خطر التجريد والبعد عن الواقع

خطر التجريد والبعد عن الواقع

قد تكون الاعتبارات حول منهجيّة القراءة البيبليّة خطراً علينا حين تصبح مجردّة وأصوليّة. فقد يكون ظاهرها حسناً ولكنها لا تفيد في الواقع.

1- البيبليا
نحن في عالم التجريد حين نتحدّث عن البيبليا بشكل عام أو حتى عن كلمة الله الوحيدة. هل نستطيع أن نقرأ مزموراً من المزامير (الذي هو صلاة) كما نقرأ خبر معجزة؟ وأخبار البدايات من نشيد الخلق (تك 1)، وتكوين الرجل والمرأة (تك 2)، والعبرة التي نستخلصها من حدث الطوفان، هل نقرأها كما نقرأ الرسالة الأولى إلى تيموتاوس التي هي نصائح معلّم لتلميذ وأب لأبنه؟ والتطويبات في بداية عظة الجبل هي كلمة الله بشكل يختلف عمّا نقرأ في يو 8: 44: "لكم أب وهو إبليس". وحين نقرأ الوصايا العشر التي تطلب منّا حياة أخلاقيّة في تصرّفاتنا اليوميّة، هل نقرأها كما نقرأ كتاب الأخبار ولا سيّما في بداياته مع لائحة بعدد من الاسماء المملّة؟
أجل ليست البيبليا كتاباً واحداً. هي مجموعة كتب. 73 كتاباً بين العهد القديم والعهد الجديد. ولكل كتاب فنّه الأدبي، والاطار الذي دوّن فيه، والهدف الذي توخّاه. وهكذا نستطيع أن نقول: ليس هناك كلمة الله الواحدة، بل كلمات الله وهي تتدرّج فترافق شعب الله في مسيرته مع الله.

2- القرّاء
وهناك تجريد آخر يجابهنا. هو "القرّاء". فالنساء يقرأن الكتاب بنظرة تختلف عن نظرة الرجال. وعالم الأثار الذي يقرأ سقوط أريحا في يش 6 غير الكاهن الذي يهيّيء عظة يوم الأحد. الأول يدرس الامور التاريخيّة أو التنقيبيّة. أما الثاني فيبحث عن الناحيّة الروحيّة: كل شيء عطيّة من الربّ. أما الخبر الذي يجده فهو تطواف دينيّ أكثر منه حرباً بين عدوين. وأستاذ اللاهوت في أميركا اللاتينيّة لا يقرأ التوراة كما يقرأها اللاهوتيّ في اوروبا. مثلاً، حين يقرأ الاميركي اللاتينيّ سفر الخروج يجد فيه مأساة شعبه مع الظلم والاستعباد اللذين عرفهما الشعب العبراني مع موسى في مصر.
إذن، لا نستطيع أن نقول إن هناك قارئاً واحداً للكتاب المقدس والجميع يشبهونه. لا شكّ في أن هناك مناخاً عاماً يدخل فيه المؤمن ليتعرّف إلى النصّ الكتابيّ. ولكن كم من الفوارق. لهذا تكون الترجمات بعض المرات بعيدة عن القارىء، لأنها تضفي على النصّ مسائل لا يعرفها القارىء الذي نُقل إليه الكتاب. ولا نريد أن نتوسّع في الطريقة الشرقيّة لقراءة الكتاب المقدس باستبصارها لا بالعقلانيّة التي يشدّد عليها العالم الغربي.

3- الاطار
وهناك تجريد آخر يهدّدنا حين نتحدّث عن "الاطار". شخصان يقيمان معي في القرية الواحدة يتصوّران الواقع بشكل مختلف. إحدى جاراتي تعيش وحدها وهي تربيّ ابنتها الوحيدة: كانت تذهب كل يوم إلى العمل في الساعة الخامسة والنصف لتكون في البيت مع نهاية المدرسة. ولكنها تركت عملها وقبلت بأجر أدنى. وهناك آخر صاحب معمل شوكولا. هو غنيّ وفي معمله عمّال عديدون. حين يجتمع كل هؤلاء ليقرأوا مثل العمّال في الكرم (مت 20: 1- 16)، يكونون في إطار واحد هو إطار القرية. ولكن قراءتهم للمثل ستكون مختلفة حين يقابلون ما يقرأون مع واقعهم.
فالكتاب المقدس ليس نصاً يقدّم إليّ وكأنه شيء جامد. ولست أنا شخصاً منفعلاً. بل أتفاعل أنا مع النصّ الذي ينبض بالحياة حين أحاول أن أجعله في إطار حياتي.

4- اللقاء مع البيبليا
ونصل إلى تجريد آخر نقع فيه حين لا نأخذ بحين الاعتبار الوضع الملموس ومناسبة اللقاء مع الكتاب المقدس: ففي ليتورجياتنا الشرقيّة نفهم خبر عماوس (على أنه قسمان كما في القداس: الكلمة والخبز والخمر) بطريقة تختلف عمّا يفهمه المشاركون في حلقة بيبليّة. وحلقة دراسيّة تأويليّة تقدّم لنا خبرة بعيدة عن خبرة "الدراما البيبليّة".

5- القراءة
ونصل إلى تجريد خاص حين نتحدّث عن "القراءة" أو "هدف القراءة البيبليّة". يقولون: "قراءة بيبليّة تحوّل العالم". أو: "اللقاء مع البيبليا هو في النهاية دخول في حوار مع الله". في الواقع، هناك قراءات عديدة مع أهداف مختلفة وأساليب متنوّعة. نستطيع أن نقرأ النصوص البيليّة ونحن نتوخّى قدر المستطاع ما هو صحيح تاريخياً وما ليس بصحيح. مثل هذه القراءة لا تفترض الايمان بالله ولا تحاول أن تغيرِّ العالم. غير أن هذا لا يعني أن المؤرِّخ المؤمن لا يستطيع أيضاً أن يقرأ النصوص البيبليّة في هذا الاتجاه. وهذا لا يعني أيضاً أن القراءة التاريخيّة المحضة لا مدلول لها بالنسبة إلى الايمان وتبديل العالم. ولكن هناك امكانيّة أخرى بأن نقرأ نصوصاً بيبليّة ونحن نتوخّى أن نكتشف فيها تعليم الله من أجل عصرنا. وفي هذه الحال، ليس المهم أن نعرف إن كان النص تاريخياً أم لا. هنا نشير إلى أن نصوص الكتاب المقدس قد تستند إلى التاريخ، إلى اخبار القبيلة أو الجماعة، إلى تقليد قديم جاء من فلسطين أو خارجها، إلى خبرة حياتيّة (مثلاً في تكوين الرجل والمرأة انطلق الكاتب الملهم من الواقع اليوميّ وألقى عليه الوحي الالهيّ)، إلى خبرة روحيّة (مثلاً، بولس على طريق الشام). فالنص لا يكون معلّقاً في الهواء أو وليد الخيال. بل هو بحاجة إلى ما يستند إليه.
إن التفكير حول خطر التجريد هام جداً خلال اجتماع عالميّ مثل إجتماعنا. فتقليدنا يتجّه إلى أن نحصر كل شيء في هدف واحد، في حقيقة واحدة. في طريق واحدة. فالحياة بتعدديّتها، بتناقضاتها واختلافاتها، والاعتراف بالآخر وخصوصاً القريب، واحتمال الانشدادات ووجهات النظر التي لا تتّفق، كل هذا ليس سهلاً من أجل ايماننا، من أجل فكرنا اللاهوتيّ، من أجل ممارستنا الرعائيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM