المحبة بين الإخوة

المحبة بين الإخوة
3: 11- 17
أعلنت آ 10 ب القطعة التي تبدأ الآن في آ 11 فتؤكّد أن البر يقوم في المحبّة بين الاخوة. عن هذه المحبّة سيتحدّث النصّ. وفي آ 18 نتحدّث عن القلب الواثق بالله. حتّى الآن، اكتشفنا في 1يو جملة تعليمات قصيرة طبِّقت على الجدال مع الهراطقة. كان بالامكان أن نجمع في إطار واحد 2: 28- 3: 24 بعنوان البنوّة الالهيّة والمحبّة الأخويّة. ولكننا فضّلنا قسمة هذه المتتالية ثلاثة فصول. في هذه القطعة، سيطرت فكرة المحبة الاخوية، بعد أن أشير إليها سابقًا. إن المحبة في النظرة اليوحناويّة هي تنبّه إلى الأخ. والبغض (أو الكره) هو عدم الحبّ واللامبالاة. والمحبة هي تعلّق بالجماعة الرسوليّة برفقة الاخوة. والبغض هو الابتعاد عن الجماعة.
1- دراسة كتابيّة
أ- الوصيّة التي سمعتموها (3: 11)
بعد أن أعلن الكاتب أن ما يميّز أبناء الله هو البرّ والامتناع عن الخطيئة، ها هو يصوّرهم كشعب تملك فيه المحبّة المتبادلة. ومع أن هذه الفضيلة موجودة عندهم (آ 14)، إلاّ أنه من الضروريّ الالحاح عليهم لكي يحبّ بعضهم بعضًا. ونجد صورة سلبيّة عن طبيعة هذه المحبّة الأخويّة في ما فعله قايين حين قتل أخاه. وصورة إيجابيّة في ما فعله يسوع الذي ضحّى بنفسه لأجلنا. ويأتي ملحق بعد كل مثَل من هذين المثلين. هكذا لا يتعجّب المؤمنون إن أبغضهم الناس على مثال ما فعل قايين، كما يتجنّبون شعور بغض (من الله أو من الناس) فيحاولون قتل إخوتهم. أما مثَل المسيح بما فيه من إيجابيّة ومن تضحية بالذات، فيعودنا إلى نداء من أجل محبّة تتعدّى العواطف فتصل بنا إلى إشراك المحتاجين في ما نملك من خيرات. وهكذا جاءت هذه القطعة نداء إلى المحبّة وشرحاً لطبيعة المحبّة التي تتعارض كل التعارض مع الكره والبغض.
تبدأ آ 11 مع "لأن" (أو: الفاء)، فترتبط بما في آ 10. "الوصيّة" أو البلاغ والتعليم. الكلمة هي: انغاليا. لا ترد إلاّ هنا وفي 1: 5، في كل العهد الجديد. في 1: 5 كان البلاغ (أو: البشرى): الله نور. والآن، البلاغ (الوصيّة) هو أن يحبّ بعضنا بعضًا. لسنا أمام تعليم جديد. بل سمعه القرّاء من البدء. أي من بدء خبرتهم المسيحيّة. عاد يوحنا إلى الشكل التقليديّ للتعليم فأبرز أهميته وحقيقته لقرّائه الذين يتعرضون لنسيانه بسبب المثل السيِّئ الذي يقدمه مقاومو يوحنا. هي المرة الأولى نقرأ في 1يو عبارة: أحبوا بعضكم بعضًا. وستعود في 3: 23؛ 4: 7، 11، 12: 2يو 5. حرفيا: يحبّ الواحد أخاه (2: 10؛ 3: 10- 14؛ 4: 20- 21). حين تكون صيغة الجمع، تقول الرسالة: يحبّ الواحد الآخر. وحين تكون صيغة المفرد تقول: يحبّ الواحد أخاه. أما في 3: 14 فنقرأ في صيغة الجمع: يحب الواحد إخوته.
سبق ليوحنا وقال أن الذين يحبّون إخوتهم يعيشون وحدهم في نور حضور الله ووحيه (2: 10). وها هو يتوسّع في هذه الفكرة الأساسيّة. ومع أنه يقول: يحبّ الواحد الآخر، إلاّ أنه يعني محبّة الاخوة، محبة المسيحيين بعضهم لبعض. من هنا تنطلق المحبّة الأخويّة، وهي تعود إلى المسيح نفسه (يو 13: 34- 35؛ 15: 12)، فتنمي إلى أساس التعليم المسيحيّ.
إذا كان من لا يحبّ أخاه ليس من الله، فهذا يعني أن تعليم يوحنا الرسولي يأمرنا بأن نحبّ بعضنا بعضًا. فالحبّ ليس قيمة بشريّة شاملة، بل هو يوافق تفسير المدرسة اليوحناويّة لما قاله يسوع لتلاميذه. تلك هي الوصيّة (في 3: 23 نجد لفظة إنتولي التي تعني الوصيّة، وصايا العشر) التي سمعنا (1: 1، 3، 5؛ 2: 7، 18، 24). منذ البدء (أب، أرخيس، 1: 1؛ 2: 7، 13، 14، 24؛ 2يو 5). ما تطلب منا هذه الوصيّة هو أن نحبّ بعضنا بعضًا (أوليلوس. الواحد الآخر). أن نحبّ أعضاء الجماعة.
ب- لا نكون مثل قايين (3: 12)
نسمع القرّاء، منذ بداية حياتهم المسيحيّة، التعليمَ الذي يأمرهم بالمحبّة. لهذا، يجب أن لا تشبه أعمالهم أعمال قايين. قتل أخاه لأنه ليس من الله، بل من الشرير، من إبليس. اقترف قايين ذنبه بعد أن مال الله بوجهه عنه. وهابيل قُتل بعد أن قبل الله ذبيحته. ذاك هو مصير البار ومصير الشرير (اللاّبار).
ما يربط آ 12 بما سبق هو فكرة تقول إن الخطيئة والشرّ والبغض تأتي من إبليس (آ 8 ي). أساس اللامحبة هو إبليس. فكلمة شرير (بونيروس) تقابل إبليس (ديابولوس) في آ 8 ب. أعماله شريرة تقابل أعمال إبليس كما في آ 8. لسنا هنا أمام تعليم فلسفيّ عن جوهر الخطيئة، أو عن طبع قايين بما فيه من شرّ. ولا أمام تعليم سيكولوجيّ، بل أخلاقيّ. فالذي يقترف الشرّ، ولا يحبّ أخاه ويقتله، هو من الشرير. أما برّ البار فتكوّنه أمانة لوصيّة الله (آ 7)، لوصيّة المحبة كما أعلنها يسوع خلال حياته على الأرض. وظهر اللابرّ حين نمتنع عن ممارسة المحبّة (آ 10). والكاتب لا يفسّر مقتل هابيل بطابع قايين الشرير، بل بأعماله. فقايين كان من الشرير، من حزب إبليس. والقتل الذي اقترفه هو عمل شرير بين أعمال شرّيرة أخرى. بما أن قايين يخصّ إبليس، فهو يخصّه في علاقته مع أخيه. والنتيجة: إن الذي لا يحبّ أخاه هو من الشرير على مثال قايين (أترى يفكّر الكاتب بالهراطقة؟ ربما).
ج- أبغضكم العالم (3: 13)
اعتاد أن يقدّم تعليمه في تعارض بين وجهين. وهنا بين قايين وهابيل. قايين هو أول قاتل في الكتاب المقدس، وقد استلهم إبليس الذي هو نموذج القاتل (يو 8: 46؛ رج مت 23: 35؛ لو 11: 51؛ عب 11: 4؛ 12: 24؛ يهو 11). إلى أي حدّ يمكن أن يقود اللاحب؟ هو نواة القتل. من أبغض أخاه قتله في قلبه، على مثال من نظر إلى امرأة ليشتهيها: زنى بها في قلبه (مت 5: 28). وهكذا استخلص يوحنا نتائج هذا التعليم. وطرح السؤال: لماذا يقترف الناس القتل؟ ومع أنه طرح سؤاله إنطلاقًا من موضوع قايين، إلاّ أن الآيات اللاحقة سوف تبيّن أنه يفكّر منذ الآن في الأسباب التي تجعل العالم يُبغض المؤمنين. والجواب، أعمال قايين كانت شريرة، وأعمال هابيل صالحة. هذا لا يعني أن قايين قتل أخاه لأن الشرّ وُلد معه. ولكن بما أنه كان شريرًا أبغض من هو صالح.
بعد هذا، لن يتعجّب المؤمنون إن أبغضهم العالم. فوضعُهم هو وضعُ قايين وهابيل. أعمال العالم شريرة، وأعمال المؤمنين صالحة. وما يحرّك العالم ضدّ المؤمنين هو الحسد والغضب. لا يتطلّع يوحنا فقط إلى الذين من خارج الكنيسة (الذي يضطهدون المؤمنين، بل إلى الذين يعيشون في الكنيسة ولا يحبّون فيدلّون على أنهم ليسوا مؤمنين حقيقيّين.
كان قايين نموذج بغض العالم تجاه المؤمنين الحقيقيّين. فلماذا نتعجّب من هذا البغض؟ هذه الفكرة تنطلق من المدرسة اليوحناويّة (يو 15: 18 ي) مع وضع تاريخيّ جديد: في يو، اليهود يعارضون يسوع وتلاميذه. في 1يو يتجسّد البغض في الهراطقة. في يو 15، يجب أن يتقبّل التلاميذ هذا البغض، عائدين إلى البغض الذي تحمّله يسوع. في 1يو، بغض قايين لأخيه يلقي الضوء على الوضع العام الذي يعيشه قرّاء الرسالة. من خلال هذه الأقوال نستشفّ جماعة يوحناويّة قلقة، لأن الإخوة يبغضونها (2: 19). فالمؤمنون الحقيقيون لا يدهشون (تومازاين) من هذا البغض. نحن أمام بغض عميق ومؤلم. ومعارضة الجماعة اليوحناويّة لا يأتي من اليهود، ولا من العالم، بل من الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة الذين هم من العالم ويتكلّمون كلام العالم (4: 5). والانتصار هو انتصار الايمان (5: 4، 5). إذن، هناك توافق بين العالم وهؤلاء المعلّمين الذين ينجحون في نشر تعليم ولا سيّما على مستوى النظرة إلى شخص يسوع المسيح.
د- من الموت إلى الحياة (3: 14)
إذا كان ما يميّز العالم والهراطقة هو البغض، فما يميّز الجماعة اليوحناويّة الحقّة هو الحب الأخويّ. حين نحب الأخوة نعرف أننا تلاميذ يوحنا الحقيقيين، وأننا انتقلنا من الموت إلى الحياة: حين نحبّ نكون "أحباء". هذا ما نتوق إليه. أو: نحن انتقلنا من الموت إلى الحياة، فاختلفنا عن الهراطقة. والسبب: لأننا نحب إخوتنا، ولأننا ما خرجنا من الجماعة (2: 19). كيف نستطيع أن نعرف أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة؟ على ضوء تعليم يوحنا الرسوليّ. وهذا الانتقال (ماتابايناين، يو 7: 3؛ 13: 1) يرد في فعل في صيغة الكامل يُشرف على الوضع الحاليّ. وليس هو عبورًا من موضع إلى آخر (مت 8: 3؛ لو 10: 7) يتجدّد على الدوام. فالفعل يرتبط بالحلقات اليوحناويّة (يو 5: 24؛ 7: 3؛ 13: 1). إن حياة الذين يحبّون ليست موضوع شجب من قبل الله. هي حياة يوافق عليها الله، سواء عشناها الآن على هذه الأرض أو كان الحياة الأبدية كما في (يو 1: 2؛ 2: 25). أما الذي لا يحبّ فهو تحت الحكم وبالتالي في الموت.
بما أن الذي يقتل أخاه، مثل قايين، ينتمي إلى إبليس، فالأشخاص الذين يبغضون إخوتهم هم من عالم الموت. مقابل هذا، دلّ الكاتب على أنه واثق من قرّائه الذين انتقلوا من الموت إلى الحياة لأنهم يحبّون إخوتهم. نحن نعرف (اويدامن، رج آ 2، 5؛ 5: 13، 15، 18، 19، 20) كما يعرف المسحييون. واختبرنا هذا العبور على مثال المسيح ليلة آلامه (يو 13: 1).
إذا كان القرّاء انتقلوا من الموت، فهذا يعني أنهم كانوا في تلك الحالة قبل أن يصلوا إلى الحياة. فاحتاجوا إلى ولادة روحيّة. وهذه الحياة الروحيّة ليست نتيجة محبّة الإخوة، بل محبّة الإخوة هي البرهان على حياتنا الروحيّة. هذا ما نقرأه في يو 5: 24: "أقول لكم الحقّ: من يسمع كلامي ويؤمن بمن أرسلني له الحياة الأبدية ولا يأتي إلى الدينونة، بل انتقل من الموت إلى الحياة". والعكس صحيح: فمن لا يبيّن أنه يحبّ الإخوة، ما زال في مملكة الظـلمة والموت. لينتظر القرّاء البغض من هؤلاء الناس. نشير هنا إلى أننا نجد في بعض المخطوطات لفظ "الاخوة" (تون أدلفون) بعد "من لا يحبّ" (هو مي اغابون)، فتصبح العبارة: من لا يحب الاخوة يبقى في الموت.
هـ- المبغض قاتل (3: 15)
ويتبع القول الأخير في آ 14 اعتبار تضمّنه ارتباط بين آ 12 و13 اللتين تحدّثنا عن القتل والبغض. فيتحدّث يوحنا في خط مت 5: 21- 22 عن المبغض الذي يضحي قاتلاً. فالمبغض يتمنّى أن لا يكون الشخص الآخر هنا. وهو يرفض أن يعترف بحقوقه كانسان، ويرغب في أن يراه يموت. فعندما أبغض شخصًا، لاافترق عن القاتل في موقفي تجاهه. مثل هذا الشخص يشارك ابليس (القاتل النموذجي) في طبيعته. ولا يمكن أن يمتلك الحياة الأبديّة. فالبغض لا يتوافق مع الحياة الروحيّة. والمبغض لا ينتمي إلى عالم الحياة.
إن البغض في 1يو يقابل الغضب في الطبع، والعنف في الكلام، في مت 5: 21. فالقاتل في 1يو ليس قاتلاً بسلطة البغض فقط. إنه قاتل يمعنى أنه سيُدان لدى الله. لا حياة له لأنه ما تسلّم الحياة وإن هم تسلّمها لم يحافظ عليها. وصورة القاتل ترتبط بقايين لا بإبليس كما في يو 8: 44. إلى أي بغض يلمّح النص (رج 2: 19)؟ أما البغض هنا فيعني بالنسبة إلى الأنبياء الكذبة تركوا الجماعة اليوحناويّة. وقد دخل في هذا البغض احتقار الغنوصيين للمسيحيين البسطاء (رج 2: 9؛ 3: 13؛ 4: 20).
و- ضحّى المسيح بنفسه (آ 16)
نربط هذه الآية بالتي سبقتها: إن كان من يبغض لا يمتلك الحياة، فالله يدينه (آ 15). فهو كان أمينًا لينبوع هذه الحياة الذي هو وحي الحبّ في يسوع المسيح. إذن، البغض خطيئة أخلاقيّة وعدم معرفة المسيح. اختلف المسيحيون عن الهراطقة فعرفوا المحبّة. المحبّة للإخوة (التي لا تنفي المحبّة الآتية من عند الله) عرفنا. جاء الفعل في صيغة الكامل. عرفنا في الماضي ونعرف الآن. هي معرفة ترتبط بالتاريخ، بما فعله يسوع. هنا يرفض الكاتب محبّة "روحيّة" (آ 17)، محبّة تتجسّد في الواقع، بل تكتفي بالكلام (آ 18). هذا الوجه الملموس للمحبّة قد شدّد عليه يو 10: 11؛ 13: 1ي؛ 15: 13 ي. ضحّى بنفسه. هناك أولاً التزام من أجل الأخوة. ثم إن الالتزام وصل بالمسيح إلى التضحيّة بنفسه "لأجلنا" (هيبر هامون).
حدّد يوحنا الحبّ في نظرة إلى يسوع الذي ضحّى بنفسه لأجلنا. هذا ما يقودنا إلى صورة الراعي (يو 10) الذي يقابل الأجير الذي لا يهمّه أمر الخراف. وترد فكرة المحبّة في أحلى بيان في يو 15: 13: "ما من حبّ أعظم من هذا: أن يضحّي الانسان بنفسه في سبيل أحبّائه". الحبّ يعني أن نفعل شيئًا من أجل الآخرين ففي 1يو كما في يو، نتطلّع إلى موت يسوع، وهذا واضح خصوصًا في صورة الراعي حيث لم نعتد أن نرى الراعي يموت من أجل القطيع. وما تقوله 1يو له معناه العميق: استعداد يسوع أن يعطي حياته لكي يحيا الآخرون. والحبّ يعني أن نقول كلاّ لحياتنا الخاصة (أي أن نقبل الموت) لكي يحيا الآخرون. وأخيرًا، تكون التضحيّة بالنفس "لأجل" الآخرين (مر 14: 24 وز؛ روم 5: 8؛ 2كور 5: 15؛ غل 2: 20؛ عب 2: 9؛ 2: 1). مع صورة الراعي نفهم أن يسوع مات لخيرنا. بل مات عنا: مات لئلاّ نموت. وموت يسوع ليس فقط دلالة على الحبّ بحيث نستطيع أن نقول أمام ابن الله المصلوب: أحبّنا حبًا فتألّم، كل هذا من أجلنا. نحن لا نعرف الحبّ هكذا. بل نحن نختبر نعمة الحياة التي أعطيت لنا كنتيجة لموت يسوع، وهكذا نفهم أن هذا الحب كان من أجلنا.
ما قال لنا يوحنا كيف خلَّصنا يسوع، ولا تحدّث عن الخير الذي نلناه. مرمى كلامه هو أن موت يسوع وتضحيته لأجلنا يدلاّن بشكل مركّز على مضمون الحبّ. لسنا بحاجة إلى تحديد الحبّ: يكفي أن ننظر إلى المثال الذي أمامنا.
واستخلص يوحنا النتيجة: يجب أن نضحّي من أجل إخوتنا. هذا كان معروفاً لدى قرّاء يو الذين يعرفون أن يسوع أوصى تلاميذه بأن يحبّوا بعضهم بعضًا كما أحبّهم هو (15: 12). حبّ يسوع هو مثال نتبعه (يو 13: 12- 15؛ 1كور 11: 1؛ روم 15: 2- 3؛ 2كور 8: 9؛ 10: 1؛ فل 2: 2- 8؛ 1تم 6: 13؛ عب 12: 13- 14؛ 1بط 2: 21). قد يضحّي مؤمنو يوحنا ليخلّصوا إخوتهم في الاضطهاد. وقد يضحّون في خدمة الانجيل. المهمّ أن نكون متجرّدين من أجل إخوتنا فنسدّ كل حاجة حتّى ولو أجبرنا على التضحيّة بنفوسنا لا بما نملك فقط.
ز- من أغلق قلبه (3: 17)
هناك من يقتل، وهناك من يضحّي بنفسه ليمنح إخوته الحياة. أما المسيحي فيعرف أنه انتقل من الموت إلى الحياة (يو 5: 24، من يسمع له الحياة الأبديّة). فالموت والحياة يمثّلان موقفين مختلفين، ويشبهان الظلمة والنور، كما يعودان بنا إلى قول موسى: "جعلت أمامك الحياة والخير (أو السعادة) والموت والشر (أو الشقاء) (تث 30: 15). كان بإمكان قايين أن يختار، فاختار الموت لأخيه ولنفسه. لأن الذي لا يحبّ يقتل أخاه الحيّ ويحيا كانسان ميت. فالحبّ حصّة الحياة وحصّة النور (2: 10). والبغض حصّة الموت وحصّة الظلمة (2: 11). لا علاقة بين منطقة ومنطقة. النور يطرد الظلمة. والظلمة تطرد النور (يو 1: 4- 5). من مرّ في الظلمة دمّر أخاه وما شارك في الحياة الأبديّة. حياته هي حيّة العالم الفاسد، وهو يقيم على حدود عالم الله فتفصله جدران كثيفة (آ 14- 15).
وبعد عمل البغض، هناك عمل الحبّ. ففي عالمنا الذي يحيط به خطّ من الموت، حصل حدثٌ قطع هذا الخط وفتح الطريق إلى عالم الله: جاء إلينا الحبّ بيسوع المسيح (آ 16). وُجد الحبّ من البدء، والله لم يسلّم العالم إلى البغض. أحبّ الانسان دومًا فجعل الحبّ البشري ممكنًا. ولكن الانسان لم يكن يعرف أن حبّه هو نتيجة حبّ الله وامتداد له. لهذا، لم يعرف إلاّ الحبّ المحدود، إلاّ حبّاً يُحصر في هذا العالم ويموت. ولكن بالمسيح اكتشفت طبيعة الحبّ الحقّة في كل عمقها. حطّم الحدود التي اصطدمت بها المعرفة البشريّة وبيّن أن عالم الله هو ينبوع الحبّ. بعد الآن، لا نستطيع القول إن الحب صدفة، إن الحبّ لا اسم له. فقد تجلّى كانعكاس لحبّ الله الأزليّ الذي أراد أن يتبعنا إلى النهاية فما خاف من الموت. وحين خسر المسيح حياته، قدّم الله نفسه ذبيحة من أجل الانسان. فلو تراجع أمام الموت لكان أنكر نفسه وخضع لقوّة أقوى منه.
أعطيت لنا آلام المسيح. فيبقى علينا أن نعطي حياتنا لخلاص العالم. ونحن لا نبقى على المستوى العام والمجرّد الذي لا يصل إلى أعمال ملموسة، إلى أشخاص التقي بهم في حياتي اليومية (آ 17). هنا تتجسّد حياة يسوع في حياتنا، وأعماله في أعمالنا، وموته في موتنا، لكي تصبح قيامته قيامتنا. ونحن لا نموت فقط من أجل إخوتنا، بل نستعدّ لأن نتحلّى عمّا لنا من خير للذين هم في حاجة. هكذا قال يسوع للغني: بع مقتناك وأعطه. ثم تعال واتبعني. حين نضع حاجزًا بيننا وبين الآخرين بحيث لا نرى شقاءهم، فهذا يعني أن حبّ الله لم يلج حياتنا. فكل عمل نقوم به من أجل القريب، ينبع من حبّ الله الذي يمنحنا خيرات العالم لكي نتقاسمها مع إخوتنا، لا أن نتنعّم بها وحدنا مثل الغني في مثل لعازر والغني (لو 16: 19) أو الغني الغبيّ الذي نال خبرات وفيرة فقال لنفسه: "فاستريحي وكلي واشربي وتنعمّي" (لو 2: 19).
في آ 17، نقلنا يوحنا من عالم اللاهوت وما فيه من نظريات، إلى عالم الواقع: فالاستعداد لأن نضحّي بحياتنا هو مثال رفيع نُقبل إليه بحماس. غير أنه امكانية بعيدة تحصل أو لا تحصل. وإن حصلتْ نقوم بمجهود كبير مرّة واحدة. وبانتظار ذلك نحيا حياة هادئة متنعّمة إلى أن يأتي وقت التضحية السامية. أما يوحنا فيرفض هذا الموقف، ويقول لنا: الآن هو وقت التضحية. إن لم نعش التضحية اليوميّة الصغيرة، لن نعرف أن نعيش التضحيّة العظمى. وتعطي 1يو مثلاً: من كانت له خيرات العالم. ومن ليس له بعض الخير لكي يعطي؟ من أغلق قلبه وما فتحه على الرحمة، لا تثبت محبّة الله فيه. حين أكون مرتاحًا حين يكون أخي محتاجًا، فلستُ مسيحيًا حقيقيًا. هذا يعني أنني أكتفي بالكلام ولا أصل إلى العمل الذي يدلّ على صدق إيماني.
خيرات العالم. حرفيًا: ما يمكننا من العيش في العالم. رج 2: 16 وثقة المتكبّر بخيرات مادية يملكها، شدّد ف 2 على الخطر الذي يهدّد من يتعلّق بهذه الخيرات. وبيّن ف 3 ما يمكن أن نفعله من أجل المحتاجين. وهكذا تتكامل النظرتان: نتجرّد فنعطي (لو 18: 22). الأخ المذكور هنا هو عضو في الجماعة. أغلق قلبه. حرفيًا: أحشاءه (سبلنخنا) التي هي الرحم وينبوع الرحمة في الله (لو 1: 78؛ كو 3: 12) كما في الانسان (لو 10: 33؛ تحرّكت أحشاء السامري لرؤية الجريح).
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
الوصيّة التي سمعتموها. ليس الحبّ الأخويّ فكرة تخيّلها المسيحيون ووضعوها في قوانينهم من أجل المنفعة العامة. بل هو معطية من معطيات الوحي. وهو جزء من تعليم أرسله الله فتلقّاه المسيحي من البدء، منذ التعليم الأساسيّ الذي ناله المسيحيون في بداية اهتدائهم. ولهذا التعليم الفريد وجهتان: الله نور وهو يكشف عن ذاته في يسوع المسيح. هكذا نعرف حبّه. غير أن هذا الحبّ لا ينتزعنا عن محيطنا ليعزلنا ويسجننا وراء جدران نفسنا. بل إن هذا الحبّ يستولي علينا ويطلقنا إلى الآخرين. وعندما نعيش محبّة الآخرين نعرف أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة.
أما الذين لا يحب فهو يقيم في الموت. هو في الموت لأنه أنفصل عن الله وانقطع عن الينبوع الذي يتيح لحياته أن تتفتّح. انغلق على ذاته، فما عاد يرى سوى مصالحه. وجعل نفسه في قلب الكون فصار الآخرون كلا شيء. وهذه اللامبالاة قادته إلى الكره والبغض، بانتظار أن تقوده إلى الموت. هكذا كان قايين. وقابله يسوع الذي ضحّى بذاته من أجلنا. فيبقى علينا أن نقتدي به، لا في ذبيحة نقوم بها مرّة واحدة في حياتنا، بل في أعمال تتوزّع حياتنا يومًا بعد يوم. عندئذ يكون كل عطاء بسيط تعبيرًا عن عطاء ذاتنا، ويهيّئنا للعطاء التام الذي يطلبه الله منا حين نشاء. عندئذ نفهم أن حبّنا نبع من حبّ الآب، ووجدَ أعظم مثال له في حبّ المسيح الذين أحبّ خاصته وأحبّهم إلى الغاية. وهكذا دخل في مسيرة آلامه وموته وقيامته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM