الله محبّة

الله محبّة
4: 7- 13
تقدّم آ 7- 13 موضوع المحبّة الذي لم يظهر في آ 4- 6. ما يُشرف هنا هو أولوية محبّة الله لنا، التي تسبق محبتنا لله (آ 8، 10- 11). وتنتهي هذه القطعة كما انتهت القطعة السابقة مع إشارة إلى الروح الذي نلناه. هذه النهاية مع الروح القدس (كما في 2: 24) ترتبط بما يلي، وتتوسّع أيضًا في موضوع الحبّ على أنه شهادة (آ 14) واعتراف (آ 15) وايمان (آ 16). وكل هذا يرتبط بواقع يسوع التاريخيّ. في آ 7- 13، عرفنا أن حبّ الله لنا سبق حبّنا له. وفي آ 14- 21، نعرف كيف تجلّى حبّ الله في التاريخ، في تجسّد الكلمة. نحن نتأمل حبّ الله في التاريخ، لا في عالم اللازمن وما فيه من تجريد. ونتأمّل مبادرة الله التي تسبق كل مبادرة لدى الانسان، ولا سيّما على مستوى المحبة. الله هو الذي أحبّنا أولاً وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا (آ 10). وحبّنا لله لا يمكن أن ينفصل عمّا يتبعه، عن حبّنا للقريب. وأخيرًا، لا يُبني الحبّ على الخوف، بل على الثقة بيسوع (آ 17). هنا تتميّز هذه القطعة عمّا في 2: 7- 11 التي تحدّثت عن المحبّة الأخويّة ولم تجذّرها في محبّة الله كما تجسّدت في التاريخ. وعمّا في 3: 11- 18 التي لمّحت تلميحًا سريعًا إلى المحبّة الأخويّة (3: 16 أ) فتحدّثت عن موت يسوع كمثال للمحبّة الأخويّة.
1- دراسة كتابيّة
أ- المحبّة من الله (4: 7- 8)
انتقال يوحنا فجأة من كلام حول روح الحقّ وروح الضلال، فقدّم إلى قرّائه نداء آخر حول المحبّة الأخويّة. سبق له وبيّن علاقة المحبّة بالولادة الجديد. وها هو يقول الآن إن على المسيحيين أن يحبّوا بعضهم بعضًا، لأن الله أحبّهم ودلّ على محبّته الكبيرة من أجلهم حين أرسل ابنه الوحيد كفّارة عن خطاياهم.
في 2: 3- 11، صوّر يوحنا ذاك "الذي يحبّ أخاه" (آ 10)، وفي 3: 11- 24، تحدّث عنا أعمال المحبّة، وها هو يتوقّف عند طبيعة المحبّة حول عبارة تتردّد مرتين: الله محبّة (آ 8، 16). ويفسّر هذه العبارة مشدّدًا على أن الحبّ البشريّ ينبع من الحبّ الالهيّ. حبّ الله هو الذي يدفعنا لكي نحبّ إخوتنا. في 3: 11، 23، ارتبطت المحبّة الأخويّة بوصيّة الله. وها هو يوحنا يعيد محبّة الله إلى موضعها الأصليّ. ليس الحبّ وليد الصدفة، ولا يمكن أن نفكّر فيه بمعزل عن الله.
أولاً: ليحبّ بعضنا بعضًا (آ 7)
في سياق يدعو إلى المحبّة، كان من الطبيعيّ أن يُسمّي يوحنا قرّاءه: زيها الأحبّاء (اغابيتوي، رج 2: 7؛ 3: 20، 21). سبق لهم وصوّر المسيحيين كأناس يحبّون إخوتهم (2: 10؛ رج 2يو 5)، ودعاهم لكي يحبّوا بعضهم بعضًا (3: 11، 18، 23). وها هو يعود إلى الموضوع نفسه فيلمّح على قرّائه بأن يتصرّفوا في توافق مع وضعهم المسيحي. وهكذا كرّر يوحنا ما قاله من قبل. ولكنه شدّد على بعض الأمور: أسّس نداءه على واقع يقول إن المحبّة هي من الله. أصلها من الله وتنتمي إلى عالم الله. ونحن نجد بداية المحبّة في محبّة أظهرها الله. كما نكتشف الطبيعة الحقّة للحبّ حين نتطلّع إلى ما يعنيه بالنسبة إلى الله (آ 9، 10، 19). ولكن، إذا كان الحب ينتمي إلى عالم الله، فهذا يعني أن من يحبّ ينتمي إلى الله. أنه مولود من الله (2: 29؛ 3: 9). ويعيش الآن في معرفة الله (2: 3- 4، 13- 14؛ 3: 1، 6؛ 4: 6). يستعمل يوحنا هنا (آ 7) صيغة الحاضر (رج 4: 6؛ 5: 20) ليدلّ على علاقة متواصلة لم تنقطع. أما في آ 8 فيستعمل صيغة الاحتمال متحدّثًا عن شخص لم يختبر معرفة الله (رج 2: 3- 4 واستعمال كامل للتعبير عن علاقة متواصلة تنبع من خبرة اهتداء). ما قال يوحنا: كل مولود من الله يحبّ (فيصبح ذلك فرضاً على قرّائه)، بل قدّم قولين متوازيين: كلّ حبّ يأتي من الله. لهذا، كل محبّ هو مولود من الله. يقدّم يوحنا تحديدًا وقد يكون بشكل تحريض.
قد لا يُفهم هذا القول، فنستخلص أن المحبّ هو ابن الله وأخو المسيح. وننسى أن نتساءل إن كان يؤمن بيسوع كابن الله. ونُخطئ أيضًا إن اقتلعنا هذا القول من سياقه في الرسالة. سبق يوحنا وقال أن ابن الله الحقيقيّ يؤمن ويحبّ (3: 23). غير أننا نستطيع أن نتساءل: كيف يستطيع انسان لا يؤمن بيسوع المسيح أن لا يحبّ أخاه؟ يمكن أن نجد حبّ الأخوة عند جميع البشر، لأن الانسان مخلوق على صورة الله، وهو يحافظ على هذه الصورة حتّى بعد السقطة. ولكن كل حبّ ينبع من حبّ الله. لهذا، ترتبط المحبّة بالايمان، وهكذا ندلّ أننا مولودون من الله.
فليحبّ بعضنا بعضًا. نحن هنا على مستوى المحبّة الأخويّة، المحبّة داخل الجماعة اليوحناويّة (1: 7؛ 3: 11، 23). المحبّة (رج 3: 11) هي من الله، كما أن ما في العالم ليس من الله (2: 16). كما أن المسحاء الدجّالين ليسوا منا (2: 19)، كما أن الكذب ليس من الحقّ (2: 21). كما أن الذي يمارس البرّ هو من المسيح أو من الله (2: 29). كل هذه التعابير تعود إلى اثنين لا ثالث لهما: الحق والكذب. نجد حديثًا عن الولادة من الله في 2: 29؛ 3: 9 (الولادة الالهيّة والمعرفة). "كل (باس في اليونانيّة) محبّ" تعني: وحده الذي يحبّ (حصرًا). أو: كل من يحبّ (انفتاح). لا مجال "للنخبة". فالجميع مدعوون إلى هذه المحبّة. في يو 3: 16 ب ارتبطت الولادة بالايمان. ونتساءل عن معنى "كاي"، حرف العطف (ويعرف). هل يضيف شيئًا على آخر؟ يُولد ويعرف. هل هو سببيّ؟ مولود لأنه يعرف. هل هو نتيجة؟ مولود وبالتالي يعرف. في أي حال، نحن في علاقة بين الولادة من الله والمعرفة، وبالتالي أمام تشديد على الهوية: هو مولود من الله، أي يعرف. وهكذا خضع ما يقوله الهراطقة (من ولادة من الله ومعرفة) لمقياس المحبّة الأخويّة. هنا نشدّد: لا يتماهى الحبّ مع الولادة من الله والمعرفة، بل هو عنصر لا يستغنى عنه.
ثانيًا: من لا يحبّ (آ 8)
أن نحبّ بعضنا بعضًا وأن نعرف الله، هما أمران مختلفان وإن ارتبطا ارتباطًا وثيقًا. فالذي لا يحبّ لا يعرف الله ولم يكتشفه، "لأن الله محبّة". فخارجًا عن المحبّة لا شركة مع الله، لأن لا معنى لهذه الشركة إلاّ في علاقتها مع المحبّة التي هي نتيجة الحبّ الالهيّ. ولكن نمتنع هنا عن القول: بما أن الله محبّة، فهذا يعني أن المحبّة هي الله. فالحبّ عند الانسان يخصّ عالم الله بعد أن خلقه الله، ولكنه لا يتماهى أبدًا مع عالم الله. ويبقى أن الذي يحبّ يستطيع وحده أن يعرف الله، لأن البغض (واللامبالاة) يعارض الحبّ ولا يصل أبدًا إلى معرفة الحبّ. وحده الحبّ يعرف الحبّ.
لاحظنا هذا مرارًا في 1يو ونلاحظه هنا: الشيء وضده. من يحبّ (آ 7) من لا يحبّ (آ 8). من لا يحبّ لا يعرف الله. وغياب المحبّة يبعده عن عالم الله. هذا يعني أن معرفة الله كمحبّة تقود إلى المحبّة الأخويّة. ولا يستطيع الانسان أن يرتبط ارتباطًا حقًا بالله المحبّ إلاّ أذا تحوّل إلى شخص محبّ. لا يشرح يوحنا كيف يتمّ هذا التحوّل. كل ما يقوله في آ 11 هو واجب الحبّ: علينا أن نحبّ بعضنا. عندئذ يسيطر حبّ الله على طبعنا ويحوّله.
ونصل إلى قمّة في 1يو. الله محبّة. هذا ما يقابل: الله نور (1: 5). الله روح (يو 4: 24). تلك طريقة المدرسة اليوحناويّة في التعبير عن الله. حين نقول إن الله روح، ندلّ على طبيعته التي تتعدّى عالم المنظور. وحين نقول إن الله نور أو محبّة، نبرز صفاته ولا سيّما حين يكشف نفسه للبشر. نلاحظ أننا حين نتكلّم عن الله كمحبّة، لا نحصره في وضع صفة مجرّدة. فالقول يعود إلى عمله حين نقول الله يحبّ، نعلن أن كل أعماله محبّة. وبما أن المحبّة هي نشاطه الشخصيّ، فالقول يشدّد على شخصيّة الله في أوسع امتدادها. وفي الوقت عينه، تظهر المسافة العظيمة بين الله والبشر. ما من انسان نقول عنه إنه المحبّة: وحده الله هو المحبّ الكامل.
لا نحتاج إلى نظرة سريعة إلى تعليم الكتاب المقدس في هذا المجال. يكفي أن نقول إن هذه الصفحات تقدّم أوضح تعبير عن طبيعة الله. كما نقول إنه خارج هذه الصفحات، لا نجد صورة عن الله تقابل هذه الصورة. الله كليّ المحبّة، وهو كليّ القداسة (1: 5). والعبارة لا تعارض الأخرى، بل ترجعان إلى الينبوع الواحد وتحدّدان عمل الله. عندئذ لن نندهش حين نرى يوحنا لا يتكلّم على المستوى اللاهوتيّ المجرّد، بل عن الله الذي يدلّ على حبّه من خلال أعماله: هكذا أحبّ الله العالم حتّى إنه أرسل ابنه الوحيد (يو 3: 16).
ما قيل في آ 7 (فليحبّ) يجد ما يسنده في آ 8. إن كان يجب علينا أن نحبّ، فليس بسبب قيمة نجدها في الحبّ نفسه. بل لأن الله محبّة. نلاحظ أولاً أن الجدال يدور خلال معرفة الله: من لا يحبّ لم يعرف الله. نحن في صيغة الاحتمال (إغنو). فكما في 3: 1، من لا يحبّ لم يصل يومًا إلى معرفة الله. وهو الاله الحقيقيّ كما تنادي به المدرسة اليوحناويّة (آ 9- 10) ثانيًا، إذا كان ذاك الذي يعرف هذا الاله يحبّ، فليس لأن كل حب يأتي من الله، بل لأن مقياس معرفة الله الحقّة هي ممارسة الوصايا. فهناك إمكانيّة أخرى تجعلنا بعيدين عن منطق يوحنا: نعرف الله ووصاياه، ولكننا لا نطيع. ثالثًا، بين الاله المحبّة والحب الأخوي مشاركة في جوهر الله، بواسطة سرّ المعموديّة. في الواقع، حين نعرف الله نعرف وصاياه. وحين نتعرّف إلى الله، نخضع لوصاياه (2: 4؛ 4: 20). رابعًا، محبّة الاخوة هي نشاط يقع في امتداد نشاط الله. حين نحبّ الآخرين نتابع عمل الله في العالم. وإن محبّة الله تلمّح علينا لكي نحبّ إخوتنا: نقتدي بالله كالأبناء الأحبّاء. خامسًا، يجب أن نحب لأن الله محبّة. وهكذا كان التحديد في آ 8ب، و16ب في خدمة الحياة الخلقيّة. الله نور (1: 5) فيجب أن نسير في النور. الله روح. يجب أن نعبده بالروح (يو 4: 24). الله محبّة. إذن، يجب علينا أن نحبّ كما هو يحبّ.
ب- حبّنا صورة عن حبّ الله (4: 9- 10)
أولاً: أظهر الله محبّته (آ 9)
متى أظهر الله محبّته؟ حين أرسل ابنه (رج يو 3: 16). فحبّ الله لم يتجلَّ بنتائجه في علاقات بشريّة حيث يسيطر العمل لا اسم الله، وحيث الوحي غائب. بل تجلّى حين تماهى مع ابن الله. فالمسيح هو كلّ حبّ الله كما كان من الأزل، وليس مشاركة في هذا الحبّ كما هو الأمر بالنسبة إلي الانسان. غير أن حبّ الله هذا صار ضعيفًا لكي يلامس ضعفنا، صار سريع العطب في يسوع المسيح على الصليب فمات لكي يحمل إلينا الحياة بقيامته.
سبق يوحنا وقال لنا كيف دلّ الله على محبّته، فمنع القرّاء من مزج حبّ الله مع ما يحلّ محلّه على مستوى البشر (3: 16). وها هو الآن يتجاوز هذا الأساس، فيستعيد نقاطًا ويقدّم أخرى. إن مجيء المسيح الذي هو مثال الحبّ السامي، يدلّ بما فيه الكفاية على حبّ الله بالذات. هذا ما تضمنّته 3: 16- 17. فاحتاج إلى توضيح. وهكذا دلّ يوحنا على أن مجيء المسيح صار منظورًا في خبرتنا (لو 1: 1؛ يو 1: 14؛ 1كور 11: 19؛ 2كور 4: 3، إن هامين ، فينا) لحبّ الله الخفيّ (فانيروو يذكّرنا بتجلّي ما كان في الأصل خفيًا). إن صليب المسيح هو التجلّي المنظور في العالم لهذا الحبّ الذي يعود إلى الأزل. أرسل الله ابنه الوحيد الأوحد إلى هذا العالم، لكي ننال به الحياة. وهنا نجد عاملين يحدّدان طبيعة هذا الحبّ: التضحية بالنفس. العمل من أجل الآخرين. مع أن فعل "أعطى" لا يُستعمل هنا (3: 1؛ يو 3: 16)، إلاّ أن فعل "أرسل" يقدّم الطريق التي اتخذها الابن ليأتي من عالم السماء إلى عالم الخطيئة وعصيان الله.
آ 9 هي مع آ 10 أساس آ 8، وتهيئة لما في آ 11. تلك. حرفيًا: بهذا (إن توتو) هي تتوضح مع "هوتي" أن الله أرسل ابنه. في هذا فقط يتجلّى الحبّ، لا في طريقة أخرى يقدّمها الهراطقة. لا يستخرج الكاتب النتائج المنطقية لمبدأ "الله محبّة". ولا يرتكز على الخبرة الحاليّة لهذا الحبّ. بل يكتفي بأن يقول إن هذا الحبّ ظهر في التاريخ. فالفعل "فاناروو". يطبَّق في 1يو على مصير يسوع على الأرض كمرسل الله. وهذا التجلّي لا يراه سوى الايمان (1: 2؛ 3: 5، 8). لنا، من أجلنا ونقرأ: فينا. أي بين المؤمنين وبين البشر. والكلام عن يسوع كالابن الوحيد خاص بالمدرسة اليوحناويّة (يو 1: 14، 18؛ 3: 16، 18). لسنا فقط أمام عدد: ابن واحد لا ابنان. بل أمام شخص يمثّل الله على الأرض، ويمثله وحده، ويقوم بعمل الآب. تقابل صفةُ الوحيد في الأناجيل الازائية: الحبيب. رج مت 3: 17؛ 12: 18... لنحيا به. نجد هنا مشروع الله بالنسبة إلى الانسان: لكي نحيا. لا يرد فعل "نحيا" (زيسومان) إلاّ هنا، في رسائل يوحنا الثلاث. نحن نستطيع أن نحيا بفضل عمل الخلاص الذي تمّ بيسوع المسيح (رج آ 10؛ 3: 5، 8). ونحيا حقًا حين نحبّ إخوتنا، فتُشبه حياتنا حياة يسوع. "به" (دي اوتو). صارت حياته حياتنا.
ثانيًا: تلك هي المحبّة (آ 10)
وهكذا نكون أمام صورة صادقة عن حبّ الله وصورة كاذبة. فعبارة "الله محبّة" لا تقدّم فكرة مجرّدة عن كائن الله، بل ترينا إياه فاعلاً. هذا لا يعني أن الله لم يكن يفعل فيما قبل، أنه كتّف يديه ووقف بعيدًا بعد أن ترك العالم يتخبّط في مصيره. فالعالم موجود والانسان يهتمّ به. ولكن كان حجاب يخفي اهتمام الله بالعالم. أما الآن فظهرت محبّة الله بشكل ملموس ومنظور، فلا نستطيع بعد اليوم أن نقول إن العالم هو ألعوبة في يد القدر.
بعد أن حدّثنا يوحنا عن طبيعة حبّ الله، قال لنا إنه يتحدّث عن الحبّ في حدّ ذاته كما تجسّد. لاشكّ في أننا لا نقدر أن نتكلّم عن حبّ لا ينطلق من حبّ الله. كما لا نستطيع أن نفهم الحبّ حين ننظر فقط إلى حبّنا لله. إن صيغة الكامل (إيغابيكامن) إلى أن حبّنا المتواصل لله هو الأساس، بل الحبّ الذي أظهره الله لنا في التاريخ، في يسوع (إيفابيسن، الاحتمال). بل إن الحبّ يُرى أولاً في عمل الله الذي أحبّنا وعبّر عن حبّه حين أرسل (الانتقال من صيغة الكامل إلى صيغة الاحتمال، يدلّ على التجلّي التاريخيّ للحبّ، لا على نتائج عنل الله المتواصلة) ابنه كفّارة عن خطايانا. في هذه العبارة، نجد أعمق مدلول للفظة حبّ: تُغفر خطايا المحبوب فلا تعود تُذكر. وهذا ما فعله الله من أجل العصاة.
أجل، هذا الحبّ ليس حبًا عامًا، بل حبّنا الله. حبّنا لا يسبق حبّ الله لنا، كما يقول الهراطقة. إنه جواب على حبّ الله لنا في يسوع المسيح. نشير هنا إلى أن الشق الثاني من آ 10، يستعيد 2: 2. فحبّ الله ليس حدثًا باطنيًا وفرديًا لا تعرفه سوى نخبة من الناس. إنه عمل الله التاريخيّ على الصليب. لا حبّ صادقًا إلاّ في الأقرار بأسبقيّة حبّ الله لنا.
ج- نتائج محبّة الله (4: 11- 13)
أولاً: واجب الحبّ (آ 11)
ما كان بمقدور أحد أن يحطّم حاجز الخطيئة والألم والموت الذي يفصل عالمنا عن عالم الله. ولكن هذا عملَه حبُّ الله، لهذا كان هذا الحبّ كل شيء. وإذ فعل الله ما فعل، دعا الانسان إلى الحبّ. قبل ذلك، ارتبط الحبّ بوصيّة الله (3: 11، 23) أو بأصله الذي هو في الله (آ 7، الحبّ، من الله). أما الآن، فنعود إلى الطريقة التي أحبّنا الله. نحن لا نستطيع أن نحبّ كما يحبّ الله، ولكننا نتطلّع إلى الله ونحبّ بقوانا البشريّة. نحبّ لأننا محبوبون.
من نال حبّ الله بهذا القدر، لا خيار له. فعليه أن يحبّ. ومن غُفرت خطيئته، عليه أن يغفر. وحبّنا لله ظهر أول ما يظهر في حبّنا لاخوتنا. وبما أن هناك حبّ الله للخطأة، فهذا يعني أن الحبّ لا ينحصر بين الاخوة، بل يصل إلى الجميع. غير أننا نبدأ مع الاخوة، فنبيّن أن مسيرتنا صحيحة وهي تستطيع أن تتواصل حتى الأعداء الذين يحبّهم الله كما يحبّنا.
استعادت آ 11 فكرة "الله محبّة" فاستخلصت النتيجة: نحبّ بضنا بعضًا. توجّه يوحنا إلى أحبائه (أغابيتوي، 2: 7؛ 3: 2، 21). هم الأبناء الصغار (2: 1، 12، 28) الذين يشكّلون الجماعة الامينة للتعليم الرسوليّ. "ماذا" تعني: لأن. نحن أمام واقع بما أن الله "هوتوس"، هكذا. هي نوعيّة المحبّة التي وصلت إلى الغاية. تحدّث يو 3: 16 عن امكانية الايمان ونوال الحياة الابدية (هكذا أحبّ الله). أما يو فعن واجب حبّ الاخوة "يجب" (اوفايلومن). رج 2: 6؛ 3: 16؛ 3 يو 8. ليس الحبّ الأخويّ نتيجة مباشرة وطبيعية لحبّ الله. لهذا، على الرسول أن يحثّ المسيحيين، ولا سيّما الذين أخذوا طريق الضلال.
ثانيًا: ما من أحد رأى الله (آ 12)
ما يؤسّس وصيّة المحبّة الأخويّة، هو حبّ الله كما تجلّى في المسيح (رج 2: 6؛ 3: 3، 17). نحن هنا على مستوى القياس، لا على مستوى التشابه التام. نتصرّف كما تصرّف المسيح، فنشبهه ولا نشبهه. وفي أي حال، هو يأخذ عملنا الضعيف فيرفعه.
أعلنت آ 12 أن الله ما رآه أحد. رج يو 1: 18. فما دام الانسان يعيش في عالم محدود بالخطيئة والموت، فهو لا يستطيع أن يشاهد الله وجهًا لوجه. ولكن رغم ضعف معرفتنا، فنحن أكيدون أن الله يعمل على الدوام. وهكذا نستطيع أن نرى الله في أعماله. ونستطيع أيضًا أن نراه حين نحبّ بعضنا بعضًا. حينئذ يصبح الله حاضرًا (3: 24؛ رج مت 18: 20). وفي النهاية يقول لنا يسوع: من رآني رأى الآب (يو 14: 9).
بعد أن قال لنا يوحنا أنه يجب أن نحبّ بعضُنا بعضًا، ها هو يقول لنا: إن أتتمنا وصايا الله، أمام الله فينا وصارت محبّته كاملة فينا. ولكن قبل أن يصل إلى هذه النقطة، يرجع إلى قول معارض به نفهم النتيجة: ما من أحد رأى الله، في يو 1: 18، كان الله لا منظورًا فتجلّى في ابنه المتجسّد يسوع المسيح. أما هنا فيصبح منظورًا في المحبّة الاخويّة. قد يكون معارضو يوحنا تحدّثوا عن رؤية مباشرة لله، عن خبرة صوفيّة مستيكيّة. فردّ يوحنا قائلاًَ بأن الله لا يُرى بهذا الشكل. بل هو لا يُرى حقًا إلاّ في المجيء الثاني (3: 2). ولكنه يتجلّى منذ الآن عبر محبّتنا الأخويّة.
ما يحدث هو أنه حين نعمل بوصيّة المحبّة الأخوية، نختبر حضور الله في وسطنا. وفي الوقت عينه، محبّة الله كاملة فينا. نحن هنا أمام مسألة تفسيريّة واجهناها في 2: 5 و3: 17: هل "حبّه" يعني "حب الله لنا" أو "حبّنا الله"، أو "نوعيّة حبّ الله"؟ الخيار الأول ممكن، ولكنه لا يتوافق مع ما في 2: 15 و5: 3. والخيار الثاني يعني أن الحبّ الأخويّ هو امتداد لحبّ الله. والخيار الثالث يجنّبنا صعوبات واجهناها في الخيار الأول. والمعنى: حين نحبّ الآخرين ندلّ على أن حبّ الله لنا وصل إلى ملء نتيجته في حياتنا، أو أن حبّنا لله وصل إلى ملء تعبيره، أو أن هذا النوع من الحبّ الذي أظهره الله لنا وجد ملء تعبيره في حياتنا. ماذا نختار؟ ندمج الخيارين الأول والثالث: حين نحبّ الآخرين يبلغ حبّ الله فينا إلى ملء نتيجته فيخلق نوعًا من الحبّ كذاك الذي فينا.
ويعود يوحنا إلى خبرة صوفيّة تبدو ذروة في الديانة المسيحيّة. هو لا يطلب من الانسان أن يترك العالم ويعيش وحده في رؤية الله. بل إن الذي يحبّ إخوته (على المستوى العمليّ، 3: 17- 18) يختبر ملء الاختبار حبّ الله في قلبه، ويعرف حضور الله معه. هذا لا يعني أن واجب المسيحي ينحصر في المحبّة الأخويّة، كما يظنّ البعض. يعلن يوحنا أن المحبّة ضروريّة في ديانة تودّ أن تكون معرفة حقّة لله. لا نستطيع أن نجد الله حين نهرب من العالم ومن المحبّة الأخويّة. غير أننا لا نقدر أن نجد الله فقط حين نحبّ إخوتنا. فالديانة الحقّة تقدّم بالايمان بيسوع المسيح وبالعمل بوصيّة المحبّة.
في النهاية، نطرح سؤالاً حول حرف العطف بين "ثبت" و"أكمل" (1) يدلّ على نتيجة: بما أن الله يثبت فينا فحبّه كامل. (2) إضافة: الله يثبت فينا. ومحبّته كاملة فينا. (3) شرح: الله يثبت فينا. يعني هذا أن محبته كاملة. بما أننا في إطار هجوميّ، نأخذ بالخيار الثاني: حين نحبّ بعطف بعضُنا بعضاً، عند ذاك فقط يثبت الله فينا، فنستطيع أن نتكلّم عن حبّ كامل. وهذا الحبّ هو حبّ الله الذي يصل إلى غايته (رج يو 13: 1).
ثالثًا: وهب روحه (آ 13)
الحبّ هو ثمرة الروح. فالفكرة القائلة أن الحبّ علامة تدلّ على أن الله يقيم (يثبت) في الانسان، وأن الانسان يقيم في الله، قد قرأناها في 2: 5؛ 3: 23- 24، الذين تحدّثا عن الايمان بيسوع المسيح والمحبّة الأخويّة، فرأيا في شركة الايمان والمحبّة شهادة عن موهبة الروح. وفي هذه الآية، يتكلّم يوحنا أيضًا عن هذه الموهبة مع تشديد على الشركة في المحبّة. فالمحبّة هي ثمرة الروح، وبالتالي استباق أخير وكامل مع الله: هو يملأ حياة أولاده، وروحه عربون للزمن الحاضر الذي صار بفضل الحبّ، استباقًا لهذه الأبديّة التي لا تعرف الزمن ولا يبقى فيها سوى الحبّ.
هذه الآية (آ 13) جعلناها في هذه القطعة. وكان بالامكان أن نبدأ القطعة التالية. ولكن العودة إلى الروح القدس شكّلت خاتمة القطعة هنا وفي 3: 24 وفي 4: 6. أما الفكرة فهي: نحن نقيم في الله (لا الهراطقة). وفينا يقيم الله. والعلامة: أعطانا روحه. لسنا هنا أمام برهان وضعيّ نلمسه بأيدينا. فالكاتب يتوجّه إلى مؤمنين، وهو يحثّهم على أن يتعرَّفوا إلى ما نالوه من الموهبة، ولا يتوقّفوا عند مقولات المضلّلين. إذن، لا تعلن آ 13 مقياس الشركة مع الله بشكل نظريّ. بل تطبّق هذا المقياس على جماعة محدّدة، جماعة ظلّت أمينة للتعليم اليوحناويّ الأصلي (1: 1- 4)، لأنها نالت الروح.
فالمقياس ليس الحبّ، بل الروح. هل هناك من تعارض؟ هذا ما ظنّه بعضهم، فاعتبروا هذه الآية حاشية مضافة، ولكن المهمّ هو أن يوحنا لا يحدّ من قدر الروح، فيربطه بروحيّة غنوصيّة، بل يعتبر أن هذا الروح وُهب لجماعته. بهذا نعرف (رج 2: 3، 5؛ 3: 16). وأساس معرفتنا واضح. ويرد مرتين فعل ثبت، أقام (ماناين). لسنا أمام نخبة مميّزة. فالجميع مدعوّون، فكل من يؤمن بالابن ويحفظ وصاياه، يقيم في الله، والله يقيم فيه (3: 23- 24).
اعتبر بعض الشرّاح أن موهبة الروح تمكّن المؤمن من عيش المحبّة. وهكذا نكون في خطّ بولس الرسول. أما 1يو فلا تجعل المحبّة الأخويّة موهبة (ثمرة) من مواهب الروح، بل متطلّبة إيجابيّة تتوجّه إلى المؤمنين. وحدهم الذين يحبّون ينالون الروح لشهادة على حضور الله وعلامة على رضاه. كيف تبدو هذه الموهبة؟ يرد الفعل في صيغة الكامل: هي موهبة نلناها في الماضي، ما زالت حاضرة. لسنا أمام مواهب خاصة كما هو الأمر في فكر بولس. وهذه الموهبة لا تضاف إلى حياتنا من أجل المنفعة العامة. إنها تشكّل هذه الحياة منذ بدايتها. حسب 2: 18- 27، فيرتبط الروح ارتباطًا وثيقًا بالتعليم الصحيح. لقد علّم الجماعة المؤمنة وما زال يعلّمها. والأبناء الأحبّاء يستطيعون أن يثقوا بتعليمه.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
عالج الكاتب موضوع المحبّة أيضًا، فبدا وكأنه يعود إلى ما سبق وقاله. حاول مرتين أن يعبّر عن حقيقة "يمتلكها". وها هو يستعيد الخطوط الكبرى، فيقدّم لنا لوحة ثالثة لا يقلّ جمالها عن اللوحتين الأوليين. في 3: 23، ارتبط الحبّ بالايمان ارتباطًا وثيقًا بحيث شكلا معًا وحدة تامة. وحين انتقل يوحنا من الواحد إلى الآخر، دلّ كيف أن الاثنين لا ينفصلان. فكيف نفصل الشمس عن حرّها؟
الله محبّة. هذا ما قاله يوحنا. ولكنه لا يكتفي بأن يعلن، بل يدلّ على بعدها واتساعها. لا بدّ من أن نعرف ما هو حبّ الله، ماذا يطلب منا، ماذا يمنحنا. إن حبّ الله يبدو في كل عمقه حين نتطلّع إلى يسوع الذي هو الابن الوحيد الذي أرسله الله إلى العالم. أن لفظة "مونوجانيس" ترد خمس مرات في العهد الجديد فتطبّق على يسوع، نجدها أربع مرات في يو (1: 14، 18؛ 3: 16، 18)، ومرة واحدة في 1يو (4: 9) هو المولود منذ الأزل، ويحيا مع الآب في علاقة فريدة: هو موضوع حبّ الله. وما من أحد يعرف مثل هذه الحياة الحميمة مع الآب. وبما أن يسوع هو ابن الله الوحيد، فإرساله إلى العالم هو البرهان المطلق على حبّ الله للعالم.
ذاك هو حبّ الله. ومتطلباته نقرأها في آ 11: أحبّنا، يجب أن نحبّ. هو فرض، يتعود إليه آ 21 مع "وصيّة". نحن لسنا مشاهدين لا يُلزمنا المنظر شيئًا. بل نحن مدعوّون إلى الحبّ. وعندئذ يُذكر الروح الذي يوهب لنا، فيكون العلامة الأكيدة على صدق حبّنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM