اطمئنان القلوب
3: 18- 24
ارتبطت هذه القطعة (آ 18- 24) بالتي سبقتها (آ 11- 17)، وإن كانت هناك علامة قطع مع "يا أبنائي الصغار" في آ 18. أما آ 18- 19 فهما جزء من الموضوع المشرف على هذه الآيات: قلب مطمئنّ. أما رباط هذه القطعة مع آ 17 فهو واضح: هو يتوسّع في فكرة الحبّ الملموس الذي أشارت إليه آ 17. فهذا الحبّ على مستوى العمل، هو ينبوع اطمئنان وثقة أمام الله وفي الصلاة (آ 19- 22). وبما أنه يجب علينا أن نعمل بوصايا الله (آ 22ب)، نُدعى إلى تجاوز موضوع الحبّ في المعنى الحصري: ما يُطلب منا هو أن نؤمن بالابن ونحبّ بعضنا بعضًا. في الواقع، هناك وصيّة واحدة (آ 23 في المفرد). وهذه الوصيّة تتكوّن من وصيّتين، من فريضتين (آ 24، في الجمع): نؤمن باسم يسوع، ونحبّ بعضنا بعضًا. وفي النهاية يُصوِّر يوحنا جماعته: تلك التي تحفظ الوصايا (فتتميّز عن الهراطقة)، وتعرف أن الله يقيم فيها بالروح الذي يهبها.
1- دراسة كتابيّة
أ- محبّة بالعمل لا بالكلام (3: 18- 20)
في آ 18، أنهى يوحنا هذه القطعة (آ 11- 17) وهيّأ الطريق للقطعة التالية (آ 18- 24) فدعا القرّاء إلى محبّة لا تتوقّف عند الكلام، بل تصل إلى العمل. يجب أن نبرهن على أن محبّتنا هي حقيقيّة. فأعمالنا لا تدلّ فقط على عاطفة داخليّة، بل على محبتنا التي تتوافق مع حقيقة وحي الله كما ظهر لنا في يسوع.
يبدأ يوحنا فيلقي نظرة إلى ما كتب، ويعلن أن الطاعة لوصيّة المحبّة الأخويّة، هي أساس معرفتنا بأننا من الحقّ. فالعمل بما يميّز ملكوت الحقّ هو العلامة أننا من هذا الملكوت.
هل تبدأ آ 19 بحرف العطف (كاي، و) الذي يفضّله الاسكندراني والفاتيكاني واللاتينية الشعبيّة؟ إن أبقينا عليه، ارتبطت هذه الآية بما سبق. "وبهذا نعرف". وإلاّ كانت آ 19 بداية مقطع جديد. وهناك "إن توتو" (بهذا). ها يجمع ما قيل في آ 18 (رج آ 14)؟ أم يتطلّع إلى "هوتي" الذي نقرأه في بداية آ 20. قد تعني "نعرف" نداء: يجب أن نعرف. وقد تشير إلى واقع: "بطاعتكم لهذا التحريض نعرف". ونقرأ: أننا من الحق. أننا حصة الحق. نخصّ الحق. رج 2: 21. نحن في إطار إلهي: نحن مولودون من الله.
لا يفكّر يوحنا في اطمئنان التواصل أننا نخصّ الله. بل في أزمة الايمان نتساءل: هل نخصّ الله؟ وبالتالي، هل نحفظ الوصيّة التي أعطانا الله إياها.
ستعود الفكرة في آ 23ب- 24. ولكن بادئ ذي بدء يشير يوحنا إلى نقطتين: يحدث للانسان أن يتبلبل حين يفحص نفسه ويرى النتيجة. ينظر إلى حياته فيرى أنه بعيد عن النموذج الذي يقدّمه الله. فهو لا يحبّ إخوته كما يجب. ولا يمكنه أن يعتبر نفسه حرّاً من الخطيئة (كما سبق يوحنا وقال). فكيف يمكنه أن ينتمي إلى الحقّ حين يحسّ أن أعماله تكذّب الحقّ؟ هنا نقرأ فعل "بايتو" أقنع شخصًا بشيء ما أو أقنعه بأن هذا الشيء حقّ. نترك جانبًا المعنى الأول، ونأخذ بالثاني: نُقنع قلوبنا بأن الله أعظم من قلوبنا. عندئذ يأتي السؤال: كيف نعرف هذا؟ وهل يمكن أن تكون آ 18 أساس هذا القول؟ كما أنه لا يمكن أن تكون آ 19أ أساس آ 19ب- 20 (وضعنا أننا لا نعرف أننا نخصّ الحقّ). لهذا، نعود إلى معنى: هدّأ، طمأن، أراح (رج 2مك 4: 15؛ مت 28: 14). "هوتي". ترد ثلاث مرات في آ 19- 20. في الاولى تعني "أن" فتبدأ قولاً مباشرًا (أننا من الحقّ). في الثانية، تعني "أن" (مع مفعول به لفعل بايسومن، اطمأنت قلوبنا أننا) أو "لأن"، أو "إذا".
هذا يعني أننا نستطيع أن نطمئن قلوبنا القلقة بطاعتنا للوصيّة. والله يفهمنا أكثر ممّا تعرفه قلوبنا، ويعرف في علمه الشامل أن محاولاتنا الضعيفة لطاعته وصيته تنبثق من ثقة تامّة به. ولكننا نستطيع أن نتوقّف في نهاية آ 19 أ فتبدأ فكرة جديدة: "نطمئن قلوبنا في حضرته، إذ إن قلوبنا لا تحكم علينا، لأن الله أعظم من قلوبنا، ولأنه يعلم كل شيء". إذا أخذنا بهذه النظرة، فهمنا أننا لا نستطيع أن نثق بنفوسنا. لهذا نجعل ثقتنا في رحمة الله الذي يعلم كل شيء. هنا نتذكّر بولس الرسول: "وأنا لا يهمني كثيرًا أن تدينونني أنتم أو أي محكمة بشريّة، بل لا أدين نفسي. فضميري لا يؤنبني في شيء، إلاّ أن هذا لا يبرّرني. وإنما دياني الربّ. فلا تحكموا على أحد قبل الأوان، حتّى يجيء الربّ الذي يُنير ما خفيَ في الظلام ويكشف نيّات القلوب، فينال كل واحد منا الله ما يستحقّه من المديح" (1كور 4: 3- 5). يوضح بولس هنا أن البشر (لا أنا) لا يمارسون الدينونة، بل الله الذي يحكم أو يمتدح. ويقول يوحنا لقرّائه بأن يسلموا نفوسهم إلى دينونة الله الذي يعرف كل شيء ويقدر بالتالي أن يطمئنا قلوبنا، حتّى إن أحسسنا أننا نستحقّ الحكم.
قفي أي ظرف يحتاج قرّاء يوحنا إلى هذا النوع من المطأنينة؟ هم يريحون قلوبهم أمامه، في حضرته. أي نقف أمام الله في يوم الدينونة، فتحسّ قلوبنا بخوف مسبق. ولكن بما أن السياق سياق صلاة، نقول: هل نجرؤ أن نقترب من الله مع طلباتنا إذا أحسننا نفوسنا مذنبين؟ رج 1تس 1: 3؛ 3: 9. إذا أخذنا بهذا المعنى الثاني، أمَّنا انتقالة إلى آ 21.
هو ظرف خاص، وقد يكون كل ظرف، ولا سيّما حين يشكّ المؤمن بحاله أمام الله. لا نهتمّ لنعرف كم يحكم علينا قلبنا. فالله يستقبل المؤمن الطالب الغفران، فيغفر له ويأخذه في كنف رحمته. وإن ضعف إيماننا بالله وسرنا في وادي الظلمات، فالله يمسكنا بيده. "فالربّ يعرف الذين هم له" (2تم 2: 19).
"يا أبنائي الصغار" (تكنيا). هم محبوبون (آ 12، أغابيتوي). يحبّهم الكاتب بالمحبّة التي يطلبها منهم إخوتهم (آ 23). ومحبّته تجد تعبيرًا عنها في تعليم يقدّمه لهم، كالمعلّم مع التلميذ والأب مع أولاده. أما المحبّة التي يتحدّث عنها يوحنا، فلا تبقى في أعماق النفس، ولا هي عاطفة جيّاشة، ولا هي صدق ذاتي، بل واقعيّة عمل نقوم به بصدق تجاه اخوتنا. اكتفى الهراطقة بالكلام الفضفاض. أما يوحنا فدعا جماعته إلى العمل، ولا سيّما على مستوى العطاء للمحتاج (آ 17).
بهذا نعرف (آ 19) أننا من الحق، لا بخبرات ذاتيّة لا يسندها شيء. هناك قلق يجعله الهراطقة في قلوب المؤمنين، وهناك تقنيات بشريّة تهدئ القلوب! أما في 1يو فلا دواء سوى: أن نحب. أن نكون في الحق. أن نتذكّر أن الله أعظم من قلوبنا (أنا إله لا إنسان، رج هو 11: 9). أنه إله الرحمة والحنان.
ب- ننال ما نطلب (3: 21- 22)
بدأ يوحنا يوجز فكره: إذا أردنا أن نحبّ لا نكتفي بالكلام عن الحب. بل نحقّق هذا الحبّ في الواقع اليوميّ. عندئذ نفهم أننا حصّة الله، حصّة الحقّ. وبما أن الله يعرف أعماق قلوبنا ويعاملنا بالرحمة، فنحن لا نخاف. أجل، قلوبنا لا توبّخنا. لا لأننا بلا خطيئة، بل لأننا جعلنا ثقتنا بالله. وهذه الثقة تجعلنا نتيقّن أننا ننال ما نطلب (5: 14- 15). عندئذ نفهم أنه يرى فينا أولاده، أننا نعيش معه، أننا نعمل مشيئته.
ما دامت قلوبنا (كرديا) توبّخنا (كاتاغينوسكو)، فليس لنا ثقة بالوقوف أمام الله. هذه الثقة نحتاج إليها في مجيء الرب (2: 28)، ونحن نطلبها في صلاتنا. إذا استطعنا أن نطمئن قلوبنا متذكرين أن الله أكبر من قلوبنا وأنه يعرف كل شيء، عندئذ لن توبّخنا، فنستطيع أن نقترب من الله بجرأة ودالة. "أيها الأحبّاء". لسنا هنا أمام فئة خاصّة في الجماعة. فالجميع هم أحبّاء الكاتب. إذا كانت قلوبنا. المعنى: بما أن قلوبنا. الصيغة واقعيّة، لا شرطيّة (يمكن أو لا!) وهذه الامكانية الايجابيّة أن لا نهتَّم، لا نوبّخ، لا تستند إلى اعتبارات سيكولوجيّة، ولا إلى ظروف مؤاتية (تارة يوبّخ وطورًا لا يوبّخ)، بل إلى الحقّ الذي هو الله كما أوحيَ به في يسوع المسيح. لهذا، حذف بعض النسّاخ أداة النفي (مي، لا، لا توبّخنا). فإن أخذنا بهذا المنطق كرّرت آ 21 ما قيل في آ 20.
هناك نوعان من الثقة والاطمئنان. الأول، في الدينونة ومجيء الربّ (2: 28؛ 4: 17). الثاني، في الصلاة (5: 14) من أجل الزمن الحاضر. في الحالين، يؤكّد الكاتب للقرّاء أنهم يمتلكون هذه الثقة منذ الآن. نقابل ما قيل هنا مع روم 5: 1 (فلما برًِّرنا بالايمان، نعمنا بسلام مع الله بربّنا يسوع المسيح). ولكن عند بولس، يحلّ الحبّ محلّ الايمان. ثم إنه يحارب الشريعانيّة اليهوديّة. أما في 1يو، فنحن أمام روحانيّة من نوع هلينيّ وغنوصيّ، تطلب معرفة (وثقة) تتفوّق على ما عند المؤمنين العاديين. "نعمل بما يرضيه". هذا ما يشير إلى الوصايا. حين نحفظ الوصايا نعمل ما يرضي الله. لهذا جاءت واو العطف (ونعمل) مفسّرة لفعل حفظ.
نطمئن أولاً، ثم ننال كل ما نطلب. هذا القول المدهش يقف مع أقوال أخرى حول مؤمنين لا يخطأون (آ 6، 9)، حول كمالهم في الحبّ (2: 5؛ 4: 17)، فيقدّم الواقع الاسكاتولوجيّ الذي يبدو بعيدًا عن خبرتنا العادية. قال يسوع في يو 16: 24: "ما طلبتم باسمي شيئًا حتّى الآن. أطلبوا تنالوا فيكتمل فرحكم". مثل هذا القول يمكن أن يُفهم فهمًا سِّيئًا: مع أن الرب يشجعنا لكي يكون لنا إيمان يحرّك الجبال، فصلاتي لا تستجاب كما طلبتُ. أما في 1يو، فالله يسمع صلاتنا إذا كانت حسب مشيئته. ولكن قد نكون في حلقه مفرغة: حين نطلب من الرب أن يصنع مشيئته سيفعل ما يريد هو. غير أن علينا أن نطلب ما يتوافق إرادة الله، لا ارادتنا الخاصّة. وهكذا نكون الشعبَ الذي يطيع وصايا الله ويفعل ما يرضيه. رج يو 14: 15 (تحبوني، تعملون بوصاياي)؛ 15: 14 (أنتم أحبائي إذا عملتم بوصاياي). أجل، المسيحي هو أنسان يخضع للوصايا (2: 3) ويرضي الله على مثال يسوع (يو 8: 21). وجّهت آ 21- 22أ انتباهنا إلى واقع اسكاتولوجيّ. أما آ 22ب فدلّت على تحقيق ناقص في حياة الذين حياة أبناء الله الحقّة. لهذا رمى يوحنا إلى تشجيعنا لندخل في علاقة بنويّة تجعل الله يفرح ليسمع طلباتها ويستجيبها. وبقدر ما ندخل في هذه العلاقة تصبح طلباتنا موافقة لمشيئته.
ج- وصيّته إيمان ومحبّة (3: 23- 24)
بعد أن تحدّث يوحنا عن الحاجة إلى الطاعة للوصايا، عبّر هنا بشكل واضح عمّا يعني. جمعَ الوصايا في وصيّة واحدة. وهذه الوصيّة تكون في شقين. وهكذا توضّحت الوحدة الأساسيّة في هذين الشقين (2: 3- 8؛ 3يو 4- 6). من الممكن أن يكون قرّاء 1يو قد اعتبروا أن موجز المحبّة تقدم في محبتنا بعضنا لبعض. وأنّ من يحبّ هو يسمي. ولكن هذا الفهم ناقص. فالايمان يسير مع المحبّة، ولا يكفي واحد دون الآخر. سبق ليوحنا وأعلن أن طبيعة المحبّة المسيحيّة هي تتميم وصيّة المسيح (يو 13: 34؛ 15: 12، 17). ولكن في الرسالة صار موضوع الايمان مركزيًا.
والايمان يكون مستقيمًا حين نؤمن باسم يسوع ابن الله (تجاه المعلّمين الكذبة). الايمان بيسوع يعني يتضمّن القدرة التي تقودنا إلى ثقة بذلك الذي هو موضوع اعترافنا. فيسوع الذي لا يكون ابن الله والمسيح، لا يقدر أن يخلّص القرّاء من خطاياهم ويجعلهم في نور حضور الله. ويسوع الذي يكون أقلّ من ذاك الذي يشهد له التقليد الرسولي، لا يستطيع أن يضع ما تنسب إليه هذه الشهادة. يمكنه أن يكون قائدًا أخلاقيًا وروحيًا، ولكنه لا يقدر أن يكفّر عن الخطايا، أن يعطي المعونة الروحيّة في وقت التجربة، أن يقدّم تأكيد الحياة الأبديّة بعد الموت (آ 23).
وفي آ 24، يعود يوحنا إلى القول بأن الطاعة لوصايا الله هي شرط من أجل الشركة معه (رج آ 18- 19). استعمل صيغة الجمع (وصايا) ليدلّ على أن الايمان المحبة يعبَّر عنهما بعدد من الفرائض تدلّ على مضمون الوصيّة في ظروف ملموسة. فالذي يطيع يحيا في الله، والله يحيا فيه. عبارة تشبه كلام بولس في روم 8: 10 (المسيح فيكم)؛ 2كور 13: 5 (يسوع المسيح فيكم، رج غل 2: 20؛ كو 1: 27) وفي 2كور 5: 17 (أحد في المسيح)؛ 2: 12 (مؤمن بالمسيح، فل 1: 13؛ 3: 9) حول إقامة المسيح في المؤمن وإقامة المؤمن في المسيح، كل هذا يدلّ على وحدة وثيقة. بين الله والانسان. في 2: 6 قلنا إن الانسان الذي يحيا في يسوع، عليه أن يسلك كما سلك يسوع (خلال حياته على الأرض). والآن يقال لنا أن الانسان الذي يطيع وصاياه يحيا فيه. وسنقرأ فيما بعد (4: 12) أننا إن أحببنا بعضُنا بعضًا، أقام الله فينا. هكذا تبدو الطاعة للوصايا تعبيرًا عن الحياة الروحيّة قبل أن تكون شرط الحياة فيه. فالحياة الروحيّة والطاعة للوصايا وجهتان في فكرة واحدة.
قد نتساءل إن كنا في علاقة حميمة مع الله بحيث نحتاج إلى الثقة (آ 19- 20) فنؤسّس ثقتنا على طاعة ناقصة لوصايا الله. عندها نحسّ أننا لا نحيا فيه. لهذا، أشار يوحنا إلى ينبوع ثقة آخر. نستطيع أن نعرف أن الله يقيم فينا بالروح الذي يعطينا (4: 13). فحضور شهادة الروح تحمل إلينا الثقة التي نحتاج إليها (روم 5: 5؛ 8: 14- 16). لا يشرح يوحنا كيف تتجلّى هذه الثقة. أتكون حين يتوجّه المؤمنون إلى الله وينادونه أبّا، أيها الآب؟ أنكون أمام خبرة مواهبيّة لقدرة الروح؟ أيكون وعي داخليّ بأهم محبوبون لدى الله؟ هنا نترك الباب مفتوحًا.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
لو كان الحبّ المسيحيّ مجرّد عواطف، لعرف صعودًا ونزولاً، تقدّمًا وتراجعًا. ولكان حبًا لا متماسكًا ومتقلبًا. ولاختار من يحبّ ومن لا يحبّ، وترك الذين لا فائدة منهم، ولا سيّما المرضى والمهشّمين... أما وأنه مؤسّس على حبّ المسيح كما ظهر لنا من خلال موته على الصليب، فقد تجذّر وراح أبعد من عواطفنا المتقلّبة ونزواتنا. فهو ثابت وأكيد. ولا يحابي، أي لا يفرّق بين شخص وآخر. فكل واحد يحقّ له أن ينال منّى تفهمًا وصبرًا ومساندة. وإن لم يكن هذا الحبّ تضحية بالذات حتى الموت، فهو في كل وقت عطاء الذات. وهذا يطلب منا أن نشعر مع الآخر، أن ندخل في عاطفة الآخر وفي قلبه لكي نفهم ما يحتاجه في أعماقه. هكذا لا تكون محبتنا في القول والكلام، بل في العمل والحق (آ 18).
غير أن هذا الحبّ (الذي اختاره الله وما فهمه العالم)، هذا الحبّ الشجاع والناشط الذي يلهمه الصليب، هذا الحبّ يطرح علينا سؤالاً: هل نحن أمناء المهمّة التي أوكلنا بها؟ أما هناك لحظات من الأنانيّة والانغلاق على الذات؟ عندئذ يوبّخنا قلبنا (آ 20). فهناك الضعف والسقوط... وهو وضع يعرفه الله. أترانا سنهرب كما فعل قايين؟ كلا. فالله أعظم من قلبنا وهو يعرفنا. لهذا، نطمئن قلبنا. فالهرب من الله موت. والاقتراب منه حياة. نعترف بخطايانا وضعفنا، ونتابع المسيرة معه.
فكل ما نطلبه من الله نناله. فعطاء الله المجانيّ ينتظر انفتاحنا لكي نقبل عطاياه. ينتظر منا ايمان باسم ابنه، واستسلامًا لقدرته وهو يفعل. كما ينتظر منا محبّة للأخوة. ومن الذي يفعل فينا هذا؟ الروح الذي وهبنا الله والذي يقيم فينا فيعلّمنا كيف نصلّي، كيف نحيا، كيف نتصرّف. بل أن هذا الروح يدلّ على أن شركتنا مع الله حقّة. كيف ذلك؟ هذا ما سيقوله لنا يوحنا فيما بعد.