الفصل السابع: ايمان التسالونيكيين

الفصل السابع
ايمان التسالونيكيين
2: 13- 20

تحدّث النصّ السابق عن علاقة بين بولس ومراسليه. وساعدتنا الصور المتعلّقة بالمرضع والمربيّ كيف فهم بولس هذه العلاقة بالنسبة إلى المرسلين وبالنسبة إلى مبادرة الله وحبّه. فالمسيحيون في تسالونيكي كانوا موضوع محبّة من قبل الرسل. سمعوا الرسل، وما سمعوه وعاشوا منه هو كلمة الله. فما الذي حدث في هذه المدينة بعد عبور بولس ورفيقيه فيها؟
هناك رجال ونساء وجّهوا حياتهم اتجاهاً جديداً. أعلنوا أن يسوع الذي صُلب في أورشليم منذ عشرين سنة قد قام. وانتظروا مجيئه المظفَّر كديّان في الأزمنة الأخيرة. وهكذا أشرف على حياتهم اليوميّة هذا الانتظارُ، وبشكل مباشر مشيئةُ يسوع الذي يرون فيه الربّ الذي أقامه الله من عن يمينه.
كيف نفهم هذا التبدّل؟ إنه يرتبط بمرور الرسل واستقبال الناس لهم. وبدلاً من أن يهنّىء بولس المرسلين أو أهل تسالونيكي، ها هو يتوجّه إلى الله الذي يرى عمله في ما يعيشه هؤلاء المؤمنون: شكرَه، وهو يريد من هؤلاء المسيحيين أن يدخلوا هم أيضاً في فعل الشكر البنويّ فيعرفوا أن الله أحبّهم واختارهم.
وهكذا يستعيد بولس فعل الشكر (آ 13) ويبرز أمانة التسالونيكيين (آ 14- 16)، وينهي بمحاولاته المتكرّرة لكي يرى أحبّائه (آ 17- 20). ولكن عاقه الشيطان.
بعد أن نقدّم سياق النصّ نعود إلى الدراسة التفصيليّة.

1- سياق النصّ
يبدو ف 2 من 1 تس في توسّعين متعاقبين. الأول (2: 1- 12) يتحدّث عن مدلول مجيء الرسل إلى تسالونيكي. والثاني (2: 13- 20) يعالج موضوع استقبال المؤمنين لكلمة الله.
أ- التوسيع الأول
إن ترتيب التوسيع الأول يبدو واضحاً من خلاله التكرار المثلّث للتعارض: لا، بل. وكل تعارض يفسّر الذي سبقه بالعطف "لأن". وهكذا تكون لنا ثلاث محطات:
تعرفون ما كان مجيئنا إليكم. هو لم يكن باطلاً، بل كان نتيجة هذه الحريّة الرسوليّة التي من الله (2: 1- 2).
* هذا ما نعرفه عندما تعرفون كيف كان تحريضنا (تقديم الخلاص، التعزية، أش 66). لا يصدر هذا التحريض عن الكذب والخداع، بل تكلّمنا كخدّام الله المجرّبين والأمناء (آ 3- 4).
* هذا ما دلّ عليه سلوكنا. فالله يشهد أن هذا السلوك لم يكن سلوك الممالقين والذين يطلبون اعتبار الناس. بل كنا مترفّقين في وسطكم كالمرضع وكالأب الذي يربيّ أولاده (آ 5 ي).
فموقف الرسل العميق لا يُعرف فقط في ما كان عليه سلوكهم. فهذا الموقف نفسه يجب أن يُفهم فهماً صحيحاً. يجب أن نصل إلى المدلول الحقيقيّ لهذه العلاقة التي تولّدت بين المرسلين وهؤلاء الأشخاص. هي علاقة من نمط جديد على مثال علاقة يسوع بتلاميذه (لو 22: 27). وهي تدلّ على أن الله اختار خدّاماً مختبرين وأمناء ليحملوا الانجيل إلى التسالونيكيين. وأن مجيئهم لم يكن باطلاً، لأن قدرة الله هي التي عملت في الحرّية البشريّة (الجرأة التي يعطيها الله للرسول) التي أعطيت للمرسلين. هذا ما عبرّ عنها بولس في بداية الرسالة (1: 5): كان الانجيل حقاً عندكم قدرة الله وعمل الروح، وهذا ما تتحقّقون منه في حياتنا بينكم ومن أجلكم.
ب- التوسيع الثاني
يرتبط التوسيع الثاني بالوجهة المكمّلة لعمل الله. فهو لم يكتفِ بأن يعطي لنفسه خدماً، بهم تصل محبته إلى التسالونيكيين، بل أعطى لهؤلاء التسالونيكيين أن يسمعوا كلمته من خلال كلمة الرسل. وإذ يتحدّث بولس عن تقبّل الكلمة، يتوجّه إلى الله لكي يرى عمله فيمتلىء إعجاباً. والموقف العميق للتسالونيكيين وتصرّفهم، أتاحا له أن يرى أن كلمة الله استقبلت وأنها تفعل فيهم فتدخلهم في الصراع المسيحاوي الذي تعرفه سائر الكنائس. كما قال بولس في 1: 9: جعلت منهم تلاميذ المسيح والربّ نفسه، فتقبّلوا كلمة الله في الضيق مع هذا الفرح الواعي أنهم في سّر الخلاص، هذا الفرح الذي يدلّ على أن روح الربّ يقودهم.
كنا قد وجدنا إعلاناً عن هذين التوسيعين في 1: 5، 6. فقد أراد بولس في هاتين الآيتين أن يشير إلى ما يتيح له أن يتكلّم عن عمل الله من أجل مراسليه: ما كان عليه عمل التبشير، وما عاشه التسالونيكيون، كل هذا يتيح له أن يؤكّد أن الله أحبّهم وجنّدهم في هذه العلاقة التي اسمها الاختيار (1: 4).
وهكذا يتيح لنا هذا السياق أن نحدّد موقع هذه الآيات في منظار الرسالة. فإن تحدّثت عن حب الرسل وإيمان المراسلين، فهدفها أن تتيح لهؤلاء المؤمنين أن يتعرّفوا إلى مصدر ومدلول هذا الحبّ وهذا الايمان: فهذا الحبّ هو حبّ الله الذي وضعه الله في قلب البشر. وإيمانهم يدلّ على أن هذا الحبّ قد لامسهم حقاً. لهذا يدعوهم بولس وبكل حق: "الأخوة أحبّاء الله" (1: 4).
والآن نعود إلى تفسير النصّ في مقطعين كبيرين: شكر لله عن التسالونيكيين (آ 23- 16). اشتياق بولس ليرى التسالونيكيين (آ 17- 20).

2- شكر بولس عن التسالونيكيين (2: 13- 16)
كيف يمكن أن تولد جماعة مسيحيّة؟ هذا هو السؤال الذي يمكن أن نطرحه. وإن 1 تس تجيب عليه: وُلدت كنيسة تسالونيكي من كلمة الله. هذا ما اكتشفناه في 1: 5- 6. وصل بولس ورفيقاه إلى هذه المدينة وقدّموا خطبة دينيّة سمّوها "إنجيلنا" (1: 5. أو: تبشيرنا). وهذا الانجيل لم يكن كلاماً فقط، بل قوّة وروح قدس.
أ- كلمة الله (آ 13)
نجد حديثاً عن هذا الانجيل في مقطعين متوازيين، مقطعَي فعل الشكر (1: 5- 6؛ 2: 13). أما العبارة المثقلة باللاهوت فنجدها في آ 13 بشموليتها التي تصل بنا إلى حدود الفهم: تقبّلتم "كلمة السماع من قبلنا من الله". ولكن الجملة تصبح واضحة حين نعلم أنها تدمج عبارتين اثنتين: كلمة السماع (من قبلنا). كلمة الله.
أولاً: كلمة السماع
معنى السماع ليس فعنى منفصلاً كما لو كنا آلة. السماع هو نشاط. نقول أعطني سمعك، كما نقول أعطني انتباهك. ثم إن "سمع" يعني "أسمع". هذا ما يقود، إلى ترجمة أش 51: 1 إلى اليونانيّة. "يا رب، من آمن بسماعنا"؟ أي بما أسمعناه من كلام. من آمن بتبشيرنا؟
يرد هذا النصّ في روم 10: 6- 7 الذي يستنتج منه بولس ما يلي: "إذن الايمان يأتي من السماع". هناك نشاط إيجابيّ من قِبَل ذلك الذي عزم على السماع، بل من جهة ذلك الذي يرسل إلينا بلاغاً. ومع "أعلن" و"بشّر" هناك عاملان: ذلك الذي يعلن. ذلك الذي يسمع الاعلان. لهذا نستطيع القول: الكلمة التي أسمعناها من عند الله.
ثانياً: كلمة الله
هذه الكلمة التي تُعطى لنا لنسمعها بأفواه بشريّة، نتقبّلها في الوقت عينه على أنها "كلمة الله": تلك هي أهميّة الشميلة التي قدّمها بولس: "تقبّلتموها لا ككلمة بشر، بل كما هي حقاً كلمة الله".
ففي نظر بولس، إذا كان الانجيل هو كلمة الله، فبسبب نتائجه. فالله يتكلّم عبر ما يقوله الرسول حين لا تكون نتائج هذه الكلمة متناسبة مع نتائج خطبة انسان من الناس. غير أن اللانسبة ظاهرة. هناك إيمان التسالونيكيين، وليس فقط إيمانهم البديئي، بل ثباتهم في هذا الايمان وتحوّل حياتهم في المحبّة. فإذا كان أناس قد ارتدّوا (المعنى المسيحيّ للكلمة) إلى الله، على أثر تعليم حمله إليهم أناس آخرون؛ وإذا تعلّق أناس بالايمان بحيث إن تخلّوا عن هذا الايمان أحسّوا وكأنهم تخلّوا عن معنى حياتهم بالذات، فهذا يعني أن الله تكلّم، أنه فعل في هؤلاء الناس.
فحين يتجاوب الانسان مع هذا التعليم بالإيمان، فهو لا يعطي جوابه لبولس، بل لله. وفعل "تقبّل، تلقّى" (بارالمبانو) يعني: تعلّق تعلّقاً شخصياً. وافق بملء حرّيته. ومفعول هذا الفعل هو في 1: 6 كما في 2: 13: كلمة الله. سيُوضح بولس في رسائله اللاحقة أنه حين يعلن بشارة موت المسيح وقيامته، فهو يعلن في الواقع القدرة التي حرّكها الله لكي يقيم يسوع الفاعل في قلب البشر.
نستطيع الآن أن نعود إلى الوراء، إلى ما قاله بولس عن إعلان الكلمة في تسالونيكي (1: 5- 6). كانت حدثاً حقيقياً. أجل، لم يكن إعلان الانجيل فقط حدث كلمة بشرية، حصول كلمة بشريّة، بل حدث "في القدرة، في الروح القدس وملء النجاح الكامل".
ب- صرتم مماثلين لكنائس الله (آ 14)
بعد الفكرة اللاهوتيّة حول كلمة الله، نجد بعد 1: 5 و2: 14 توسّعين يبدآن بالعبارة عينها: صرتم مقتدين، صرتم مماثلين (1: 6- 7؛ 2: 14).
لا بدّ من القول هنا إن الاقتداء لا يرتبط بقرار خلقيّ. فلا أحد يقرّر بأن يكون ضحيّة الاضطهاد أو أن يخضع للألم. هو شيء يحصل لنا دون أن نريده. وحين قال بولس مثل هذا الكلام، جعل التسالونيكيين في خطّ مسيرة تاريخيّة. ليسوا الأولين في هذا الاقتداء: قبلهم كان الربّ، والرسل وكنائس اليهوديّة. ما عاشوه يتسجّل في خطّ ما عاشه الذين كانوا قبلهم. المصير هو هو، وهو يتوافق مع الانجيل.
فهذا المصير الذي يؤوّن في حياة المؤمنين سّر المسيح الفصحيّ (سّر موته وقيامته) لم يكن فقط مصير الرسل. وقد تمّ هذا التأوين في السابق في كنائس اليهوديّة. بل وصلت إلى الجزء الهلينيّ من كنيسة أورشليم (أع 7). وشاول (أو: بولس نفسه) سيجول البلاد ملاحقاً المسيحيّين المشتتين (أع 8: 3- 4)، حتى في دمشق (أع 9: 1 ي؛ 22: 4- 5؛ 26: 9- 11).
ووُجد التسالونيكيون في هذا التاريخ، تاريخ الشهادة المؤدّاة للمسيح والانجيل بالآلام والاضطهادات. لقد عانوا الألم نفسه من مواطنيهم، كما عانت كنائس اليهوديّة من اليهود. لقد كان قسم من مسيحيّي تسالونيكي من أصل يهوديّ: فسبّب لهم مواطنوهم اليهود متاعب كبيرة. أما الجزء الثاني الذي من أصل يونانيّ، فتألّم من سلطات المدينة التي تراجعت أمام ضغط الوجهاء اليهود.
وهكذا حدّد بولس قاعدة انتقال الانجيل وتأسيس الجماعات المسيحيّة. كما أن تقبّل كلمة الله وإعلانها في فم يسوع، لم يحمل ثمراً إلا عبر سّر موته (هذا ما علّمه لتلاميذه خصوصاً في انباءاته بالآلام)، كذلك عرف رسلُه المصير عينه. ثم كنائس اليهوديّة. وكنائس اليونان: تسالونيكي أولاً، وعلى خطاها الجماعات التي صارت لها هذه الكنيسة قدوة في مكدونية وأخائية. وسيذكر بولس هذا في 2 كور 8: 1- 12: أنعلمكم أيها الاخوة بالنعمة التي منَّ بها الله على كنائس مكدونية. فإن فرحهم قد فاض في ما امتُحنوا به من الضيق الكثير، وفقرهم الشديد قد طفح بغنى سخائهم".
ج- عداوة اليهود (آ 15- 16)
أولاً: بين اليهود والتسالونيكيين
كان التوازي واضحاً بين 1: 5- 6 و2: 13 مع فعل الشكر. ثم بين 1: 6- 7 و2: 24 مع موضوع الافتداء. وهو واضح الآن بين 1: 8- 10 و2: 15- 16. من جهة، نجد الجماعة التي وُلدت في تسالونيكي تسير إلى الخلاص. أما اليهود المضطهدون فيخضعون لغضب الله. وهكذا ما يجمع بين 1: 8- 10 و2: 15- 16 هو الغضب الإلهي.
نحن أمام صورة معروفة في العهد القديم. وهي تدلّ على دينونة الله التي تدشِّن الأزمنة الأخيرة. هذه الاستعارة التي تنقل على الله عواطف بشريّة جداً، تعبرّ عن موقف الله تجاه أعداء شعبه وتجاه الخطأة المتمرّدين من شعبه: فلا توافق إطلاقاً بين الله وخطيئة الرفض. وهناك "غضب" لأن الأنبياء يرون أن الدينونة تتجسّم بالنسبة إلى جزء كبير من الشعب، في العقاب والدمار. هذا ما سيكون للشعب اليهوديّ الذي بدأ فرفض المسيح، وها هو يرفض الرسل، بل يعارضهم، يقاومهم، يضطهدهم. لهذا يحلّ السخط عليهم حتى النهاية.
ثانياً: بولس يحكم على اليهود المضطهدين
نقرأ في آ 15- 16 لوحة معبرّة عمّا فعله اليهود مع الربّ فقتلوه. ومع الرسل فيلاحقونهم ويضطهدونهم. وبولس سيكون له أن يتألم منهم في جميع المدن التي مرّ فيها ابتداء من انطاكية بسيدية (أع 13: 45). ولكن عدداً من الشرّاح يعتبر أن هاتين الآيتين ليستا من قلم بولس وفيهما ما فيهما من العنف على اليهود إجمالاً. وإليك الأسباب.
* آ 15 ج
"لا يرضون الله البتّة، وقد صاروا أعداء لجميع الناس". هذه العبارة لا تتوافق مع فكرة بولس في روم 9- 11 أي في الفصول التي تعالج مطوّلاً رفض اليهود الايمان بالانجيل ومدلول هذا الرفض في تاريخ الخلاص. فنحن في 1 تس أمام استعادة لقول انتشر في الرأي العام في الامبراطورية الرومانيّة، كما أورده تاقيتس: "عند اليهود يسود عداء بغيض ضدّ كل ما ليس بيهوديّ".
فبولس يتكلّم في روم 9- 11 عن اخوته بدون لهجة هجوميّة وروح عدوانيّة. وهو يصلّي من أجلهم كما صلّى موسى في الماضي من أجل العبرانيين. أتراه يتكلّم بهذه الطريقة في 1 تس؟ إن مثل هذا الكلام القاسي يتوافق مع مناخ القطيعة بين اليهود والمسيحيين أي بعد مجمع يمنية حوالي سنة 80، أي ثلاثين سنة بعد تدوين 1 تس.
* آ 16 ج
"السخط والغضب حلّ عليهم حتّى النهاية". نحن هنا أمام إنباء جاء بعد الحدث، أي بعد سنة 70 وتدمير أورشليم والهيكل وتشتّت الشعب اليهوديّ بيد الرومان. ولكن مثل هذا البرهان لا يثبت. فنحن لسنا أمام إنباء وتنبؤ. فالفعل هو في صيغة الماضي، وموقف اليهود ليس موقفاً مقبلاً. إنه موقف آنيّ وقد ردّ عليه "غضب الله". والظرف (في اليونانيّة) "حتى النهاية" يقوّي الفعل في صيغة الماضي.
* كيف نوفّق بين 1 تس وروم
مثل هذا الأسلوب يعتبر أن فكر بولس الحقيقيّ هو في روم 9- 11، وأن كل حكم آخر حول اليهود سابق لما في روم هو نصّ مدسوس! لماذا لا يكون حلّ آخر يقول إن بولس بدّل موقفه بين سنة 51 (حين كتب 1 تس) وسنة 57 (حين كتب روم)؟ وسبب التبديل ليس في تبديل موقف اسرائيل من المسيحيين، بل في تبديل موقف بولس. فحين كتب بولس روم، لم يتحوّل اليهود تجاه الانجيل ولا تجاه بولس نفسه. ومع ذلك، فهو ما زال يحبّهم لأنهم اخوته. وبعد أحداث تسالونيكي سيذهب إلى بيرية ويبدأ البشارة في المجمع. وكذلك سوف يفعل في كورنتوس. أما سبب تبدّله فهو فهمٌ أفضل لتاريخ الخلاص. لقيمة الزمن من أجل تحقيق قصد الله.
ساعة كتب بولس 1 تس كان متيقّناً من قرب مجيء الربّ (4: 13 ي). والمجيء يحمل معه الدينونة كما أعلنها الأنبياء كما في أش 13: 9 "ها يوم الربّ يجيء قاسياً بسخط واتقاد غضب، ليجعل الأرض خراباً ويبيد الخاطئين منها". فأمام اقتراب هذه الدينونة يرى بولس شعب اسرائيل الذي رفضت في معظمه الانجيل. ظنّ بولس قبل ارتداده أن غضب الله لا يصيب شعب الله بسبب امتيازاته. أما أعداء الله الذين تهدّدهم الدينونة فهم "الآخرون". ولكن حين أدركه المسيح، فهمَ أن كل انتماء إلى الله يمرّ بعد اليوم بالعلاقة بيسوع المسيح. فالله يخلّص بواسطة يسوع: والذين يؤمنون به هم "الاختيار" (أو: المختارون) الذي أعدّ له مجدُ ملكوت الله. والذين يرفضون أن يؤمنوا بيسوع يصيرون أعداء الله الذين هيّأ لهم الأنبياء الغضب. فإذا كان مجيء المسيح الذي تولى بقيامته سلطة الديّان السامي، قريباً، فهذا يعني أن وضع اسرائيل ميؤوس منه: حلّ على اليهود غضب الله. وقد تسجّل الحكم في العلاقات بينهم وبين المسيح، كما في علاقاتهم مع كنائس الله.
* مسألة لاإيمان اليهود
إن مسألة لاإيمان اليهود تجد جواباً لها في أولى رسالة بولسيّة: هذا اللاإيمان يعني أن اسرائيل في مجمله قد هلك. وهذا ما يوافق التهديدات النبويّة التي كانت لا تهتمّ إلا بخلاص البقيّة الباقية. كما يوافق خطّ كرازة يوحنا المعمدان. وهذه المسألة ليست محصورة في هذا المقطع من 1 تس. ففي بداية 1 كور ميّز بولس بين "الذين يهلكون" والذين لأجلهم تبدو "لغة الصليب جهالة" (وجنوناً)، والذين يسيرون في طريق الخلاص، نحن (1: 18). وبعد ذلك سيقابل بين الذين بدا لهم المسيح "شكاً ومعثرة" (اليهود)، وأولئك الذين بدا لهم "جهلاً وجنوناً" (اليونانيون) (1: 23- 24). وفي 2 كور وعى أنه مكلّف بخدمة رهيبة. "إنا لله رائحة (نفحة) المسيح الطيّبة للذين يهلكون وللذين يخلصون. لهؤلاء رائحة موت للموت (تقود إلى الموت) (واليهود اللامؤمنون هم في هذه الفئة). ولأولئك رائحة حياة للحياة (تقود إلى الحياة)" (2 كور 2: 15).
ثم إن تفكير بولس حول العهدين (2 كور 3)، كما حول البرّ بالإيمان (غل، روم)، يسير في خطّ الحكم على اليهود ساعة يكتب. فسيضمّ في روم نفسها وفي بداية الرسالة، اليهود إلى الوثنيين، بعد أن حكمت عليهم الخطيئة. رج روم 2: 1 ي؛ ونقرأ في الاستنتاجات في 3: 9: "فماذا إذن أو نحن أفضل؟ كلا. فقد برهنا أن اليهود واليونانيين جميعاً هم تحت سلطان الخطيئة" (في قبضة الخطيئة). وفي 3: 22- 23: "ليس من فرق: فالجميع قد خطئوا فحرموا مجد الله". إن الانتماء إلى شعب ابراهيم ليس كفالة للخلاص. غير أن بولس لن يبقى هنا. ففي روم 9- 11، وحين يعالج بشكل صريح مسألة مقلقة بالنسبة إليه (تضيّق عليه الخناق)، مسألة موقف اليهود السلبيّ إجمالاً تجاه الانجيل، سيتوسّع في نظرة تكشف تعميقاً في تفكيره.
كان التفكير الانجيلي قد خطا خطوة في هذا الاتجاه من التعميق: أورد أن يسوع نفسه فسّر فشل خدمته مقابلاً وضعه مع وضع أشعيا الذي أرسل لتقسية قلوب شعب يهوذا: فالفشل، في شكل من الأشكال، قد أراده الله (أو كما نقول: سمح به)، وهو يأخذ مكانه في قصده. ورغم الظواهر، ليس هذا الفشل بغريب عن مشروع الله الخلاصيّ بالنسبة إلى الكون كله (أش 6: 9- 10؛ مر 4: 11- 12 وز؛ يو 12: 39- 41؛ أع 28: 26- 28).
* روم 9- 11
وحسب روم 9- 11، يمتلك فشلُ الانجيل هذا داخل الشعب اليهوديّ، مدلولاً أراده الله إيجابياً. أولاً، هناك "بقيّة اسرائيل" أي اليهود الذين صاروا تلاميذ يسوع المسيح، إما قبل موته وإما بعد موته. وهي "بقيّة" تؤمّن التواصل بين اسرائيل والكنيسة (التي صارت اسرائيل الجديد). ثانياً، بسبب خطايا اليهود، "حصل الخلاص للأمم)، بلغ الأمم إلى الخلاص، انفتح الباب أمامهم (وكأن اليهود كانوا يغلقونه) (روم 11: 11). وبصريح العبارة، لو كان اسرائيل في معظمه قد تقبّل تعليم الانجيل، فما كان من موضع للوثنيين داخل الكنيسة، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار حضارة اسرائيل وتاريخه.
هذا البرهان قريب من برهان روم 5 حول مدلول خطيئة آدم وعصيانه: لا ننظر إلى الأمر بشكل سلبيّ فقط. فقد نلنا فيض النعمة في يسوع المسيح. وهكذا، بعد مرحلة رسوليّة طويلة، وساعة بدأ بولس يخطّط للذهاب إلى اسبانيا عبر رومة، بدأ يخطّط لمشاريع بعيدة المدى وما عاد يوجّهه اقتراب المجيء. في تلك الساعة رأى في لاإيمان اخوته وضعاً موقتاً ولكن ضرورياً من الرسالة لدى غير اليهود، لدى الوثنيين.
نستطيع القول في النهاية: هذا النصّ هو من بولس ولا سبيل إلى إنكاره. تألّم بما فيه الكفاية من اليهود، فكتب ما كتب في خط اقتراب مجيء الربّ. ولكنه سيفهم فيما بعد أن المسيح صالح الجميع في دمه، صالح البعيدين (أي: الوثنيين) والقريبين (أي: اليهود). فجميع الأمم تستطيع الاقتراب من الله بواسطته. لهذا كتب روم 9- 11 وتمنّى في قلبه ارتداد اخوته. "أودّ أنا نفسي أن أكون محروماً من المسيح من أجل اخوتي، ذوي قرباي بحسب الجسد" (روم 9: 3).

3- اشتياق بولس إلى التسالونيكيين (2: 17- 20)
أطلنا الحديث في آ 15- 16 وما فيهما من اختلاف في الآراء وما فيهما من قساوة على الشعب اليهودي "الذين قتلوا الربّ يسوع والأنبياء، واضطهدونا نحن أيضاً". هنا ننتقل إلى همّ الرسول بالنسبة إلى الجماعة التي أسّسها: هل ستبقى ثابتة، هل ستزول؟. فتحدّث عن الوقت الذي مضى بعد أن انفصل عن أحبّائه التسالونيكيين، وعن حنينه بأن يراهم، وعن قلقه وهو بعيد عنهم.
أ- حنين الرسول (آ 17- 18 أ)
حين طُرد بولس من تسالونيكي، أجبر أن يترك الجماعة الفتيّة بدون أساس متين، وساعة كانت تحتاج إلى مساعدة كبيرة. ولكن ما يدفعه للعودة إلى تسالونيكي، ليس فقط وعياً لواجبه الرسوليّ ومهمّته، بل محبّة حقيقيّة. لقد انسلخ بولس عن التسالونيكيين كما ينسلخ الأب عن أولاده (2: 7- 8). وكم يتشوّق الآن لأن يلتقي بهم من جديد. فتعلّقه بهم وحبّه الحنون ولّدا عنده حنيناً إليهم. فالمحبة الرسوليّة توقظ في القلب عواطف الأبوّة والأمومة والأخوّة، فتحرّك حياة الانسان كلها. هذا ما حدث لبولس.
لماذا لا يستطيع بولس أن يعود إلى تسالونيكي؟ قال: "عاقنا الشيطان". لم يرَ بولس من حاجة أن يذكر الحواجز الماديّة، الأرضيّة، التي تمنعه من العودة إلى تسالونيكي. هو يعرف حقاً من هو الذي يمنعه (اليهود بلا شكّ). ولكنه قال: "عاقنا الشيطان". فهذه العبارة القصيرة هي في قساوتها لمعة تمرّ عبر هذه السطور المليئة بالعاطفة، فترينا فجأة خطورة الوضع. هنا نستطيع لفترة قصيرة أن نلقي نظرة إلى الحقل الذي فيه يتمّ العمل الرسولي: إنه موقع معركة تجعل الله تجاه الشيطان. فبقدر ما يكون اندفاع رسولي مجذّراً في الله، فهو يلقى المعارضة، بل المقاومة من قبل عدوّ الله الحقيقيّ. وهكذا عرف بولس العدوّ الأول في رسالته عبر أمور بشريّة وما دية.
ب- فرح بولس بالتسالونيكيين (آ 19- 20)
بعد أن تذكّر بولس ما حدث ساعة كان في تسالونيكي، وتمنّى أن يعود إليهم بكل قلبه، أراد أن يعبرّ عن فرحه وافتخاره بهذه الجماعة التي أسّسها.
يرغب بولس رغبة عميقة بأن يرى مجيء الربّ المجيد (1: 10). سيكون له ذلك اليومُ يومَ عيد (4: 13- 18). أولاً: لا يسمّي بولس مولد يسوع "مجيئه وعودته". فمجيئه في ملء الزمن لا يعني عودته الأخيرة. فمجيئه الأخير هو الذي يحقّق الخلاص التام، ملء الخلاص كما أعلنه الأنبياء. حينئذ وحينئذ فقط تفاض ملء النعمة. فالذي يرغب مثل هذه الرغبة بملء الخلاص، يوجّه أنظاره نحو مجيء المسيح في المستقبل، لا نحو ولادته في الماضي. من الأكيد أنه منذ ولادة يسوع "ظهرت نعمة الله التي تحمل الخلاص لجميع البشر" (تي 2: 11- 12). ولكن يبقى أن المجيء الأول حمل إلينا فقط عربون ما يعطينا في نهاية الأزمنة. لهذا، تتوجّه أشواقنا نحو المستقبل.
تسلّم بولس على طريق دمشق مهمّة شخصيّة وهي أن يعلن انجيل المسيح وسط الشعوب الوثنيّة. وفرحَ لأنه استطاع أن يعلن أنه أتمّ المهمة، فيقدّم للربّ الجماعات التي ربحها للانجيل، حين يأتي في بهائه الملكيّ. وهكذا يستطيع أن يفتخر في يوم المسيح (فل 2: 16). هو يرجو أن يخلص، وخلاصه يرتبط بأن يحقّق هذه الرسالة بنجاح.
سيحمل إليه هذا اليومُ العظيم الفرح والافتخار. ولكنهما يغمران نفسه منذ الآن. وهو لهذا لا يستطيع إلا أن يشكر الله "على كل ما نالنا من الفرح بسببكم أمام إلهنا" (3: 9). مثل هذا الرجاء هو صفة من يعرف ويقول: "بنعمة الله قد صرت ما أنا عليه. ونعمته التي أوتيتها لم تكن فيّ باطلة" (أي كانت فاعلة) (1 كور 15: 10). وهذا ما يولّد عنده فرحاً مسبقاً وافتخاراً.
حين لا نرى إلا خطيئتنا نكون ناكري الجميل. حين لا نرى الأعمال العظيمة التي حققّتها نعمة الله فينا وبواسطتنا، ننكر جميل ربّنا. إن الحياة المسيحيّة تتألم من قصر النظر هذا الذي نستقيه من تواضع متشرّب بالحزن. فالتواضع الذي لا يعرف أن يميّز في حياته الخاصة معجزات نعمة الله، يأتي في الواقع من الشيطان. فيبقى علينا أن نقف قرب مريم العذراء "خادمة الله الوضيعة" التي هتفت: "الناس تقول عني إني عظيمة. لا في ذاتي. بل لأن القدير صنع بي عظائم، صنع بواسطتي أعمالاً عظيمة، جعلني أماً لابنه.

خاتمة
عاد بولس إلى فعل الشكر لما صنعه الله في تسالونيكي. لا شكّ في أنه صنعه بواسطة مرسليه، وهذا ما يملأ قلب الرسول فرحاً. وكانت مناسبة ليدلّ بولس على تقديره لكنيسة تسالونيكي التي تجاوبت مع كلمة الله، فبدأت مسيرتها نحو الخلاص. هي باكورة العالم الوثنيّ تجاه الشعب اليهوديّ الذي رفض أن يؤمن. الذي رفضت يسوع، والذي يرفض الآن الكنيسة والرسل الذين يحملون رسالتها. أما الآن وبولس بعيد، فهو يدلّ على حنينه إلى الذين ولدهم في المسيح ويكتفي بعلاقات عن بُعد مع كنيسة تسالونيكي. لهذا كتب إليهم. هذا ما نكتشفه في ما يلي من الرسالة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM