الفصل السابع: بولس وموته

الفصل السابع
بولس وموته
1: 21- 26

سُجن بولس فتطلّع للمرة الأولى إلى إمكانيّة موته. هو سجين ولا يعرف كيف تنتهي محاكمته، فيحسّ بتهديد حكم الإعدام ثقيلاً عليه. ويتردّد الرسول لا حول مصيره القريب (حكم أو عفو)، بل حول الموقف الذي يأخذه والخيار تجاه المستقبل. هل نحن أمام نظرة إلى النهاية؟ بل أمام دخول في الجماعة وفي الزمن الحاضر.
نتوقّف هنا عند ثلاثة أمور: الموت أو متابعة العمل الرسوليّ (آ 21- 24). الاسكاتولوجيا البولسيّة: كيف نكون "مع المسيح"؟ والثالث: نظرة إلى المستقبل (آ 25- 26).

1- الموت أو متابعة العمل الرسولي (1: 21- 24)
أ- الحياة لي هي المسيح (آ 21- 22)
أولاً: نظرة عامّة
تبدأ آ 21- 26 بشرح: "الحياة لي هي المسيح". وهذا الشرح يبرّر اللامبالاة والهدوء اللذين دلّ عليهما الرسول بالنظر إلى موته (آ 20). فإن كانت تلك عاطفته، فالحياة له هي المسيح بشخصه وعطاياه، وسعادته أن يكون للمسيح. إن فعل "حيى" يدلّ على التقدّم بالنسبة إلى الخيار السابق "سواء حييت". في آ 20، كنّا أمام الحياة الأرضيّة، الحياة الطبيعيّة. أما هنا، فجوهر "الحياة" يقوم بالتغلّب على هذا الموت الطبيعيّ بقوّة الروح (روم 8: 11). وهكذا يصل المؤمن إلى حالة أسمى من كل ما تؤكّده له خبرته الدينيّة في هذا العالم (1 كور 13: 8- 12). لهذا كتب بولس: "الموت ربحٌ لي".
ولكن هذا الربح يصطدم بربح آخر في قلب الرسولي وفي كلامه. هنا ترد آ 22 فنفهمها بشكلين مختلفين وحسب علامة القطع. الأول: إن كانت الحياة في الجسد تهيّىء لي أيضاً عملاً مثمراً، لا أدري ماذا أختار. الثاني: إن كان عليّ بعدُ أن أحيا في الجسد، هذا ما يهيّىء لي عملاً مثمراً. وأنا لا أعرف ما أختار.
مهما كانت القراءة التي نأخذ بها، فبولس يريد أن يقول إنه أمام ربحين يتردّد تجاهما. قد يترك للسلطات التي تسجنه مهمّة التقرير: هل سيموت أو يتابع عمله الرسوليّ؟ وهكذا يستسلم بشكل غير مباشر إلى الله، سيّد كّل هذه المغامرة الرسوليّة. حين نقرأ بولس، نحسّ وكأنّ ترتيب نهاية المحاكمة يتعلّق به. أما في الواقع، فالوضع لا يترك له إمكانيّة تقرير مصيره تقريراً ناجحاً.
يتكلّم بولس هنا وكأنه ليس بسجين. فقراره ومشاريعه لا تنبع من تحليل دقيق للوضع، بل من ضرورة دينيّة، من حاجة إلى الخلاص يشعر بها الرسول. قد يكون نقصَه الحسُّ العمليّ من أجل تصرّف ناجع، ولكننا لا نستطيع إلاّ أن نعجب من غيرته النابعة من إيمانه.
ثانياً: بين ربح وربح (آ 21)
"الحياة لي هي المسيح". هذا يعني أولاً أن لا غاية لحياتنا إلاّ المسيح الذي هو أيضاً ملؤها (غل 2: 19 ي). نحن هنا على المستوى الصوفيّ والمستيكيّ، فنفهم أن الموت يمكن أن يكون ربحاً: الموت يقرّبنا من المسيح. ولفظة "تو زان" تعني أيضاً الحياة في الآخرة. في هذا المجال نميّز بين الفلسفة اليونانيّة والفكر البولسيّ حول الموت. إن الفلسفة تستقي تعليمها من خلود النفس واحتقار هذا العالم. أما نظرة بولس فتتركّز على المسيح.
وهناك مستوى آخر نقرأ فيه آ 21. فالمسيح ليس فقط القائم من الموت، بل المصلوب أيضاً. والحياة في نظر بولس هي أن يقترب من صليب معلّمه. وهكذا تتجذّر الصوفيّة في التاريخ. ونكون في نظرة اتّباع يسوع مع أهميّة الآلام الرسوليّة (رج 2 كور 4: 10 ي). كان بولس سجيناً، وهو متأرجح بين الموت والحياة. لهذا فحياته هي حياة المسيح. والموت ربح، لأنه يوحّد بالصليب هذا الضعف الذي منه تتفجّر قوّة الله (2 كور 12: 9).
ونخطو خطوة أخرى. سياق النصّ هو الكرازة. وفي نظر بولس ليس المسيح قيمة جامدة، بل ديناميّة تدفعه إلى أن يبشرّ بالمصلوب وبالقائم من الموت. إذن، لا قيمة لحياة الرسول إلاّ في حمل هذه البشارة. والموت هو أيضاً ربح، لأنه يمنحه الإمكانيّة الأخيرة للشهادة للمسيح. فالإسم "كردوس" يتوازى مع "ثمر العمل" في آ 22. وفعل "كرداينو" يدلّ على هدف الخدمة الرسوليّة (1 كور 9: 19 ي).
كل هذا هو ربح "لي". هذا ما يقابل "لهم" الذي يدلّ بشكل ضمنيّ على مهاجميه و"لكم" في آ 24 (من أجلكم). فإن رافع بولس من أجل خلاصه من السجن، فلم يكن عمله وليد الأنانيّة. فالحلّ الأسهل بالنسبة إليه هو الموت. استعمل بولس الفعل "تو زان" و"تو أبوتاناين" ليدلّ على الحياة والموت. ولم يستعمل الاسم "زوئي، تاناتوس"، لأنه يشهد على فعل الموت أو الحياة، لا على اعتبارات عامّة حول الموت والحياة.
ثالثاً: تردّد الرسول (آ 22)
مهما كان المعنى الدقيق للآية 21، فلا شكّ في المعنى العام: حسبَ بولسُ أنّ الموت هو ربح. ولكنه مقيّد الآن بحيث أخذ يتردّد حول السلوك الذي يتّخذه. نجد فعل "ايرايو" الذي يعني "أمسك، أخذ بيديه، اختار" (2 تس 2: 13؛ عب 11: 25). نجد "غنوريزو" الذي يعني "عرف"، بل أعلن، عرّف (يرد الفعل 26 مرة في العهد الجديد، ومنها 18 عند القديس بولس). لسنا فقط أمام معرفة داخليّة، بل معرفة نُفصح عنها. وهذا ما يفعل الرسول. لا شيء لبولس يقوله من قبل الربّ (1 كور 7: 10- 13). من هنا هذا التردّد أمام ردّة فعل الجماعة تجاه المبادرة التي اتخذها.
ولكن لماذا هذا التردّد ساعة يؤكّد الرسول أن الموت هو ربح، أنه لصالحه؟ نجد الجواب في الجزء الأول من الآية: الحياة في الجسد تحمل الثمار. "في الجسد" (أو: في اللحم والدم) يعني على هذه الأرض. أما "ثمر العمل" فيدلّ على نتائج النشاط الرسوليّ. ومعيار الاختيار يبقى نجاح الإنجيل، هنا وفي كل الرسالة إلى فيلبّي. نجد لفظة "كاربوس" في روم 1: 13 وهي تدلّ على الثمرة، و"إرغون" في 1 كور 3: 12 ي؛ 9: 1؛ روم 16: 10 وهي تعني العمل الرسوليّ.
ب- مع المسيح، في الجسد (آ 23- 24)
أولاً: نظرة عامة
قال بولس عن نفسه إنه محصور بين امكانيّتين. الأولى تحمل الربح إليه. والثانية إلى جماعة فيلبّي وسائر الجماعات التي ترتبط برعايته. إن الإمكانيّة الأولى توافق رغبته. فهو يفضّل أن ينطلق، أن يموت (نحن هنا أمام تورية، 2 تم 4: 6). وحين يموت يكون مع المسيح. هذا ما لا شكّ فيه.
هذه العبارة (أموت فأكون مع المسيح) والرجاء الذي يتضمّنها، كانا معروفين لدى القرّاء، لأن الرسول لا يقدّم أيّ شرح في هذا الموضوع. فهذا الوضع الذي هو امتداد لـ "أكون مع المسيح" قد تدشّن في المعمودية (روم 6: 1- 11)، فلم يعنِ فقط أن أكون رفيق المسيح.
سبق لبولس وكتب أن الاتحاد الحيويّ الذي بدأ في المعموديّة، سوف يتفتّح في تماثل بين أجسادنا المائتة والجسد المجيد للمخلّص القائم من الموت (1 كور 15: 44- 53؛ روم 6: 4- 5). ولكن حسب 1 كور وروم، جعل بولس قرّاءه أمام المجيء وقيامة الموتى، كما يقول في 1 تس 4: 17: "وهكذا نكون مع الربّ على الدوام". أما ما هو جديد في فل 1: 23، فعبارة "نكون مع المسيح" لا تتطلّع إلى انتظار المجيء: فبعد الموت يتحقّق التفتّح السامي لنعمة العماد.
ذاك هو الخيار الأول الذي هو موضوع "رغبة" الرسول. ونحن نفهم هذه الرغبة حين نعرف الحبّ الذي يوحّده بالمسيح. ولكن يتعارض وهذه الرغبة الداخلية والنبيلة والقويّة، ضرورةٌ خارجية تنبثق من الجماعة. وهي تتغلّب على الخيار الأول: فالضرورة الرسوليّة تنتصر في وجدان بولس على "الربح" الدينيّ الذي يناله لشخصه.
ثانياً: عاملان يتجاذبان الرسول (آ 23- 24)
يحسّ الرسول أنه ممزّق، أنه محصور بين إثنين. يعني فعل "سيناخو" أمسك معاً. فبولس لا يعرف ماذا يختار. هو محصور هناك "برغبة الانطلاق ليكون مع المسيح". فبولس هو مع المسيح بعد موته كما قبل موته. وهذا الاتحاد مع المسيح هو الأفضل.
وبعد اللغة الخطابيّة في آ 23، نجد هنا صفة واحدة: "انانكايوتارون"، أشدّ لزوماً. في 1 كور 9: 16 بدت البشارة بالإنجيل ضرورة ملحّة. نحن أمام يقين لا بدّ منه (روم 13: 5؛ 1 كور 7: 37؛ 2 كور 9: 5، 7؛ فلم 14). إذن، لا يجد بولس ما يردُّ به على مهاجميه إلاّ هذا اليقين الداخليّ العميق. وهنا يبرز البرهان اللاهوتيّ: تجاه الرغبة الشخصيّة يقف الاهتمام بالآخرين. إذن، قد تكون وصلت إلى الرسول أخبارٌ غير سارّة فرضت عليه أن يتطلّع إلى ضرورة وجوده في فيلبّي. وهكذا يدافع بولس عن نفسه، كأني به يقول: كيف لا توافقون مسعاي وأنا لأجلكم فعلت ما فعلت؟

2- الاسكاتولوجيا البولسيّة
نبدأ أولاً فنفهم عبارة "نكون مع المسيح"، ثم نتوقّف عند الاسكاتولوجيا كما يقدّمها القديس بولس.
أ- "مع المسيح"
لا نجد عبارة "نكون مع المسيح" إلا في هذا الموضع من العهد الجديد. ولكن بولس يستعمل مراراً أداة "سين" (مع) ليدلّ على الاتحاد مع الرب، مع المسيح، مع يسوع. نقرأها في 1 تس 4: 14 (سيحضرهم الله معه)، 17 (نكون مع الربّ على الدوام)؛ 5: 10 (نحيا جميعاً معه)؛ فل 1: 23؛ 2 كور 4: 14 (سيقيمنا مع يسوع)؛ 13: 4 (نحيا معه بقدرة الله)؛ روم 6: 8 (متنا مع المسيح، نحيا معه)؛ 8: 32 (يهبنا معه كل شيء)؛ كو 2: 12 (تدفنون معه، تقومون معه)، 20 (متّم مع المسيح)؛ 3: 3 (حياتكم مستترة مع المسيح)، 4 (تظهرون معه في المجد). ونزيد على ذلك أفعالاً مؤلّفة مع الأداة "سين". وإليك أهمها: سينبسخومين (روم 8: 7): تألّم مع. "سيناتافيمن" (روم 6: 4): دفن مع. سينستوروماي (غل 2: 20)، صُلبَ مع. وفي روم 6: 6 (صُلبَ مع المسيح)؛ 8: 17 (نشاركه في المجد)... هذا الاستعمال لا نجد مثله وفي السبعينيّة ولا في العالم الهلينيّ ولا لدى الرابانيّين. لهذا نعتبر نفوسنا أمام وجهة خاصة من الأدب البولسيّ.
ماذا نستخلص من كل هذا؟ إن الأداة "سين" تدل على مشاركة (اتحاد) شخصيّة وعميقة. وتتمّ هذه المشاركة على مستويين مميّزين: في المجيء من جهة. ومن جهة أخرى، في المشاركة بموت المسيح التي تتمّ في المعموديّة وتمتدُّ نتائجها طوال حياتنا على الأرض. بالنسبة إلى الأولى نقرأ في 1 تس 4: 14، 17 (سيحضرهم الله، نكون مع الرب على الدوام)؛ 5: 10؛ روم 6: 8 ب؛ 2 كور 4: 14؛ رج فل 3: 21؛ روم 8: 17، 9. وبالنسبة إلى المشاركة بموت المسيح نقرأ روم 6: 1 ي، 8، 17 أ؛ غل 2: 19؛ فل 3: 10؛ 2 كور 13: 4. نشير هنا إلى أن المعمودية اتحاد ومشاركة مع حدث الصليب الذي يسبقها ويتجاوزها.
نربط "سين" الاسكاتولوجيّ بعالم الجليان اليهوديّ ولا سيّما تث 33: 2 (أقبل الربّ من سيناء)؛ زك 14: 5 (يأتي الرب إلهي وجميع القدّيسين معه). أما "سين" الماضي والحاضر فنربطه بالعالم الهلينيّ والديانات السَّرانيّة. ونلاحظ بشكل خاصّ دمج هذين التيارين ووحدتهما في اللغة البولسية.
إن هذا الرباط الذي يضمّنا إلى المسيح يكمن في عمل المسيح نفسه. وهنا لا نفصل عبارة "مع المسيح" عن عبارات أخرى مؤلّفة مع "هيبر"، "ديا". "إن"... وهي تدلّ كلّها على واقع الخلاص. وهكذا يكون ينبوع "سين خرستو" (مع المسيح) في "هيبر هامون" من أجلنا. مات المسيح من أجلنا. قد يكون بولس اخترع هذه العبارة أو وجدها في تقليد اتباع يسوع. ولكنه يبرزها بشكل خاص. فالاسكاتولوجيا تتجذّر في حدث الصليب والقيامة. والجماعة الاسكاتولوجية تحمل سمات خاصة وشخصيّة. وهكذا تجد الصوفيّة بُعداً تاريخياً يجذّرها في الماضي (في الصليب) ويطلقها في المستقبل (في الملكوت الآتي). فتخسر بهذا التجذّر كل طابع انتصاري: إذا كان الاتحاد مع المسيح يتجاوز الموت حقاً، فهو ما زال مختوماً بخاتم الموت. على مثال المسيح الذي احتفظ بآثار جراحه بعد القيامة.
ب- الاسكاتولوجيا عند القدّيس بولس
تتسجّل عبارة فل 1: 23 في سياق عام هو الرسائل البولسيّة. كما تتسجّل في مسألة خاصة هي الحالة التي تتوسّط الموت والقيامة. "أن نكون مع المسيح" ترتبط هنا ارتباطاً مباشراً بالموت كما ترتبط بالمجيء. ولكن إن أكّد بولس اعتقاده بمشاركة مع المسيح في الموت وبعد الموت، فهو لا يقدّم النظريات والتصوّرات التي تجعلنا نرى "بعيوننا" هذه المشاركة.
فماذا عن الاسكاتولوجيا البولسيّة؟ أخذت الطابع اليهوديّ والجليانيّ في 1 تس، 1 كور. ثم اغتنت بالطابع الهلينيّ على أثر اختبارات وصلت بالرسول إلى حافة الموت، فجعلته يقدّم المسألة من زاوية أخرى. من هذا القبيل تشكّل 2 كور 5: 1- 10 (إن نُقض مسكننا الأرضيّ، لنا بيت لم تصنعه الأيديّ) خطوة انتقاليّة من النظرة اليهوديّة إلى النظرة الهلينيّة مع الدمج بينهما.
نلاحظ أن النظرة إلى المجيء ليست غائبة من فل (1: 10؛ 2: 16؛ 3: 10، 21)، كما أنها ليست غائبة من روم. وقد تكون فل قريبة من 1 تس و1 كور إذا كانت قد كُتبت من سجن أفسس لا من سجن رومة. في النهاية، قد نبحث عن جذور الاسكاتولوجيا البولسيّة في هذين العالمين اللذين ذكرنا. ولكن نظرة بولس هي قبل كل شيء كرستولوجيّة، هي مركّزة على يسوع المسيح.
وقد نستطيع في فل 1: 23 أن نتحدّث عن روحانيّة مركّزة على الصليب. وعبارة "نكون مع المسيح" تدلّ قبل كل شيء "نموت شهادة لموت المسيح". لا يهتمّ الرسول بتحديد ما تكون عليه الحياة بعد الموت، بل بالظروف الحاضرة التي تساعدنا على التنعّم بتلك الحياة. وهكذا يترادف "الموت" مع "نكون مع المسيح". والحياة مع المسيح بعد الموت لا تشكّل مشكلة في نظر بولس. فهي تنبع من معين خاص هو انتصار الفصح والقيامة (روم 8: 31- 39). ولكن ما يهمّ هو نتيجة هذا النصر: كيف ينتصر؟ والباقي يبقى عمل الله.
أجل ما يهمّ فل 1: 21- 23 ليس "الإقامة" في السماء، بل الشروط الحسّية لمشاركتنا في عمل المسيح، والامانة لكلمته.

3- نظرة إلى المستقبل (1: 25- 26)
ونعود إلى نصّ الرسالة بعد هذا الاستطراد. تردّد بولس: ماذا يختار؟ ولكن ها قد زال التردّد، فما عاد الرسول يرغب في شيء أو يودّ أن يتّخذ قراراً. إنه يعلن يقينه: "أنا عالم في اعتقادي". أجل، "سألبث وأقيم معكم جميعاً لأجل نموّكم وفرح إيمانكم". إنه سيبقى على الأرض لخير الفيلبيّين. وهكذا ينسى مرة أخرى أنه سجين، ويقدّم كلامه في إطار الغيرة الرسوليّة. ولكن هذا لا يمنعه أن يتطلّع إلى إمكانيّة هذا الموت في 1: 20؛ 2: 17.
ولكن كيف يستطيع انسان قريب من الموت أن يعلن اعتقاده ويطرح مشاريع من أجل المستقبل؟ لن نتكلّم عن إمكانيّة نظريّة (آ 20) ومشاريع عمليّة (آ 25). بل عن حوار داخليّ ينتهي باعتراف إيمانيّ متفائل. ولكن هذا الشرح لا يكفي.
توسّع بولس في عبارة "من أجلكم" (آ 24). والبرهان الأخير الذي دفعه إلى الاختيار هو وضع جماعة فيلبّي وضرورة حضوره فيها. وسوف نرى في آ 27 ي تحذير الرسول من انحرافات ظهرت في فيلبّي. وهكذا تكون هذا الآيات انتقالة نحو القسم الثاني (1: 27؛ 2: 18) وما فيه من تحريض. كما أنها تتوّج القسم الأول المكرّس لوضع الرسول مع لفظة "نجاح" (بروكوبي) في آ 12- 25.
فمساعي الرسول شكّلت تقدّم الإنجيل بالنسبة إلى الوثنيين (آ 13- 20)، بالنسبة إلى مسيحيّي "أفسس" (آ 14 ي)، وبالنسبة إلى مسيحيّي فيلبّي (آ 25- 26).
نقرأ هنا فعل "اويدا" الذي يدلّ على معرفة ويقين. وفعل "بارامانو" الذي يعني لبث، تلبّث، ثبت. ثبت بولس أمام قضاته الذين سيواجههم وأمام خصومه. ثبت لأن إيمان الفيلبّيين هو على المحكّ، هو في خطر. وسيكون لبولس هذا الموقف من أجل تقدّم الإنجيل، تقدّم الإيمان. وما يشرف على علاقاته مع قرّائه هو الفرح (خارا).
في الواقع ما طلب الرسول يوماً إلاّ خير الآخرين. وهو يرجو أن يكون مجيئه إلى فيلبّي مناسبة افتخار في المسيح من أجل قرَّائه. نجد هنا "إن خرستو" (في المسيح) التي قرأناها في 1: 1 وستعود في 1: 27- 29؛ 2: 1؛ 2: 5 ي. فالفيلبيّون يبحثون عن أشكال أخرى من الافتخار، وهذا ما يدلّ عليه التوازي في 3: 3: "نستمدّ الفخر من يسوع المسيح ولا نعتمد على الجسد". فلا قيمة للإنسان أمام الله إلا بعمل المسيح، وبالاستناد إلى هذا العمل. ويبدو هذا الاستناد في نظر قيم هذه العالم، ضعفاً وعُرياً (2 كور 12: 9؛ غل 6: 14).
مثل هذا الفخر يمتلكه قرّاء بولس. ولكن من الضروري أن يعوا ذلك ويستخرجوا منه النتائج.

خاتمة
أحسّ بولس برغبة حارّة، بل اشتهى أن يتحدّ بالمسيح، أن يكون معه حالاً بعد الموت. ولكنه لم يحدّد الطريقة التي بها يكون متّحداً بالربّ. مثل هذه الرغبة نجدها في 2 كور 5: 6- 9. أما في النصوص الأخرى، فنحن أمام قيامة الموتى على أثر الدينونة العامة.
يودّ بولس أن ينطلق، أن يموت ليكون مع الربّ. ولكن الرسالة تلحّ عليه وتعود به عما يراه الأفضل بالنسبة إليه. هو لا يريد أن يتخلّى عن الذين يحتاجون إليه. وإذا صحّ أن فل كُتبت من أفسس، فهذا يعني أن انتظاره تحقّق، وهكذا يستطيع أهل فيلبّي أن يفتخروا برسولهم لا افتخاراً بشرياً، بل في المسيح يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM