الفصل الثامن: الجهاد لأجل الإيمان

الفصل الثامن
الجهاد لأجل الإيمان
1: 27- 30

تحدّث بولس عن وضعه الشخصي: هو في السجن ولكنّ سجنه قد أدّى إلى نجاح الإنجيل الذي عُرف حتى في قصر الوالي. وتوقيفه لم يُثبط عزيمة الاخوة، بل أثار غيرتهم فأعلنوا الكلمة بدون خوف. قد يكون بعضهم فرحوا لأنهم رأوه في القيود، واستفادوا ليفتخروا ويحلّوا محلّه. ولكن ما همّ: فالمسيح يبشّر به على كل وجه. وهذا ما يملأ قلب الرسول فرحاً.
وتطلّع بولس إلى موته الذي قد يكون قريباً، ففرح لأن "انطلاقه" يوحّده بالمسيح. ولكن حبّه لإخوته يجعله يطرح سؤالاً على نفسه: هل يختار أن يموت أو يبقى على قيد الحياة؟ بالنسبة إليه، الموت خير. ولكن من الأفضل أن يلبث في الجسد لخير اخوته. ومع آ 27 يبدأ توسّع جديد نعنونه: وضع أهل فيلبّي (1: 27- 2: 18).

1- وضع الفيلبيّين: نظرة عامة
بعد أن أعطى بولس أخباراً عن وضعه الخاص، إلتفت إلى جماعة فيلبّي مع مشاكلها: خصوم يبلبلونها. وحدة مهدّدة بالمزاحمات والتنافسات. إن الدعوة إلى الوحدة تحيط بالنصّ الذي يذكر الخصوم. من هم هؤلاء الخصوم؟ إخوة كذبة نجدهم في 2 كور. مسيحيّون متهوّدون (حافظوا في مسيحيّتهم على الممارسات اليهوديّة). يُسندون كرازَتهم إلى سلسلة من "الامتيازات" الراجعة إلى أصلهم اليهوديّ، إلى ظواهر روحيّة خارقة. أدخلوا روح المزاحمة داخل الجماعة، فخانوا الروح الأخويّة، ونسوا تواضع الصليب.
وهكذا جاء تحريض بولس في أربع محطّات. الأولى: نداء إلى الجهاد من أجل الإيمان، من أجل الوحدة (1: 27- 30). إذا أرادت الجماعة أن تدافع عن نفسها، وجب عليها أن تبقى متّحدة. إن الحياة المسيحيّة جهاد لا يتمّ بدون ألم. الثانية: نداء إلى الوحدة في التواضع (2: 1- 4). الثالثة: أساس الحياة المسيحيّة (2: 5- 11). الحياة المسيحيّة حياة جماعيّة، وهي تتجذّر في حدث الصليب الذي وحده يقود إلى المجد. الرابعة: ديناميّة الحياة المسيحيّة (2: 12- 18). ينتج عن التجذّر في حدث المسيح طاعةٌ ملموسة تترجم بديناميّة تدفعنا إلى الخارج: يجب أن نحمل الكلمة إلى العالم، أن ندعوه إلى رجاء الملكوت الآتي.
ونبقى في المحطّة الأولى. تبدو كنيسة فيلبّي مهدّدة من الخارج على يد دعاة مسيحيّين يتوخّى عملهم تدمير "إنجيل" بولس، من خلال فرض الممارسات اليهوديّة. مثل هذا الهجوم يتطلّب دفاعاً لا يتمّ إلاّ في الكنيسة، إلاّ بشكل جماعيّ. "في روح واحد... تجاهدون بنفس واحدة لأجل إيمان الإنجيل". إذا كان الهدف هو رصّ الصفوف، فهناك شرط جوهريّ لا بدّ منه: أن تكون الجماعة واحدة متّحدة.
وإذا أردنا الحصول على هذه الوحدة، نترك الروح يلج إلى قلوبنا ويوجّهنا، هذا الروح الذي هو خالق الجماعات في المحبّة. ونحن لا نحصل على هذه الوحدة إلاّ في التواضع، والابتعاد عن بحث أنانيّ للمصالح والافتخار الدنيويّ.

2- سيروا على ما يليق (1: 27)
بدأ الرسول هنا موضوعاً جديداً، فيه يقول إن حياة الجماعة المسيحيّة هي حرب وجهاد. "ستيكو" (ثبت) في آ 27 أ. "سينأتليو" (جاهد مع) في آ 27 ب. "أنتيكايماي" (قاوم) في آ 28 أ. "اغون" (جهاد) في آ 30. أما هدف الجهاد (وقاعدته) فهو تقدّم الانجيل (ترد اللفظة مرّتين في آ 27). هذا الانجيل هو إنجيل المسيح (آ 27)، ويتضمّن قسطاً من الألم والصعوبات (آ 29- 30). فيُخرج الإنسانَ من ذاته ليفتحه على المسيح، على الآخرين، على المستقبل (آ 28). في هذا المعنى هو إنجيل الإيمان (نقرأ أيضاً: أن تؤمنوا، آ 29)، وعطيّة من الله (هو من الله، آ 28 ب). إنه قوّة ناشطة، ويفرض الوحدة والتضامن اللذين ينبعان من الروح.
أ- حياة جماعية
يبدأ النص مع "مونون" (إنما، مهما يكن من أمر) فيدلّ على موضوع جديد. وتظهر أهميته في عبارة: "الشيء المهمّ والوحيد" (رج غل 1: 23؛ 2: 10؛ 3: 2). هذه الأداة (مونون) تدلّ على تحفّظ بالنسبة إلى ما سبق، نكتشفه في الخيار الموجود في القاطعة: سواء... سواء (ايتي). لا يدلّ بولس هنا على تردّد يتعلّق بمصيره القريب. ولكنه يقوله لقرّائه إنهم لا يحتاجون إلى وصوله إليهم لكي يبدأوا جهاداً تتطلّبه حياة جماعتهم.
نقرأ فعل "بوليتاوماي" الذي يعني تصرّف كمواطن في المدينة (بوليس). أما معناه في اليهوديّة الهلنستيّة فهو سلك، سار. والموضوع ليس فقط سلوكاً فردياً، بل سلوكاً داخل الجماعة. لهذا قال بعض المترجمين: "لتكن الحياة الجماعيّة عندكم لائقة بالانجيل". وهكذا نستطيع القول إن الحياة الجماعيّة هي موضوع القسم الثالث كلّه (1: 27- 2: 18).
أما قاعدة (أكسيوس، روم 16: 2؛ أف 4: 1؛ كو 1: 10؛ 1 تس 2: 12) الحياة الجماعيّة فهي إنجيل المسيح. وهكذا يبقى الاهتمام الأساسيّ لدى الرسول هو هو: كما أنّه يقيّم كل عمل لديه بالنظر إلى الإنجيل، كذلك يكون الأمر بالنسبة إلى قرّائه (1: 5). الانجيل هو إنجيل المسيح (روم 15: 19؛ 1 كور 9: 12؛ 2 كور 2: 12). وإذا قابلنا هذه العبارة مع 1: 29- 30 و2: 5- 11، رأينا أن الانجيل يحمل "فخراً" لا يعود إلى ذاته، بل إلى المسيح. ونحن نعيشه حين نحقّق عبر الجهاد والآلام، نجاحاً حقيقياً، ولا سيّما في الحياة الأخويّة والجماعيّة.
ب- ثبات وجهاد
لأجل هذا، يجب قبل كل شيء أن تثبتوا تجاه الهجمات التي تطال الانجيل. والثبات يفترض روحاً واحداً. هل يعني "الروح البشريّة" أم "الروح القدس"؟ لا ينفي المعنى الأولى المعنى الثاني والعكس بالعكس. ولكن بما أننا أمام ما يؤسّس الجماعة وعملها، نختار أولاً المعنى الروحيّ ونقول: الروح القدس هو ما يؤسّس الجماعة بروحها الواحد.
ونقرأ أيضاً: "بنفس واحدة". نقرأ لفظة "بنفما" في المعنى اللاهوتيّ. وهكذا نصل إلى 2: 1 و3: 3 فنكتشف ما يحدث في كورنتوس (2 كور 11: 4). هناك روح آخر غير روح الانجيل، يُقدّم لأهل فيلبّي، فيخلق عندهم القلق والخلافات.
إن المبدأ العام (ثابتون في روح واحد) يتضمّن وجهة هجوميّة (جاهدوا) ووجهة دفاعيّة (لا تخافوا). لا نجد فعل "سينأتليو" إلاّ هنا وفي 4: 3 (في كل العهد الجديد). هذا يدلّ على أهميته في حضّ أهل فيلبّي على الحرب والجهاد. فالإيمان مهدّد. لسنا فقط أمام "جهاد بالإيمان" بل "جهاد من أجل الإيمان". لقد أراد الخصوم أن يزيلوا هذا الإيمان بعد أن يعرضوا تعليماً لا يتأسّس على نعمة المسيح، بل على الافتخار بالذات. وإذ يدمّرون هذا الإيمان، يدمّرون في الوقت عينه كل مشاركة أخويّة.
"إيمان الإنجيل". هكذا نعود إلى الموضوع المركزيّ في الرسالة. وهذه العبارة تعني: الإيمان الذي يعطيه الإنجيل. أو: الإيمان الذي هو الانجيل. أو: الإيمان بالانجيل. وقد نستطيع القول: "إنجيل الإيمان".

3- لا تخافوا من الذين يقاومونكم (1: 28- 30)
أ- لا للخوف (آ 28)
إن الثبات في الروح يتيح الجهاد ويطرد الخوف. لا يرد فعل "بتيرو" إلاّ في هذا الموضع من العهد الجديد. من يثير هذا الخوف؟ الخصوم. الذين يقاومون (انتيكايماي). لسنا هنا أمام مضطهدين، بل أمام أعداء من اليهود أو الوثنيّين يضايقون جماعة فيلبّي. هم وعّاظ متجوّلون (مسيحيون متهوّدون) سيهاجمهم بولس في 3: 2 ي.
"هلاك، خلاص". إن ثبات الفيلبيّين والمعارضة التي يلاقونها، هما علامة خلاص لهم، وعلامة هلاك لخصومهم. ولكن هذا التفسير يحمل صعوبات جعلت البعض يضعون آ 28 ب- 29 بين قوسين. ورأى آخرون في هذا الكلام "نبوءة" ترى في الأحداث علامة من الله. إذن، نستطيع أن نفهم العبارة كما يلي: ما هو لأجلهم علامة هلاك هو خلاصكم. إن الموصول "هوتيس" يبدأ قولاً مأثوراً ذا طابع عام (مثلاً، مت 5: 39، 41) ستوضحه عبارة تبدأ مع "هوتي" (آ 29): يعني أنه يجب أيضاً أن نتألّم.
إذن، لم يهتمّ الخصوم إطلاقاً بكل ما هو ضُعف وألم (يعتبره بولس علامة عن الصليب)، بل حسبوه علامة هلاك إذا قابلناه بعلامات الافتخار للخلاص الذي يقدّمونه هم. فيردّ الرسول: الأوضاع الصعبة هي علامة الخلاص الآتي وهي من عند الله. هنا نظنّ أن الرسول وخصومه لم يفهموا في المعنى ذاته "سوتيريا" و"ابولايا" (خلاص، هلاك). رأى بولس فيهما عملين بدأا يتحقّقان، ولكنّهما ما زالا في طريق التحقيق. أما الخصوم فاعتبروا الخلاص والهلاك أمرين قد تحقّقا بشكل نهائيّ. لهذا، اعتبروا "الضعف" على أنه يناقض الخلاص.
ب- الألم والجهاد (آ 29- 30)
الخلاص هو نعمة. والنعمة تتجلّى في التواضع والطاعة والألم "بالنظر إلى المسيح". نجد هذه العبارة أيضاً في 2 كور 12: 10 (والشدائد من أجل المسيح). وهي تدلّ على موت المسيح من أجلنا كما تشير إلى الصعوبات والآلام. غير أن بولس يحتاج إلى أن يوضح الأمور. فإذا كان أهل فيلبّي قد فهموا الإيمان كتعلّق عقلانيّ وعاطفيّ بمسيح الانجيل، فهذا يعني أنهم لم يفهموا الإنجيل. فالإيمان يقع في مدار الصليب، ولهذا فهو يتجسّد ويُعاش في الألم. وُهب لنا، أعطيت لنا نعمة، لا أن نؤمن فقط بالمسيح، بل أن نتألّم لأجله. هو تألمّ من أجلنا ونحن نتألّم لأجله.
هكذا تجاهدون الجهاد عينه. هكذا بدا الإنجيل جهاداً يجتذب المنادين به في الطرق الصعبة. هذا ما يعرفه الفيلبيّون الذين عاشوا هذا الجهاد مع بولس في فيلبّي (أع 16: 22 ي؛ رج 1 تس 2: 2)، وشاركوا الرسول في الصعاب التي وجدها في طريقه (4: 15 ي).

خاتمة
سيروا سيرة المواطنين، لا سيرة العبيد. فالمسيحيّ هو مواطن ملكوت السماوات: ربّه هو المخلّص يسوع المسيح، ودستوره الإنجيل. والنعمة وحدها تساعده، إذا رضيَ، على أن يحيا حياة تليق بالإنجيل. والانجيل هو الكرازة التي تولّد الإيمان، وهو التعليم الذي نقبله بالإيمان. وهكذا يكون الإيمان موهبة، كما يكون مبدأ ثبات وجهاد في صعوبات الحياة. ويترافق هذا الإيمان مع الصليب الذي هو أيضاً عطيّة من المسيح للذين يحبّهم فيشاركونه في آلامه، بل يكمّلون في جسدهم ما ينقص من مضايق المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM