المحبّة والمخافة
4: 14- 21
ليس من السهل إيجاد خطّ تفكير يوحنا في هذه الآيات من 1يو. فكأنه يبدأ فيُجمل الأسس التي تؤكّد للانسان أنه مسيحيّ: نال الروح، عرف أن يسوع جاء كمخلّص العالم، اختبر اختبارًا شخصيًا محبّة الله، ويتوسّع يوحنا أيضًا في فكرة المحبّة فيقول إن محبّة نعيشها هي العلامة بأننا نعرف كله ولنا شركة معه. لهذا، نعيش الثقة في يوم الدينونة، إذ لا مكان للخوف من العقاب في علاقة المحبّة. غير أن هذه العلاقة لا تكون حقّة، ومحبّة الله لا تكون صادقة إلاّ حين نعيش المحبّة الأخويّة. فضرورة مثل هذه المحبّة أمر بديهيّ. فمن يحبّ الآب يرتبط بالمحبّة مع الأبناء. ليس هذا بالأمر البسيط. ولكن الذين وُلدوا من الله يعرفون أن إيمانهم يعطيهم القدرة لكي يعيشوا وصيّة المحبّة هذه.
يبدأ كل شيء بالشهادة التي تؤدّيها الجماعة المؤمنة (آ 14، 16). ونتيجة هذه المحبة التي نعلنها هي ثقة تامّة (آ 17) وانتصار على خوف (آ 18). وتبدو آ 11- 21 بشكل خاتمة تشير إلى ما يميّز هذه المحبّة: ينبوعها في حبّ الله لنا الذي يسبق حبّنا له (آ 19). وهذا الحبّ لا ينفصل عن الحبّ الأخويّ (آ 20- 21): "من أحبّ الله أحبّ أخاه أيضًا". ننطلق من محبّة الله لنا فنصل إلى محبّتنا لاخوتنا دورًا بالتغلّب على المخافة. ونجد موضوعين متناقضين يرتبطان بشكل أصيل بالمحبّة: الثقة التامة (بليروفوريا) والمخافة (فوبوس).
1- دراسة كتابيّة
أ- شهادة واعتراف (4: 14- 16)
نقسم هذه القطعة (4: 14- 21) ثلاثة أقسام. شهادة واعتراف (4: 14- 16). نتائج المحبّة (آ 17- 18)، ميزة المحبّة (آ 19- 21).
أولاً: شركة الايمان (آ 14- 15)
حين استعاد يوحنا بعض الاعتبارات ف 3: 23- 4: 3، عاد إلى شركة الايمان. فتحدّث أولاً عن الآب الذي أرسل مخلّصًا وهي المرة الوحيدة التي يُذكر فيها المخلّص، رج يو 4: 42، مخلّص العالم. مرّة واحدة أيضًا). قدّم الكاتب نفسه، كما في بداية 1يو، كشاهد عيان. فالاله الذي لم تره عين، ظهر، في ابنه، للبشر الذين أرسلوا ليشهدوا له. وتجد هذه الشهادة ينبوعها في الله الذي شهد لنفسه وما زال عبر سلسلة الشهود: في هذا المعنى، يقيم الله فيهم وهم يقيمون في الله.
موضوع الايمان هو ابن الله الذي ارتبط الخلاصُ به. وهذا الخلاص الذي هو عمل من عند الله لا تحلّ محلّه نظريّات عن الخلاص، سواء كانت صالحة أم رديئة. يبقى أن الذي لا يعترف بأن يسوع هو ابن الله، يجعل من تعليم الخلاص سرابًا وعبثًا. وحين نقول إن يسوع هو ابن الله، هذا يعني أنه مرسل الله، لا ذاك النبيّ، ولا انسانًا يوقظ الناس من رقادهم. أنه ذاك الذي يحمل إلينا الخلاص من قوى الدمار، والتحرّر من الشرّ والخطيئة والموت.
كان يوحنا قد قال لقرّائه: محبّتهم الأخوية تدلّ على أن الله يثبت ويقيم فيهم (آ 12) وفي آ 13 (رج 3: 24ب). أعلن أننا نعرف أن الله يعيش فينا لأنه أعطانا روحه، أعطانا من روحه. وكيف نعرف أننا نلنا الروح؟ ثقة في الصلاة. يقين بأننا أبناء الله. مواهب متنوّعة. كل هذا يقودنا إلى الأمانة للشهادة الرسوليّة. نعيش كل هذا فتدلّ على أننا مسيحيون حقيقيّون.
وهكذا نتميّز عن الذين يتوقّفون عند الخبرات المواهبيّة. فالبرهان على واقع العطايا الروحيّة هو ارتباطها بالايمان الرسوليّ. لهذا يعلن يوحنا مع قرّائه أنهم رأوا، والآن يشهدون أن الآب أرسل ابنه ليكون مخلّص العالم. نحن هنا أمام شهادة الكنيسة ككلّ، لا شهادة يسوع خلال حياته على الأرض. في الآية السابقة (آ 13) سُمّي يسوع كفّارة. وهنا، هو المخلّص. بما أن يسوع كفّر عن خطايانا، صار مخلّصًا. هكذا اكتشفه السامريون بعد أن حملت إليهم البشارةَ تلك المرأة دعتهم ليسمعوا نبيًا قال لها كل شيء (يو 4).
وجّه يوحنا كلامه إلى الخصوم. فإن أرادوا أن يثبتوا في الله، عليهم أن يعترفوا بأن يسوع هو ابن الله. وبعبارة أخرى، إن إمكانيّة الشركة مع الله ترتبط بواقع تاريخيّ، واقع التجسّد. يجب أن نعترف بأن الآب أرسل ابنه، وأن الابن هو يسوع. ومن الواضح، أن هذا الاعتراف يذهب أبعد من إقرار بواقع تاريخيّ. فالاعتراف بأن يسوع هو ابن الله، لا يقوم فقط بقول حول وضعه الالهي، بل بالتعبير عن طاعة الثقة بذلك الذي هو ابن الله. فالاثنان يسيران معًا: نؤمن بأن يسوع هو ابن الله (هناك من يقول: لا أدري)، ونثق به ثقة الطاعة (فلا نكتفي معه بالكلام، بل نصل إلى العمل).
ونعود إلى التفاصيل. تبدأ آ 14 مع حرف العطف (كاي) الذي يربطها في آ 13، فيطلعنا في توسّع جديد. الضمير "نحن" (هامايس) يدلّ على الكاتب والشهود الذين كانوا من البدء، وهو لا يعني كما في آ 13 (الكاتب والقرّاء). لا شكّ في أن أحدًا لم يرَ الله (آ 12أ)، ومع ذلك مُنح شهود الابن أن يروا الله بشكل غير مباشر. فالشهود رأوا أنه أرسل ابنه. جاء الفعل في صيغة الكامل (رأوه في الماضي)، ثم في صيغة الحاضر (هم يشهدون لهذا الحضور اليوم). هذه الرؤية ليست مشاهدة حياة يسوع الناصري، ولا مشاهدة صوفيّة، بل رؤية ايمانيّة ليسوع المسيح كمخلّص العالم (رج لو 2: 11؛ أع 5: 31؛ 31: 23؛ أف 5: 23؛ غل 3: 2...). ورد فعل "رأى" (تياأوماي) في 1: 1، 4. وهنا للمرة الثالثة والأخيرة. رأينا ونشهد. أي رأينا ولهذا نستطيع أن نشهد (النتيجة). أرسل. رج آ 9 واستعمال صيغة الكامل، وآ 10 وصيغة الاحتمال. نحن هنا أمام صيغة الكامل التاريخيّ: لا يصل العمل إلى الزمن الذي فيه يكتب يوحنا، غير أن النتائج ما زالت حاضرة. هو الابن (آ 9). يرد هذا الكتاب الكرستولوجيّ مرارًا في 1يو. هو ابن يسوع. من أنكر هويّته لا يكون له الآب (2: 23). ترد هنا كلمة المخلّص (هناك الفعل سوزو في يو 3: 17؛ 5: 34؛ 12: 47). والخلاص يعني معرفة الله بواسطة الابن (1: 7- 9؛ 2: 2). العالم في 1يو هو مجمل البشريّة (2: 2) التي هي موضوع عمل يسوع المسيح. العالم يعارض الوحي (3: 1، 13)، ولهذا سوف يزول (2: 17).
وتستعيد آ 15 الكلام عن الابن لتحدَّده بوجه سوء التفاهم. هذا الابن المخلّص هو يسوع. "بأن" (هوتي) نحن هنا أمام توضيح: يسوع الذي هو ابن الله. لا نكتفي بأن نؤمن به، بل نعترف به في العلن (1: 9؛ 2: 23؛ 4: 2). كانت أقوال عن ابن الله في المسيحيّة الأولى. ولكن القول بأن ابن الله هو يسوع شكّل عثارًا للهراطقة، كما أفهم جماعة يوحنا أن هذا هو جوهر الايمان. "الله فيه وهو في الله". نحن أمام مشاركة. ولكن الاعتراف لا يعني المشاركة، بل يقود إليها. وليس هو سبب المشاركة، بل علاقتها. ما تريد 1يو هو أن تعلن أن من اعترف بهذا الابن كانت له شركة مع الآب، لأن من له الابن له الآب (2: 23).
ثانيًا: نحن نعرف محبّة الله (آ 16)
من دون هذا اليقين الايماني الذي يربط ابن الله بيسوع هذا، لا معنى للايمان بحبّ الله. وما يسنده، هو أن الله لم يكن حاضرًا في العالم فقط بواسطة نتائج عمله الخلاّق. بل في ابنه الذي هو كلمته وفكره وحبّه، والذي سلّم ذاته بكليتها للعالم مع ظروف الحياة والموت التي فيه. وهكذا قاسم الانسان مصيره. إن الواقع الذي يشرف على إيماننا هو أن الله محبّة. والثبات في محبّته يتضمّن وجهتين: نعيش الحبّ الأخويّ. فلا يمكن أن نتصوّر الايمان من دون الحبّ، لأن الاثنين يخرجان من الله. ثم، نحافظ على الايمان بالحبّ الذي أظهره الله في وسطنا. فالحبّ بدون إيمان يبقى ناقصًا.
يمكن أن تكون آ 16 متوازية مع آ 14 فتقدّم أساسًا آخر للمعتقد المسيحيّ. فالمؤمن أكيد من إيمانه، لأنه اختبر اختبارًا شخصيًا حبّ الله. بدأ يعرف وما زال (صيغة الكامل) وجعل إيمانه (= ثقته) في هذا الحب (بستاوو مع المفعول به، يو 11: 26؛ 1كور 13: 7). محبّة الله لنا. حرفيًا: المحبّة التي لله لنا. لا يفكّر يوحنا فقط في الحبّ الذي أظهره الله لنا على الصليب، بل على خبرة شخصيّة لهذا الحبّ في قلوبنا كما وضعه الروح (روم 5: 5).
وكان تساؤل: هل آ 16 ب تختتم القطعة مع قطعة جديدة تبدأ في آ 17، أم هي تبدأ موضوعًا جديدًا؟ من المعقول جدًا أن تكون آ 16 ب في وضع آ 15: في الحالتين نصل إلى نتيجة حول أناس يعلنون اعترافهم. بما أن الله محبّة، كما قيل في آ 8، فهذا يعني أن الذي يحيا في المحبّة يحيا في الله والله فيه: لا يعني أننا حين نحبّ تكون لنا شركة مع الله، بل الحب هو نتيجة شركتنا معه حين نعيش في الحبّ. ويُطرح سؤال آخر: أيشير يوحنا إلى حياتنا في حبّ الله لنا، أو حبّنا له ولاخوتنا؟ يبدو أن المعنى لا يتبدّل كثيرًا. فالمسيحيّ الحقيقيّ يعيش في عالم الحبّ كموضوع حبّ الله وكطريق لهذا الحبّ نحو الأخوة.
"ثبت (أقام) في المحبّة". ثلاث امكانيّات: نواصل العيش كموضوع حبّ الله. نواصل محبتنا لله. نواصل محبتنا لإخوتنا. من الصعب أن نفصل بين هذه الطرق الثلاث من المحبّة. فقوّة المحبّة هي مثلّث يتطلع إلى الله والذات والقريب. غير أن ينبوع كل محبّة هو الله وعنه وحده نستطيع القول إنه محبّة. فسواء أحببنا الله أو القريب، فحبّ الله هو الذي يعمل فينا بحيث يصبح حبنا محبّة حقيقيّة نجد مثالها في الله الذي أعطانا ابنه وفي المسيح الذي ذُبح عنا جميعًا.
هناك سمات ثلاث تؤسّس الرجاء المسيحي أساسًا: امتلاك الروح، الاعتراف بيسوع كابن الله، العيش في محبّة الله. نحن (لا الهراطقة) عرفنا حبّ الله. والتقت المعرفة مع الايمان اللذين نلناها في الماضي وما زالا حاضرين. وحرف العطف (كاي) يعني: عرفنا لأننا آمنا. أكدّت 1 يو فيما سبق أن من يحب اخوته يثبت في الله. وهنا تتحدّث ثبات في المحبّة. فحبّ الله لا ينفي حبّ الأخوة، بل يؤسّسه. وهذا الحبّ الأخويّ سيعود في آ 20- 21.
ب- نتائج المحبّة (4: 17- 18)
ذكرت آ 14- 16 ينبوع محبّة الله في إرسال الابن. أما آ 17- 18 تشيران إلى نتائج هذه المحبّة في الانسان: ثقة أمام الله (آ 17). تغلّب على الخوف (آ 18).
أولاً: ثقة أمام الله (آ 17)
حين تكتمل هذه المحبّة، يكون الانسان واثقًا في يوم الدينونة (2: 28). فالحياة في الايمان والمحبّة تستبق اللقاء الأخير مع المسيح وتعبّر بلغة القياس عن تشبّهنا به: كما هو، كذلك نحن. جاء الفعل في صيغة الحاضر فتحدّث عن المسيح كما يعيش اليوم، في عالم الله، كالبار (2: 29؛ 3: 7) والطاهر (3: 3). ليس بوحده، بل يحيا في شركة مع الله، تمتدّ في شركة الله مع البشر وتتم في العالم.
إذن، ليس حبّ الأخوة النتيجة الوحيدة لحبّ الله. سبق وتحدّثنا عن اكتمال الحبّ في 2: 5 و4: 12. ونحن نحبّ الله كمال الحبّ حين نحفظ كلمته (2: 5) ونحبّ اخوتنا (4: 12). وهنا تعني المحبّة أن نكون بلا خوف أمامه (4: 17، 18). في هذه القرائن الثلاث لا نفهم أن على المؤمن أن يرتفع تدريجيًا إلى حالة من الكمال الخلقيّ أو الدينيّ. بل يُطلب منه الخضوع لكلمة الله، ومحبّة الأخوة، والغلبة على الخوف. نتذكّر هنا مرة أخرى: ما يقدّمه يوحنا يقدّمه للجميع لا لنخبة منتقاة.
ونطرح هنا جملة أسئلة. (1) ما معنى "ماتامون" (حرفيًا: معنا). يقابل العبرية: ا ت ن و. عندنا. في وسطنا. في الجماعة اليوحناويّة الأمينة لتعليم الربّ. عندنا، لا مجال لخبرات الانخطاف، بل للثقة البسيطة أمام الله. (2) باريسيا. رج 2: 28؛ 3: 21: 5؛ 5: 14. دالة أمام المحكمة. دالة في الدينونة (في الصلاة، رج 3: 21؛ 5: 14). فهذا الحبّ يعطينا الحرية لنتكلّم أمام الله، لا لندافع عن نفسنا، بل لنعترف بالابن في الايمان (آ 14- 15). نحن نمتلك هذه الثقة، هذه الدالة، منذ الآن. ولهذا كانت صيغة الحاضر. (3) نقرأ في الشق الثاني من الآية "اكاينوس" أي المسيح (2: 6؛ 3: 3- 7، 16). والدينونة هي الدينونة الأخيرة أمام الله، لا أمام المسيح. كما كان يسوع في العالم، هكذا نكون نحن. تأسّست ثقة يسوع في محبّته لله. وتتأسّس ثقتنا أيضًا في محبّتنا.
أجل، تكتمل المحبّة الأخويّة (تاليوماي)، أي تجد ملء تعبيرها في واقع يتحدّث عن ثقتنا في يوم الدينونة (مت 10: 15؛ 11: 22، 24؛ 12: 36؛ 2بط 2: 9؛ 3: 7؛ يهو 6). فالمولود من الحبّ لا يعرف إلاّ الثقة أمام الديّان. ولكن قبل التوسّع في هذا المبدأ، يعلن أننا نكون مثله، أي مثل يسوع. مع أننا نعيش في عالم من الخطيئة، إلاّ أننا لا ننتمي إلى العالم (لسنا من العالم، كما يقول يو)، بل نعيش مع الله العلاقة التي يعيشها يسوع مع أبيه، ونحيا كما يحيا يسوع (2: 6).
ثانيًا: تغلّب على الخوف (آ 18)
في الحبّ لا مكان للخوف. الحبّ يستبعد الخوف. وهكذا تكون العلاقة حقيقيّة مع الله ومع القريب. فإن قلق الانسان واضطرب حين يفكّر بالله، فهذا يعني أن حبّ الله لم يلجه بعد. فالحبّ الكامل يطرد الخوف، كما يطرد فكرة إله يعاقب ويغضب، سواء في هذه الدنيا أو في الأخرى.
لا يمكن أن يكون الخوف والحبّ معًا. لهذا، فمن يرتبط بعلاقة حبّ مع الله، يستطيع أن ينظر إلى يوم الدينونة بدون خوف ولا اضطراب. أيكون الكلام عن حبّ الله لنا أو حبّنا له؟ إن تحدّثنا عن حبّه، نفهم أننا لا نخاف ممّن يحبّنا. وإن تحدّثنا عن حبّنا، فنحن لا نقدر أن نحبّ ونخاف في الوقت عينه. الشقّ الثاني من الآية يوافق الحلّ الثاني. ولكن التفسير الأفضل هو الذي يجمع الحلّين: حيث المحبة متبادلة، لا مكان للخوف. فالخوف يرتبط بالعقاب. وهنا أيضًا بدا كلام يوحنا ملتبسًا. فقد يعني أن الخوف هو خوف من المجازاة الأخيرة. والذي يرتبط برباط الحبّ لله لا يخاف من الدينونة ولا من الحكم. هذا يعني أن لا حاجة إلى الخوف في المحبّة. وقد يعني أن هذا الخوف هو خبرة مؤلمة، وهي بالتالي لا تتوافق مع علاقة المحبّة مع الله. هذا يفهمنا أن الله لا يريد الألم لأبنائه. فإن خاف انسان من الله، فهذا يعني أن حبّ الله لم يملأ قلبه بحيث يطرد كل خوف.
ومع ذلك، فهناك خوف (أو: مخافة) في حياة المسيحيين. فالمخافة تعني الاحترام لله، وهذا الاحترام يدلّ على علاقة من الصداقة والمحبّ رج لو 1: 50؛ أع 10: 2، 22، 35؛ 13: 16، 26... وهناك كلام عن الخوف والرعدة في 2 كور 7: 15؛ أف 6: 5؛ فل 2: 12. هذا يعني أنه يجب أن نتذكّر دينونته لئلاّ نسقط في الخطيئة. ما دمتُ أحبّ قريبي لا أخاف من الشريعة التي تمنع القتل. ولكن حين أتباعد عن الحب وأبدأ الكره والبغض، عندئذ أحتاج إلى الخوف من الشريعة التي تنبّهني من بعض يقول إلى القتل والانتقام.
إن لفظة "فوبوس" (الخوف) لا ترد إلاّ هنا في 1يو. أما في يو فهي تشير إلى الخوف من اليهود (7: 13؛ 19: 38؛ 20: 19). هي لا تدلّ على وجهة إيجابيّة من مخافة الله. فالحبّ الكامل الذي يطرد الخوف، هو كامل، لأنه يتجذّر في حبّ الله ويتمّ في محبّة الاخوة.
ج- ميزة المحبّة (4: 19- 21)
أولاً: الله أحبّنا أولاً (آ 19- 20)
من هو موضوع الحبّ البشري؟ الله أما الانسان؟ في آ 11، نجد تشديدًا على محبّة اخوتنا. أما آ 20- 21 فتشددان على محبّة الله وإن إشارتا إلى محبتنا لإخوتنا ومحبتنا لله. عندئذ نفهم أن حبّنا لله ينبع من حبّ الله للانسان. فلا يستطيع أحد أن يحبّ الله إن لم يعرف أولاً أنه موضوع حبّ الله. وحبّنا لله هذا ممكن، ولا ينحصر في بعض مواقف وعواطف. لا معنى به إلاّ في علاقته بالمحبّة الأخويّة، لا نستطيع أن نحبّ الله الذي لا نراه ولا نحبّ أخانا الذي نراه.
إن الوسيلة الرئيسيّة التي يستعملها الله ليعود بنا إلى علاقة الحبّ الحقّة، ليست الخوف من الدينونة، بل واقع الحبّ. نحن نحبّ لأن الله سبق وأحبّ. وحبّنا لله يتأسّس على حبّ الله السابق لنا. وهو عرفان جميل لهذا الحبّ. وبقدر ما تفهم محبّة الله لنا، نفهم بقدر ذلك واجبنا بأن نحبّ. لهذا، علينا أن نجدّد معرفتنا لمحبّة الله للعالم، ولا سيّما حين نتأمّل في الكتاب المقدس تاريخ الخلاص الذي وجد قمّته في شخص يسوع المسيح.
غير أننا نعبّر عن مثل هذا الحبّ لله بالمحبّة الأخويّة. فالذي يعلن أنه يحبّ الله ولا يحبّ أخاه هو كاذب. فمحبّة الله تترافق مع محبّة القريب. ولا تنفصل محبّة عن الأخرى. هكذا أجمل يسوع الوصايا في هاتين الوصيتين مع تشديد على المحبّة الأخويّة في يو 13: 34. فإن اعتبرنا أننا نحبّ الله ولا نحبّ اخوتنا، نخدع نفوسنا ولا يكون الحقّ فينا.
تبدأ آ 19 "أما نحن" (هامايس). أي الكاتب والقرّاء. ويقابلهم الهراطقة الذين يفصلون بين حبّ وحبّ. ويقولون (ويزعمون). في 2: 4 اعتبروا أنهم يعرفون الله. وها هم يقولون هنا إنهم يحبّونه. في 2: 9، اعتبر لبعض إخوته أنه في النور. فمحبّة الله ومعرفته والقيام في النور، هي عبارات غنوصيّة. وسوف يطبعها يوحنا بطابع التعليم المسيحي. يكره الانسان إخوته فيرفض أن يحبّهم، ويحتقرهم. وقد يعبّر عن بغضه حين يترك الجماعة ويلتحق بالهراطقة. الكاذب (بستوستيس). يكون من ينشر تعاليم كاذبة. أو من يخدع نفسه.
ثانيًا: وصيّة المسيح لنا (آ 21)
هذه الآية تضيف إلى آ 20 ب برهانًا آخر على السراب الذي يعيش فيه ذاك الذي يكره أخاه: هو ينسى أننا تسلّمنا من الله (في يسوع المسيح) وصيّة واضحة: من يحبّ الله يحب أخاه أيضًا. لفظة "إنتولي" تعني أكثر من وصيّة أو فريضة. تعني التعليم مجمل التعليم اليوحناوي حول الايمان بالمسيح والمحبّة الأخوية (3: 23). أما هنا، فنجد تشديداً على محبّتنا لاخوتنا. إذا كانت لنا (إخومان) هذه الوصيّة، فهذا يعني أننا تسلّمناها في الفقاهة اليوحناويّة الأولى. هذه الوصيّة لا تأتي مباشرة من الله (كوحي باطنيّ)، بل بواسطة تعليم يسوع التاريخيّ والتقليد اليوحناويّ الصريح. نحن في محبتنا أمام مشاركة في محبّة الله. بل ترى 1يو أن من يحبّ الله عليه (رج 2: 6؛ 3: 16؛ 4: 11) أن يحبّ إخوته بعد أن أوصاه الله بذلك من خلال ما سمعه المؤمن في اجتماع الجماعة اليوحناويّة.
احتاج قرّاء يوحنا إلى من يذكّرهم بأن محبّة الله لا تنفصل عن محبّة الأخوة، وبأن محبّة الأخوة لا تخرج بشكل آلي من محبتنا لله. وكأنها أمر طبيعيّ. كلا، فنحن نستطيع أن نغشّ أنفسنا ونعتبر بعض الممارسات الدينيّة تعبيرًا عن محبتنا لله. عندئذ نكون كالذين يقولون ولا يفعلون. أما 1يو فترى برهانًا لا يردّ: محبّتنا للأخوة هي العلامة الأكيدة بأننا نحبّ الله. هذا مع العلم أن المحبّة التي تبقى بشريّة محضة، تبقى ناقصة ولا تعتِّم أن تنضب. فهي بحاجة إلى ينبوع الله لكي يغذّيها لئلا تيأس إن لم تجد جوابًا، وتتحوّل إلى بغض وانتقام تجاه نكران الجميل والرفض الذي يواجهنا.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
نحن ثابتون في الله، والله ثابت فينا. والعلامة، روحه هو فينا. فماذا يجب علينا أن نعمل؟ أولاً، هو يطلب منّا أن نؤمن. "عرفنا محبّة الله لنا وآمنا بها" (آ 16). هم مجموعة الشهود الأولين. وهم المسيحيون في زمن يوحنا. ونحن أيضًا. فالمهمّ هو أن حبّ الله تجلّى في ابنه يسوع الذي أرسله لكي يعيش بيننا. ذاك هو موضوع إيماننا. لهذا تحدّثت آ 14- 15 عن الشهادة الرسوليّة واعتراف الايمان.
لقد فهم الكاتب مع مجموعة الشهود الذين يتكلّم باسمهم أن الله أرسل ابنه "كمخلّص العالم". أدرك هؤلاء الناس أن طفل المذود، والمائت على الصليب، والقائم من الموت يوم الفصح، هو الابن الحبيب الذي جاء على الأرض لكي يفتح طريق الله. يبقى علينا نحن أن نتقبّل هذا التعليم وندخله في حياتنا. فإن اعترفنا أن يسوع الانسان هو الابن الوحيد، تقيم محبّة الله فينا، وتكون لنا شركة معه. "من اعترف أن يسوع هو ابن الله، أقام الله فيه وهو في الله". فالحبّ والايمان والروح يرتبط الواحد بالآخر. فلا حبّ من دون ايمان. ولا ايمان من دون الروح الذي هو محبّة.
إن الوصيّة المعطاة تتضمّن الايمان وواجب ممارسة المحبّة الأخويّة في الواقع اليوميّ: "إن قال أحد أنا أحب الله وهو يكره أخاه، فهذا كاذب". فالتجربة واضحة: الله يحبّنا. ونحن نحبّه حين نرفع إليه الصلاة. ولكن ما دام هذا الحبّ لم يتجسّد في المحبّة الأخويّة، فليس بشيء. والايمان لا يكتمل إلاّ إذا مرّ عبر يسوع الذي جاء في الجسد. هذا يعني أنه أسهل علينا أن نحبّ الله من أن نحبّ اخوتنا. ولكن يبقى المقياس الحقيقيّ لمحبتنا لله هو المحبّة بعضنا لبعض. وهو الدلالة الواضحة أن الله يقيم فينا ومعنا.