روح الحقّ وروح الضلال
4: 1- 6
لا فائدة من النداء إلى الروح إن كنا غير أكيدين بأن روح الله هو الذي يشهد فمعارضو يوحنا يتحدّثون أيضًا عن إلهام الروح. أما العلاقة لالهام صحيح، فهي الاعتراف بأن يسوع جاء في الجسد، في لحم ودم. فأي تعليم ينكر هذا، يكون ملهمه الانتيكرست. وهكذا يكون روحان في هذا العالم، يمثّلان الحقّ والضلال. ولا ندهش إن كان العالم الذي يوجّهه الانتيكرست (المسيح الدجّال، المناوئ ليسوع المسيح) لا يقبل شهادة المؤمنين. فعلينا أن نبقى واثقين، لأن الله أعظم من خصومنا. بل منذ الآن انتصرنا على الأنبياء الكذبة.
1- دراسة كتابيّة
أ- نظرة عامّة
هذه القطعة (آ 1- 6) هي وحدة تكفي نفسها بنفسها، فتفصل بوضوح عمّا يليها. ترتبط بما سبق بلفظته "روح" التي نقرأها في آ 1 وفي 3: 24. هل الإشارة إلى الروح (3: 24) دفعت يوحنا إلى أن يتوسّع في هذه القطعة، أم أنه استبق هذه القطعة فأورد 3: 24 عن الروح الذي وهبه الله لنا؟ مع هذه القطعة، يعود يوحنا إلى موضوع عالجه من قبل، هو مجيء المسحاء الدجّالين (انتيكرست) مع اعترافه الكرستولوجيّ وما فيه من ضلال. ولكنه يعالجه بطريقة مختلفة بعض الشيء. في 3: 24 ب كان الروح المعطى علامة الشركة مع الله. أما في 4: 1- 6، فنجد الشكّ النقديّ تجاه خبرة الغنوصيّين الروحيّة.
يحيط بهذه القطعة قولان عن الروح فيشكّلان تضمينًا واحتواء. في آ 1- 3 ثم في آ 6ب. تبدو آ 4- 6أ بدون علاقة مع هذا الجدال عن الروح. ولكنها في الواقع ترتبط به ارتباطًا صحيحًا. والفكرة تبدو كما يلي: تحذير من روح الأنبياء الكذبة (آ 1). كيفيّة التعرّف إلى روح الله (آ 2- 3)، إلى الذين هم من الله، والذين هم من العالم (آ 4- 5). وأخيرًا، مقياس آخر (هو جديد بالنسبة إلى ما في آ 2- 3) لنميّز بين روح وروح: من يسمع لنا هو من الله.
هذه الآيات تحارب الهراطقة بقوّة، شأنها شأن 2: 18- 27. فهؤلاء الأنبياء الكذبة هو أولئك المذكورون في 2: 18 (انتيكرست). في 2: 18- 27 حديث عن المسحة، وهنا عن الأرواح. وفي كلا الحالين، ترتبط المسألة البنفماتولوجيّة (حول الروح القدس) بالمسألة الكرستولوجيّة (حول يسوع المسيح) وإن بشكل مختلف بعض الاختلاف. حسب 2: 18- 27، من أنكر المسيح يسوع أنكر الله. حسب 4: 1- 6 بدت الكرستولوجيا مقياس البنفماتولوجيا: من لا يعترف بيسوع ليس فيه روح الحقّ: في 2: 18- 27، كانت البنفماتولوجيا في خدمة الكرستولوجيا. أما هنا فالكرستولوجيا هي في خدمة البنفماتولوجيا. ولكن في هذين النصين، الاسلوب هو هو: لا يردّ الكاتب على التعاليم الخطرة، بل يحثّ المؤمنين على الثبات في التعليم الذي قبلوه.
ب- امتحنوا الأرواح (4: 1)
تظهر الشركة مع الله في الحبّ والمعرفة: ذاك هو التعليم الذي أراد يوحنا أن يعرضه في وجهة وفي أخرى: الحياة والتعليم، العمل والمعرفة. هناك تداخل وتكرار مع فتحْ منظورات جديدة في كل مرة. هنا يحذّر يوحنا أيضًا من الهراطقة، من الأنبياء الكذبة. عندئذ يجب أن يطرح المؤمنون السؤال: هل هذا من الله، هل هذا من البشر؟ هل نحن أمام حقيقة الله، أم أمام وهم بشريّ.
ينطلق الكاتب من الروح (3: 24) بمناسبة ظهور عدد من الأنبياء الكذبة. أيها الأحبّاء. رج 2: 7؛ 3: 2، 21؛ 4: 7، 11. هم قرّاء الرسالة المرتبطون بالجماعة الواحدة والمهدَّدون بنشاط هؤلاء المعلّمين. نلاحظ تلاحق صيغة المفرد (روح، كل روح) وصيغة الجمع (أرواح، أرواح الأنبياء الكذبة). بعد ذلك، تسيطر صيغة المفرد. وتُطرح مسألة الحقّ (آ 2- 3، 6) بمناسبة ظواهر تُعتبر روحيّة. لا تصدّقوا (بستواتي) ولا تثقوا بكل روح. أو لا تتركوا الأنبياء الكذبة يسحرونكم (آ 6ب). رج 3: 23.
يفترض السياق أن هذا الروح يظهر في كلمة. هو لا يُقبَل في ذاته ولا في ثماره، بل في نبوءة واعتراف. في كلمة تصل إلى العالم (آ 5). ونحن نستطيع أن نعرفها ونسمعها (آ 6). والفعل "دوكيمازو" (امتحن، تحقّق) لا يظهر إلاّ هنا في الأدب اليوحناويّ (لا يظهر تقريباً إلاّ في رسائل بولس): يجب أن نسمع بانتباه الأنبياء المتجوّلين ونطبّق عليهم المقياس الكرستولوجيّ (آ 2- 3) والمقياس الجماعيّ.
من خلال هذه النظرة، نكتشف ثلاثة أمور مهمّة: (1) ليس للروح (الكلمة) قوّة إقناع في ذاته. يجب أن نتحقّق من كل نبي. (2) في الحلقة اليوحناويّة، هناك تعليم نعود إليه، التعليم الرسولي الذي على أساسه نتحقّق من الأنبياء. يوحنا هو ممثّل هذا التعليم والمدافع عنه. الجماعة كلها مسؤولة عن السهر على التعليم، لا بعض الأشخاص كما هو الأمر في الرسائل الرعائية. (3) التعارض بين الروحين يجعلنا في خطّ جماعة قمران: روح الحقّ وروح الضلال (آ 6ب). هل ينطبق هذا التمييز عن الأفكار أو على الأشخاص (رج 2: 21)؟ إن السياق يجعلنا نستشفّ أننا أمام "تعليم" ينشره أشخاص هم مسحاء ودجّالون (2: 18) وأنبياء كذبة (4: 1)، والفئتان واحدة. لا تظهر صورة النبيّ الكاذب إلاّ هنا في 1يو. أما تواتر ظهورها فتُنشير إلى أصحاب دعاوة بلبلوا المسيحيّة في النصف الثاني من القرن الأول المسيحي (مر 13: 22؛ مت 24: 11، 24؛ أع 13: 6؛ رؤ 16: 13؛ 2بط 2: 1؛ رج مت 7: 15). لا يقول النصّ من أين جاء هؤلاء المضلّلون، بل ما هم وما يقولون.
شدّد يوحنا في هذا المجال على أن كل "روح" لا يمكن أن يصدَّق. لا نصدّق كل تعليم، ولا كل شخص يعتبر نفسه ملهمًا من الروح. وأعضاء الكنيسة لا يصدّقون ما يقولون أناس "ملهمون"، قبل أن يمتنحوا هذه الأرواح ويعرفوا أنها من الله. فهناك خطر الخداع بعد أن كثر الأنبياء الكاذبون في العالم، وهم يدلّون على الانتيكرست (2: 18). يذهبون إلى هنا وهناك، شأنهم شأن المرسلين المسيحيين (2يو 7)، وهمّهم أن يجتذبوا الناس إلى قضيتهم. ويبقى السؤال المهم: كيف نتحقّق (1تس 5: 21) من هؤلاء الناس؟
ج- بين روح وروح (4: 2- 3)
إذا أردنا أن نتعرّف إلى روح الله، نقول: "كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد يكون من الله" (آ 2). فروح الانسان نكتشفه في أقواله وفي أعماله. وهنا تدلّ الأقوال عن نظرتنا إلى كلمة الله المتأنّس. استطاع الهراطقة أن يتحدّثوا عن يسوع وعن شخص المسيح، ولكنه لم يجمعوا بين الاثنين. فقالوا: يسوع الناصري ليس مسيح الله ولا ابن الله. ما استطاعوا أن يحتملوا أن يكون الله جاء في انسان من لحم ودم. فأفكارهم المسبقة حول الله والانسان منعتهم من ولوج هذه الطريق.
رفض هؤلاء الهراطقة اثنين: أن يكونوا محتاجين إلى غفران الخطايا. أن يقولوا إن يسوع هو مسيح الله. لهذا نبّه يوحنا قرّاءه: إن كان المسيح لم يأت إلى العالم كابن الله، زال أساسُ إيمانهم. وتواصل تنبيه يوحنا في آ 3: كل روح لا يعترف أن يسوع جاء في الجسد (رج 1كور 12: 3 ورفض التجسّد الالهيّ). هناك من يقول: كل روح يقسم (يذيب) يسوع. لم يعد يسوع مخلّص العالم، فما الفائدة من الايمان به؟ هذا ما يقوله الانتيكرست الذي ما زال يعمل في العالم.
كيف نعرف؟ ويأتي الجواب. "أنتم تعرفون" (صيغة الحاضر، لا صيغة الأمر (غينوسكاتي). ويقول لنا يوحنا كيف نعرف (بهذا، إن توتو، 2: 5). الدليل هو اعتراف الايمان لدى شخص يُعلن أن الروح ألهمه (هومولوغيو، رج 2: 23؛ 4: 17؛ 2يو 7، اعترف. وهناك اعترف بالخطايا، 1: 9). فالفعل "هومولوغيو" يُستعمل وحده كما في يو 12: 42 (ما اعترفوا). أو مع أن (هوتي). رج 4: 15؛ يو 1: 20. أو مع مفعول به واحد (1: 9؛ 2: 23؛ 4: 3). أو مع مفعولين (4: 2؛ 2يو 7؛ يو 9: 22). هنا نأخذ بالامكانيّة الثانية وإن غابت "هوتي" أن يسوع جاء في الجسد.
تدلّ آ 2- 6 على ما يجب أن يكونوا هذا التمييز بين روح وروح. تطرح آ 2 المقياس الأساسي الذي به يرتبط الباقي. إن "إن توتو" (بهذا) تعني: على هذا الأساس تكشفون القناع عن مثل هذا الضلال، والامكانيّة حاضرة، وقد سبق للمؤمنين أن تحقّقوا من هؤلاء المعلّمين الكذبة. يجب أن يعرفوا روح الله في الاعتراف الكرستولوجيّ. لسنا أمام خبرة روحيّة، بل أمام مقابلة بين ما يقول هؤلاء الأنبياء وعبارات كرستولوجيّة تعلّمها المؤمنون من البدء. يجب أن يُسأل المؤمنون على جوهر الايمان اليوحناويّ، لا عن أمور خلقيّة. هل هم مستعدّون أن يعترفوا داخل الجماعة وفي العلن بأن يسوع كان بشرًا شبيهًا بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. هذا ما يقابل ما في آ 3: نعترف بيسوع.
إن الاستعمال الكرستولوجي للفظة جسد (لحم ودم، بدن) عرفه يو 1: 14؛ 6: 51 ي. وظهر في 2يو 7. لا ننسى نقيضة الجسد والروح في لو 3: 6، ومحدوديّة الطبيعة البشريّة المعرّضة للضعف والخطيئة (يو 1: 13؛ 8: 15). نحن أبعد ما يكون عن ظاهر البشريّة مع عبارة "في الجسد". فإذا عدنا إلى 5: 6- 8 الذي يشدّد على الدم في مصير المسيح التاريخي، نفهم أننا أمام واقع المسيح الذي سفك دمه ومات من أجلنا، وأمام الصليب الذي كان نهاية مصير يسوع على الأرض قبل أن يقوم في اليوم الثالث.
هذا ما يقوله الايمان المستقيم. أما المسيح الدجّال فيقول عكس ذلك: هو لا يعترف بيسوع (آ 3). هو يقسم يسوع. لا يتّهم يوحنا الهراطقة بأنهم ينكرون المسيح ولا يؤمنون به، بل بأنهم يعترفون المسيح ليس مسيح إيمان الجماعة اليوحناويّة. مثل هذا الاعوجاج الكرستولوجيّ ليس من الله، بل من المسيح الدجّال (انتيكرست). في 2: 18 ذُكر المسيح الدجّال في صيغة المفرد، فعارض الله. ثم في صيغة الجمع. أما هنا، ففي صيغة المفرد فقط. والاسم يدلّ لا على شخص محدّد، بل على روح (أو قدرة) تحرّك أنبياء كذبة استطاع المؤمنون أن يكشفوهم.
نحن هنا أمام اختلاف نصوصيّ لهم. "مي هومولوغاي". لا يعترف. نجده في السينائي والاسكندراني والفاتيكاني والشعبية واللاتينية والقبطية البحرية... وهناك نص آخر مع "ليواي". إن فعل "ليوو" يعني: دمّر، ألغى، خسر، أفلت. ولا يمكن أن يعني: فصل اللاهوت في المسيح عن الناسوت. حينئذ يعني النص: ألقى التعليم حول يسوع احتقارًا. أو ألغى يسوع، أي لم يحسب له حسابًا. القراءتان قديمتان. ولكن الاختيار وقع على "لا يعترف" بشكله القصير، وما أضيف: أن يسوع جاء في الجسد.
فالروح الذي يشجبه يوحنا هو روح الانتيكرست (لا نجد في اليونانيّة لفظ "روح" بنفما، بل أل التعريف مع المضاف إليه). تلك هي علامة الأيام الأخيرة وعصيان إبليس النهائي على يسوع المسيح. سبق للقارئ وعرف من تعليم يسوع أن هذا سيحصل (2: 18). وانتظره. وها هو الآن في العالم يمارس عمله. لا شكّ لدى يوحنا، في أن نكران الاعتراف الرسولي في ما يخصّ يسوع المسيح، ليس فقط ضلالاً على مستوى العقل. بل يمثّل تمرّدًا على الله. ولهذا، يجب أن يُشجب.
د- حصّة الله وحصّة العالم (4: 4- 5)
يشدّد النصّ هنا على الظهور التاريخيّ لتلاميذ الانتيكرست، الذين يقاتلون قرّاء 1يو. ولكن لا فائدة من قتالهم، لأن جماعة يوحنا تعيش الشركة مع الله. هم من الله. هم حصّة الله. لهذا سينتصرون، لا بقوّتهم، بل بقوّة الله. أما الذين هم حصّة العالم (من العالم) فقوّتهم عن العالم، في إبليس (2: 3- 4). والعالم هو الموضع الذي فيه تعمل فيه عملها هذه القوى.
هناك أناس يُسحرون بتعليم الأنبياء الكذبة الذين ينكرون المسيح. لا أبناء يوحنا الذين هم من الله (3: 10. أصلهم من الله. وُلدوا من الله)، الذين فيهم قوّة الحقّ داخليّة التي تجعلهم يتغلّبون على الضلال. هذا لا يعني أنهم طردوهم من الكنيسة، بل رفضوا تعليمهم الكاذب (2: 13- 14؛ 5: 4- 5؛ روم 12: 21، فعل فيكاوو يُستعمل للانتصار على الشيطان والعالم المعاديّ، يو 16: 33؛ رؤ 2: 7...). فالاعتقاد والكاذب هو خطيئة، شأنه شأن السلوك البعيد عن البرّ وغياب المحبّة الأخويّة. والنصر يعود إلى الذي يقيم فينا.
بعد أن تحدّث يوحنا عن القوّة العاملة في العالم، ذكر الأنبياء الكذبة الذين جاؤوا إلى العالم. فهم من العالم. وتُلهمهم قوّةُ الشرير العاملة في العالم. فالعالم هو حقل عملهم، لأن الناس الذين هم من العالم والذين يتأثرون به، يسمعون لهم بانشراح ويتعلّقون بضلالهم. فالعالم يعني اثنين: البشريّة التي تتحدّ لتقاوم الله. والموقف الذي يميّز هذه البشريّة. فالذين ينكرون المسيح يدلّون هكذا على أنهم حصّة العالم الشرّير وليسوا من الله.
ونعود إلى التفاصيل. تبدأ آ 4 مع "هيمايس"، أما أنتم. في تعارض مع الذين لا يعترفون بيسوع (آ 3). نلاحظ دومًا في 1يو أن قرّاء الرسالة ليسوا أمام خيار بين اثنين كأن هناك رأيين مقبولين. كلا ثم كلا. هم في الجهة الصالحة (رج إستي، آ 1، 3). هم في الخط المستقيم. فلا يقلقوا. يكفي أنهم ظلّوا أمناء للجماعة اليوحناويّة وتعليمها (2: 27). هم الأبناء الصغار. رج 2: 1، 12. هم من رعيّة هذا الأب الروحيّ. إن حرف العطف (وغلبتم) يطرح مشكلة. إن "كاي" هي سببيّة: أنتم من الله لأنكم غلبتم. وهي إضافة: أنتم من الله وغلبتم. وهي تفسيرية: أنتم من الله. والبرهان: غلبتم. الحلّ الأول هو الأقرب إلى المعقول: إذا كانوا ما زالوا من الله (حصّة الله). فلأنه قاوموا كل ما قدّمه لهم الأنبياء الكذبة. نلاحظ أن الفعل هو في صيغة الكامل. حصلت هذه الغلبة في الماضي وما زالت نتائجها حاضرة.
موضوع الغلبة مهمّ جدًا في 1يو 21: 13- 14؛ 4: 4؛ 5: 4- 5). ولا ننسى أننا في إطار غنوصيّ، ولا سيّما في الحديث عن غلبة العالم. فالغلبة على الشرير (2: 13- 14) أو على الانبياء الكذبة (4: 4) أو العالم (5: 4) هي في 1يو غلبة على الضلال الذي هو الشرّ الأعظم (2: 13- 14) والذين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعالم. ثم نعرف أن ما ينتصر على العالم في 5: 4- 5، ليس الايمان بشكل عام، بل الايمان الصحيح كما تعلنه جماعة يوحنا والذين هو ايمان بابن الله يسوع المسيح.
"الذي فيكم أعظم من الذين في العالم". يشرح النصّ معنى "أنتم من الله"، وهذه الغلبة. "فيكم" (إي هيمين). رج 2: 27 أ: في وسطكم، يسهر عليكم. أعظم (ما يزون). رج 3: 20؛ 5: 9، هذه العظمة هي فاعليّة تعليميّة تتيح لهم الانتصار على الضلال (رج 5: 9). الذي فيكم هو اله، أو المسحة كما في 2: 18- 27، أو التعليم اليوحناويّ الرسولي. والذي في العالم هو روح الضلال، روح إبليس، روح الأنبياء الكذبة، روح العالم. في الحرب الاسكاتولوجيّة العظيمة بين الضلال والحقّ، بدا النصر قريبًا في الجماعة (إن هيمين) بتعليم أصيل يرتبط بالروح القدس (2: 18- 27).
أجل، هناك توافق قام بين الضلال والعالم. فمع أن الهراطقة خرجوا من الجماعة، إلاّ أنهم لم يكونوا منها حقًا، لأن لا شراكة بين الحقّ والكذب (2: 21). هذه الثنائية تتوزّع 1يو كلها، وقد وُجدت في يو 15: 18- 17. إن الأنبياء الكذبة هم من العالم. فلا يستطيعون أن يقولوا سوى قول العالم. والعالم يرى نفسه فيهم ويسمع (أكواي، رج آ 6؛ 2: 24؛ 3: 10) لهم. هنا نتذكّر نجاح الغنوصيين (وجميع البدع) في العالم ولا سيّما في أوساط المثقفين والموسرين.
هـ- من يعرف الله يسمع (4: 6)
هذه الآية تنقل التضمين الذي فُتح في آ 1 حول روح الحقّ وروح الضلال، فتعلّمنا كيف نميز بين روح وروح. "نحن". أما نحن يقابل الأنبياء الكذبة. يدلّ على الكاتب، على القرّاء. دل على القرّاء الذين تطلب منهم 1يو أمانة للتعليم اليوحناويّ. إذن، لن يعرف الله هو عضو في الجماعة ما زال أمينًا للتعليم الرسوليّ. هو يعرف الله ويعترف بيسوع الذي جاء في الجسد كما تقول جماعة يوحنا. هكذا ينقسم الناس فئتين: من يسمع يعرف الله. من لا يسمع لا يكون من الله. يسمع لنا ولا لصاحب الرسالة. هو يستعدّ لأن يلتحق بالأنبياء الكذبة. إن الذين هم معنا لهم روح الحق. والآخرون سقطوا في روح الكذب. فما يميّز الجماعة التي ظلّت أمينة للتعليم الرسوليّ هو القول بأن يسوع جاء في الجسد.
أجل، ما قاله يوحنا في آ 5 حول العالم، يرسم الخطّ الفاصل بين فئة وفئة. فتجاه الأنبياء الكذبة تقف الجماعة المسيحيّة، جماعة المؤمنين الحقيقيين، أي يوحنا وقرّاؤه. وربّما المعلّمون في الجماعة اليوحناويّة. هم من الله (آ 4). هذا يعني أن كل من عرف الله يسمع لتعليمهم ويوافق عليه. أما من لا يكون من الله فلا يسمع. فالتجاوب مع تعليم الكنيسة الحقة يميّز من يقودهم روح الحق (الروح القدس) ممّن يقودهم روح الضلال والكذب.
وهكذا قدّم لنا يوحنا مقياسين للحقّ والضلال: الاعتراف الايماني. الجواب على تعليم الكنيسة. هذا يعني أن البشريّة مقسومة قسمين: المنتمون إلى الله والمنتمون إلى العالم. وهكذا نكون أمام ثنائيّة قريبة من تلك التي نجدها في العالم الغنوصىّ. في الواقع، هو ينظر إلى وضع الكنيسة حيث المعلمون الصادقون والمعلّمون الكاذبون. ويطلب من القرّاء أن يحذروا معلّمي الضلال (2: 24؛ 2يو 7). كما يقرّ بأن المؤمنين الحقيقيّين يمكن أن يضلّوا إن لم يكونوا ساهرين. نداء سمعته جماعة يوحنا، فتسمعه كل جماعة من جماعاتنا.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
ودعانا يوحنا إلى المحبّة الأخويّة. ولكن هذه المحبّة لا تمنعنا من أن نمحّص أفكار الآخرين. فالايمان لا يجعلنا نصدّق كل شيء كالبلهاء، بل يدعونا إلى الحكم على الأفكار والنظريات. يدعونا إلى التميز. "لا تصدّقوا كل روح. بل امتحنوا الأرواح" (آ 1). ولماذا هذا الامتحان؟ لأن هناك روح الحقّ ورح الضلال. الله هو الحقّ. وإذ يرسل وحيه يجعلنا في الحقّ. وما يتعارض مع هذا الحقّ يجعلنا في الضلال.
هذا الصراع يعرف أربع صعوبات: ينصِّب الضلال نفسه محلّ الحقّ. وحين ينشره البشر يأخذ وجهًا شخصيًا. يصعب تمييز الحقّ من الضلال. وأخيرًا، ينجح الضلال في العالم نجاحًا باهرًا. إن الأنبياء الكذبة يعتبرون أنهم يحملون إلى الناس الأجوبة الصحيحة على تساؤلاتهم. وهكذا يجعلون الضلال وكأنه تجسّد فيهم. هنا نتذكّر كلام الرب الذي يتحدّث عن الذئاب الذين لبسوا لباس الحملان (مت 7: 15). لهذا، نكون حذرين، لأن الضلال يستعمل كل شيء ليصل إلى هدفه. ونتساءل: بماذا يعترفون حين يتحدّثون عن يسوع؟ كما نكتشف ذاك الذي يقف وراء حاملي الضلال. هم الانتيكرست، المناوئ للمسيح، المسيح الدجّال. هو يشبه إلى حدّ بعيد التنين في سفر الرؤيا. التنين يحرك وحش البحر أي السلطة السياسيّة التي تضطهد للمسيحيين. كما يحرك وحش البرّ الذي هو سلطة إيديولوجيّة تبرّر عمل السلطة السياسيّة. هذا التنين يمثّل عالم الشرّ بعد أن بدأ عمله مع أول عيلة بشريّة. هو الحيّة الجهنميّة التي تلاحق المؤمنين حتّى إلى البريّة. ولكن الله حاضر مع المؤمنين كما كان مع شعبه. وتعلن 1يو أن المؤمنين غلبوا. والسبب: لأن الذي فيهم (الله وكلمته) أقوى من الذي في العالم.