نتكلم، نفكر، نعمل معا

نتكلم، نفكر، نعمل معا

نحن نتجنّب خطر التجريد وتوحيد النظرات (على حساب الغنى الخاص بكل شخص أو فئة) حين نتعامل مع النصوص البيبليّة الكثيرة بوعي، ونراعي تعدّدها، كما نفعل مع وقائع الحياة، مع الناس. حين نقرّ بتشعّب هذه النصوص وصعوبة فهمها علينا. حين لا نعتبر وجهتنا أنها الوجهة الوحيدة الممكنة والحقيقيّة. حين لا نستعمل بتسرّع صيغة المفرد (أنا أقول، إذن هذا ما يجب أن يقال). بل صيغة الجمع (يقول الآخرون. وغناهم هام جداً من أجل الكنيسة). في كل هذا نتجنّب خطر التجريد والتأحيد (كل شيء في نمط واحد، بدون فوارق).

1- البيبليا كتاب متعدّد الاصوات
لن أقول الشيء الكثير عن التنوّع الأدبي في الاسفار البيبليّة وفي التقاليد، في عمر كل كتاب وكل نصّ. في الأشخاص المختلفين الذين وجّهت إليهم هذه النصوص في الأصل. في تشعّب كلام يعلن الله أو تنوّع الاصوات للكلام عن العالم والانسان. فكل من قرأ بعض المقاطع من البيبليا يوافق على القول بغناها وتعدّديتها. وهذا ما يجب أن نعرفه داخل الكنيسة. حينئذ تصبح البيبليا في مسيرة التلمذة هذه أعظم معلّم نرغب فيه.
ولكن يجب أن لا ننسى أن الحياة بتعدّديتها والبيبليا بتنوّعها تطلب متا الكثير وتثير الأسئلة الصعبة. أكتفي بأن اورد مثلاً حسياً حرّك كنيستنا في هذا الأيام الاخيرة وأثار الجدالات: ما يُقال حوله دور المرأة في الجماعة المسيحيّة. كيف نخرج بنتيجة حين يعطينا العهد الجديد من جهة نصوصاً تصوّر لنا الجماعات الأولى كجماعات تلاميذ يعيشون المساواة في ما بينهم. حيث النساء والرجالة يعيشون معاً حياة أخويّة. ولكنه يعطينا من جهة ثانية نصوصاً لا تسلّم "الرئاسة" إلا للرجال. حين نحلّل هذه المسألة بشكل وثيق، لا نستطيع إلا أن نصل إلى نتيجة تقول: لا يكفي أن نفهم مختلف الاصوات كاعلانات مختلفة تتكامل بعضها مع بعض. بل أن "مبدأ وحدة الكتب المقدسة" يقودنا إلى أبعد من ذلك بكثير حين لا نضع التقاليد المختلفة على قدم المساواة، بل نقابلها بعضها مع بعض.
هنا نشير إلى أنه يجب أن نميّز بين العهد القديم والعهد الجديد، بين الإطار الشرقيّ الذي كُتبت فيه مجمل أسفار التوراة والاطار الغربّي حيث دوّنت رسائل بولس وحاولت أن تقدّم جواباً للمجتمع اليونانيّ والرومانيّ. وعلى سبيل المثال، إذا أردنا أن نقرأ بولس في ما يتعلّق بدور المرأة، يجب أن نميّز عنده وجهتين: الوجهة العقائديّة والوجهة الحضاريّة. من الوجهة العقائديّة، لا شك في أن المرأة مساوية للرجل: لا رجل ولا امرأة. واجبات الرجل هي واجبات المرأة، وحقوق الرجل هي حقوق المرأة والعكس بالعكس. ولكن من الوجهة الحضاريّة، قد راعى بولس تطوّر المجتمع وعاداته لئلاّ تكون ثورة شبيهة بثورة العبيد تترك الدمار وراءها دون أن تعطي النتيجة المرجوّة لأن النفوس ليست بعد مهيّأة لها. ولكن كلام الرسول كان الخمير في العجين فحوّله بشكل تدريجيّ رغم كل العوائق التي يضعها الرجال وعدد كبير من النساء.
إن تعدّد الاصوات في البيبليا يشترط علينا بعض المرات أن نقرّر الصوت الذي نسمعه، وأن نراعي النظرات الأخرى التي نجدها ايضاً في البيبليا. الخطر هو أن لا نحتفظ بوجهات تعارض نظرتنا أو ننتقد من زاويتنا هذا النصّ أو ذاك. إن نظرة متسّرعة (تخرج ما في الامور من خصائص) إلى مختلف الاصوات البيبليّة تدعونا إلى أن نفكّر ملياً في المواضيع ونعيد التفكير على ضوء ما تعنيه لنا بشكل ملموس الامانة لكلمة الله.

2- تنوّع القراّء
حين نأخذ بشكل جديّ مختلف قرّاء وقارئات البيبليا، حين نتوقّف عند حياتهم الشخصيّة ووضعهم السيكولوجيّ وظروفهم المسبقة وحاجاتهم، تصل بنا الأمور إلى عدد من الخبرات مع البيبليا، منذ الأساليب التعليميّة حتى التساؤلات والتفاسير.
هناك طرائق عديدة للاقتراب من البيبليا. فالاطفال يحاولون أن يكتشفوا الاخبار البيبليّة بواسطة الكتب المصوّرة. والنساء يحاولن التقرب من النص وهنّ واعيات لخبرتهن ووضعهّن كامرأة في مجتمع يكرّس الرجولة قاعدة لا رجوع عنها. والمعاقون والمرضى يستقون من الكتاب المقدس القوّة حين يقرأون آيات من المزامير تساعدهم على تحمّل حياتهم. والجماعات الأساسيّة (التي تحاول أن تبني الجماعة على اساس الكتاب المقدس) تقرأ البيبليا كينبوع مقاومة ضدّ الشقاء والظلم والطغيان، وضد الانصياع واليأس. واللاهوتيون المسيحيون الذين يتحاورون مع مفكّرين من ديانات أخرى لهم كتبهم المقدسّة (حوار بين البيبليا وبين الكتب المقدّسة في مختلف الديانات) لهم طريقتهم في الاقتراب من الكتاب المقدّس.
وما هو مهمّ ايضاً هو تقاسم الخبرات داخل حلقات تعرف الأوضاع نفسها (النساء، الطلاّب، المثقفون). غير أن الاستماع المتبادل بعضنا لبعض وتوخيّ تفهمّ النصوص في ظروف مشابهة، لا يدفعنا إلى طريقة واحدة في قراءة البيبليا وفهمها. فلكلّ واحد طريقته الخاصة في الاقتراب من كلمة الله، من الله.
وإذا أردنا أن نصل إلى تفكير معمّق لتعدّدية قرّاء وقارئات البيبليا، يجب أن نتوسّع في علم المقاييس. غير أن هذا يتعدّى نطاق حديثنا. لهذا نكتفي بأن نتعرّف إلى مختلف المستويات في القراءات البيبليّة.
أ- المستوى الشعبي
قراءة مشتّتة وكثيرة التشعّب، وهي تتبع طوعاً منطق الحياة. وأصحاب هذه الطريقة هم أعضاء الحلقات البيبليّة والجماعات الأساسيّة. هناك تُطرح الاسئلة العديدة التي قد لا يكون رابط بينها إلا النصّ الكتابي الذي يقرأه المشاركون.
ب- المستوى الرعائيّ
هذه القراءة هي أكثر تنظيماً. ترتبط بالواقع، وتتبع منطق العمل. نجدها خاصة عند العاملين والعاملات في عمل الرعاية على مستوى الرعية أو الابرشيّة أو منطقة من المناطق. أما المكان الذي تولد فيه فمراكز تكوين الجماعات من أجل العمل الرعائي.
ج- المستوى الوظيفيّ
نحن هنا على مستوى أكثر صياغة ودقّة، على المستوى العلميّ: بحسب منهجيّة نظاميّة وديناميكيّة. تلك القراءة يمارسها اللاهوتيون المحترفون، والمعلّمون في الاكليريكيات ومعاهد التربية العالية.
ليس من مستوى يكفي ذاته بذاته، بل هو يتداخل في المستوى الآخر. ولكن من المهم أن نميّز هذه المستويات لكي نراعي خصائصها وصلاحياتها.

3- الاطر والسياقات المختلفة
إذا انتقلنا الآن من مختلف القرّاء والقارئات إلى تعدّد الاطر والسياقات، نحسّ وكأننا نستعمل ألفاظاً متعددّة لشيء واحد. من المؤسف أن تكون لفظة "إطار" (أو: سياق) التي تلعب دوراً هاماً في وثيقة بوغوتا الأخيرة، وفي مقاربات بيبليّة أخرى مثل تفسير البيبليا في الكنيسة (الفصل الثالث)، أن تكون لفظة غامضة. فهي تدلّ على المستوى الأدبيّ، على رباط قريب أو بعيد مع البيبليا. واذا وقفنا عند المستوى التاريخيّ نتحدّث عن علاقة النصّ بالأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة. وفي النهاية، نصوّر مع الاطار، العالم الذي فيه يقرأ النصّ اليوم ويفسّر. أما نحن فنتوّقف عند هذا المعنى الأخير فنكتشف في تصوير هذا العالم ثلاثة مجالات.
مجال الاقتصاد أو ما يجب أن نعمله لكي نؤمّن حياتنا وبقاءنا بواسطة خيرات مادية. مجال السياسة او المجتمع: ننظّم الحياة المشتركة بأدوار وممارسات اجتماعيّة. مجال الثقافة والدين والايديولوجيا: نعبرّ عن معنى الحياة بأعمال فنيّة، برموز وطقوس، بأفكار ونظرات إلى العالم.
حين يتحدّث أهل الاختصاص عن "المقاربات الاطريّة" ينطلقون من نقاط منهجية وتفسيريّة للقراءة البيبلية، تأخذ بعين الاعتبار (وتعي) القول بأن نظرة القارىء (أو: القارئة) تؤثّر على إدراك عالمه كما تؤثّر على مقاربته للنصوص البيبليّة. لهذا، ليس هناك من قراءة بيبليّة "موضوعيّة" (كأننا أمام شيء جامد)، حياديّة (لا تتّخذ موقفاً. نكون مع أو ضد. لا نستطيع أن نكون مبالين). إذن، نحن نقلّل من مدلول "المقاربات الأطريّة" إذا حصرناها بنظرة إلى تنوّع أوضاع الحياة والمشاكل الحاليّة، نقابلها مع النصوص البيبليّة. اهتمامنا هو إيجاد رباط متين بين الخيارات والممارسات الاجتماعيّة لدى قرّاء التوراة من جهة، ومعرفة الحقيقة البيبليّة حول الله من جهة أخرى. مثلاً، نجد في بعض الحلقات النسائيّة التي تحاول تفسير الكتاب، خيار مجتمع أخويّ، وصراعاً ضد البنى الاربابيّة (حيث سيطرة ربّ الاسرة)، وخبرة كنيسة يكون فيها للمرأة مكانتها.
إن الملاحظة حول تعدّدية الأطر التي فيها تُقرأ البيبليا وتُؤوّن، تثير أسئلة هامّة. فإن تتبّعنا انطلاقات القراءات البيبليّة الاطرية، لا نكتفي بالتفكير في الاساليب بمعنى ضيّق، بل نُدخل فيها الممارسة وموقف القارئين والقارئات.
تصوّر وثيقةُ اللجنة البيبليّة هذا الواقع بشكل موجز وسديد، حين تقدّم المقاربات "في مجال التحرّر" فتقول: من يأخذ جانب الفقراء ويتجنّد للكفاح من أجل تحرير المظلومين ويجد في النصوص البيبليّة مضموناً لا ينكشف إلا حين تقرأ هذه النصوص في إطار من التضامن الحقيقيّ مع المظلومين". فبالنسبة إلى قرّاء البيبليا الذين لم تتشّرب ممارسة حياتهم من "تضامن حقيقيّ"، وحده التبديل في تصرّفهم (لا تبديل أسلوبهم في قراءة البيبليا) يفتحهم على المعنى الذي يقدّمه الكتاب المقدّس.

4- مختلف وظائف البيبليا
ويجب أيضاً أن نميّز مختلف وظائف البيبليا. حين نقرأ الكتاب ونعلنه خلال الطقوس، نتذكّر عمل الله المحرّر، ونؤوّنه خلال الفقاهة والعمل البيبليّ. نتعرّف إلى النصّ، ونفهم البيبليا في جماعة أساسيّة أو في حلقة دراسيّة يقوم بها أناس يعودون في عملهم إلى متطلّبات البيبليا. ونسمع ما يريده الله من خلال دراسة النصّ دراسة نقدية. ونحلّل النصّ تحليلاً منهجياً في وجهات محدّدة.
ونجد ترتيباً منهجياً للوظائف التي تستعمل البيبليا حين ننطلق من وظائف الكنيسة الاساسيّة. على مستوى الكوينونيا أو المشاركة: تأسيس الجماعة وبناؤها. على مستوى الليتورجيا وإعلان الكلمة: تعبير عن الايمان في الكلام والحركات على مستوى الفقاهة والتكوين المسيحيّ والبحث العلميّ: تفكير في الايمان، ممارسته، سير على خطى الربّ. الدياكونيا أول الخدمة: التزام على مستوى المحبّة والممارسة السياسيّة ليصل كل كائن بشريّ إلى ملء الحياة.
تتميّز هذه الوظائف المختلفة في القراءة البيبليّة، ولكنها لا تُوجد الواحدة بمعزل عن الأخرى. فشارح الكتاب المقدس يلتقي بخبر العشاء الأخير خلال المشاركة في افخارستية الأحد غير ما يكون ساعة يقوم بدراسة تاريخيّة نقديّة ليجد أقدم صيغة للنصّ. ولكن ما يحتفل به على مستوى الليتورجيا وما يفكّر به على مستوى النقد الأدبي لا يمكن أن يتعارضا، بل إن هاتين المقاربتين تغتني الواحدة بالأخرى وتستنير الاولى بضوء يأتيها من الثانية والعكس بالعكس.

5- مختلف المقاربات والطرق
بعد نظرة سريعة إلى الأصوات المتعدّدة في البيبليا، إلى تنوّع القرّاء والقارئات، إلى مدلول السياق والمكان، إلى مختلف وظائف البيبليا، نصل إلى مقاربات وطرق للقراءة البيبليّة. هناك نصوص عديدة تصل بنا إلى قراءات عديدة. والأطر العديدة والقرّاء العديدون يصلون أيضاً إلى مختلف القراءات. وكل هذا تشرف عليه الوظائف المختلفة.
هذه الملاحظة تمنع كل مقاربة أصوليّة (تتوقّف عند الحرف)، تبقينا على مستوى عالم الآثار، تعود بنا إلى القديم لأنه قديم، ولا تحاول أن تؤوّن النصّ وتعيد قراءته وتطبيقه في الزمن الحاضر (مثلاً، نلبس كما كان الناس يلبسون في زمن المسيح...). ولا تريد أن تصل بنا إلى قراءة البيبليا وتفسيرها والعيش بموجبها. وقد عُرضت الأشكاليّة بشكل واضح جداً في وثيقة اللجنة الحبريّة الكتابيّة.
نقرأ في بوغوتا 7: 4: "لا يمكن أن نقرأ البيبليا ونفهم تعليمها بمعزل عن الجماعة والإطار التاريخيّ الذي فيه نعيش". وفي 8: 3، 5، 3 نقرأ حول الأصوليّة: "إذا أردنا أن نحارب خطر الشيع والاصوليّة نوصي بما يلي: ثقافة بيبلية متينة تؤهّل الشعب لتفسير البيبليا تفسيراً صحيحاً. انفتاح على الله الذي يكلّمنا في تاريخ بشريّ. وقراءة البيبليا في هذا الإطار".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM