتضب إلى ما يُروى في اليونان وغيرها عن تبشير التسالونيكيين وتأسيس الكنيسة (1: 9- 10)، أوضح لاخوته في تسالونيكي أن دخول الانجيل إلى مدينتهم لم يكن باطلاً (حرفياً: فارغاً. لم يحمل ثمراً). قد يمكن أن يكون كذلك لو لم يؤمن التسالونيكيون بالمسيح. ولكنهم آمنوا. وهذا ما تسجّل في عمل الله الذي دفع المرسلين ليحملوا الانجيل إلى العالم. إن لفظة "إيسودوس" لا تعني فقط مجيء، وصول المرسلين، كما يصل أيُّ انسان ويدخل المدينة من بابها. بل دخول المرسلين إلى قلوب الناس الذين تقبّلوا البشارة.
وظهر طابع الرسالة بالظروف التي مورست فيها (آ 2). وصل بولس وسلوانس إلى تسالونيكي والجراح تدلّ على ما قاسياه في فيلبّي (أع 16: 22 ي). هذا ما نبّههما إلى الأخطار التي يتعرّضان لها في كرازة الانجيل. ومع ذلك، بدأ كل شيء سهلاً في تسالونيكي. هنا ترد كلمة "اغون" التي تدلّ على الصراع والقتال (في الحلبة)، الجهاد والتعب ولا سيّما على مستوى العمل الرسوليّ. ونجد فعل "باريسيازوماي"، تكلّم بجرأة، بالفم الملآن. ومع المصدر: تشجّع، تجرّأ: "تجرّأنا على أن نكلمكم".
والرجال الذين يستقون في الله الشجاعة لكي يعلنوا الانجيل يتميّزون في الحال عن وعّاظ متجوّلين، خطباء وفلاسفة، يجدون من يسمعهم في المدن الكبرى (آ 3). نقرأ هنا: انجيل الله (إونجليون تو تيو): الانجيل الذي صاحبه، كاتبه الله. الذي هو كلمة الله إلى البشر. رج روم 1: 1؛ 15: 16؛ 2 كور 11: 7. ويستعمل بولس هنا "باراكليسيس" التحريض، النداء. أي الانجيل الذي هو نداء إلى الإيمان، نداء لكي نتّخذ قراراً. نعود إلى فعل "باركاليو" نادى إليه، طلب مساعدة. ثم حرّض، عزّى. هذه الكرازة تميّزت عن وعّاظ يبحثون عن ربح في هذا العالم. لا ضلال: لا يضلّون انفسهم ولا يضلّون الآخرين. فينبوع كرازتهم هو الحقيقة الموحاة في يسوع المسيح. ولم يلهم هذه الكرازةَ بواعثُ نجسة أو منفعة خاصة أو شهوة نريد أن نرضيها. ولا حيلة في الرسالة كما في دعاية تبدو لها كل الوسائل صالحة لكي "نربح" الآخرين إلينا.
بعد أن قال بولس ما ليست الكرازة الرسوليّة (الوجهة السلبيّة) عاد إلى الوجهة الإيجابيّة (آ 4). فالله اختبر المرسلين (دوكيمازو) قبل أن يسلّمهم الانجيل، وما زال يختبرهم. فما يهمّهم هو أن يرضوه تعالى.
ويتحدّث بولس عن تجرّد المرسلين. لم يستعملوا التملّق (آ 5) أو المجاملة (كولاكيا، لا ترد إلا في هذا المكان في العهد الجديد) ليربحوا المتشيّعين لهم، ولا الطمع (بروفاسيس) الذي كان مناسبة لمعلّمي الخطابة أن يبحثوا عن الربح السريع. وما طلبوا الكرامات (دوكسا) من البشر (آ 6) وهي المراكز الأولى التي ترضي المجد العالميّ وترافقها منافع ماديّة.

2- حياة الرسول (2: 7- 9)
شدّد بولس على أن الذين يكرزون بالانجيل يحقّ لهم أن تساعدهم الكنيسة على القيام بأودهم. ولكن بولس كان كثير الحساسيّة في هذا المجال، فما طالب بحقوقه. وذكّر التسالونيكيّين أنه ما أراد أن يثقّل على أحد منهم. بل عمل بجدّ وكدّ من أجل حياته وحياة المرسلين.
كان بإمكاننا أن نفرض نفوسنا على أننا رسل المسيح. ولكننا لم نفعل. كان بإمكاننا أن نثقّل عليكم. بل كنا مترفّقين بكم مثل المرضع مع أطفالها. هنا نتذكّر تفسير اوريجانس الذي استعاده اوغسطينس وبلاجيوس: نشبه أماً مرضعاً تعتني بطفلها عناية الحنان وتتكلّم مثل طفل بسبب هذا الطفل.
مع آ 8 نصل إلى اهتمام الرسولي الأبويّ، الذي. هو مستعدّ لا أن يعطي الانجيل وحسب، بل أن يبذل حياته. هنا نقرأ "هوميرستاي" الذي هو فريد في العهد الجديد (في السبعينيّة، أي 3: 21. في سيماك مز 62: 2). لا نعرف أصل هذا الفعل. لهذا نجد اختلافة في بعض المخطوطات "هيمايرستاي": رغب. أما معنى الفعل هنا فتدلّ عليه الصورة السابقة: كانت له عواطف حنان تجاه شخص. كما قرأ فعل "اودوكيو" أراد، استعدّ أن يفعل.
كان بولس يعمل "ليلاً ونهاراً". وهكذا ما كان يرتاح بولس. يأتي الليل قبل النهار بحسب الطريقة اليهوديّة في الحساب: يبدأ اليوم مع المساء ويتوالى في الصباح (رج تك 1: وكان مساء وكان صباح، كما في اليوم الليتورجيّ). نقرأ "ابيباريو"، حمّل، ثقّل. نعرف أن بولس تسلّم مرات كثيرة في تسالونيكي إعانات من اخوته في فيلبّي (فل 4: 16).

3- تصرّف الرسول (2: 10- 12)
أنتم شهود والله كذلك. أراد الرسول أن يبيّن حقيقة حبّه لأبنائه الروحيّين فذكّرهم بوجهة أخرى من خدمته بينهم، ذكّرهم بخدمته الرعائيّة: كان تصرّفه بينهم بلا عيب حسب الله كما حسب البشر. "اوسيوس" (حسب التقوى)، "دينايوس" حسب العدل، حسب ما يطلبه البشر. فكما كان في كرازة الانجيل، كذلك كان تجاه الذين اجتذبهم إلى الانجيل بتعليمه.
قدّم بولس للجميع الانجيل الواحد (آ 11). ولكنه ما عتّم أن وجد نفسه أمام مؤمنين مختلفين (كما في صفّ دراسيّ)، فاهتمّ بكل واحد بمفرده بوعي أب يعرف كل واحد من أبنائه، ويعرف كيف يوجّههم.
ولا يكفي أن نؤمن، بل يجب أن نعيش ايماننا (آ 12). حينئذ تبدأ الصعوبات. وحينئذ تصبح خدمة المرسَل خدمة الراعي: تعليم، تحريض، اهتمام بالنفوس. كل هذا يحلّ محلّ الكرازة الأولى بالانجيل. فعلى الرسول أن يحرّض المسيحيين ليحيوا ايمانهم، ليسيروا سيرة تليق بالله. فالحياة المسيحيّة هي مسيرة (روم 5: 4؛ 8: 4؛ 13: 13) والجحود موت. فالذين ساروا في الاتجاه الجديد بعد أن قطعوا كل رباط بالماضي، شجّعهم الرسولي. والذين لم يعوا المتطلّبات الأخلاقيّة في إيمانهم، والذين ظلّوا سجناء محيطهم وما فيهم، ناشدهم الرسول أن يقطعوا علاقتهم بالأصنام وأن ينخرطوا في طريق جديدة تليق بالله.

4- تعليم الرسول (3: 13- 16)
أعلن الرسول أنه تصرّف مع رفيقيه بالصدق والرفق حين حملوا الانجيل إلى أهل تسالونيكي. ويتابع بولس حول تعليم الواعظين. فالتسالونيكيّون اعترفوا بالأصل الإلهيّ لهذا التعليم وقبلوه على أنه كلمة الله، ولاقوا الاضطهادات لأجل ذلك على مثال المؤمنين في اليهوديّة. ونجد نفوسنا في توازٍ مع ف 1 حيث يتذكّر بولس كيف وصل الانجيل إلى أهل تسالونيكي (1: 5) مع نتيجته في حياة المؤمنين. ففي كلا الحالين، شدّد بولس على شرعيّة ايمان التسالونيكيين.
ويستعيد بولس فعل الشكر (آ 13). فترتبط آ 13 لا مع آ 10- 12 وحسب، بل مع آ 1- 12 أيضاً. "ديا توتو"، بسبب ذلك، يعود إلى كل مضمون هذه الآيات كما إلى السبب الذي جعل فعل شكر المرسلين يستمرّ ولا يتوقّف. لقد كرزوا بالإنجيل كأناس تسلّموا مهمتهم من الله. وتصرّفوا مع التسالونيكيين بالتجرّد والمحبة المطلوبين. لهذا، فهم يستطيعون أن يرفعوا آيات الشكر إلى الله لأن أخوتهم في تسالونيكي قبلوا كرازتهم على أنها كلمة الله. فلو لم يكن الأمر كذلك، لكان مدخلهم إلى تسالونيكي باطلاً.
"لا ننفكّ نشكر الله". يستعيد بولس في هذه العبارة ما في 1: 2. وكل ما قاله حتى الآن هدفَ بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تبرير شكره المتواصل. إن حرف "كاي" (الواو) قبل "هاميس" (نحن) تعني في ما يخصّنا. لا "أيضاً" وكأن غيرنا شكرَ الله. إن فعل "بارالمبانو" وفعل "داخوماي" يعنيان. قبل. وهنا قبل بالإيمان. آمن. نحن هنا أمام فعل واحد: عبّر اسم الفاعل عن فكرة تقول إن التسالونيكيين قبلوا البشارة التي أسمعهم إياها المرسلون، والتي كانت تعليماً نقله إليهم رجال، والتي كان باستطاعتهم أن لا يؤمنوا بها. ولكنهم فبلوها لأنها انكشفت لهم على أنها كلمة الله، حين آمنوا بها. إن موضوعيّة حكم الإيمان على الكرازة تشدّد عليه القاطعة: "كما هي في الحقيقة".
منذ القديم إلى أيامنا تساءل الشرّاح: لماذا قام بولس بالدفاع عن خدمته في آ 1- 12؟ قال الآباء اليونان: ضد افتراءات الرسل الكذبة والهراطقة. وقال آخرون: ضد هجمات اليهود أو المتهوّدين. أو ضد الوثنيّين. ولكن إذا عدنا إلى شهادة الرسول نفسه، فلا يبدو أن كنيسة تسالونيكي أصغت إلى مثل هذه الافتراءات هذا إذا حصلت (3: 6- 7). لهذا اقترح آخرون بأن نبحث عن أسباب دفاع بولس لا في ظروف خارجيّة، بل في حالة الرسول النفسيّة. انفصل فجأة عن كنيسة تسالونيكي، فتساءل بقلق إن كانت حكمت عليه بعد ذهابه السريع. وها هو الآن يفرغ قلبه بعد أن طمأنته الأخبار التي حملها إليه تيموتاوس.
لا نجد في دفاع 1 تس شيئاً من الخصائص الاسلوبيّة كما في 1 كور، 2 كور، حيث يدافع بولس عن رسالته ضد خصوم حقيقيّين (2 كور 12: 19). حين توجّه بولس إلى التسالونيكيين، أحس نفسه مجبراً، شأنه شأن الفلاسفة المتجوّلين في عصره، أن يتميّز عن "الخطباء الكذّابين". وحين جعل التسالونيكيين شهوداً له، أراد أن يبيّن أن مدخله إليهم لم يكن باطلاً. وهذا ما يبرّر فعل شكره. وبهذا يريد بولس أن يجعل أهل تسالونيكي يتعرّفون إلى علامات عمل الله الذي تمّ بواسطة المرسلين. وهكذا نفهم أن بولس في الواقع لا يهتمّ بدفاعه الشخصيّ، بل بأن يمجّد الله من أجل بناء الكنيسة.
ويتحدّث بولس عما أصاب التسالونيكيين من مواطنيهم (سمفيلاتيس: الانسان الذي من ذات القبيلة، من ذات البلد). لفظة فريدة في العهد الجديد. ولا نجدها إلا عند الكتّاب المسيحيين. إذا كان اليهود سبب القلاقل في تسالونيكي (أع 17: 5 ي)، فقد نجحوا ليحرّكوا أهل المدينة اليونان ضد المسيحيين ويدفعوا القضاة إلى أن يتدخّلوا. ولكن لا شيء يفرض علينا أن نشكّ في مشاركة اليهود في هذه القضيّة.
وتصبح عداوة اليهود تجاه الكنيسة نموذجاً عن ثورتهم المتواصلة على الله. ولهذا اضطهدوا المرسلين. "قتلوا الربّ في شخص يسوع" (مر 8: 34؛ أخبار الآلام). كيف كان باستطاعتهم أن يقتلوا الربّ، إن لم يكن قد عاش بينهم في شخص إنسان اسمه يسوع. وإذ اتهّم بولس اليهود بأنهم قتلوا الانبياء، استعاد اتهّام يسوع (مت 23: 37؛ لو 13: 34) واسطفانس لهم (أع 7: 52). وإن لم يكن اليهود قد قتلوا جميع الأنبياء، فالتعميم الواقعيّ يدلّ على أنه يرى فيهم علامة عن موقف روحي مستمرّ.
واليهود، بعداوتهم للبشر، المتولّدة من مقاومتهم لله، "يجاوزون الحدّ بخطاياهم" (تك 15: 16؛ دا 8: 23؛ 2 مك 6: 14؛ مت 23: 32). فتجاه كل عطيّة من الله في تاريخ الخلاص، كان جوابهم لاإيماناً وعصياناً، وجمّموا كيل خطاياهم دون أن يحرمهم الله في رحمته من النعمة. ولكن الغضب أدركهم في النهاية كما يقول الرسول. ما معنى "ايس تالوس"؟ في النهاية (لو 18: 5). حتى النهاية (مت 10: 22). إلى الأبد (مز 9: 19؛ 76: 9). تماماً (يش 8: 24؛ 2 أخ 12: 12؛ أي 6: 9). لا نستطيع أن نقول "إلى الأبد" لئلا نعارض الأمل بخلاص اسرائيل في النهاية كما تقول روم 11: 11 ي. المعنى هو: "في النهاية". في نهاية المطاف. ولكننا نخطىء إن رأينا تجلّي غضب الله في حدث تاريخيّ محدّد (مثلاً، دمار أورشليم سنة 70 ب). أيكون بولس تنبأ، أم يكون هذا النصّ كتب بعد دمار اورشليم؟ نحن نعلم أن 1 تس دوّنت سنة 51.
كيف يستطيع أن يقدّم بولس اعلاناً قاطعاً مثل هذا الاعلان؟ لا ننسى أن في نظره كما في نظر كتّاب العهد الجديد، كان موت يسوع وقيامته الحدث الاسكاتولوجيّ، وفيه قدّم الخلاص للبشر الخاطئين. فإن رفضوه هلكوا. ولكن إذ انتظر المؤمنون في يسوع ذلك الذي ينجّيهم من الغضب الآتي (1: 10)، ظلّ اليهود تحت ضربة الغضب حين رفضوا أن يؤمنوا. ولكن بولس لا يقول إن الغضب هدّدهم، بل أدركهم (هناك من ترجم: الغضب سيدركهم في النهاية). ولكن وضع الغضب هو وضع عدد من الأمور الاسكاتولوجيّة، هو حاضر الآن (روم 1: 18) وإن يكن موضوع انتظار (روم 2: 5). وقد يكون الرسول رأى في لاإيمان اليهود وقساوة قلبهم عمل الغضب الذي يدمّرهم يوم الدينونة، لو لم تنتصر أمانة الله ورحمته على لاأمانتهم وكفرهم.

5- حنين الرسول إلى أهل تسالونيكي (2: 17- 20)
يحدّثنا بولس عن محاولاته التي باءت بالفشل، فلم يستطع أن يرى التسالونيكيين من جديد. فبعد أن هاجم اليهودَ، عاد إلى الوضع الذي ولّدته معارضتهم له ولأهل تسالونيكي. طُرد من المدينة فوجد نفسه كالأم وكالأب اللذين حُرما من أولادهما.
تبدأ آ 17 مع "أما" (دي). هناك معارضة بين عداء اليهود الذي تحمّل التسالونيكيون نتائجه، وتصرّف بولس في هذه المضايق. نقرأ "ابوفرانيزو" صار يتيماً. لفظة فريدة في العهد الجديد وتعني أيضاً الوالدين اللذين فقدا ولدهما. ونقرأ "بروس كايروس هوراس": لوقت لحظة. هي دمج بين اثنين: "بروس كايروس" لوقت محدّد (1 كور 7: 5؛ لو 8: 13). ثم "بروس هوران" للحظة (2 كور 7: 8؛ غل 2: 5؛ فلم 5). بهذه العبارة شدّد بولس على الوقت القصير الذي فيه دام الانفصال.
"أنا بولس" (آ 15). لا ينفصل بولس عن سلوانس وتيموتاوس. ولكنه يعارض التفاسير السيّئة التي أعطيت لسفره المفاجىء من تسالونيكي.
وإذ أراد بولس أن يثبت واقع مجهوده (الذي لم ينجح)، ليلتقي مجدّداً بالتسالونيكيين، سألهم إن كان من المعقول أن يتخلّى بإرادته عن كنيسة يجب أن يتعلّق بها. ففي مجيء ربنا في مجده، أهل تسالونيكي هم رجاؤه وفرحه وإكليل فخره..
في عبارة "ستافانوس كاوخيسيوس"، إكليل تمجيدنا. "كاوخيسيس" هي فعل الافتخار. لهذا نقول الليل الذي به نفتخر. إن فكرة الليل (التاج) الملكي التي صارت "شعبيّة" (كل انسان هو ملك. له تاج. له اكليل) انتقلت على المستوى الاسكاتولوجيّ واستعملت في مجموعة من الصور: الأبرار ينالون الاكليل في الدهر الآتي ويجلسون على العروش متوَّجين في المجد. وصورة الليل المرتبطة بمجيء الربّ، قد أعطت "باروسيا" (مجيء) معنى الدخول الفرِح للملك إلى المدينة. ففي تلك المناسبة يقدّمون للزائر العظيم إكليلاً من ذهب، ويزيّنون أبواب المدينة بقليل، ويُجعل على بعض المواطنين أكاليل. غير أن مفهوم "كاوخيسيس" (التمجيد، الافتخار) هو مفهوم بولسي مميّز، وهو يتأصّل في العهد القديم (السبعينية، أم 16: 31؛ حز 16: 12؛ 23: 42). ويلعب الليل دوراً مهماً في التقليد الجلياني (رؤ 2: 10؛ 3: 11؛ 4: 4...). وهكذا يكون بولس مرتبطاً بالعهد القديم والعالم اليهودي أكثر منه بالعالم الهلينيّ.

خاتمة
ننهي كلامنا في هذا الفصل مع نظرة حول مجيء الربّ. فالكلمة "باروسيا" تدلّ على الحضور، على المجيء. استعملها بولس في هذا المعنى في 1 كور 16: 17؛ 2 كور 7: 6. في الزمن الهلنستي دلّت اللفظة على ابيفانيا الاله، على ظهوره بواسطة معجزة أو في شعائر العبادة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، دلّت على مجيء احتفاليّ وفرح لشخص عظيم، للملك، للامبراطور. في العهد الجديد، استُعملت في معنى خاص منذ المسيحيّة الأولى، فدلّت على مجيء ابن الانسان على سحاب السماء (مت 24: 27، 37- 39)، على مجيء الربّ لخلاص الكنيسة ودينونة العالم.
نجد عبارة "مجيء الربّ" ست مرات في 1 تس (2: 19؛ 3: 13؛ 4: 15؛ 5: 23) وفي 2 تس (2: 1، 8). ومرة واحدة في 1 كور (15: 23: مجيء المسيح). ولا نجدها في مكان آخر من الرسائل البولسيّة. ونجدها أيضاً في يع 5: 7، 8؛ 2 بط 1: 16؛ 3: 4. من أين جاءت هذه العبارة؟
تحدّث العهد القديم (والعالم اليهوديّ) عن مجيء الرب (يهوه) ليدين العالم ويقيم فيه ملكه، أو عن مجيء المسيح ولكن دون أن يستعمل لفظة تساوي "باروسيا" في العهد الجديد. إذن، يبدو أن هذه اللفظة قد أخذت من العالم الهلّيني والمسيحيّة الأولى الناطقة باليونانيّة. وقد ظهرت للمرة الأولى في 1 تس التي هي أقدم أسفار العهد الجديد. ونستطيع أن نستنتج أنها قد دخلت في لغة الكنيسة بواسطة بولس، في 1 تس أولى الرسائل البولسيّة.
انتظار المجيء قديم قدم المسيحيّة. ويجد جذوره في أقوال يسوع التي تعلن مجيء ابن الانسان على السحاب (مر 8: 38 وز؛ مت 25: 31). وحين تكوّن مؤمنون بيسوع المسيح المصلوب والقائم من الموت، انتظروا بحرارة مجيئه المجيد، الذي يبرّر ايمانهم تبريراً حاسماً ويُتمّ خلاصاً كان الروح عربونه واستباقاً له (أع 3: 19؛ روم 8: 23). والدعاء الأراميّ "ماراناتا" في 1 كور 16: 22 الذي تُرجم إلى اليونانية في رؤ 22: 20 (تعال أيها الرب يسوع) يدلّ على انتظار مجيء الربّ منذ أيام الكنيسة الأولى.
يحتلّ مجيء الربّ متانة مركزيّة في اسكاتولوجيّة المسيحيّة الأولى. وليس من قبيل الصدف أن يرد الحديث عن هذا المجيء في التعليمين الاسكاتولوجيين اللذين فيهما يرتبط بولس بهذه الاسكاتولوجيا (1 تس 4: 15- 17؛ 1 كور 15: 23- 28). وحين يتحدّث الرسول عن مجيء الربّ يفكّر في حدث قريب سيساعده العهد القديم (والعالم اليهوديّ) على تحديد بعض وجهاته. ولكن يسوع وحده يعطيه مدلوله الحيّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM