المسحاء الدجّالون
2: 18- 27
هنا تبدأ قطعة جديدة ترتبط ارتباطًا رخوًا بما سبقها. بعد أن كلّم الكاتب قرّاءه عن العالم الذي يزول، ها هو يقول لهم إن النهاية جاءت. هي الساعة الأخيرة وعلاماتها واضحة. ولكن اقتراب النهاية ليس الاهم. فهدف الكاتب الرئيسي التخدير من مقاومي الايمان المسيحي. ما هم في الحقيقة، وما هو تعليمهم؟ فمع أنهم تعلّموا علم الله، إلاّ أنهم فقدوا التمييز الروحي فضلّوا. فليس سوى سبيل واحد لمقاومة هؤلاء الهراطقة: نقيم في التعليم الذي تعلّمناه فيثبت فينا هذا التعليم (آ24): إن ثبت فيكم ما سمعتوة تثبتون في الابن وفي الآب.
1- دراسة كتابيّة
نتوقّف هنا في أربع محطات. لو كانوا منا لبقوا معنا (2: 18- 19). انتم تعرفون الحقّ (آ 20- 21). كذب الهراطقة (آ 22- 23) الحياة الابدية (آ 24- 27).
أ- لو كانوا منا لبقوا معنا (2: 18- 19)
أولاً: نظرة عامة
في القسم الأول من الرسالة، كانت الخلقيّة هجوميّة وما زالت وهي تحدّد اختيار المواضيع ولكن اللهجة تصبح الآن قاسية، فيقوم يوحنا بهجوم مباشر على الذين يُضلوّن القراّء. في القطعة السابقة، شدّد على المستوى الأخلاقيّ، وها هو يشدّد على المستوى العقائديّ عن الطرق التي بها ننظر إلى يسوع.
ويبدأ كلامه عن مجيء "الانتيكرست" المناوئ للمسيح، المسيح الدجّال. فيوحنا ميتقّن، شأنه شأن المسيحيّة الأول، أنه يعيش الساعة الأخيرة في التاريخ حيث يزول كل ما ينتمي إلى العالم المنظور ويظهر المسيح من جديد. إن ظهور النور خلق زمنًا جديدًا (آ8) يشارك فيه المسيحيّ لهذا، ينتظر المؤمنون الساعة التي فيها تزول الظلمات في ضياء الله، ويرى الانسان الله وجهًا لوجه. ويسبق هذه المواجهة الأخيرة لقاء الانسان مع يسوع، لقاء الانسان مع كلمة حول مجيء ملكوت ربه. وهكذا يضحي انتظار هذه المواجهة سمة أساسيّة في الزمن الاسكاتولوجي، في "الساعة الأخيرة".
ليست خبرة الزمن العابر هي التي خلقت فكر الساعة الاخيرة. فهذه الساعة ارتبطت بيقين يقول إن العبور من ساعة الانتظار إلى ساعة الله النهائية، قد صار قريبًا، دقت نهاية هذا العالم ومع وجود الانتيكرست الذي هو ضدّ المسيح، الذي يسبق مجيئه الذي هو علامة مجيئه. يرى يوحنا أن الانتيكرست أو المسيح الدجّال ظهر عبر كسحاء دجّاليا عديدين.
ثانيًا: جاءت الساعة (آ 18)
إن الساعة الأخيرة سوف ترى أنبياء كذبة كانوا في وقت من الأوقات من قراّء الرسالة: خرجوا من بيننا. نحن هنا أمام جماعة مسيحيّة تُمزّقها الصرعات الأخلاقيّة والعقائديّة. ولكن، أما نكون بالأحرى أمام جماعة يهوديّة تمارس ضغطًا على الذين صاروا مسيحيين، وتُبغض الاخوة الذين قاسموها في الماضي إيمانها؟ تلك فرضيّة غير أنها تبقى فوضيّة. كل ما نستطيع أن نقوله هو أن التعليم الذي يقدّمه هؤلاء الهراطقة لا يتوافق مع التعليم المسيحيّ كما أنه يشكل خطراً بالنسبة إلى القراء بسبب الدعاية الواسعة التي يقوم بها هؤلاء المضلّون. هل تنظّم هؤلاء في جماعة إنفردت عن الجماعة اليوحناويّة؟ لا شكّ في أنهم انقطعوا عن الشركة وساروا في طريق الضلال.
الأنباء الصغار هم، كما في آ 14، القّراء الذين تتلمذوا ليوحنا: ما زالوا بحاجة إلى تعليمه وتوجيهه. وإذ يدعوهم الكاتب بهذا الاسم، يذكّرهم بالتعليم الذي أعطاه والذي لا يرى حاجة إلى إعادته. وعبارة "الساعة الاخيرة" لا ترد إلاّ في 1 يو (مرّتين). هي لا تقابل مقابلة تامة "اليوم الاخير" أو يوم الدينونة والقيامة (يو 6: 39- 54)؛ 11: 24؛ 12: 48؛ رج 1 يو 4: 17). بل تدلّ على الحقبة الأخيرة في تاريخ بشرية تتميز بظهور "مسحاء دجالين" (انتيكرست)، لا بالكوارث الكونيّة. هي الساعة الأخيرة في الأزمنة الأخيرة التي دشّنها المسيح. وهي تسبق ظهور يسوع الأخير (آ28- 32). غير أن يوم المجيء لم يحدَّد. وهذه الساعة ليست تلك المذكورة في الانجيل الرابع حيث تدلّ على تمجيد يسوع علي الصليب. إن الكاتب يهتمّ في آ 18- 27) بحربه على الهراطقة لا بتوضيح ما يتعلّق بالأزمنة الأخيرة.
سمعة (اكواين). رج آ 7، 24: 3: 11؛ 4: 3. ولكن متى سمعوا هذا التعليم عن السماد الدجالين؟ حين بدأوا حياتهم المسيحيّة نالوا التعليم التقليدي الذي يُعطى للمؤمنين الجدد. هذا يعني أن جماعة يوحنا اتّصلت بقيادات لاهوتيّة، فأعطيت الجواب في حينه. في نهاية العالم يظهر الانتيكرست. أما الآن فهناك أكثر من انيكرست، أكثر من مسيح دجّال، وتبرز فكرتان معروفتان: تتميّز أزمنة النهاية بمقاومة الله أو مرسله. ثم إن هذه المقاومة ستكون على المستوى العقائديّ مع تكاثر الضلالات التي تسحر المؤمنين (بلانان، بلاني) رج مت 24: 1 ي؛ رؤ 12: 9؛ 20: 3؛ 1 يو 1: 8) والأكاذيب (رؤ 14: 5، 21، 27: 1يو 2: 4، 21- 27). أضحت صورة الانتيكرست "مجسدة في التاريخ" بعد أن كانت على مستوى السطر. والمقابلة بين صيغة الحاضر (يأتي الأن) مع صيغة الكامل (غاغوناسين) تدل على هذا العبور من الرؤية الجليانيّة إلى صراع تعيشه الآن الجماعة اليوحناويّة.
أراد يوحنا أن يبرهن لقراءه أنهم يعيشون الساعة الأخيرة. وقد يكونون سمعوا بنبوءة حول مجيء الانتيكرست. هنا نتذكر 2 يو 7 الذي يتحدّث عن الذي ينكرون أن يسوع المسيح جاء في الجسد، صار بشرًا (رج 1 يو 2: 22). إنهم يعارضون التعليم الحقيقي حول المسيح لا تستعمل لفظة الانتيكرست إلا في رسائل يوحنا (2: 18، 22؛ 4: 3؛ 2 يو 7). من أين جاء بها الكاتب؟ أولاً، في تعليم يسوع حول الأيام الأخيرة، هناك تنبيه حول مجيء "مسحاء كذبة وأنبياء كذبة سيظهرون ويعلمون آيات ومعجزات ليضلّوا المختارين إذا استطاعوا" (مر 13: 22؛ مت 24: 24). مثل هؤلاء يعارضون معارضة واضحة يسوع على أنه المسيح. أما هنا. فهم يظهرون كأنبياء يعلنون قولاً مغايرًا للحقيقة، أو يقولون كذبًا إنهم المسيح. نستطيع أن نقابل هذا مع صورة الوحش والنبيّ الكذاب في رؤ 13: 1 ي؛ 19: 20، حيث النبّي الكاذب يدعو الناس لعبادة الوحش. ثانيًا، هذا ما يقودنا إلى انتظار ما يقاوم المسيح والانتظار ينعكس في مجيء "رجل المعصية" (2 تس 2: 1- 12) أو "رجاسة الخراب" (مر 13: 14).
ثالثًا: خرجوا من بيننا (آ19)
لم يقل لنا يوحنا شيئًا عن هويّة هولاء المسحاء الدجّالين. وهو الآن يقول لقرّائه إنهم خرجوا من بيننا هذا يعني أنهم كانوا في يوم من الأيام أعضاء في الجماعة ثم تركوا الكنيسة. هذا الوضع يختلف عمّا في 3 يو 7 حيث طُرد أصدقاء يوحنا من الكنيسة بفعل ديوتريفس. أما هنا فعارض بعضهم تعليم يوحنا ومضوا بملء إرادتهم. ومع أن هؤلاء تركوا الكنيسة، فهذا لا يعني أنهم انتموا إليها أنتماء حقيقيًا. فعبارة "إيس هامون" تدلّ على الاصل (خرجوا من بيننا) كما على العضويّة في مجموعة (انتموا إلينا). هي عبارة تبقى ملتبسة. ربما كانوا في الظاهر أعضاء في الكنيسة كانوا في الجماعة "المنظورة" ولم يكونوا في الجماعة "اللامنطورة"، جماعة الذين يعرف الرب أنهم خاصة (2 تم 2: 19).
هل "جلس" هؤلاء الناس في المقاعد الأولى في الكنيسة؟ أعلنوا إيمانهم وها هم يتخلّون عنه. بل يحاربونه. بدأوا جريهم، ولكنهم لم يثبتوا على تعليم المسيح (2 يو 9). لهذا يعتقد يوحنا أنهم لوكانوا أعضاء حقيقيين في الكنيسة، لظلّوا في الكنيسة وما تركوها. وإن هم أعلنوا ايمانهم فإعلانهم كان فارغًا. فمن يعلن إيمانه إعلانًا صريحًا، يُنتظر منه أن يثبت في ما وعد به. أم إذا مضى، فهذا يدلّ دلالة واضحة على كذبه.
ب- أنتم تعرفون الحق (2: 2- 12)
اولاً: مسحة من القدوس (آ20)
ويحاول يوحنا تثبيت موقف قرّائه تجاه محاولات الخصوم. لا يكتب لهم لأنهم يجهلون الحقّ، بل لأنهم يعرفون أن يميّزوا الكذب من الحقّ. والسبب: نالوا مسحة من القدوس. من الله أو من يسوع المسيح. أي نالوا العماد المقدس. ولكن العماد لا يحفظنا في الحقّ إن تراخينا. أما القرّاء فحافظوا على الروح وعلى الحقّ.
اعتبر "الهراطقة" أنهم يمتلكون معرفة خاصة. لهذا يعلن الكاتب أن المؤمنين نالوا مسحة بها يعرفون الحق. المسحة (خريسما) تدلّ على تقبّل الروح في رتبة المسح بالزيت (1 صم 16: 13؛ أش 61: 1). ويسوع نال المسحة في عماده (أع 10: 38؛ رج لو 4: 18) لهذا رأى الشرّاح أن المسحة هنا هي الروح الذي يعلّم المؤمنين ويقودهم إلى الحقّ كله (يو 14: 17؛ 15: 26؛ 16: 13، وعمل البارقليط). وصوّر بولس عمل الله في المؤمنين كما يلي: "مسحَنا (الله) وختمنا بخاتمه ومنحنا روحه عربونًا في قلوبنا" (2 كور 1: 21- 22).
نال المؤمنون مسحة من القدوس. هو الله الآب حسب مز 71: 22 (قدوس اسرائيل) وهو أيضًا يسوع، قدوس الله (مر 1: 24؛ يو 6: 69؛ رج أع 3: 14). يسوع هو الذي يعطي الروح الذي يرتبط هنا بالكلمة (أع 2: 33). ونتيجة هذه الموهبة، يستطيع يوحنا أن يقول لقرائه: كل واحد منكم يعرف الحقّ. أجل، لا يحتكر المسحاء الدجّالون الحقيقة ولا يستطيعون أن يرتفعوا فوق المسيحيين العاديين. فكل مسيحي حقيقيّ له المعرفة الآتية من الروح القدس.
ثانيًا: لا يصور الكذب عن الحق (آ 21)
ويؤكد يوحنا ما قاله. إن لهجة التحذير التي استعملها تشير إلى أنه يشكّ بعض الشك في المعرفة التي يمتلكها قراؤه. خاف بسبب وجود الهراطقة في الكنيسة، أن يكون المؤمنون بدأوا يطرحون التساؤلات. لهذا، جاء يقوّيهم: ها هم اناس لا يعرفون الحق، بل هم يعرفونه. فإذا كان الأمر هكذا، ليفهموا أن ما من قول كاذب يصدر من الحقّ. وإن كان هؤلاء يقولون ما يدلّ على الهرطقة، فهذا يعني أنهم لا يمتلكون مسحة القدوس. فيجب على قرأته أن يعرفوا هؤلاء الناس على حقيقتهم. هم لا يشاركون في عالم الله، وبالتالي كلامهم كاذب هو.
كتبتُ" رج آ 7، 14. الحقّ رج 1: 6، 8؛ 2: 4 يرتوي الحقّ طابعًا تعليميًا وهجوميًا بالنظر إلى كذب الأنبياء الكذب. أجل القرّاء لا يجهلون الحق، بل بعرفونه. بعد أن نالوا تعليم القدوس. فهم لا يحتاجون إلى تعليم جديد (آ 27). وإن كتب إليه يوحنا، فلكي يثبّتهم في حقيقة نالوها، وليحذّرهم من البدع وما فيها من خطر. لا تصدر كذبة عن الحق. هنا يشير النص إلى الحقيقة اليوحناويّة أو إلى الحقيقة في حدّ ذاتها (الحقّ يتعارض كل التعارض مع الكذب). خرج الهراطقة من بيننا (آ 9)، فتشوه التعليم الذي يقدمّونه أو هو فسُد كله. ليسوا "من الله"، بل "من العالم" (آ 17). لهذا، لا شركة لهم مع الذين هم من الله.
ج- كذب الهراطقة (2: 22- 23)
تحدّد هاتان الآتيان هذا الكذب وهؤلاء الكذّابين. هو كذب كامل لأنه يدمّر قلب الايمان. يدمّر شخص يسوع المسيح.
أولاً: من هو الكذاب (آ22)
في هذه الآية يُفضح كذب الهراطقة: هم ينكرون أن يسوع هو المسيح ومختار الله. فهم في المعنى الحرفي: انتيكرست، مناوئين للمسيح، مسحاء دجّالون لا يمتلكون مسحة (خريسما) الروح التي تجعلهم قديرين بأن يروا في المسيح ابن الله. قطع اسم يسوع قطعتين، وكان الاهتمام بالقطعة الأولى. وما يجعل الهراطقة خطرين هو اهتمامهم بالانسان يسوع. لا يذكر النص هنا نتائج هذا الاهتمام. ولكن ما سبق يؤسّس أقله نقطتين: لا جدوى غفران الخطايا، لافائدة من يسوع.
ما اعتبر هؤلاء الهراطقة نفوسهم أنهم خطأة (1: 8- 10) لهذا لم يعتبروا أي اعتبار غفران الخطايا المرتبط بموت ابن الله على الصليب (1: 7؛ 2: 2) وموقعه كمدافع عن الانسان أمام الله (2: 1). وهكذا كان التماسك منطقيًا بين اعتدادهم بكمالهم الخلقي ومعتقداتهم اللاهوتية. إن الذين لا يحتاجون إلى غفران الخطايا، لا يحتاجون أيضًا إلى يسوع كابن الله.
ولكنهم بحاجة إلى الانسان يسوع. هو مفيد لهم فبفضله هم بلا خطيئة. هو القوّة التي ولدتهم من جديد. وهو المثال الذي توصّلوا إلى الاقتداء به. وعلى جميع البشر أن يتبعوه. ولكن مثل هذه التقوى تعتبر التبرير نتيجة الاعمال واحتقارًا لغفران الخطايا، وتجعل من اسم يسوع مبررًا لما تفعل. هؤلاء الناس يعيشون في النور، يعرفون الحق، يعرفون الله. ولكن أعمالهم تعارض يقينهم. يكفيهم أن يعرفوا لكي يخلصوا. وهكذا بدلّون على جهالتهم.
كذبُ هؤلاء الهراطقة هو رفض وانكار (يو 13: 39؛ 18: 25، 27؛ رؤ 2: 13؛ 3: 8). وهو يتعارض مع الاعتراف العلني في المعمودية وفي الحياة اليوميّة (2: 23: 4: 2، 15؛ 2 كو 7). ينكرون أن يسوع هو المسيح (هو خرستوس، مع أل التعريف. لا مسيح غيره). أي إن يسوع الناصري ليس المسيح. وهكذا يعودون إلى الفكر اليهوديّ. سيقول لهم يوحنا: "يسوع المسيح الذي جاء في الجسد" (4: 2، في لحم ودم). وحين ينكر المسيح الدجّال أن يسوع هو المسيح حقًا، ينكر في الوقت عينه الآب والابن، فلا سبيل إلى معرفة الآب دون معرفة المسيح الذي صار بشرًا. من رآني رأى الآب.
إن الكذب هو الذي يميّز أولئك الذين لا يأتون من الحقّ. فليتعرّف المؤمنون إليه. مثل هؤلاء الناس لا يشاركون الله الآب. هؤلاء هو الكذابون. سيقول يوحنا في 4: 2- 3: "كل روح يعترف بيسوع أنه جاء في الجسد يكون من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله". وفي 2 يو 7: "كثير من المضلّلين الذين لا يعترفون بمجيء يسوع المسيح في الجسد"، في إنسان من لحم ودم استطعنا أن نراه بعيوننا ونلمسه بأيدينا.
ثانيًا: من أفكر الابن (آ23)
توقف المُضلون عند الانسان يسوع. فان لم يكن المسيحَ، يكون انتظارُ المسيحيين باطلاً. وإن لم يكن ابن الله، لا يستطيع أن يرفعنا لنصبح معه أبناء الله، وحين لا نعرف يسوع المعرفة الحقة (على أنه المسيح وابن الله، رج مر 1: 1؛ يو 20: 31). لا نستطيع أن نعرف الآب. ومن اعترف بالابن اعترف بالآب.
أنكر الابن. أي رذله ورفضه. أو أنكر أن يكون إبن الله. أو انكر أن يكون الابن هو الذي وُلد في الجسد (يو 1: 14: الكلمة الذي هو الابن صار بشرًا). فالذي ينكر أن يسوع هو الابن، لا تكون له شركة مع الآب فإن ظنّ الهراطقة انهم يقدرون أن "يمتلكوا" (إخو في اليونانيّة) دون أن يؤمنوا بيسوع، فهم على ضلال مبين فنحن لا نعرف أن الله أب إلا عبر الابن. وبواسطة الابن وموته الفدائي لنا الوصول إلى الله الآب. فمن أنكر أن يسوع هو الابن، أنكر كل التعليم المسيحيّ حول الله. فالذين يرفضون يسوع على أنه ينبوع معرفة الله، يُبعدون نفوسهم عن الوصول إلى الاله الذي يؤمن به المسيحيون ويعيشون في عالم من التجريد لا يرتبط بالواقع. أما قبول يسوع كالابن فيقودنا إلى اتحاد شخصي مع الله الآب. وهكذا نكون أمام خيارين: إما ننكر وإما نعترف. نحن نعترف بشفاهنا بما نؤمن به في قلوبنا. وهذا الاعتراف المسيحيّ مهمّ جدًا أمام أقاويل كهراطقة الذين يُضلّون السذَّج.
د- الحياة الابدية (2: 24- 27)
ويتابع يوحنا: "أما أنتم" يقابل القرّاء مع المعلّمين الكذبة الذين خسروا امتلاكهم للحقّ ويدعوهم لكي يجعلوا التعليم الذي أخذوه في الماضي يوجّه أفكارهم وأعمالهم.
أولاً: من البدء (آ 24)
"من البدء". تعود إلى بداية الحياة المسيحيّة. وأقوى دواء ضدّ الهرطقة هو العودة إلى التعليم الذي تسلّموه في بدء مسيرتهم على خطى المسيح. رج 1 تم 6: 3؛ 2تم 1: 13؛ 4: 3- 4؛ 1: 9؛ 2بط 3: 2؛ يهو 17، 20. أجل، التعليم الذي قبلوه هو التعليم الصحيح، هو "الايمان الذي تسلّمه القديسون كاملاً" (يهو 3). هنا نلاحظ أمرين. الأول، لا يقول الكاتب إن الماضي في حقّ لأنه يعود إلى الماضي. بل يعتبر أن التعليم الذي أعطي في الماضي جاء من الرب بوسطة الرسل فحمل ختم الوحي الالهي. هو "كلمة المسيح بكل غناها" (كو 3: 16). الثاني، حين يقابل الكاتب البدع والتجديدات في تعليم كاذب، فهو لا ينكر أهميّة البحث عن تعبير جديد يتجاوب مع حاجات المؤمنين والنتيجة: إن ثبتم في ما سمعتموه، ثبتّم في الآب والابن.
وهكذا نجد في هذه الأية تشديداً على ضرورة الثبات (والاقامة) في الآب. وما يهمّ بعد الاعتراف بيسوع التاريخي (الذي هو الابن) هو الأمانة لتعليم تسلّمه المؤمنون منذ بدء حياتهم في الجماعة اليوحناويّة (1: 1؛ 2: 7؛ 2يو). أما الرباط مع الآية السابقة فهو: من اعترف بالابن ثبت في التعليم عن يسوع المسيح كما يُعلن في جماعة يوحنا. هم يبدأون ويسمعون، كما يفعل التلميذ المؤمن (آ 7، 24؛ 3: 11؛ 4: 5). نلاحظ الفعل في صيغة الاحتمال: سمعوا في دقت محدّد من حياتهم لا يتوقّف النائب عنه المعلمين، بل عند التعليم الذي نالوه في الماضي.
ما سمعوه هو البشارة (انغاليا، 1: 5)، الوصايا (2: 4، 7- 9)، الكلمة (1: 15)، المسحة (20: 20- 27)، الحق (2: 21)، الوعد (2: 25)، بل هو التعليم كله الذي تلقاه القرّاء في الماضي غير أن هذا التعليم يتجدّد في تعابيره فلا يتحجّر في خوف من مجابهة الهراطقة. ولا يقف عند الفكر والعقل، بل يصل إلى الارادة والعمل. يصبح طاعة.
ثانيًا: هذا ما وُعدنا به (آ 25)
وعد يسوع أولئك الذين يظلّون أمناء للتعليم (الذي من البدء) بأن يقيموا (يثبتوا) في الآب. والذين يثبتون في الآب والابن ينالون الحياة الابدية. فالثبات في الابن (كما تعلنه جماعة يوحنا) وبواسطته بالآب، ليس أمرًا ثانويًا. فالمرمى خطير. تكون لنا الحياة الأبديّة أو نخسرها. هذه الحياة انتقلنا إليها منذ الآن (3: 14). هذه الحياة لا يمتلكها القاتل (3: 15). أعطانا الله أياها (5: 11) فامتلكها من امتلك الابن (5: 12)
أجل، إن الذين تركوا كلمة الله تقيم تثبت فيهم، لهم جزاء عظيم وعد به يسوع (اوتي، أي هي، تعود إلى ابانغاليا). وُعدنا به (مع هامين، نحن). أو وعدكم به (مع هيمين، انتم في الفاتيكاني). وعد يسوع بالحياة (زوئين) الأبدية، هي المرة الوحيدة التي نجد فيها لفظ "وعد" في الكتابات اليوحناويّة، وهو يعود إلى العهد القديم. فالربّ يعد ويفي. رج أع 2: 39- 13: 23، 32؛ 26: 2؛ 2 كور 1: 20؛ غل 3: 22؛ أف 3: 6؛ عب 6: 12. نحن نقرأ في 1 تم 4: 8؛ 2تم 1: 1 كلامًا عن وعد الحياة، وفي تي 1: 2؛ يع 1: 12 عمّا وعدنا به الله من حياة أبديّة في السماء أعدّت للذين خدموا الله بأمانة خلال حياتهم على الأرض. وكل هذا يعود إلى يسوع نفسه (يو 10: 10، 28). غير أن هذه الحياة هي بركة ننعم بها في الزمن الحاضر (يو 4: 36: 6: 40- 47) وهي ستتفتّح في حياة أبديّة (يو 17: 3) نعرف فيها الآب والابن.
ثالثًا: المسحة التي نلتموها (آ 26- 27)
مع آ 24، أوقف يسوع اعتباراته التعليمية، ودعا قرّاءه لكي يظلّوا في التقليد الذي تمثّله جماعة يوحنا، والذي انضمّوا إليه بالعماد، فلا مكان لأمور جديدة في الجذور. فالحدث الحاسم حصل مرّة واحدة ونقله بشكل شفهي الشهود الأولون. سمع المؤمنون الكلمة الحيّة، وهي ما زالت تُعلن على أنها وعد بالحياة الابديّة. أما الحياة التي يعلنها الهراطقة فهي سراب وحياة ممسوخة. هي فراغ لا يتضمّن سوى الضعف البشريّ ليكيفّ يسوع مع مشاريع البشر. وهي ليست أبديّة لأن الأبديّة لا تأتي منا بل من الله الذي يشركنا في حياته، وإن الانسان هو الحياة الأبديّة التي تنتظرنا كموعد تحقّق منذ الآن فألقى بنوره على عالمنا. أذن، مشاركتنا في الحياة الأبدية نفهمها ردّة فعل المستقبل الذي وُعدنا به على حاضر نعيشه في هذا المنظور صارت الحياة الابديّة حقيقة وواقعًا في كل موضع يجتذب فيه الله الانسان للشركة معه والمعرفة الحقَّة هي إحدى ثمار هذا الشركة وهي تقابل حقيقة الله، والمشاركة في الحياة الابدية تجعل القرّاء قادرين على رفض تعليم لا يأتي من الله. وتأتي آ 26- 27 هجومًا على المضلّلين، وكلامًا واثقًا بالقرّاء: بفضل الروح الذي نالوه يستطيعون أن يميّزوا الحقّ من الباطل. وهم لا يحتاجون إلى من يعلّهم. فروح المسيح هو الذي علّمهم. فليثبتوا في هذا التعليم الذي تقبَّلوه من الله.
"كتبتُ إليكم" (آ 26). لسنا أمام اعتبارات بعيدة عن الواقع، بل أمام حرب مع أناس يُضلّون المؤمنين. وعملُهم متوقَّع في الأيام الأخيرة (آ 2، 27؛ 4: 10) جاء الفعل في صيغة اسم الفاعل (بلانونتون): خرج هؤلاء المسحاء الدجّالون (آ 18) من الجماعة اليوحناويّة (آ 19)، ولكن تأثيرهم ما زال حاضرًا. وهكذا نفهم ما قاله يسوع في مر 13: 23. هو يتحقّق الآن. يبقى على المؤمنين أن يكونوا حذرين.
فعلى القرّاء أن لا يضلّوا بفعل هؤلاء المعلّمين (آ 27) بعد أن نبّههم يوحنا (آ 26) غير أن هناك سببًا آخر. فالقرّاء أنفسهم نالوا مسحة وهبها يسوع لهم (= منه، اوتو في اليونانية) وهذه المسحة ما زالت تعمل في قلوبهم. فكلمة الله نُقلت إلى قلوبهم بفعل الروح، وهي تحذّرهم من السقوط في الهرطقة. نجد هنا ما وجدناه في آ 24. في آ 24، أراد الكاتب أن يثبت التعليم فيهم. أما هنا، يبدد هذا التعليم ثابتًا.
القسم الأخر من الآية يحثّ القرّاء على الثبات في التعليم الذي أعطاه الروح القدس فلا ينجذبون بمعلّمين كذبة. وهناك ثلاث أسباب: الأول، المسحة التي نالها القراّء هي ينبوع كافٍ للمعرفة. فهي تعطي التعليم في كل شيء. الثاني، هذا التعليم هو أهل للثقه، وليس بكاذب. الثالث، ذكّر يوحنا قراّءه أنهم تعلّموا كيف يقيمون (يثبتون) في المسيح. فليثبتوا فيه، وبالتالي في التعليم الحقّ. وهكذ يكون الدواء ضدّ مثل هذه التعاليم، الأقوال حول الحقّ الذي وصل إلى المؤمنين عبر شهادة الرسل وتثّبت في قلوبه بمسحة أعطاها الروح (فبدا كختم لهذا التعليم). فكل تعليم لا يتوافق مع كلمة الله هذا يُشجب شجبًا.
2- قراءة لاهوتيّة وروحيّة
المضلّلون حاضرون والمحامي حاضر. فلا بدّ من اعتراف إيماننا بالله يقيم فينا، ونحن نقيم فيه. لنا شركة معه. لنا أب يعطينا روحه. وإذ نعترف بايماننا، نقول لنفوسنا وللكنيسة وللعالم مضمون إيماننا، ثم إن الاعتراف الايمانيّ هو صلاة متواضعة ترتفع إلى الله وترفع معها شكرها له. وحين اعترف بإيماني، أعلن أني أتخلّى عن حكمتي البشرية وأقبل بمعرفة تأتيني من الله.
الله يعطي ذاته لنا، ولكنه يضع شروطه. فجميع الطرق لا تقود إليه. وهو الذي أختار الطريق التي بها يأتي إلينا وبها نذهب إليه. هي طريق الايمان التي تقود إلى الحياة الأبدية، وهي بعيدة عن المعتقدات الغريبة عن الحقّ، لأنها لا ترى مخطّط الله.
هناك أناس يريدون أن يذهبوا إلى الله دون أن يمرّوا بيسوع المسيح. يتطلّعون إلى نبيّ عبقريّ يكون تعليمه حول أبوّة الله والأخوّة البشرية مستقلاً عن شخص الآب الذي أرسل الابن. ولكن ليس هذا، يقوله العهد الجديد. من انكر الابن انكر الآب أيضًا (آ 23). ما من طريق أقصر من سائر الطرق تقود إلى الآب دون أن تمرّ في المسيح الذي سمّى نفسه الطريق (يو 14: 6). بعد هذا، كيف يُوجد مؤمون يحرمون ذواتهم من الآب حين ينكرون الابن المتجسّد؟