ممارسة البرّ على مثال يسوع
2: 28- 3: 10
نستطيع أن نكتشف هنا أسلوب يوحنا: يتأمّل الرسول في فكرة البنوّة من كل وجوهها. يترك الترتيب المنطقيّ ولا يخاف أن يستعيد ما قاله فيما مضى لكي يتوسّع فيه من جديد. كما نكتشف أمورًا أخذت من العالم اليهوديّ بشكل عام، ومن العالم الاسياني بشكل خاص مع عالم الجلياني اليهوديّ. ونستطيع أن نقسم هذه القطعة ثلاثة أقسام مع نداء يتوجّه في القسم الأول إلى الابناء الصغار (2: 28)، وفي القسم الثاني إلى الأحبّاء (3: 2)، وفي القسم الثالث إلى الأبناء الصغار (3: 7) مرّة ثانية. في القسم الأول نتذكّر الدينونة القريبة. في القسم الثاني، نقرأ كلامًا حول متطلّبات الطهارة وقطع كل رباط بالخطيئة. وفي القسم الثالث، نعود إلى الحرب على المضلّلين مع نداء إلى الثبات فيه (= في المسيح 2: 28؛ رج 2: 27) واختيار الله لا تعليم الهراطقة.
1- دراسة كتابيّة
نقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة أقسام: الدينونة القريبة (2: 28- 3: 1). الانقطاع عن الخطيئة (3: 2- 6). بين البرّ والخطيئة (3: 7- 10).
أ- الدينونة القريبة (2: 28- 3: 1)
ماذا ينتظر أبناء الله، وما هو المستقبل الذي أمامهم؟
أولاً: أثبتوا فيه (آ 28)
إن الذين يثبتون في التعليم الذي نُقل إليهم يثبتون في المسيح. غير أن هذا الاتحاد بالمسيح لا يعني الحاضر فقط، بل يلقي أيضًا ضوءًا على المستقبل. فعلى القرّاء أن يعلموا أن المستقبل ليس فراغًا وفكرة مجرّدة، نتطلّع إليه بقلق. إنه واقع مُقبل يحدّده لقاؤنا بالمسيح. وذروة المستقبل هي الوقت الذي فيه يظهر المسيح أيضًا في ملئه كتثبيت لسلطان الله في الكون. بعد هذا، لن نصلّي: ليأت ملكوتك. فالعالم الذي يحتاج إلى هذه الصلاة، قد حلّ محلّه عالم الله حيث لا يقف شيء في وجه تتميم إرادة الله. كان يوحنا قد قال في 2: 17: "من يعمل بمشيئة الله يثبت إلى الأبد". وهو يضيف هنا: من ثبت في المسيح يكون واثقًا (باريسيا) عند مجيئه (باروسيا) ولا يخزى، إي لا يرذله المسيح. وهكذا يفكّر يوحنا في الدينونة التي هي المواجهة الأخيرة مع المسيح (4: 17).
نجد خمس مرات الاداة "انين" (الآن) في آ 18، 28؛ 3: 2؛ 4: 3؛ 2 يو 5، وتسبقها "كابي" (حرف العطف واو، ما عدا 3: 2). نحن هنا أمام تشديد على الزمن من الحاضر كزمن الامانة (ماناتي) والثبات. ما دام الانتيكرست هنا (آ 18، نين)، فالواقع يحدّده هذا التحدّي الشيطاني.
يا أبنائي الصغار. رج آ 1. ويقابل "تكنياء" "بايديا" في آ 14، 18؛ 3: 7. السامعون هم تلاميذ الكاتب، وهم ما زالوا بحاجة إليه. عليهم أن يظلّوا أمناء للتعليم الأول. أثبتوا فيه (إن اوتو). أي في المسيح. فالأمانة للتعليم ترتبط بالأمانة للمسيح. والثانية تجعل الأولى ممكنة (آ 24). وما يسند هذا النداء إلى الأمانة، هو النظرة إلى النهاية، إلى ذلك الذي يأتي وإن كنا لا نعلم متى يأتي. ولكن الكاتب سيكون حيًا. هذا يعني أنه يعتبر المجيء الثاني قريبًا. إن فعل "فانارود" في 1يو يشير إلى مجيء يسوع الأول (1: 2؛ 3: 5، 8؛ 4: 9) كما إلى مجيئه الأخير. وهو يرد مرارًا (رج 3: 2). وهذا الظهور لن يتجلّى إلا في باروسيا (عودة الرب ومجيئه الثاني)، أي في الدينونة حيث نحتاج إلى الدالة (باريسيا) أمام الله (3: 21؛ 4: 17؛ 5: 14). نشير إلى أن الخزي (أيسخينتومن) لا يرد إلاّ هنا في كتابات يوحنا (رج فل 1: 20؛ 2كور 10: 8)، وهو يتيح للمؤمنين أن لا يخجلوا في الدينونة الأخيرة. كانت الأمانة في آ 27 على مستوى العقيدة. وهي تتّخذ هنا (في آ 28) وفي آ 29 بُعدًا خلقيًا.
أشار يوحنا في آ 27 إلى القراء أن يثبتوا في المسيح، وها هو يستعيد العبارة بشكل انتقالة تُبرز فكرته. فالثبات في المسيح هو دواء ضدّ التعليم الكاذب والتصرّف اللامسيحيّ. والآن، يحدّث قرّاءه عن مجيء المسيح الذي هو أكيد. هو سيظهر. ظهر ككلمة الله في شكل بشريّ بحيث رأته العيون واعترفت به: "رأينا مجده، مجد ابن وحيد جاء من عند الآب وهو مملوء نعمة وحقا" (يو 1: 14). كان لاهوته خفيًا. والآن، ناسوته خفيّ. هو حاضر مع تلاميذه بشكل روحيّ، ولكنه سوف يتجلّى في يوم من الأيام آتيًا من السماء.
ثانيًا: المولود من الله (آ 29)
يسوع هو البار. لهذا يستطيع أن يكون الديّانَ العادل الذي يميّز الذين يخصّونه من الذين لا يخصّونه. ويضيف يوحنا: "من يمارس البرّ (الحق) مولود منه". هي المرة الأولى يرد موضوع الولادة في 1 يو (رج 3: 9؛ 4: 7؛ 5: 1، 4، 18). يُولد الانسان من الله (لا من المسيح). وهكذا ننتقل من المسيح إلى الله، وكأننا نستبق ما سوف نقرأ في 3: 7 و3: 9- 10. مهما يكن من أمر، يربط النصّ بشكل ضمني برَّ المسيح ببرّ الله، لأن أصل هذين البرّين هو في الله. فبرّ الله تجلّى في المسيح وسيتجلّى فيه، في يوم الدينونة (يو 5: 30). ويتجلّى أيضًا في برّ البشر أي في الأعمال التي توافق مشيئة الله. يستطيع الانسان أن يعمل ما هو صالح، فتدلّ أعماله أن الله وضع يده عليه، استولى عليه. هكذا يكون الانسان مولودًا من الله (في المعمودية، رج 5: 13). بفضل الله يفعل الانسان الخير، واتحادُه بالله يكوّن هذه الأعمال.
تعرفون (ايديتي). تستعمل 1 يو مرارًا فعل عرف. إذا كنتم تعرفون فلأنكم تعلّمتم (2: 20 ي؛ 3: 25...). البار (ديكايوس) هو يسوع المسيح إذا عدنا إلى الآية السابقة (آ 28). ولكن هذا مستحيل، لأننا نُولد من الله، لا من المسيح. برّ الله. رج 1: 9 مع الإشارة إلى رحمة الله وحبّه. الله بار، أي أمين لمخطّط حبّه (2: 1؛ 3: 7). فعلى القرّاء أن يعرفوا ذلك. بما أن الله بار، فمن مارس البرّ كان مولودًا منه. ذاك هو المقياس لنعرف أننا من الله. هذا البرّ (3: 7، 10) هو الأمانة لمشيئة الله. وهو يصبح ملموسًا في الأمانة لتعاليم يسوع خلال حياته على الأرض، ولا سيّما وصيّة المحبّة الأخوية.
وماذا عن الولادة من الله؟ أولاً، لا يعطينا يوحنا تعليمًا عن الولادة، بل هو يقارع الخصوم. فيعلن لهم أنهم لم يولدوا من الله، لأنهم لا يمارسون البرّ. رج ف 5. ثانيًا، يقابل الكاتب هنا كما في ف 4- 5، فكرة الهراطقة حول هذه الولادة الالهية مع قولين إيجابيين: وحده الذي يمارس البرّ أو المحبّة يعدّ نفسه مولودًا من الله (2: 29؛ 3: 9- 10؛ 4: 7- 8؛ 5: 1- 19). ثم، لا نحتاج إلى برنامج لكي نولد من الله، منذ الآن نحن أولاد الله بالايمان بالمسيح الذي جاء في الجسد (3: 1؛ 4: 1- 4؛ 5: 1- 12). "من يؤمن أن يسوع هو المسيح، هو مولود من الله" (5: 1). ثالثًا، تتكرّر لفظة "باس" (كل). يتحدّث الهراطقة عن تخبه تخلص. أما يوحنا، فيعتبر أن الجميع مدعوّون إلى الايمان: كل من يؤمن بالابن هو مولود من الآب. رابعًا، يتحدّث يو 3 عن ولادة "من عل"، عن ولادة من الله بالايمان بالابن، فرفض الاكتفاء الدينيّ لدى اليهود (نيقوديمس). أما يو فأرادت محاربة الغنوصيين فدلّت على أن هذه الولادة هي حقيقة واقع لدى القرّاء. خامسًا، لا تقابل 1يو ولادة روحيّة مع ولادة "طبيعيّة" عرفتها التعاليم الغنوصيّة، بل تقابل ولادة يمنحها المسيح (بواسطة التعليم اليوحناوي مع ولادة تمنحها تعاليم التدرّج الجديدة).
ثالثًا: العالم لا يعرفنا (3: 1)
الذين وُلدوا من الله هم أبناء الله. وهذه الصفة هي نتيجة حبّ الله الذي يجعل الانسان ابنه حقًا. لسنا فقط أمام تعبير رمزيّ تستخرجه من علاقة الأب بابنه، بل أمام حقيقة ثابتة وإن كانت خفيّة. غير أن العالم لا يستطيع أن يعرف أن الانسان مولود من الله: لأنه يتكوّن من الذين لم يعرفوا الله لأنهم لم يعرفوا المسيح (يو 1: 10- 11). وما نجهله لا نفهمه. فالذين لم يعرفوا أن الله هو أبو المسيح وأبو البشر، لا يستطيعون أن يفهموا أن البشر يمكن أن يكونوا أبناء الله.
ربط يوحنا الولادة الجديدة بالمجيء. فصوّر وضعَ المؤمنين الحاضر كأبناء الله المحبوبين قبل أن يصل إلى ما سيظهر في المجيء (باروسيا). هذا الوضع هو حقيقيّ، وإن كان العالم لا يعترف به. وهذه الفكرة لا تخلق فقط فرحًا دائمًا، بل تدفعنا إلى حياة من القداسة.
بالنسبة إلى فكرة الولادة الجديدة. فإن نظرة يوحنا تتوجّه إلى حبّ الله العظيم الذي به صرنا أبناء الله. هنا نقابل هذه النظرة مع يو 3 والحديث مع نيقوديمس: شرط للدخول إلى ملكوت الله (الولادة من عل). ويتبع هذا إعلان عن حبّ الله الذي أرسل ابنه لكي تكون لنا الحياة الأبديّة. نادى يوحنا قرّاءه لكي يكتشفوا حبّ الله العظيم.
بما أن أننا أبناء الله، لا يعرفنا العالم، كما لم يعرفه هو. فالعالم يكره أبناء الله (3: 13) ويبغضهم كما أبغض يسوع (يو 15: 18- 19)، لأنه ليسوا من العالم. فالبرهان على أننا أبناء الله يظهر حين لا يعتبرنا العالم له.
ب- الانقطاع عن الخطيئة (3: 2- 6)
أولاً: متى ظهر المسيح (آ 2)
إن العلاقة النبويّة بين الله والانسان، هي حقيقيّة وإن كانت خفيّة. وهي تشير إلى المستقبل. هنا نقابل بين زمن الانسان وزمن الله. فالطفولة في حياة الانسان لا تمتدّ طويلاً. وكذا نقول عن أبناء الله. فزمنهم على الأرض لا يمتدّ إلاّ الأبد. فسيأتي وقت يتجلّى فيه مصيرهم الأخير. هم دومًا أبناء الله، وينعمون دومًا بمحبّة الله. غير أن الزمن الذي يعيشون فيه الآن سيزول ويحلّ محلّه مستقبل الله. سيخصّون زمنًا ليس زمنهم، بل زمن الله. فما يفصل زمنًا عن زمن هو الموت واللقاء مع المسيح.
بعد أن ثبّت يوحنا أننا أبناء الله، عاد وكرّر ذلك تجاه ما سوف يقوله عن الرجاء المسيحيّ في المستقبل. فالتعارض نجده بين ما هو معروف وما هو غير معروف. أما معرفتنا لوضعنا الحاضر فيُعدّنا لنقول إن وضعنا المقبل سيملأنا دهشة وإعجابًا. نحن الآن أبناء الله. ولكن وضعًا أرفع ينتظرنا في المستقبل. منذ الآن، نمتلك فكرة عمّا هي الحياة المسيحيّة، وهكذا نستطيع أن نتذوّق مسبقًا حالتنا الآتية. في هذا المجال، نسمع بولس الرسول: "لم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر ما أعدّه الله للذين يحبّونه" (1كور 2: 9). غير أننا الآن نعيش في حقبة حياة لم ننلها بعد، ونحن نتطلّع إلى ملء وحي لحالة ننتظر أن نعيشها.
ومع أننا ننتظر هذا الوحي، إلاّ أننا نستطيع أن نكوّن فكرة عمّا نصير إليه. نحن نعرف أنه حين يظهر، سنكون مثله. في المجيء (باروسيا 2: 28) سنكون مثل يسوع. وهذا ما نحن عليه منذ الآن: نحن أبناء الله. نعيش في النور. تحرّرنا من الخطيئة. لا يقول لنا يوحنا بوضوح كيف نكون مثل يسوع في المجيء. ولكن الامتيازات التي ننعم بها الآن بشكل جزئيّ، ستكون لنا في ملئها وكمالها. بل سيتحقّق رجاؤنا بأن نرى يسوع في مجده (يو 17: 1، 5، 24)، وتشاركه في هذا المجد (روم 8: 17- 19؛ فل 3: 21؛ كو 3: 4)، إن مسيرة المجد هذه التي بدأت هنا في حياة المؤمنين (2 كور 3: 18)، سوف تصل إلى كمالها. وفي النهاية، سوف نرى الله كما هو، لا في المرآة، كما يقول الرسول: "ما نراه اليوم هو صورة باهتة في مرآة. وأما في ذلك اليوم، فنرى وجهًا لوجه". ونقرأ أيضًا في 2كور 3: 18: "نحن جميعًا نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة، فنتحوّل إلى تلك الصورة ذاتها".
ثانيًا: تطهير من الخطايا (آ 3)
حتّى الآن، لا وجود للمستقبل إلاّ في الرجاء. فالحاضر هو زمن الانتظار الذي يحدّده المستقبل. هذا يعني أن الأمل بأن نكون مثل الله يظهر نتائجه منذ الآن: يجب على الانسان أن يصير طاهرًا، أن يتنقّى من خطيئته لأن يسوع طاهر. يشدّد يوحنا هنا على موقف لا يربطنا بيسوع كما عاش على الأرض، بل بالمسيح الممجّد. هو طاهر وهو بار. هو بلا خطيئة. وحياته تتوافق كل التوافق مع مشيئة الله. لهذا، إن الذي يتنقّّى من خطاياه يستبق منذ الآن الشركة مع الآب والابن. ويعيش منذ الآن في الضوء، الذي سيحيط به حين يدخل في مجد الله.
ما يميّز بنوّتنا في نظر يوحنا، عن الولادة من الله بحسب الهراطقة. يرتبط برجاء يوقع المؤمنين لكي يقطعوا كل رباط بالخطيئة (آ 3- 10). هكذا نكون أمام ولادة ترتبط بنهاية الزمن مع بُعد خلقيّ. كل مؤمن (لا بعض المؤمنين) مدعوّ إلى هذه الولادة. وهذا الرجاء هو رجاء مجيء يسوع (2: 28). هنا ترد الأفعال في صيغة الحاضر (طهّر نفسه، لا يخطأ...) وكأنها تعليم ارشادي: يجب أن نطهّر نفوسنا، أن لا نخطأ... هذا يدلّ على مسؤولياتنا. كما نلاحظ أن يوحنا لا يحرّض قرّاءه بشكل مباشر. بل يلاحظ موقفًا ليشجب موقفًا آخر. "طهّر" (هغنيزو، هنا فقط وفي يو 11: 55، وفي معنى طقسيّ) يقابل: لا يخطأ (آ 6). فنقاوة يسوع (إكاينوس، هو آ 5، 7، 16؛ 2: 6؛ 4: 7) تعني أنه البار. فكما يكون الربّ كذلك يكون المؤمن (2: 29).
كل هذا أساس متين لثقة وفرح ينعم بها المسيحيّ. وأحد أهداف يوحنا هو تقوية هذه الوجهة في إيمان قرّائه. هم يعيشون في عالم معاد، ويتأثّرون بعدّد من أعضاء الجماعة يعتبرون نفوسهم مائلي الحقيقة، لهذا نراهم يحتاجون إلى تشجيع. فيُبرز يوحنا امتيازهم كمسيحيين ويتوسّع في الرجاء الذي ينعمون به في المسيح. وجاء التعليم يشمل الحياة الأخلاقيّة اليوميّة. قال لنا يوحنا إننا سنكون مثل يسوع لأننا نراه (آ 2). ولكن الشرط الأساسيّ لرؤيته هي حياة أخلاقيّة تخوّلنا الوقوف بحضرته. "طوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). عرف يوحنا أن قرّاءه يحتاجون إلى تكملة نقاوة قلوبهم، فشجّعهم على طلب هذه الطهارة لكي يكونوا مثل يسوع.
ثالثًا: من خطئ (آ 4)
نبدأ هنا كلامًا عن أبناء الله الذين لا يخطأون. شدّد يوحنا قبل ذلك على التواصل مع المسيح، والعمل بالبر، وتطهير الذات استباقًا لمجيئه. وها هو يعالج الوجهة السلبيّة في كل هذا: حاجة المؤمنين للامتناع عن الخطيئة، وامكانيّاتهم بأن يمتنعوا. وهكذا انقسم العالم قسمين: عالم أبناء الله (يميّزه البر) وعالم أبناء إبليس (تميّزه الخطيئة). في آ 4- 10 ينقل الكاتب من الوجهة السلبيّة إلى الوجهة الايجابيّة، إلى البرّ الذي يعبّر عنه في محبّة بعضنا بعضًا.
يبدأ الجدال فجأة حول تحديد الخطأة والخطيئة. استُعمل لفظ "خطيئة" (هامرتيا) في 2: 12. وهو يتكرّر هنا في خمس آيات متتالية. الخطيئة هي اللابرّ (أنوفيا، لاناموس، شرّ). لماذا يشدّد يوحنا على هذا الأمر؟ لأن قرّاءه يعتبرون أن السقوط في الخطيئة ليس بالأمر المهم. هم لا يبالون. في بداية الرسالة، رأينا أناسًا في الكنيسة يعتبرون نفوسهم بلا خطيئة. وها هو يوحنا يبيّن لهم أنهم في الواقع ليسوا منزّهين عن الخطيئة، وأنهم يحتاجون إلى التطهير والغفران. يحتاجون إلى الاعتراف بخطاياهم. مثل هذا الأمر واجهه بولس في روم 6: 1 فقال: "أتبقى في الخطيئة"؟
فما هي الخطيئة؟ تُفهم في خطين. هناك الخط التقليدي: هي عمل أخلاقيّ يتجاوز شريعة الله؟ وصايا الله. ونحن نجد مقابلة بين "هامرتيا" و"انوميا" في مز 32: 1- 2 (رج روم 4: 7- 8)؛ إر 31 (38)؛ 34 (رج عب 10: 17). وهناك خطّ آخر يجعلنا أمام عصيان على مشيئة الله. من اقترف الخطيئة جعل نفسه بجانب الشرير والمناوئ للمسيح، وعارض يسوع المسيح.
رابعًا: تحطّمت الخطيئة (آ 5)
أنهت آ 3 اعتبارًا حول مستقبل أبناء الله، فقدّمت رباطًا مع ما يلي من ف 3 الذي يتعمّق في مسائل طُرحت سابقًا. فحين تكلّم يوحنا عن الطهارة (هاغنوس، الطاهر والقديس في المعنى الأدبيّ) فكّر في القداسة. وها هو في آ 4 يتوقّف مطوّلاً عند هذا الموضوع في وجهتيه السلبيّة والايجابيّة. فأبرزت آ 4- 10 مفهوم الخطيئة، وشدّدت آ 11- 24 على فكرة المحبّة.
تبدو الخطيئة أولاً، عملاً يعارض الشريعة. وما يعارض "القداسة"، (الطهارة) يظهر لدى الذين يخطأون. ليس الخطيئة جزءًا من الانسان. بل هي تطبع بطابعها بعض أعماله. ونحن لا نتكلّم عن الخطيئة إلاّ ساعة تحصل. هي امكانية: فالانسان يقدر أن يعمل ضدّ مشيئة الله. وليست الخطيئة ضرورة. فلو كان الأمر كذلك لصرنا في الحتميّة والقدر، ولما استطعنا أن نتحدّث عن مسؤوليّة. بل صار الانسان ضحيّة القدر.
الخطيئة جسم غريب يقف بين الله والانسان. هي تمثّل الظلام وتعارض النور. تترك الانسان وحده وتفصله عن الله. إلاّ أن مجيء المسيح إلى العالم، دلّ على أن الله لم يتخلَّ عن الانسان. راح يبحث عنه لكي يحرّره. كانت الخطيئة حاجزًا، فتجسّد يسوع ليزيل هذا الحاجز الذي لا يستطيع الانسان شيئًا حياله. وفعل يسوع ما فعل، لا كردّة فعل على الضعف البشريّ، بل كتعبير على مشاركة الله للانسان. أجل، لم تعد الخطيئة سيّد العالم. أزالها المسيح فدلّ على قدرة الله. ولكنه دفع الثمن.
وهكذا جاءت آ 5 كتأكيد كرستولوجيّ على خطورة الخطيئة. ظهر هذا (أي المسيح، إكاينوس، آ 13 ليزيل الخطايا. وهذا ما أنتم تعرفونه (اويداتي، رج آ 2). تعرفونه لأنكم تعلّمتوه في جماعة يوحنا التي تحمل التعليم الصحيح. إن فعل "ايراين" يعني: أزال انتزع. ويعني: حمل، تحمّل. رج يو 1: 29؛ 15: 2. أما المسيح، فلا علاقة له بالخطيئة، لا خطيئة له. قال لليهود: "من يقدر أن يُثبت عليّ خطيئة" (يو 8: 46).
نحن هنا أمام سبب آخر يدعو المسيحيين إلى أن لا يخطأوا: معارضة الله هي معارضة لمجيء يسوع. تعرفون (معرفة مسيحيّة أولى) أن يسوع ظهر في هذا العالم لكي يزيل الخطيئة. أزال الخطيئة لأنه حملُ الله. حملَ الخطيئة، أخذها على عاتقه. صلبها كما صلب الموت فألغى سلطانها. لا يشدّد النصّ بالدرجة الأولى على الخطايا، بل على ذلك الذي جاء ليزيل الخطايا. ومعارضته للخطيئة يقابلها أنه بلا خطيئة. هو البار (2: 1). والطاهر (3: 3). رج 2كور 5: 21؛ عب 4: 15؛ 1بط 3: 18. وبما أنه عارض الخطيئة فعلى المؤمنين أن يسيروا في خطاه.
خامسًا: من ثبت فيه لا يخطأ (آ 6)
أعلن يوحنا: من يحيا في المسيح لا يخطأ. وتجاه هذا، من يخطأ لا يكون رأى المسيح ولا عرفه. رج آ 8: 10. وسيقول في آ 9: المولود من الله لا يعمل الخطيئة. هذا يعني أن من يعمل الخطيئة ليس مولودًا من الله، بل من إبليس. ولكن هنا تبرز الصعوبات الأولى، قال يوحنا إن المؤمنين يخطأون (1: 8، 10؛ 2: 1؛ 5: 16). وما يقوله هنا هو حثّ القرّاء على أن لا يخطأوا، بل يمارسوا البرّ (2: 1، 15، 29؛ 3: 12، 18؛ 5: 21). في الواقع، لا يرى يوحنا أن ما يقوله لا يتوافق مع امكانية الخطيئة في حياة قرّائه. الثانية، ما رآه يوحنا لدى قرّائه كان موضوع اختبار لديه. هناك بعض المسيحيين يعتبرون نفوسهم بلا خطيئة وبعيدين عن التجربة. ولكن يوحنا لا يتكلّم عن فئة معيّنة، بل عن مجمل المسيحيين. وهناك من قال إن الكاتب يتطّلع إلى الخطيئة التي تقود إلى الموت (5: 16- 17). في هذا المجال، اللامؤمنون وحدهم يقترفون الخطيئة التي تقود إلى الموت. لهذا، تقول آ 18: "كل من وُلد من الله لا يخطأ". ولكن يبقى أن يوحنا ينظر إلى المؤمن المثالي: هكذا يجب أن يكون ليُدعى حقًا ابن الله ويعتبر مولودًا من الله. ما يريده الله أن يكون الانسان محرَّرًا من الخطيئة. أما إذا كان باقيًا في الخطيئة، فهذا يعني أنه لم يختبر الاختبار الحقّ الحياة المسيحيّة.
بما أن الخطيئة والموت قد غلبهما يسوع، فالذي يعيش معه لا يخطأ. لماذا يشدّد يوحنا على هذا القول؟ ليدل على أن الهراطقة لم يروا المسيح ولم يسمعوه. إن ممارستهم تعارض كلامهم. في هذا المظال نستطيع أن نفهم التضارب في أقوال 1يو: كشف الكاتب القناع عن الخطيئة التي نحاول أن نخفيها، وأكّد أن المؤمن خاطئ غُفرت خطيئته، ها هو يقول إن من يثبت في المسيح (آ 6) أو من وُلد من الله (آ 9) لا يخطأ (آ 6)، بل لا يقدر أن يخطأ (آ 9، صارت طبيعته إلهيّة).
نستطيع أن نفهم هذا الكلام أولاً، بأنه تحريض لكي نبقى حقًا في المسيح. وثانيًا، بأنه نداء إلى أن نخطأ. وثالثًا، بأن من يحبّ أخاه يبدو وكأنه لم يخطأ. فالمحبة تستر جمًا من الخطايا.
ج- بين البرّ والخطيئة (3: 7- 10)
كل هذا واضح: لا توافق بين من يعتبر نفسه مسيحيًا وفي الوقت عينه يخطأ. غير أن هناك من يعارض كلام يوحنا ويحاول أن يضلّل الجماعة. فيكرّر الكاتب كلامه ويبرزه على أنه مشورة أبويّة. البار هو من يعمل البرّ، يعمل بمشيئة الآب، على مثال يسوع. هكذا يكون مؤمنًا حقًا.
أولاً: من عمل البرّ (آ 7)
رأى الله. عرفه. كيف نفسّر هذه الرؤية وهذه المعرفة؟ إن يوحنا يحذّرنا من الحماس الروحيّ الذي يبرّر الخطيئة أو يعذرها. فالخطيئة تبقى خطيئة مهما كانت مبادئ أعمالنا وغايتها. وما يعارض الخطيئة هو البرّ. والأعمال البارة وحده (لا العواطف والنوايا) تدلّ على أن الانسان بار. إذن، لا نخدع أنفسنا. فالشجرة تُعرف من ثمارها (مت 7: 15- 20). اعتبر خصوم الكاتب أنهم أبرار، فما دلّ شيء على برّهم، لا سيّما وأنهم ادّعوا أنهم يصلون إلى الله بدون يسوع المسيح. لهذا، ربط يوحنا برّنا ببرّ يسوع: المسيح بارّ ونحن نمارس البرّ معه وعلى مثاله.
وهكذا دلّت هذه الآية، داخل 2: 28- 3: 10، على الطابع الهجومي في كلام يوحنا (خصوصًا آ 6، 9). توجّه الكاتب إلى الأبناء الصغار (2: 1، 12، 18)، فذكّرهم بتعليمه ووعظةً، بالموقف الواجب تجاه المضلّين (1: 8؛ 2: 28). لا يجد المؤمنون أمام أفكارًا غامضة، بل أشخاصًا يسحرونهم بالكلام المنمّق ويُضلّونهم. فالميزان هو البرّ (2: 29) الذي يعيشه هؤلاء الذين يعتبرون نفوسهم أطهارًا (هاغنوس) وأبرارًا (ديكايوس) يكون المؤمن بارًا مثل يسوع. ويكون بارًا لأن يسوع كان بارًا، فجعل من مشيئة الآب طعامه.
ثانيًا: من عمل الخطيئة (آ 8)
إن آ 8- 10 التي تنهي هذه القطعة تكرّر ما قالته آ 7 بشكل جذريّ: لا برّ بدون ممارسة البرّ. أما من يعمل الخطيئة فهو من إبليس. فهو نسل ابليس. ولكن إن الله جاء ليدمّر مملكة إبليس، ويحرّر الانسان بحيث لا يكون بعدُ عبدًا للخطيئة (يو 8: 34- 36).
تحدّث يو 8: 33- 34؛ رج 6: 7؛ 13: 2 (يهوذا) عن إبليس الذي هو الكذّاب، الذي يعارض الحقّ الذي تعلنه المدرسة اليوحناويّة، الذي هو نموذج الشرّ والدافع إليه. نحن هنا أمام تعليم قصير عن الشر وإبليس. ولكن يسوع يجعل الحقّ ينتصر على إبليس، ويدمّر أعمال إبليس. ثم لا نستطيع أن نقسم الناس بين أبناء الله وأبناء إبليس، كما كانت تفعل جماعة قمران، بل نحن مدعوون لكي نختار البرّ والحقّ ونترك إبليس. ونحن نستطيع ذلك بفضل المسيح.
من إبليس (رج 2: 16 وما قلناه عن عبارة "من العالم"). من البدء (أب، أرخيس). أي إن إبليس خطئ دومًا. هو الخاطئ الخاطئ. أو: منذ بداية حياتنا المسيحيّة، يعمل إبليس لكي يُسقط المؤمنين في الخطيئة. إن الله. لا يشدّد يوحنا هنا على بنوّته الأزليّة، بل على تجسّده وعمله في التاريخ. جاء ابن الله ليهدم (ليسي، تقابل أري في آ 5، أزال). حين لا نخطأ ندمّر مملكة إبليس. أما خطايانا فتعارض عمل المسيح. أفهمنا الكاتب ابن إله الهراطقة هو إبليس (رج ما قيل عن انتيكرست في 2: 18 ي). لا حلّ وسطًا على مستوى الكرستولوجيا والحياة الخلقيّة: نحن من الله أو من إبليس.
تحدّث يوحنا عن الخطيئة بلغة العصيان على الله. وها هو يبيّن أن إبليس هو الذي يدفع الانسان إلى الخطيئة. نجد موازاة بين آ 4- 6 وآ 8- 9: في هاتين الحالتين، يتحدّث الكاتب عن طبيعة الخطيئة وأصلها، ويبيّن أن ابن الله هو ذاك الذي يقاوم الخطيئة. ويستنتج أن المؤمن لا يمكن أن يخطأ. أما الذي يخطأ فيقف إلى جانب إبليس ويستلهمه في عمله.
أجل، أعمال الشرير وأبنائه تعارض الله. هذا ما يشدّد عليه الكاتب مرّة أخرى (رج آ 5)، راجعًا إلى أعمال يسوع. فابن الله ظهر ليقف بوجه أعمال إبليس. يشير يوحنا هنا إلى التجسّد الذي قبل به المؤمنون وشكّ به المعارضون (2: 22- 23). بما أن ابن الله عمل ضد إبليس، فنحن نفهم أن هذا هو عمل الآب ومشيئته. إن قرّاء يو لا يحتاجون إلى برهان يقول إن يسوع جاء ليهزم إبليس (يو 12: 31). رج مت 4: 1- 11؛ 12: 25- 29؛ لو 10: 18؛ رؤ 12: 7- 12؛ 20: 1- 3. جاء ليدمّر عمل إبليس في العالم.
ثالثًا: كل مولود من الله (آ 9)
تستعيد هذه الآية الفكرة التي قرأناها في آ 6. هناك خياران لا وسط بينهما: أو أن الانسان يخضع لسلطان الله، أو يخضع لسلطان إبليس. أو أنه يتصرّف حسب مشيئة الله أو أنه يرفض تلك المشيئة. فليس هناك سوى هاتين الامكانيتين. في الحالة الأولى، نعمل أعمالنا في الله وبنعمة الله. وإلاّ نكون رافضين الله، كما قال الناس في مثل الدنانير: "لا نريد هذا أن يملك علينا" (لو 19: 14).
استخرج يوحنا النتيجة بأن الذين هم من حزب ابن الله، المعارض الاكبر لابليس، لا يستطيعون أن يتبعوا طريق الشرّير ويعيشوا في الخطيئة. وعاد إلى فكرة المولود من الله (2: 29) فبيّن بشكل إيجابيّ أن مثل هذا الانسان هو حقًا ابن الله. وسوف يقول في 2: 7 إن ما يميّز أبناء الله هو محبتهم بعضهم لبعض (4: 7)، وإيمانهم بيسوع (5: 1)، وانتصارهم على العالم (5: 4). وهو يقول الآن الشيء عينه بشكل سلبيّ: من وُلد من الله لا يخطأ. هناك تقابل واضح بين المولود من الله والذي يعمل البرّ: المحبة، الايمان بيسوع، غلبة العالم، والامتناع عن الخطيئة. ماذا نفعل؟ هل ننتمي إلى النور أم إلى الظلمة؟ إلى الله أم إلى إبليس، إلى البرّ (والمحبة أم إلى الخطيئة)؟
وما الذي يفسّر هذا الطابع الخلقيّ الذي يميّز أبناء الله؟ ولادتهم من الله. هم لن يخطأوا لأن زرع الله فيهم. إذن، الله يقيم فيهم. وهو يريد أن ينمو. مبدأ حياة الله هو فيهم. غُرس في قلوبهم فأنبت حياة جديدة، كما في مثل الزارع (مت 13: 1- 9 وز).
من يقيم (يثبت) في الله يقابل من هو مولود من الله. هم مؤمنو جماعة يوحنا الذين يمارسون البرّ ويحبّون اخوتهم. فيتميّزون عن الهراطقة. لا يرد لفظ "زرع" (سبرما) إلا هنا في 1يو (رج يو 7: 42؛ 8: 33، 37، في معنى نسل). ما يقيم في التلاميذ هو الكلمة، التعليم وأقوال يسوع حول المؤمنين (2: 14، 24؛ 27: 2 يو 2).
رابعًا: أبناء الله وأبناء إبليس (آ 10)
تشكّل هذه الآية انتقاله إلى القطعة التالية (3: 11- 17) وموضوع المحبّة الأخويّة. فممارسة البرّ وعدم الخطيئة يعنيان في النهاية محبّة الاخوة. ذاك هو المقياس الذي يدلّ على انتمائنا إلى الله أو إلى إبليس. ذاك هو تعليم المدرسة اليوحناويّة الذي لا يتوقّف عند العقل أو العاطفة، بل يصل إلى العمل: فالذي يلبث أمينًا للتعليم الأول يرى أين هم أبناء الله وأين هم أبناء إبليس. أما الأخ المذكور هنا فهو العضو في الجماعة اليوحناويّة، لا القريب بشكل عام كما في مثل لو 10: 29.
أبناء إبليس هم الهراطقة. وأبناء الله ينفصلون عنهم. لا شكّ في أنهم ليسوا بلا خطيئة، ولكنهم مستعدّون لأن يُقروا بخطاياهم ويجعلوا رجاءهم في يسوع المسيح. ويبقى التمييز بين الفئتين على مستوى العمل. فالذي لا يمارس البرّ ولا يحب ليس من الله. سيعود الكلام عن البرّ والمحبّة. منذ الآية التالية (آ 11) مع اهتمام بموضوع المحبّة الذي يحتلّ دورًآ مميّزًا في 1يو.
ذاك هو مقياس التمييز وهو سلبيّ: من لا يعمل، من لا يحبّ. هكذا يستطيع المؤمن أن يختبر نفسه. ويكون من الصعب عليه أن يُقرّ بخطاياه إن نقصته الثقة بالله. عندئذ يشكّ بوضعه كابن الله. ولكن الكاتب جاء يشجّعه. فإن تيقّن من البداية الجديدة التي أحدثها الله في حياته، فهو يسعى لكي يجعل هذا المثال الالهي واقفًا في حياته. هو يعرف أنه لا يقدر أن يعلن أنه بلا خطيئة. وفي الوقت عينه يعلن أن قدرة الله تعينه لئلا يخطأ. ذاك هو الانشداد الذي يعيشه المؤمن: يعي خطيئته ولكنه لا ييأس، بل ينظر إلى الأمام، إلى الزمن الذي فيه يكون مثل المسيح في ظهوره. ليس من السهل الحفاظ على التوازن بين تنبيه القرّاء إلى خطيئتهم وما فيها من خطورة، وتشجيعهم بعد أن سحقتهم الخطيئة. لهذا ينتقل يوحنا من وضع إلى آخر، ونحن نحافظ على هذين النمطين من الكلام لكي تكون لنا فكرة متكاملة.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
يعرف المسيحيّ ما هو ضروريّ من أجل حياته، لأن المسحة التي نالها تُعلّمه كل شيء (2: 27). والتعليم ليس عرضًا لأفكار مجرّدة. فالتعليم يدلّ دومًا في العهد الجديد على العمل به فنترك إرادة الله تسيطر على إرادتنا البشريّة وتخضعها لمخطّطها. فحين يعلّم يسوع، يضع الله يده على شخص السامعين. يؤسرون ويخضعون كما تقول 2كور 10: 5. ثم إن النصوص كيوحناويّة توصلنا دومًا إلى شخص يسوع المسيح.
حتّى الآن تكلّم يوحنا عن الماضي، فدعا المسيحيين للتعلّق بشهادة الرسل لابن الله المتجسّد، كما طلب منهم أن يتقبّلوا دم المسيح الذي سُفك لأجلهم. وكانت إشارة سريعة إلى المستقبل مع الانتيكرست. وها هو الكاتب يتطلّع الآن إلى الأمام فيربط بحاضرنا بفعل أحداث من الماضي، ما سنكون عليه حين يظهر المسيح في مجده.