نتائج القراءة البيبلية

نتائج القراءة البيبلية

حين نقول بالتعدّدية في أساليب القراءة البيبليّة، نكون قد قمنا بخطوة هامة. ولكن لا يكفي أن نظل عند هذه التعدّدية، بل ينبغي لنا أن نقوم بخطوة أخرى لكي نتعامل مع هذه التعدّدية بشكل مفيد. فنبحث عن مقاييس محدّدة نستطيع بها أن نحكم على ما يؤسّس بعض هذه الطرق.

1- مقاييس اختيار الطرق وتقييمها
إذا تخلّينا عن مثل هذه المقاييس، تصبح القراءة البيبليّة عندنا تافهة، ونتائجها تكون مشوبة بالعرض والمصادفة، فنحسّ أننا نستطيع أن نجد كل شيء في البيبليا، وأننا نستطيع أن نفعل كل شيء انطلاقاً من البيبليا. ثم إن مدلول الكتاب بالنسبة إلى الكاتب سيبقى غامضاً ولا يطلب منّا شيئاً. من جهة ثانية، تجمّعُ الطرق والأساليب لا يساعدنا، بل يجعلنا نحسّ أننا نستطيع أن نبرهن عن كل شيء بواسطة البيبليا.
خلال التعبير عن هذه المقاييس من أجل قراءة بيبليّة مناسبة، تلعب الظروف السابقة والإطار والموقع دوراً هاماً. وهذا ما نراه بوضوح حين نلقي نظرة على ثلاث وثائق كنسيّة هامة ظهرت منذ زمن قريب.
أ- الوحي الالهي
إن آباء المجمع واللاهوتيين الذين دوّنوا الدستور حول الوحي (كلمة الله) اهتموا كل الاهتمام بالعلاقة بين الكتاب المقدس والتقليد، بين التأويل التاريخيّ النقدي (على مستوى التعليم الاكاديميّ) ومدلول النصوص بالنسبة إلى حياة الكنيسة. واهتموا بغيرة كبيرة لكي يوضحوا هذه العلاقات ويتنبّهوا إلى الحفاظ على التوازن بين هذه الوجهات.
ب- البيبليا والتبشير الجديد
رأى المشاركون في الجمعية العامة للرابطة الكتابيّة حين دوّنوا وثيقة بوغوتا، أهمية العلاقة بين القراءة البيبليّة وتحدّيات حياتنا اليوميّة. لهذا اعتنوا بشكل خاص في توضيح الرباط بين النص البيبلي والاطار الحياتي الذي نعيش فيه.
ج- تفسير البيبليا في الكنيسة
إن أعضاء اللجنة البيبلية الحبريّة الذين دوّنوا الوثيقة حول تفسير البيبليا في الكنيسة، قد وجّههم سؤال يقول: كيف يجب على الاختصاصيين والمسؤولين في الكنيسة أن يتعاملوا مع مختلف المقاربات والطرق التي يعرفها العالم البيبلي اليوم؟ هل تأخذ مختلف المقاربات بعين الاعتبار النصّ البيبليّ وتاريخيّته؟ ما هو البارز في هذه الطرق وأين تقف حدودها؟
إذا حصرنا هذه الاهتمامات الأساسيّة في هذه الوثائق الثلاث، في ثلاث كلمات "مفاتيح"، نصل الى ثلاثة أبعاد أساسيّة اكتشفناها في ما مضى حين تحدّثنا عن تعدّدية الأساليب. فالبيبليا كنصّ يدعونا إلى البحث عن مقاييس قراءة. والبيبليا ككتاب حياة وكتاب الكنيسة تدعونا أيضاً إلى البحث عن مقاييس. نحن أمام رسمة مبسّطة، ولكنها تساعدنا على تقديم المقاييس لتقييم مختلف الأطر والمقاربات، بشكل حسيّ.

2- مبادىء من أجل اختيار الطرق والأساليب
الاسلوب يرتبط بالطريق. نحن نختار طريقاً دون أخرى. ومن الضروري أن نكون واضحين حوله الهدف الذي نرمي إليه. إلى أين سيقودنا هذا اللقاء مع البيبليا؟ ما الذي نودّ البلوغ إليه؟
لا شك في أن هناك أساليب تفيد في الوقت عينه أهدافاً عديدة: حتى في بحث تفسيريّ في الجامعة، تلعب جماعةُ الطلاّب والمعلمين دوراً هاماً، لئلا نكون فقط أمام تفكير نقديّ حول شهادة البيبليا، بل أمام خبرة المشاركة (كونيونيا) وإن يكن التحليل العلميّ هو قلب هذا البحث. ونقول الشيء عينه عن إعلان الكلمة في العظة مثلاً: فهو يشهد للايمان ويلهم الممارسة على خطى الرب. وفي الوقت عينه له بعد الفقاهة أو الاعلام.
رغم كل هذه التقاطعات، يكون توضيح الهدف الرئيسيّ المرتبط بهذا الاهتمام بالبيبليا، أولانياً بالنسبة إلى اختيار النهج وتقييمه. والاتجاه بالنسبة إلى الوظائف الأساسيّة التي ذكرت هو مهمّ جداً.
أ- كوينونيا
ويُطرح السؤال: هل نحن أمام تكوين الهويّة والجماعة؟ وبمناسبة القراءة البيبلية، نتساءل أيضاً: ما الذي ينتج من اللقاء بين النصّ البيبلي والاطار الذي نعيش فيه من أجل هويتنا؟ من نحن؟ من أين جئنا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟
ب- الليتورجيا والاعلان
ويُطرح سؤال ثان: هل نحن أمام تعبير عن الايمان وشهادة له؟ فالقراءة البيبلية تكمن في السماع، في التذكّر، في الاحتفال، في "هضم" ما يقوله لنا النصّ داخل الاطار الذي نعيش فيه. فالنصّ هو "الفاعل" الذي يشرف على نشاطنا؟ والسؤال الأساسي هو: ما هو أثر النصّ علينا؟
ج- فقاهة، تكوين، تحليل
ويُطرح سؤال ثالث: هل نحن أمام تفكير وإعلام؟ إن قراءة البيبليا تكمن في إننا نطرح أسئلة على النصّ، نتعرّف إليه، نبحث كيف يجيب على تساؤلاتنا. في هذه الحال يكون النصّ موضوع اسئلتنا وأبحاثنا والسؤال الأساسي هو: كيف نؤثّر على النصّ؟
د- دياكونيا
هل نحن أمام ممارسة الإيمان في الخدمة والمحبّة؟ ويكون السؤال بالنسبة إلى القراءة البيبلية: ماذا ينتج عن هذا اللقاء بين القارىء والنصّ الكتابي بالنسبة إلى نشاط المؤمنين؟
قد نتجنّب عدداً من الجدالات حول النهج "الصالح" والخيارات العديدة والظاهرة بين الايمان والفكر، بين الروحانيّة والممارسة السياسيّة، بين التأويل النقديّ والقراءة البيبليّة المشبعة بالايمان، لو طرحنا سؤالاً حول الهدف الأساسيّ ساعة نختار الاساليب أو نقيّمها. في هذا المجال، يطيب لي أن أتوقف عند لفظة "القراءة الربيّة" التي تحدّثت عنها الرابطة الكتابيّة مراراً خلال هذه السنوات الاخيرة. فإن قابلنا بين مختلف النماذج من أجل القراءة الربيّة أو من أجل المقاسمة البيبلية، نستطيع أن نلاحظ أنها تربط في نفسها عدداً من الأهداف الرئيسية في القراءة البيبلية، مع أن هناك هدفاً أهم في ظروف عديدة. فإذا أردنا أن لا تصبح عبارة "القراءة الربيّة" "عبارة سحرية" يستعملها كل واحد دون أن يفهم معناها، أو يعطيها مدلولات مختلفة جداً، يجب أن نوضح في كل مرة ما نعني بهذه العبارة بشكل ملموس.

3- الظروف الملموسة للقراءة
بعد أن أوضحنا الأهداف الرئيسية للقراءة، نتساءل: من هم القارئون والقارئات؟ أي نصّ نقرأ؟ ما هو إطار هذا النصّ؟ فالاسلوب المناسب هو الذي يأخذ بعين الاعتبار هذه الأسئلة الثلاثة، وعلاقتها بعضها ببعض، بمعزل عن النقطة التي نبدأ بها. "فالاسلوب" يطلب الحقيقة لا في داخل أحد هذه الاساليب، بل في المجابهة بينها.
كل هذا يبدو بحسب الرسمة التالية: ينطلق النصّ فيصل إلى الاطار وإلى القرّاء. كما ينطلق فيصل إلى القراءة. ويتفاعل الاطار مع القرّاء، كما يصل بنا الاطار والقرّاء إلى القراءة من أجل لقاء مع النصّ. وفي النهاية يعود الاطار والقرّاء إلى النصّ.

4- الاولويّات
بالنسبة إلى الظروف الملموسة للقراءة، لا يكفي أن. نهتم بالقرّاء، بالنصّ والإطار، بل يجب أن نعرف أيضاً أن كل قراءة للبيبليا هي بالضرورة انتقائية وبالتالي تبقى محدودة. فيستحيل علينا والحال هذه أن نأخذ بعين الاعتبار مع قراءة واحدة، كل الاسئلة والوجهات. لهذا، ليس هناك من "نهج شامل" يجعل كل نهج آخر عديم الفائدة.
إن التقديم المفصّل لمختلف المقاربات والأساليب في وثيقة اللجنة البيبليّة الحبريّة هو أمر له مدلوله. وإن زدنا على الأساليب العلميّة مختلف الأشكال الرعائية والشعبيّة للقراءة البيبليّة، تصبح اللائحة أغنى.
إذن حين نختار (أو نقيّم) المقاربات والأساليب، ينبغي أن نلتمس الأهداف الرئيسية التي ستكون في قلب القراءة. وحسب الرسمة التي أشرنا نجد امكانيّات مختلفة. في الوسط هناك النصّ، والتفاعل بين النصّ والإطار، والتفاعل بين النصّ والقرّاء.
وأنهي هذه الملاحظات حول الظروف الملموسة للقراءة بملاحظتين.
أولاً: لا يجب أن نعارض أسلوباً بأسلوب، ولا نحكم بسرعة على أسلوب من الأساليب. فالقراءة التي تحاول أن تتركّز كلها على النصّ، ليست في الأساس لا أفضل ولا أردأ من القراءة الأطرية. والاسئلة الحاسمة هي: هل يقودنا النهج الذي اخترناه إلى الهدف الذي نريده؟ وهل الهدف الذي نتوق إليه هو حقاً الهدف الصالح والاهمّ؟
ثانيا: إن اختيار النهج الصالح لا يكفل قراءة "صالحة". فإن بدأ النصّ يعني لنا شيئاً، وإن استنار النصّ بالاطار والعكس بالعكس فكان تفاعل بين النصّ والقرّاء، فهذا يرتبط باستعدادات الأشخاص، باكتشافات تمت بالصدف. وإذا تحدّثنا لاهوتياً نقول: القراءة التي تنجح هي خبرة نعمة. ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من أن نعمل كل ما في وسعنا كي نجد النهج الصالح ونستعمله في قراءتنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM