الفصل السادس: مسيرة الإنجيل

الفصل السادس
مسيرة الإنجيل
1: 12- 20

إنّ المبادرات الأخيرة التي قام بها الرسول لكي يدلّ على أنه مواطن رومانيّ آلت إلى نجاح الإنجيل ولم تكن خيانة له. فالنتائج كانت إيجابيّة خارج الجماعة المسيحيّة كما في داخلها. غير أنه يجب أن نلاحظ أنّ موتف بولس أثار تحرّكات مختلفة ومتعارضة لم تكن كلّها لصالحه. ولكن مهما يكن من أمر، فكل هذا يتأسّس على الصليب، والمسيح يبشرَّ به على كل وجه. لهذا لا يستطيع الرسول إلاّ أن يبتهج ويفرح. ثم إنّ المحاكمة الآتية سوف تكون له مناسبة جديدة يشهد فيها للمسيح. وهكذا تكون حياته مفيدة للإنجيل، وموته كذلك. هكذا "يمجَّد المسيح في جسدي، بالحياة كان أم بالممات". هذا ما قاله الرسول.
نتوقّف في هذا الشرح عند ثلاث محطّات. الأولى، أخبار الرسول (آ 12- 14). الثانية، مجموعتان متعارضتان (آ 15- 17). الثالثة، الهدف هو الإنجيل (آ 18- 20).

1- أخبار الرسول (1: 12- 14)
أ- أحوال بولس والانجيل (آ 12)
قدّم بولس الطرح الذي سيتوسّع فيه على مدّ الآيات التالية، مع عبارة معروفة في رسائل ذلك الزمان: "أريد أن تعلموا". يقول الطرحُ بأن أمور الرسول كلها، وليس فقط سجنه، قد عملت من أجل نجاح الإنجيل الذي هو علّة وجود بولس.
إنّ لفظة إنجيل تلعب في اللاهوت البولسي دوراً هاماً جداً. يستعملها بولس في حالات عديدة بشكل مطلق (الانجيل، لا إنجيل الله). صار الانجيل معه شخصاً حياً. وهو يدلّ في الأساس على تدخّل الله في التاريخ بحدث الصليب والقيامة. وهذا التدخّل صار آنيّاً بالكرازة الرسوليّة التي هي أيضاً جزء من عمل الله الأخير في نهاية الأزمنة. هذه الكرازة هي الواقع الذي يسند برهان القسم الأوّل من الرسالة (1: 12- 26) حيث نقرأ ثلاث مرات (1: 5، 7، 16) لفظة إنجيل كمرجع ثابت يحدّد الرسول بالنسبة إليه سلوكه.
نلاحظ الأداة "مالون" (بالحري) التي لا تُعارض بين صعوبات خاضة (ومنها السجن) ومصالح سميا (مثلاً، مصالح الانجيل)، بل طرحين متعارضين بالنسبة إلى نتائج هذه الأحداث المذكورة. وتبقى اللهجة كلها حرارة. ويسمّي بولس قرّاءه "إخوة"، وهي لفظة ترد خمس مرّات خلال الحديث عنهم (3: 1، 13، 17؛ 4: 1، 8). هذا ما يدلّ على العلاقات التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض "في المسيح".
ب- الانجيل في دار الولاية (آ 13)
إذا كان للفظة "أمور" (تا كاتا مي: ما يخصّني) هذا المعنى المحدّد، نفهم أن تكون قد وصلت إلى قصر الوالي وإلى المدينة كلها. ما طرح سؤالاً على هؤلاء الناس هو صمتُ الرسول الطويل: لقد امتدّ سجنه وقتاً جعل أهل فيلبّي يقومون بحملة تبرّعات من أجله. حينئذ يشرح بولس وضعه "في المسيح". قال إنّ أمانته للصليب هي التي دفعته إلى الألم (1: 29؛ 3: 10) والتطلّع إلى الاستشهاد والموت.
في الواقع، ظلّت نواياه غائبة عن جميع الناس. أما الآن، وبعد أن كشف ما كشف، فهمَ الناسُ أنّ المسيح هو سبب سجنه. وهو للمسيح قد قبل هذا السجن. هناك من قال: "صارت قيودي مشهورة في المسيح". هذا يعني أنّ المسيح هو الذي حرّكه لكي يقول ما قال. هذه الشهرة خدمت المسيح أكبر خدمة كما خدمت الرسالة.
دلّت "برايتوريون" في الأصل على خيمة القائد، على المقرّ العامّ. ثم دلّت على جيش الوالي وموضع إقامته. أما المعنى الذي نعطيه هنا فيرتبط بالموضع الذي نقترحه كفرضيّة لتدوين الرسالة. فالذين يقولون إنّ فل دوّنت في رومة، يتحدّثون عن قصر الإمبراطور (هذا ما نجده عند آباء الكنيسة بشكل عام) أو عن حرس الإمبراطور (أع 28). ولكن إذا عدنا إلى العهد الجديد، فهمنا أن هذه اللفظة تدلّ حصراً على مركز الوالي في المقاطعات (مت 27: 27 وز؛ يو 18: 28، 33؛ 19: 19؛ أع 23: 35). لهذا، تحدّث بعضهم عن مقرّ فيلكس وفستوس في قيصريّة. وآخرون عن محكمة غاليون في كورنتوس. أما الذين يعتبرون أن فل دوّنت في أفسس، فيرون في لفظة "برايتوريون" تلميحاً إلى المركز الذي يقيم فيه والي المدينة.
ج- نجاح في داخل الجماعة (آ 14)
لم تكن لمبادرة الرسول فقط نتائج حسنة خارج الجماعة المسيحيّة، بل في داخلها، وسط "الإخوة الذين استمدّوا من قواي ثقة بالربّ". يستعمل بولس عبارة "في الربّ" لكي يصف أعمالاً خلقيّة. نصبح في الربّ ما سبق وصرنا إليه في المسيح. قد ترتبط هذه العبارة بالإخوة فنقول: استمدّوا في الربّ. ولكن نقول مع معظم الشّراح "ثقة بالربّ". هنا نقرأ في المعنى عينه غل 5: 10: "إني لواثق بكم في الربّ"؛ 2 تس 3: 4: "ولنا الثقة بكم في الربّ". غير أن موضوع الثقة في هذين الإيرادين ليس الربّ (يقول النصّ: في الربّ، فيدلّ على الطريقة) بل تدلّ عليه "إبي" (7 مرّات في العهد الجديد)، "إيس".
ونقول الشيء عينه عن "القيود" التي لا يمكن أيضاً أن تكون موضوع هذه الثقة. لهذا، يجب أن نعطي فعل "بايتو" المعنى الأصلي "أقنع". لقد اقتنع الأخوة بقيودي في الربّ. صيغة الفعل تدلّ على عمل بدأ في الماضي وما زال يتواصل الآن. كانوا قد تيقّنوا في الماضي. والآن هم يتجرّأون بعد. فسجنُ الرسول وآلامه ثبّتت الإخوة في الإيمان، وهذا التثبيت تمّ بمبادرة وقيادة ربّ الكنيسة وربّ الكل (2: 9- 11).
وبين هؤلاء الاخوة، عرف أكثرهم على أثر الأحداث القريبة، حرارة جديدة من أجل الكرازة بالكلمة. ويشدّد النصّ على "اللاخوف" (افوبوس). ولكن ما الذي حدث لكي يكون سجنُ بولس سبباً في تخليص هؤلاء المبشّرين من خوفهم؟ الجواب هو أن روحانيّة الاستشهاد هي كبيرة بحيث إنّ انتظار الموت بالنسبة إلى الرسول دفعهم إلى الجرأة في حمل الإنجيل. هذه فرضيّة. ولكن قد يكون إعلان تحرير الرشول هو ما دفعهم إلى الكرازة المسيحيّة.

2- مجموعتان متعارضتان (1: 15- 17)
أ- واقع الكرازة (آ 15)
بين الذين تيقّنوا من سجن الرسول فضاعفوا عمل الكرازة، نميّز مجموعتين متعارضتين: واحدة تتجاوب مع مبادرة الرسول. وأخرى ترفضها. وهكذا تكون آ 15 ي جزءاً من الخطبة كما فهمناها حتى الآن. ولكن من هي هذه المجموعة المعادية؟ هنا تتباين الآراء. ولكن نقول مع عدد من الشّراح إن ما فصل هؤلاء الناس عن بولس، لم يكن على مستوى التعليم. وإلاّ لكان بولس عاملهم بقساوة (3: 2 ي)، ولما كان قال عنهم إنهم "يبشرّون بالمسيح".
إذن، لا نقول إننا أمام مقلقين من الوثنيين (كما قالت بعض الآباء اليونان)، ولا أمام بعض المسيحيّين المتهوّدين في قيصريّة. ولا نستطيع أن نضع في مجموعة واحدة أولئك المذكورين في 1: 15 ي وأولئك المذكورين في 3: 2 ي الذين قد يكونون مسيحيّين متهوّدين حسب البعض أو غنوصيّين حسب البعض الآخر.
فهل نعتبر أننا أمام معارضة مؤسّسة على مزاحمة شخصيّة حول المراكز الأولى؟ تلك كانت مصيبة الجماعات المسيحيّة الأولى. ولكن يجب أن نتجاوز هذا الحل فنتذكر التحزّبات التي نقرأ عنها في 1 كور 1- 4: هناك متهوّدون أقرب إلى أبّلوس منه إلى بولس. وقد يكونون ظنّوا أن بشارة الرسول مضّرة بنجاح المسيحيّة. هكذا نفهم أن تكون الكرازة موجّهة ضد الرسول. ولكن سياق الرسالة هو أوسع من ذلك: التبشير بالمسيح. أي إعلان موته وقيامته. ولهذا اعتبر بعضهم أن بولس يعارض كرازة الصليب حين يحاول أن يتخلّص من السجن.
مثل هذه المواقف لا تبدو بريئة. وبولس يرى فيها روح الفتنة والحسد والمزاحمة، روح الثلب والافتراء. أما الأخوة الذين ظلّوا أمناء للرسول فدلّوا على نيّة طيّبة، على تفهّم من أجل المشاركة في العمل.
ب- الباعث على الكرازة (آ 16- 17)
هنا يحدّد نصّ الرسالة الباعث الذي يسند كرازة هاتين المجموعتين. نلاحظ هنا أيضاً أن لا جدال في صحّة التعليم، وأن فعل "بشّر" يستعيد فعل "كرز" من الآية السابقة. ولكن البعض يتصرّفون عن حبّ (أغابي)، أي يلهمهم روحٌ يبني الجماعة. والآخرون عن منازعة ونيّة غير صالحة. نلاحظ وجود هذين الوضعين في غل 5: 20 ي: هناك العداوات والخصومات والأطماع. ومن جهة ثانية، هناك ثمار الروح. رج 1 تم 6: 11 (أهرب من ذلك)؛ 2 كور 11: 20. وهذا هو الوضع في فيلبّي كما يصوّره 2: 1- 3.
ولكن عمل هاتين المجموعتين يستند أيضاً إلى طرح: البعض يعرفون. الآخرون يظنّون. الأولون يعرفون أنّ بولس الذي كان السبب في مثوله أمام القضاة، سوف يدافع عن الانجيل كما في مرافعة (أع 22: 1؛ 1 كور 9: 1؛ 1 تم 4: 16). وتطبيق لفظة "ابولوجيا" على الانجيل (نجدها في 1: 7) يدلّ على أن الرسول، إذ يدافع عن نفسه، يدافع عن الانجيل أيضاً.
أما المجموعة الثانية فتظنّ، وظنّها لا يخلو من نيّة سيّئة. لقد تخيّلوا أنهم بهجومهم يزيدون آلام الرسول. هذا هو التفسير التقليديّ. وهو يحتاج أن لا يتوقّف عند معنى بسيط للفظة "تلبسيس" (صعوبة أدبيّة، تعب، رج يع 1: 27). فهي تدلّ بالأحرى على الضيق الاسكاتولوجيّ، على آخر الأزمنة التي يدشّنها الصليب. وهكذا نفهم أن خصوم الرسول أرادوا أن يزيدوا على سجنه "ضيقاً" وعدداً من المحن تجعله قريباً من المصلوب والقائم من الموت (آ 21 ي).

3- الهدف هو الانجيل (1: 18- 20)
أ- تصرّف بولس (آ 18)
ولكن ما يهمّ بولس ليس موقف هؤلاء أو أولئك تجاهه، بل واقع يدلّ على أن الانجيل يبشرّ به. بما أنّ بولس فعل ما فعل بالنظر إلى الإنجيل، وبما أنه كان لعمله مثل هذه النتيجة، فهو مملوء فرحاً. أما الانجيل فله قوّة في ذاته مستقلّة عن الذي يحمله. سواء بشرّ به أصحاب النيّة الصالحة أو أصحاب النيّة السيّئة، فهو يسير مسيرته. نستطيع أن نقابل هنا مع ما يقوله أوغسطينس عن الأسرار: سواء عمّد بطرس أو يهوذا، فالمسيح هو الذي يعمّد. وسواء بشّر الرسول أو خصومه، فالمسيح هو الذي يواصل تعلبمه عبر الكنيسة وعبر البشر.
هنا نقرأ: "ولكن ماذا عليّ"! أو: "فما شأن ذلك"؟ أو: "ولكن ما همني"! لسنا هنا أمام مفاضلة بين المجموعتين من الاخوة، بل أمام تقوية فكرة الفرح. ففرح الرسول ليس بعابر. إنه يرافقه غداً حين يمثل أمام القضاة الأرضيّين، وبعد غد حين يمثل أمام الديّان السماويّ.
أجل، يفرح بولس لا لسبب شخصيّ، بل من أجل الانجيل. هو لا يهتمّ للبواعث التي تدفع هؤلاء وأولئك إلى حمل الانجيل. ما يهمّه هو "أنّ المسيح يبشرّ به". وفي النهاية، هذا الوضع يكون لصالحه كما يقول في آ 19.
ب- النتائج المقبلة (آ 19)
وبعد أن عدّد بولس النتائج الماضية والحاضرة لمساعيه، وصل إلى النتائج المقبلة: إنه سيَمثُل أمام المحكمة، وبعد ذلك يعود إلى العمل الرسولّي. وسيكون المثول أمام المحكمة مناسبة لشهادة علنيّة هامّة. لهذا يؤكّد الرسول يقينه أيضاً (اويدا، أعلم) بأنه في الطريق القويم الذي يقود إلى الخلاص (سوتيريا). ليس هذا الخلاص فقط تحرّراً من السجن، بل الخلاص الإسكاتولوجيّ والنهائيّ. وما يقوده إليه ليس السجن في حدّ ذاته، وليست كرازة الإنجيل، ولا الوضع العام لدى الذي يدعوه الله إليه، بل سلسلة من الأحداث قد بدأت وقد لا تكون مناسبة. وهنا يعود بولس إلى أي 13: 16 كما يرد في السبعينيّة مع فعل "أبوباينو" (يؤول). "أسكتوا عني فأتكلّم أنا مهما أصابني. آخذ لحمي بأسناني وأجعل نفسي في كفّي. لو قتلني لن أرتجف شرط أن أحتجّ أمامه. ذلك يكون لي خلاصاً لأنّ الكافر لا يقوم أمامه" (أي 13: 13- 16).
ليست الآلام هي التي قادت بولس إلى التأمّل في سفر أيوب، بل جدال أصدقائه وموقفه تجاه هذه الآلام. أكّد الرسول، شأنه شأن أيوب، أنه لا يقدّم حساباً عن أعماله إلاّ أمام الله وحده. ويجعل من مثوله أمام الوالي الروماني صورة عن مثوله أمام منبر الله. ونجاح هذا المثول يرتبط بصلاة أهل فيلبّي وبعون الروح.
نقرأ هنا لفظة "ابيخوراغيا" (مؤازرة، معونة). ولا نجدها إلاّ في أف 4: 16 (تعاون جميع المفاصل). أما الفعل فيرد خمس مرّات وهو يرتبط دوماً بالروح (غل 3: 5: يمنحكم الروح). ويبقى أن فكرة عون يحمله الروح إلى شهادة المسيحيّين الذين يمئلون أمام قضاتهم، هي مرسّخة في المسيحيّة الأولى وإن لم تظهر بشكل خاص لدى بولس (مر 13: 11؛ مت 10: 20؛ لو 12: 12). لهذا نجد عبارة "روح يسوع المسيح". فالروح هو الذي يُرسله المسيح ليستطيع الرسول أن يشهد للمسيح.
ج- بولس ينتظر (آ 20)
ويبدو بولس كلّه مشدوداً إلى هذا المثول، بل يضع فيه رجاءه. فهذا الانتظار نقرأ عنه في روم 8: 19 حيث تبدو الخليقة كلّها مشدودة إلى الفداء الأخير. وهو يتضمّن بالنسبة إلى "ألبيس" (الرجاء) فترة من التردّد والشك. أما الرجاء الذي لا يُذكر إلاّ هنا، فهو يدلّ على انتظار واثق بالصبر لما سيأتي.
إذن، يرجو بولس من الأحداث القريبة أن "لا يخزى"، أن "لا يغطّيه الخجل". هنا نتذكّر المزامير حيث يطلب المؤمن من الربّ أن لا يخزى أمام أعدائه. مز 25: 3: "جميع الذين يرجونك لا يخزون، وليخزَ من على اسم الباطل يغدرون"؛ 69: 7: "لا يخجل من يرجونك، ولا يخزى من يلتمسونك"؛ 119: 80، 116: "ليكن قلبي كاملاً في فرائضك لكي لا أخزى"... "أعضدني بحسب قولك فأحيا ولا أخزى" (أو يخيب أملي). من هم خصوم الرسول؟ هم الإخوة الكذبة الذين يعارضون مساعيه، وهم أيضاً القضاة الذين سيمثُل أمامهم: يرجو بولس أن يكون في الطريق القويم لئلاّ يندم على ضلال وقع فيه.
ذاك هو الوجه السلبيّ للانتظار. والوجه الإيجابيّ هو تمجيد المسيح في شخص الرسول. نجد فعل "مجّد" (ميغاليتاناي) أيضاً في المزامير. "عظّموا الربّ معي، ولنشد باسمه جميعاً" (34: 4؛ رج 35: 27)؛ ونقرأ في 40: 17: "ليقل محبّو خلاصك: تعظّم الربّ". ونجد هذه النقيضة في 2 كور 10: 5 حيث يرجو الرسول أن يتعاظم في نظر الكورنثيّين.
ولفظة "جسد" (سوما) لا تدلّ على الجسد حصراً، بل على الشخص كلّه كما في الانتروبولوجيا البيبليّة: سيتمجّد المسيح في دفاعي عن سجني وفي الآلام التي أتحمّلها. وكلمة "باريسيا" تعني أن نقول كل شيء، أن نتحلّى بالصراحة، أن نقول ما نقوله جهراً. وهي وصف لفعل قال أو علّم (مر 8: 32؛ يو 7: 13؛ أع 2: 29؛ أف 6: 19- 20). إذن، يشدّد بولس هنا على الطابع العلنيّ لما سوف يحدث، وعلى أنه لن يخفي شيئاً من أسباب صمته الطويل وشروط سجنه: في هذا سيتمجّد المسيح.
الآن ودائماً. هكذا يشير الرسول إلى ثباته في سلوكه الذي لا يتبدّل. بل هو يفتح الباب أمام اعتبار جديد. فالآية تنتهي في خيار بين الموت والحياة يقود بشكل مباشر إلى توسّع نقرأه في الآيات اللاحقة. غير أن هناك أيضاً علاقة بين "الآن" والإشارة إلى "الحياة"، بين "دائماً" والإشارة إلى "الموت". إذن، لا خيانة في تبديل الرسول لموقفه: البارحة بموته، واليوم بحياته، وقد كان هدفه الدائم أن يمجّد المسيح بأفضل الطرق. وهكذا لا نجد في هذا الخيار علامة عن التردّد الذي يجد فيه الرسول نفسه بالنظر إلى المصير المحفوظ له.

خاتمة
ما حصل لبولس هو توقيفه وسجنه. ما حصل له أدّى إلى مسيرة الإنجيل إلى الأمام، إلى نجاح الإنجيل وانتشاره. غير أن بعض الناس استفادوا من سجن بولس ليهدموا سلطة الرسول ويتعظّموا في عين نفوسهم. ولكن حقيقة الإنجيل ليست على المحكّ، ليست في خطر كما كان الأمر في كورنتوس أو غلاطية. لهذا، لا يأخذ بولس الأمور بشكل دراماتيكيّ، بل يفرح بالأحرى لأن الإنجيل يُعلن والمسيح يبشّر به في كل حال. وهو ينتظر خلاصه من السجن حياً. وينتظر الفداء الذي يمنحه إياه يسوع المسيح فلا يخزى أمام أعدائه. كما ينتظر الخلاص للمؤمنين الذين جاء بهم إلى المسيح.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM